أحكام النقض - المكتب الفني - جنائى
العدد الثاني - السنة 10 - صـ 742

جلسة 30 من يونيه سنة 1959

برياسة السيد حسن داود نائب رئيس المحكمة, وبحضور السادة: مصطفى كامل, وفهيم يسى جندي, وعادل يونس, ورشاد القدسي المستشارين.

(161)
الطعن رقم 626 لسنة 29 القضائية

مسئولية جنائية. أسباب امتناعها. الغيبوبة أو حالة السكر الاضطراري. حكم السكر عن علم واختيار. المادة 62 ع والمصدر التاريخي لها.
افتراض القانون توافر القصد الجنائي العام منه دون الخاص - فيما يقارفه المتهم من جرائم.
الأصل أن الغيبوبة المانعة من المسئولية - على مقتضى المادة 62 من قانون العقوبات - هى التي تكون ناشئة عن عقاقير مخدرة تناولها الجاني قهرا عنه أو على غير علم منه بحقيقة أمرها, ومفهوم ذلك أن من يتناول مادة مخدرة أو مسكرة مختارا وعن علم بحقيقة أمرها يكون مسئولا عن الجرائم التي تقع منه وهو تحت تأثيرها, فالقانون في هذه الحالة يجري عليه حكم المدرك التام الإدراك, مما ينبني عليه توافر القصد الجنائي لديه, إلا أنه لما كانت هناك بعض جرائم يتطلب القانون فيها ثبوت قصد جنائي خاص لدى المتهم, فإنه لا يتصور اكتفاء الشارع في ثبوت هذا القصد باعتبارات وافتراضات قانونية, بل يجب التحقق من قيامه من الأدلة المستمدة من حقيقة الواقع, وهذا ما استقر عليه قضاء محكمة النقض في تفسيرها للمادة 62 من قانون العقوبات, وهو المعول عليه في القانون الهندي الذي أخذت عنه المادة المذكورة.


الوقائع

اتهمت النيابة العامة الطاعن بأنه: أولا - قتل أحمد عبد العزيز فريد عمدا مع سبق الإصرار والترصد بأن بيت النية على قتله وأعد لذلك سلاحا ناريا (بندقية) وترصد له في طريقه وأطلق عليه عيارين ناريين قاصدا من ذلك قتله فأصابه أحدهما وأحدث به الإصابات المبينة بتقرير الصفة التشريحية والتي أودت بحياته, وقد اقترنت هذه الجناية بجناية أخرى هى أنه في الزمان والمكان سالفي الذكر شرع في قتل محمد عبد العزيز فريد مع سبق الإصرار بأن وقف على مقربة من منزله - إثر قتله المجني عليه الأول - منتويا قتل كل من يهم بالقبض عليه فما أن حضر المجني عليه الأخير واتجه نحوه حتى أطلق عليه عيارين ناريين قاصدا من ذلك قتله فأصابه أحدهما وأحدث به الإصابات المبينة بالتقرير الطبي الشرعي وخاب أثر الجريمة لسبب لا دخل لإرادته فيه هو تدارك المجني عليه بالعلاج, الأمر المنطبق على المواد 45 و46 و230 و231 من قانون العقوبات. وثانيا - أحرز سلاحا ناريا (بندقية غير مششخنة) بدون ترخيص. وثالثا - أحرز ذخائر (طلقات) مما تستعمل في السلاح الناري سالف الذكر. وطلبت من غرفة الاتهام إحالته على محكمة الجنايات لمعاقبته بالمواد 230 و231 و232 و234/ 2 من قانون العقوبات و1 و6 و26/ 1 - 4 و30 من القانون رقم 394 لسنة 1954 فقررت ذلك. وقد ادعى محمد عبد العزيز فريد بحق مدني قبل المتهم بمبلغ مائة جنيه على سبيل التعويض والمصاريف والأتعاب. ومحكمة جنايات سوهاج قضت حضوريا عملا بالمواد 234/ 1 و2 من قانون العقوبات و1 و30 من القانون رقم 394 لسنة 1954 والجدول رقم 2 المرافق والمادة 26/ 1 من نفس القانون المعدلة بالقانون رقم 546 لسنة 1954 و6 و30 من القانون رقم 394 لسنة 1954 والمادة 26/ 4 من نفس القانون المعدلة بالقانون رقم 546 لسنة 1954 مع تطبيق المادتين 32/ 2 و17 من قانون العقوبات - بمعاقبة المتهم بالأشغال الشاقة المؤبدة وبمصادرة الذخيرة المضبوطة وبإلزامه بأن يدفع لمحمد عبد العزيز المدعي المدني مائة جنيه والمصاريف المدنية وخمسة جنيهات مقابل أتعاب محاماة. فطعن الطاعن في هذا الحكم بطريق النقض... الخ.


المحكمة

... وحيث إن مما ينعاه الطاعن على الحكم المطعون فيه أنه أخطأ في تطبيق القانون وتأويله حين دانه بجريمة القتل العمد المقترن بالشروع فيه على رغم تسليم الحكم بأن الطاعن كان وقت ارتكاب الفعل المسند إليه في حالة سكر, مع أن السكران باختياره لا يحاسب على الجرائم التي تتطلب قصدا خاصا كالقتل العمد, لأنه لا يمكن افتراض قيام نية القتل مع فقدان الإدراك والشعور, وأقصى ما يمكن أن يحاسب عليه من كان في مثل هذه الحالة هو إسقاط حالة السكر عنه ومؤاخذته بوصفه يقظا, ومن كان كذلك لا يؤاخذ عن القتل العمد إلا إذا قام الدليل من واقع الدعوى على ثبوت توافر نية القتل لديه, وبإسقاط هذه النية لا يبقى ما يحاسب عليه الطاعن إلا واقعة الضرب المفضي إلى الموت متى ثبتت واقعة الضرب في ذاتها عليه.
وحيث إن الحكم المطعون فيه بين واقعة الدعوى بما محصله أنه حوالي منتصف ليلة الحادث بينما كان المجني عليه الأول أحمد عبد العزيز فريد يسير في صحبة شقيقه الأصغر أبو الفتوح عبد العزيز فريد قاصدين استئجار جمال لينقلا عليها سمادا إلى فدان يستأجره الأخير من الطاعن, ولما وصلا إلى الميدان الفسيح الذي يطل عليه باب منزل هذا الأخير نادى عليهما مستفسرا عن شخصيتهما, فلما أجابه أحمد عبد العزيز فريد باسمه وكان يتقدم أخاه بنحو خطوة أطلق عليه الطاعن عيارين ناريين دفعة واحدة من بندقية خرطوش ذات فوهتين قاصدا بذلك قتله فأصابه أحد المقذوفين وأرداه, وحضر الشقيق الثالث محمد عبد العزيز فريد على صوت العيارين كما خف خفير الدرك مهران خليفة مهران إلى محل الحادث ووجد القتيل جثة هامدة وأبلغهما أبو الفتوح عبد العزيز فريد ما حصل من الطاعن وأشار لهما على الجهة التي سلكها الأخير, فاندفعا نحوها ووجداه شاهرا سلاحه على مقربة من باب داره, ولما عاب عليه المجني عليه الثاني إطلاق النار على المجني عليه الأول ابتدره بإطلاق عيارين ناريين عليه دفعة واحدة بقصد قتله فأصابه أحد العيارين, وعندئذ حاول الخفير النظامي إطلاق سلاحه ناحية الطاعن فلم ينطلق بسبب خلل فيه, وتمكن الطاعن من الهرب إلى زراعة ذرة مجاورة لمنزله وعاد الخفير مع المجني عليه الثاني إلى مكان القتيل وأبلغا أبو الفتوح عبد العزيز فريد ما كان من أمر الطاعن مع المجني عليه الثاني, واتجها إلى دار العمدة لإخطاره حيث صادفهما في الطريق وكيل شيخ الخفراء وأنهيا إليه الحادثين وأبلغوا ثلاثتهم السلطات المختصة, فانتقل ضابط مباحث مركز سوهاج وجدّ في البحث عن الطاعن حتى ضبطه في نحو الساعة 2.30 بعد منتصف ليلة الحادث مختبئا في زراعة ذرة خلف منزله وكان جالسا على الأرض بمفرده وسط الزراعة ورائحة الخمر تفوح من فمه وعثر بجيبه على طلقة خرطوش عيار 16 غير مطلقة تبين من فحصها بواسطة الطبيب الشرعي أنها صالحة للاستعمال, واعترف الطاعن أمام النيابة بملكيته لها وأقر بأن البندقية التي يطلق منها هذه الخرطوشة في حيازته ولا يمكنه إحضارها بأية حالة, وثبت من التحقيقات أن والد الطاعن كان شيخا للبلدة وأنه كانت لديه بندقية خرطوش عيار 16 بروحين مرخص له بها بحكم وظيفته وفات مركز سوهاج سحبها بعد وفاته, كما عثر ضابط المباحث في صباح الحادث في أثناء بحثه عن البندقية التي استعملت في الحادث في الزراعة التي ضبط الطاعن بداخلها على طلقة أخرى صالحة للاستعمال عيار 16 وظرف فارغ من العيار ذاته اشتم فيه وكيل النيابة رائحة بارود ظاهرة تدل على إطلاقه حديثا, وبان من التحقيقات أن سبب الحادث يرجع إلى محاولة الطاعن تأجير الفدان الذي كان يستأجره منه أبو الفتوح عبد العزيز فريد سنة 55/ 1956 الزراعية إلى الغير على خلاف أحكام قانون الإصلاح الزراعي الذي تمسك المستأجر المذكور بها وظاهره شقيقاه - المجني عليهما - ثم أورد الحكم على ثبوت الواقعة على هذه الصورة أدلة مستمدة من أقوال شهود الإثبات ومن تقرير الصفة التشريحية والكشف الطبي والتقرير الطبي الشرعي ومن المعاينة والكشف الطبي على الطاعن, وأشار الحكم إلى أنه تبين من هذا الكشف الطبي أن الطاعن وجد بحالة سكر غير بين وأنه يشتم من فمه رائحة الكحول. ثم عرض الحكم إلى دفاع الطاعن وأشار إلى ما قرره من أنه كان في ليلة الحادث بسوهاج وشرب كينا وأنه يتعاطى الخمر من نحو عشرين سنة, وقال في صدد اطراح دفاعه - بشأن تعذر الرؤية وقت الحادث بسبب الظلام - "إن هذا القول يجافي ما قال به جميع شهود الحادث من أن القمر كان منيرا تتحقق معه الرؤية, وخصوصا أن الحادث وقع ليلة 17 من الشهر العربي, وكون المتهم (الطاعن) قد سأل من الطارق قد يكون مرجعه حالة الذهول التي به نتيجة سكره طائعا مختارا" ثم استطرد الحكم إلى القول "وحيث إنه لا يعتبر تزيدا أن يقال أن ظروف الحادث لا ترشح للذهب بأن المتهم (الطاعن) كان في حالة دفاع شرعي لوجود المجني عليهما على مقربة من داره, ذلك لأن التحقيقات التي حصلت في الدعوى وجميع ظروفها تدل على أن المتهم قتل المجني عليه الأول عمدا وحاول قتل المجني عليه الثاني عمدا, لادرءا لخطر حال به أو فعل يتخوف أن يحدث منه موته أو جرحه جراحا بالغة, بل قد يكون مبعثه المشروب الذي لعب برأسه وتعاطاه طائعا مختارا, وليس ثمت من شك في أن المتهم لا يستفيد من خطئه ولأنه حتى مع التسليم الجدلي بأنه فقد شعوره فإن المادة 62 عقوبات قد نصت في صراحة على أن لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل لغيبوبة ناشئة من عقاقير مخدرة أيا كان نوعها إذا أخذها قهرا عنه أو على غير علم منه بها". لما كان ذلك, وكان الأصل أن الغيبوبة المانعة من المسئولية على مقتضى المادة 62 من قانون العقوبات هى التي تكون ناشئة من عقاقير مخدرة تناولها الجاني قهرا عنه أو على غير علم منه بحقيقة أمرها, وأن مفهوم ذلك أن من يتناول مادة مخدرة أو مسكرة مختارا وعن علم بحقيقة أمرها يكون مسئول عن الجرائم التي تقع منه وهو تحت تأثيرها, فالقانون في هذه الحالة يجري عليه حكم المدرك التام الإدراك مما ينبني عليه توفر القصد الجنائي لديه, إلا أنه لما كانت هناك بعض جرائم يتطلب القانون فيها ثبوت قصد جنائي خاص لدى المتهم, فإنه لا يتصور اكتفاء الشارع في ثبوت هذا القصد باعتبارات وافتراضات قانونية, بل يجب التحقق من قيامه من الأدلة المستمدة من حقيقة الواقع, وهذا ما استقر عليه قضاء هذه المحكمة في تفسيرها للمادة 62 من قانون العقوبات, وهو المعوّل عليه في القانون الهندي الذي أخذت عنه المادة المذكورة.
وحيث إنه متى كان هذا مقررا, وكان الحكم المطعون فيه قد تحدث عن سكر الطاعن واكتفى بترتيب تقريرات قانونية خاطئة في تفسير مداول المادة 62 من قانون العقوبات أوردها على سبيل الفرض الجدلي دون أن يبين ماهية هذا السكر ودرجته ومبلغ تأثيره في إدراك الطاعن وشعوره, ووقع عليه عقوبة القتل العمد المقترن بجناية شروع فيه عملا بالمادة 234/ 1 و2 من قانون العقوبات, فإنه يكون قاصر البيان متعينا نقضه بغير حاجة إلى بحث باقي ما يثيره الطاعن في طعنه.