أحكام النقض - المكتب الفني - جنائي
العدد الثالث - السنة التاسعة - صـ 766

جلسة 7 من أكتوبر سنة 1958

برياسة السيد المستشار حسن داود، وبحضور السادة: محمود ابراهيم إسماعيل، ومصطفى كامل، ومحمد محمود مجاهد، ومحمود حلمي خاطر المستشارين.

(187)
الطعن رقم 933 سنة 28 القضائية

رشوة. الرشوة في محيط الوظائف العامة. جريمة الراشي. عناصر الواقعة الإجرامية وظروفها. اختصاص الموظف المرتشي بالعمل أو الامتناع الذي يطلبه منه الطرف الآخر. مظاهر الاتجار بالوظيفة. الإخلال بواجبات الوظيفة. المادة 104 ع معدلة بق 69 سنة 53. توافر الإخلال بوجبات الوظيفة بعرض جعل على عسكري لحمله على إبداء أقوال جديدة في شأن كيفية ضبط المتهمة لتنجو من المسئولية. قيام جريمة الرشوة في حق من عرض الجعل.
إن الشارع في المادة 104 من قانون العقوبات المعدلة بالقانون رقم 69 لسنة 1953 التي عددت صورة الرشوة قد نص على "الإخلال بوجبات الوظيفة" كغرض من أغراض الرشوة وجعله بالنسبة للموظف أسوة امتناعه عن عمل من أعمال الوظيفة أو المكافأة على ما وقع منه، وجاء التعبير بالإخلال بوجبات الوظيفة جديدا في التشريع عند تعديله مطلقا من التقييد ليتسع مدلوله لاستيعاب كل عبث يمس الأعمال التي يقوم بها الموظف وكل تصرف أو سلوك ينتسب إلى هذه الأعمال ويعد واجبا من واجبات أدائها على الوجه السوي الذي يكفل لها دائما أن تجرى على سنن قويم، فكل انحراف عن واجب من هذه الواجبات أو امتناع عن القيام به يجرى عليه وصف الإخلال بوجبات الوظيفة الذي عناه الشارع في النص، فإذا تعاطى الموظف مقابلا على هذا الإخلال كان فعله رشوة مستوجبة للعقاب، وإذن يكون عرض الرشوة على الصورة الثابتة في الحكم على العسكري وهو أحد أفراد سلطة الضبط وقائم بخدمة عامة في سبيل حمله على إبداء أقوال جديدة غير جديدة غير ما سبق أن أبداه في شأن كيفية ضبط المتهمة وظروف هذا الضبط والميل به إلى أن يستهدف في ذلك مصلحتها لتنجو من المسئولية وهو أمر تتأذى منه العدالة وتسقط عنده ذمة الموظف وهو إذا وقع منه يكون إخلالا بوجبات وظيفته التي تفرض عليه أن يكون أمينا في تقرير ما جرى تحت حسه من وقائع وما بوشر فيها من إجراءات تتخذ أساسا لأثر معين يرتبه القانون عليها وهذا الإخلال بالواجب يندرج بغير شك في باب الرشوة المعاقب عليها قانونا متى تقاضى الموظف جعلا في مقابله، ويكون من عرض هذا الجعل لهذا الغرض راشيا مستحقا للعقاب.


الوقائع

اتهمت النيابة العامة 1- كمال توفيق عبد العال و2- عطية أحمد نصار (الطاعن) و3- زكى محمد إبراهيم و4- إبراهيم محمد شمس: بأنهم عرضوا رشوة على مستخدم عمومي لإخلال بوجبات وظيفته وذلك بأن قدموا للشرطي فؤاد محمود محمد من قوة بوليس قضائي القباري مبلغ خمسين قرشا طالبين منه أن يغير من أقواله التي أبداها في تحقيق النيابة في الجناية رقم 195 لسنة 1955 عسكرية قسم أول طنطا بما يتفق وصالح "باتعه عبد الغنى السيد" زوجة المتهم الأول المتهمة فيها ولكن المستخدم المذكور لم يقبل الرشوة، وطلبت النيابة المختصة إلى غرفة الاتهام إحالتهم إلى محكمة الجنايات لمحاكمتهم بالمواد 109 مكرر و110 و111 من قانون العقوبات المضافة بالقانون رقم 69 لسنة 1953، فصدر قرار الغرفة بذلك. ومحكمة جنايات الإسكندرية قضت حضوريا للثاني والرابع وغيابيا للأول والثالث. أولا: بمعاقبة كل من كمال توفيق عبد العال وعطية أحمد نصار بالسجن لمدة ثلاثة سنوات وبتغريم كل منهما خمسمائة جنيه وبمصادرة المبلغ المضبوط وذلك تطبيقا لمواد الاتهام سالفة الذكر وثانيا: ببراءة زكى محمد إبراهيم وإبراهيم محمد شمس مما اسند إليهما. فطعن المحكوم عليه الثاني وحده "عطية أحمد نصار" في هذا الحكم بطريق النقض.... الخ.


المحكمة

... وحيث إن الطاعن يبنى طعنه على أن الحكم المطعون فيه أخطأ في الإسناد وفى تطبيق القانون ذلك بأن الحكم لخص أقوال العسكري فؤاد محمود محمد وهو الشاهد الوحيد في الدعوى بأن الطاعن وزملاءه اجتمعوا به في يوم 11 نوفمبر سنة 1955 في مقهى وطلبوا إليه أن يبدى أقواله في تحقيقات الجناية التي وقعت بمدينة طنطا بما يتفق وصالح المتهمة في تلك الجناية، وهى زوجة المتهم الأول، ووعده إن هو فعل بمبلغ من المال، فأجابهم العسكري بأنه قد أدى شهادته فعلا أمام النيابة، فعادوا يطلبون منه أن يرشدهم عن اسم وعنوان أحدى شهود الجناية المذكورة والمقيمة بمدينة رشيد حتى يتنسى لهم أن يتصلوا بها، وقد نسب الحكم إلى الشاهد أقوالا مغايرة عن أقواله في التحقيق، فأخطأ في الإسناد، كما أخطأت المحكمة في اعتبار تسليم المبلغ إلى العسكري معاقبا عليه، مع أن المساومة وقعت على الإرشاد عن اسم شاهدة في التحقيق، وهذا الإرشاد لا يكون جريمة ولا يصح العقاب عليه إذ أن الإرشاد في هذه الصورة لا يدخل في أعمال وظيفة العسكري، وهو من قبيل إجارة الأشخاص. كذلك أخطأ الحكم في إدانة الطاعن مقابل تغيير أقواله في تحقيق النيابة لأن إجابة (العسكري) على طلبهم هي بمثابة عدول من جانب الطاعن عن العرض الأول الذي أبداه، ولا يعد ذلك رفضا منه لأنه انتقل إلى طلب جديد بشأن الشاهدة، وعلى ذلك لم تقع جريمة الرشوة لا تامة ولا شروعا لأن العدول الاختياري يمحو الجريمة ويكون ما وقع هو من أعمال التحضير.
وحيث إن ما حصله الحكم من أقوال الشاهد العسكري فؤاد محمود محمد هو: "أنه في يوم 11 من أبريل سنة 1955 حضر له بمنزله العسكري عطيه أحمد نصار عامل التليفون بقسم محرم بك ولم يجده، وفى اليوم التالي قابله في الصباح وأخبره بأن جماعة من أقاربه ينتظرونه على مقهى عباس بشارع "بوالينو" وسبقه وتبعه هو إلى المقهى فوجده يجلس مع ثلاثة أشخاص هم باقي المتهمين، فسأله عن أقاربه، فأخبره بأنهم هؤلاء، وأن الحقيقة أنهم طلبوه ليتحدثوا معه في موضوع ضبط باتعه عبد الغنى التي هي زوجة كمال عبد العال المتهم الأول، والتي سبق ضبطها منذ أسبوع بالقطار رقم 20، وسألوه عن موضوعها، فأخبرهم أنها ركبت في زحمة القطار من محطة دمنهور ، وقد أبلغ أحد الأشخاص بسرقة حافظة نقوده وكان بها عشرة جنيهات، فاشتبهوا فيها لأنها لما اقتربوا منها أخفت وجهها، وأنها أخبرتهم بأنها ذاهبة لطنطا، وأن وزجها متوفى وأنها لما طلب إليها الكلام بصراحة، أخبرته بأنها مطلقة وأن أخاها يعمل بباكوس بالإسكندرية، ثم غمزت له بعينها ليفهم من ذلك أنها تريد أن ترشوه ليتركها، وقدمت له هو والأمباشى الذي كان معه جنيهين في يد الأخير ليتركاها تنزل في محطة كفر الزيات، ولكنهما رفضا وأبلغا عنها وسلماها للبوليس القضائي بمحطة طنطا، وتخلف معها والأمباشى عبد الرحمن المجني عليه في قضية الرشوة، وذهب هو بالقطار للقاهرة كعادته وعاد للإسكندرية حيث محل عمله، وأن العسكري تحدث معه إذ ذاك في ضرورة تغيير شهادته، وأنهم سيعطونه مبلغا يرضيه، فأراد أن يبعدهم عنه حتى ينأى عن الموضوع، وأخبرهم أنه سئل، فقالوا له إنهم يريدون أيضا منه أن يعطيهم عنوان الشاهدة الأخرى ليتصلوا بها حتى تغير شهادتها كذلك وبذلك لا تثبيت القضية على المتهمة باتعة، فوافقهم متظاهرا بالقبول وتواعد معهم على المقابلة في اليوم التالي بنفس المقهى، ثم ذهب وأبلغ رئيسه وهو مأمور قسم قضائي السكة الحديد القباري الذي أرسله لرئيس المبحث وحرر محضرا بكل ما حصل، واتفق معه رئيس المباحث على أن يتابعهم، ولما عاد لمنزله وجد ورقة مكتوبة من العسكري عطية نصار لضرورة مقابلته الساعة 4 بقسم محرم بك أو الاتصال به تليفونيا، فأخطر كذلك رئيس المباحث الذي أثبت الورقة وحفظها على ذمة القضية، وفيها يشدد عليه المتهم الثاني بضرورة مقابلته، فذهب إليه بالقسم واتصل به وسأله الثاني عما إذا كان قد أحضر عنوان الشاهدة فأخبره بأنه لن يعطيه له وإنما سيذهب معهم، وتواعدوا على المقابلة في اليوم التالي أي يوم 13 من أبريل سنة 1955 بالمقهى المقابل لدورة المياه بمحطة الإسكندرية وذلك ليكونوا قريبين من رجال المباحث والضبط وحتى يتم ضبطهم متلبسين، وأنه ذهب فعلا في صباح اليوم التالي إلى المحطة حتى يستطيع رئيس المباحث ضبطهم في الصباح الباكر قبل قيام قطار رشيد وفعلا ذهب وقابلهم وتحدث إليه المتهم الثاني والأول مرة أخرى في موضوع تغيير الشهادة لصالح باتعة، ووافقهم على ذلك، وعلى أن يذهب معهم لرشيد، وإذ ذاك قدم له المتهم الأول مبلغ خمسين قرشا وهو عبارة عن ورقتين من فئة الخمسة والعشرين قرشا وأفهمه أنهم سيعطونه كذلك جنيهين وما يطلبه، ولما كان الاتفاق بينه وبين رئيس المباحث عند تقديم أي مبلغ هو أن يرفع طربوشه فقد فعل، وإذ ذاك حضر رئيس المباحث والمخبرون فضبطوهم جميعا وقدم له مبلغ الرشوة، واعترف كمال توفيق بأنه هو الذي أعطاه له، كما اعترف العسكري عطية بأنه هو الذي أرسل له الورقة المكتوبة بمنزله". وهذا الذي أثبته الحكم من أقوال الشاهد يطابق في جملته وتفصيله ما شهد به الشاهد المذكور أمام المحكمة على ما يبن من الإطلاع على محضر الجلسة، ومن ثم، فإن ادعاء الخطأ في الإسناد الذي يدعيه الطاعن لا يكون مقبولا، لما كان ذلك، وكان الحكم قد أثبت نتيجة الإطلاع على قضية الجناية التي اتهمت فيها باتعة عبد الغنى شعبان زوجة المتهم الأول كمال توفيق عبد العال وتبين أنها اتهمت في يوم 4 نوفمبر سنة 1955 بدائرة طنطا بأنها عرضت مبلغ جنيهين رشوة على الشرطي عبد الرحمن محمود سيد أحمد من قوة بوليس السكة الحديدية مقابل إطلاق سراحها عقب ضبطها للتحري عن سلوكها ولم يقبله منها، وأن المجني عليه عبد الرحمن محمد سئل في هذا التحقيق، كما سئل العسكري فؤاد محمود محمد (المجني عليه في القضية الحالية) ومريم عبد الفتاح من رشيد التي لم يستدل عليها، وأن المتهمة باتعة أسندت إليها تهمة سرقة من آخر، واشتبه فيها، وحجزت للتبليغ عنها في جريمة الرشوة، وتبين أن لها ثلاث سوابق في سرقات أخرها في 6 نوفمبر سنة 1954 بدائرة قسم السيدة زينب، لما كان ذلك، وكان واضحا في أسباب الحكم المطعون فيه أن مبلغ الرشوة الذي قدم إلى العسكري فؤاد محمود محمد في يوم 13 نوفمبر سنة 1955 كان بناء على اتفاق تم في اليوم السابق بين هذا العسكري وبين الطاعن والمتهم الأول، وأن فؤاد هذا قرر لهما أنه أبدى أقواله فعلا في تحقيق النيابة، فعادا إليه في اليوم التالي وقدما إليه مبلغ خمسين قرشا ووعداه بمزيد من المال ليعدل عن أقواله التي أبداها في التحقيق، وأن يغير فيها لصالح زوجة المتهم الأول، وهى متهمة من قبل في جناية شروع في رشوة ضبطت واقعتها بمدينة طنطا على يد العسكري وزميله عبد الرحمن محمود سيد أحمد، ومفاد ذلك أن الطاعن وزميله كانا لا ريب يعلمان عند عرض المبلغ الذي عرضاه بأن الشاهد قد أبدى أقواله في التحقيق الذي أجرته النيابة في حادث الشروع في الرشوة، وأنهما مع ذلك طلبا إليه أن يعدل عن هذه الأقوال لمصلحة الزوجة.
ولما كان الشارع في المادة 104 من قانون العقوبات المعدلة بالقانون رقم 69 لسنة 1953 والتي عددت صور الرشوة قد نص "على الإخلال بواجبات الوظيفة" كغرض من أغراض الرشوة وجعله بالنسبة للموظف أسوة امتناعه عن عمل من أعمال وظيفته أو لمكافأة على ما وقع منه، وجاء التعبير بالإخلال بوجبات الوظيفة جديدا في التشريع عند تعديله مطلقا من التقييد - ليتسع مدلوله لاستيعاب كل عبث يمس الأعمال التي يقوم بها الموظف وكل تصرف أو سلوك ينتسب إلى هذه الأعمال ويعد واجبا من واجبات أدائها على الوجه السوي الذي يكفل لها دائما أن تجرى على سنن قويم، فكل انحراف عن واجب من هذه الواجبات أو امتناع عن القيام به يجرى عليه وصف الإخلال بوجبات الوظيفة الذي عناه الشارع في النص، فإذا تعاطى الموظف مقابلا على هذا الإخلال، كان فعله رشوة مستوجبة العقاب، ومتى تقرر ذلك، فلا ريب أن عرض الرشوة على الصورة الثابتة في الحكم على العسكري فؤاد محمود محمد وهو أحد أفراد سلطة الضبط، وقائم بخدمة عامة، وفى سبيل حمله على إبداء أقوال جديدة غير ما سبق أن أبداه في شأن كيفية ضبط المتهمة وظروف هذا الضبط، والميل به إلى أن يستهدف في ذلك مصلحتها لتنجو من المسئولية، وهو أمر تتأذى منه العدالة وتسقط عنده ذمة الموظف، وهو إذا وقع منه يكون إخلالا خطيرا بواجبات وظيفته التي تفرض عليه أن يكون أمينا في تقرير ما جرى تحت حسه من وقائع وما بوشر فيها من إجراءات تتخذ أساسا لأثر معين يرتبه القانون عليها, وهذا الإخلال بالواجب يندرج بغير شك في باب الرشوة المعاقب عليها قانونا متى تقاضى الموظف جعلا في مقابله، ويكون من عرض هذا الجعل لهذا الغرض راشيا مستحقا للعقاب، يؤيد ذلك أن الشارع في المادة 298 المعدلة بالقانون رقم 112 لسنة 1957 قد اعتبر من يشهد زورا في دعوى جنائية أو مدنية تلقاء عطيه أو وعد بشيء في حكم المرتشي وعاقبه بعقوبة الرشوة متى كانت أشد من عقوبة جريمة الشهادة زورا، فسوي الشارع في درجة المسئولية بين الشهادة المزورة لقاء الجعل، وبين الرشوة لتجانس طبيعتها ووحدة الغاية المقصودة منهما - لما كان ذلك، وكان الحكم قد أثبت أن الطاعن عرض على العسكري مبلغ الرشوة حتى يقوم له بما طلبه من تغيير أقواله التي قررها في التحقيق فتظاهر العسكري بقبوله ليسهل ضبط هذه الجريمة، وهو في حقيقة الواقع لم يستجب إلى هذا العرض فإن الفعل يكون شروعا في جريمة رشوة معاقبا عليه بمقتضى الفقرة الأولى من المادة 109 مكررا من قانون العقوبات المعدلة بالقانون 69 لسنة 1953، وتكون المحكمة إذ أسبغت على الواقعة هذا الوصف وعاقبت الطاعن بالعقوبة المنصوص عليها في هذه المادة قد أصابت في تطبيق القانون، ولا يكون صحيحا بعد ذلك تأويل الطاعن للواقعة بأنها من قبيل العدول بعد عرض الرشوة، أو أنها مجرد أعمال تحضيرية، لما كان ذلك، وكان ما أورده الحكم من وقوع جريمة الشروع في الرشوة كافيا بذاته لحمل قضاء المحكمة بإدانة المتهم، فلا جدوى مما يقوله الطاعن من أن عرض المبلغ لم يكن إلا للمساومة على الإرشاد عن اسم وعنوان إحدى الشهود الذين سمعوا في التحقيق مما لا جريمة فيه، لما كان ما تقدم جميعه، فإن الطعن برمته يكون على غير أساس متعينا رفضه موضوعا.