مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية
وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الخامس (عن المدة من 6 نوفمبر سنة 1939 لغاية 26 أكتوبر سنة 1942) - صـ 95

جلسة 12 فبراير سنة 1940

برياسة سعادة مصطفى محمد باشا رئيس المحكمة وبحضور حضرات: عبد الفتاح السيد بك ومحمد كامل الرشيدي بك وسيد مصطفى بك وحسن زكي محمد بك المستشارين.

(59)
القضية رقم 193 سنة 10 القضائية

( أ ) شهادة زور، شهادة أدّيت أمام سلطة قضائية أخرى. سلطة القاضي الجنائي في تقديرها. مخالفته تقدير الجهة التي أدّيت الشهادة أمامها.
(ب) شهادة زور. مناط العقاب في هذه الجريمة. الشهادة التي لها في ذاتها قوّة الإقناع. شهادة مرجعها التسامع والشهرة. الكذب فيها. لا عقاب.

(المادة 257 ع = 297)

1 - إن من سلطة القاضي الجنائي في الدعوى المرفوعة أمامه بشهادة الزور أن يبحث في الشهادة ويقدّرها كما يرى ولو كان هو في تقديره لها يخالف الجهة التي أدّيت أمامها. إذ القول بغير ذلك يؤدّي إلى تضييق النص الذي يقضي بمعاقبة شهود الزور ولو كانت جريمتهم لم تنكشف إلا بعد الفصل في الدعوى التي أدّيت الشهادة فيها.
2 - الأصل أن الشهادة التي يسأل الشاهد عن الكذب فيها أمام القضاء هي التي تكون لها في ذاتها قوّة الإقناع لابتنائها على عيان الشاهد ويقينه من جهة ولإمكان تمحيصها والتحقق من صحتها من جهة أخرى. أما الشهادة التي لا ترجع إلا إلى مجرّد التسامع والشهرة فلا تعدّ شهادة على المعنى المقصود في القانون لاستحالة التحقق من صحتها. ولا يرد على ذلك بما للشهادة بالتسامع من اعتبار في بعض الحالات الاستثنائية، فإن هذا ليس من شأنه أن يغير طبيعة ما قيل على سبيل الرواية ويرفعه إلى مرتبة الشهادة التي قصد القانون العقاب على الكذب فيها. وإذن فإذا كانت الأقوال التي أدلى بها الشاهد ليست إلا إنباء بما يدعي أنه اتصل إلى علمه بالتسامع فالكذب فيها غير معاقب عليه.


المحكمة

وحيث إن الطعن يتحصل في الأوجه الآتية: (أوّلاً) أن الدفاع تمسك لدى محكمة الموضوع بأنه ما كان لها أن تقضي بتزوير الشهادة التي أدّيت أمام المحكمة الشرعية بعد أن قضت هذه المحكمة ذات الاختصاص بالحق طبقاً لها. (وثانياً) أنه تمسك أيضاً بأن الشهادة صحيحة ومؤيدة بمستندات رسمية وأحكام قضائية واعترافات، كما هو ظاهر من الحكم الشرعي، فلم تكن شهادة الشهود وحدها هي التي أسس الحكم عليها، ولكن محكمة الموضوع لم تردّ على هذا الدفاع. (وثالثاً) قالت المحكمة باستحالة معرفة الشهود لجميع أفراد نسل الأمير الواقف مع أن ذلك ميسور بطريق الاختلاط والشهرة والسماع. وهذا جائز شرعاً.
وحيث إن الواقعة تتحصل في أن الطاعن الثاني رفع أمام محكمة مصر الابتدائية الشرعية دعوى على وزارة الأوقاف بصفتها ناظرة على وقف مصطفى إسماعيل كتخدا طلب فيها الحكم بإثبات نسبه للأمير مصطفى ابن الأمير إسماعيل أغا كتخدا واستحقاقه في الوقف، ودخل في هذه الدعوى بكر إبراهيم ونس وأمين إبراهيم ونس خصمين ثالثين. وقد استند المدعي في دعواه إلى الأوراق والبينة، وسئل فيها باقي الطاعنين بتاريخ 26 أغسطس سنة 1935 باعتبارهم شهود سماع وشهرة. وقضت المحكمة فيها للطاعن الثاني باستحقاقه في صافي ريع هذا الوقف لجزء من تسعة وثلاثين جزءاً على أساس الأوراق والبينة الشرعية. ثم تأيد هذا الحكم استئنافياً من المحكمة العليا الشرعية بحكمين متواليين في 7 مايو سنة 1935 و22 يناير سنة 1936. وعلى أثر الحكم الأوّل أقام المدّعيان بالحق المدني هذه الدعوى مباشرة على الطاعنين بتهمة شهادة الزور والاشتراك فيها، فقضت محكمة أوّل درجة بإدانة الطاعنين وبالتعويض المدني المطلوب بناءً على أن الشهادة محفوظة، وأن الشهود كاذبون فيما قالوه من معرفتهم نسب الطاعن الثاني للواقف من زمن مديد، ثم تأيد الحكم المذكور لأسبابه استئنافياً بالحكم المطعون فيه.
وحيث إنه عن الشق الأوّل من الطعن فإن من وظيفة القاضي الجنائي - إذا رفعت أمامه دعوى شهادة الزور - البحث في شهادة الشهود المؤداة أمام السلطات القضائية الأخرى وتقديرها، غير مقيد في ذلك برأي الجهة التي أدّيت الشهادة أمامها، إذ هو حرّ في تكوين اعتقاده، ولا جناح عليه أن يجيء تقديره لتلك الشهادة مخالفاً لرأي الجهة التي أدّيت أمامها. والقول بغير ذلك يترتب عليه تعطيل النص القاضي بمعاقبة شهود الزور إذا لم تكتشف جريمتهم قبل الفصل في الدعوى المؤداة شهادتهم فيها.
وحيث إنه عن الشق الثاني فإن محكمة الموضوع عرضت لشهادة الشهود أمام المحكمة الشرعية وقالت "... ... إن هؤلاء المتهمين (الطاعنين الأوّل والثالث والرابع) شهدوا أمام محكمة مصر الابتدائية الشرعية بجلسة 26 أغسطس سنة 1935 بصحة نسب المتهم الرابع (الطاعن الثاني) للأمير المشار إليه، وذكروا جدوده كما ذكروا أسماء من تناسل منهم طبقة بعد طبقة ومن مات عقيماً. وقد كرر كل منهم ما يقرب من أربعين اسماً لذكور وإناث. وقد حكمت المحكمة للمدّعي بما طلب بناءً على شهادتهم ... وإن المدّعيين بالحق المدني قدّما عقب ذلك شكوى لنيابة الخليفة ضدّ المتهمين وأحيلت إلى القسم وحققت هناك. وقد سئل المتهم الأوّل والأخير (الطاعنان الثالث والثاني) فلم يعرف أوّلهما أحداً من أقارب الأسرة وأفرادها، وامتنعا عن الاستعراف على بعض سيدات الأسرة اللاتي حضرن في عربة لهذا الغرض مما دل على أنهما لا يعرفانهنّ، وامتنع المتهم الأول عن الإجابة على أسئلة المحقق وظهر الارتباك عليه، وإن المحكمة سألت المتهم الثاني (الطاعن الأوّل) بعض أسئلة عن أفراد الأسرة الذين ذكرهم أمام المحكمة الشرعية فلم يزد عن ذكر بعض أسماء صار يكررها وبذكر مسكن بعض أفرادها في جهات لا وجود لها، ولم يتمكن من معرفة أسماء أهل المدّعيين بالحق المدني ... وإنه يستحيل عقلاً معرفة جميع أفراد أولاد الأمير مصطفى ومن تناسل منهم إلى وقتنا هذا، وهو الذي أنشأ وقفه في سنة 1092 هجرية أي منذ 264 سنة قمرية، والمتهمون كل منهم نشأ في جهة، فأوّلهم مولود في سمالوط ويشتغل كاتباً تجارياً، والثاني فرارجي، والثالث لبان، ويقيمان بدائرة قسم السيدة زينب، فليس من المعقول إذن أن يكون لهؤلاء علاقة ومعرفة بمستحقي هذا الوقف على كثرة عددهم وتعدّد طبقاتهم... ...". ثم أضاف الحكم إلى ذلك "إنه ليس من شأن هذه المحكمة البحث في قيمة المستندات التي قدّمها المتهم الرابع (الطاعن الثاني) لإثبات صحة نسبه لأنه خارج عن اختصاصها. كما أن صحة النسب لا تعفي الشهود من العقوبة إذا كانوا شهدوا زوراً ولو على واقعة صحيحة... ...". ومؤدى ما قالته المحكمة هو أنه بغض النظر عن ثبوت النسب أو عدم ثبوته فإن الشهود الطاعنين قد شهدوا كذباً بأنهم علموا بتسلسل نسب الطاعن الثاني إلى الواقف، وهم في الواقع يستحيل عليهم في ظروفهم أن يكونوا قد علموا بالتسلسل مع هذا الأمد الطويل. وفي هذا كله الرد الكافي على ما تمسك به الطاعنون لدى المحكمة خلافاً لما يزعمون. وهو فوق هذا تقدير موضوعي للشهادة لا رقابة محكمة النقض عليه.
وحيث إنه عما جاء في الشق الثالث فإن الأصل هو أن الشهادة التي يتحمل الشاهد مسئولية الإدلاء بها أمام القضاء هي التي تكون لها في ذاتها قوّة الإقناع، لصدورها من الشاهد عن يقين وعيان، ولإمكان تمحيصها والتحقق من صحتها. أما إذا كان ما يدلي به الشاهد مرجعه مجرّد التسامع والشهرة فإنه لا يعدّ شهادة بمعناها الحقيقي، لأنه ليس إلا نقلاً لرواية لا يمكن التحقق من صحتها، ولهذا لا يكون الكذب فيها مستوجباً لعقوبة الشهادة الزور، ولا يرد على هذا بما قد يكون لشهادة التسامع من اعتبار في بعض حالات استثنائية، لأن ذلك لا يمكن أن يغير من طبيعة الرواية موضوع هذه الشهادة، ولا يرفعها إلى مرتبة الشهادة التي قصد قانون العقوبات العقاب على الكذب فيها.
وحيث إن الثابت من صورة محضر جلسة محكمة مصر الابتدائية الشرعية المؤرّخ في 26 أغسطس سنة 1935 ومن الحكم المطعون فيه أن شهادة الشهود الطاعنين بنسب الطاعن الثاني إلى الواقف في سنة 1092 هجرية كانت في حد ذاتها شهادة تسامع وإنباء بما يدّعون أنه اتصل إلى علمهم عن طريق الرواية، ومثل هذه الشهادة لا يمكن اعتبار الكذب فيها مكوّناً لجريمة شهادة الزور المعاقب عليها قانوناً.
وحيث إنه لذلك يتعين نقض الحكم المطعون فيه فيما قضى به على الطاعنين من عقوبة.