أحكام النقض - المكتب الفني - جنائى
العدد الثالث - السنة 10 - صـ 970

جلسة أول ديسمبر سنة 1959

برياسة السيد محمود محمد مجاهد المستشار, وبحضور السادة: أحمد زكي كامل, والسيد أحمد عفيفي, ومحمد عطيه اسماعيل, وعباس حلمي سلطان المستشارين.

(199)
الطعن رقم 984 لسنة 29 القضائية

استدلال.
واجبات مأمور الضبط القضائي. التحري عن الجريمة بقصد اكتشافها. ما لا يعد تحريضا على ارتكاب الجريمة.
التخفي وانتحال الصفة بشرط تمتع الجاني بملكة الإرادة.
رشوة.
إجرام المرتشي. النية الإجرامية. النشاط الإرادي.
صورة واقعة يتوافر بها ارتكاب الجاني جريمة الرشوة بارادة تامة رغم الإجراءات التي اتخذها مأمور الضبط القضائي في سبيل كشف الجريمة وضبط المتهمين فيها.
يجب على مأموري الضبط القضائي - بمقتضى المادة 21 من قانون الإجراءات الجنائية - أن يقوموا بالبحث عن الجرائم ومرتكبيها, وجمع الاستدلالات التي تلزم للتحقيق والدعوى, فيدخل في اختصاصهم اتخاذ ما يلزم من الاحتياطات لاكتشاف الجرائم وضبط المتهمين فيها, ولا تثريب عليهم فيما يقومون به من التحري عن الجرائم بقصد اكتشافها - ولو اتخذوا في سبيل ذلك التخفي وانتحال الصفات حتى يأنس الجاني لهم ويأمن جانبهم وليتمكنوا من أداء واجبهم, ما دام أن إرادة الجاني تبقى حرة غير معدومة - فإذا كان الثابت من الحكم أن الطاعن قد أومأ للضابط من بادئ الأمر بما كان ينبغي عليه من التقدم إليه مباشرة دون تداخل المتهم الآخر - الذي أوصله وأرشده إليه - لتذليل ما يعترض مرور السيارة من عقبات, الأمر الذي فسرته المحكمة بحق بأنه إيماء من الطاعن باستعداده للتغاضي عن المخالفة الجمركية لقاء ما يبذل له من مال, ثم المساومة بعد ذلك على مبلغ الرشوة وقبضه فعلا وضبط بعضه في جيبه, وأن ذلك كله حدث في وقت كانت إرادة الطاعن فيه حرة طليقة, وكان انزلاقه إلى مقارفة الجريمة وليد إرادة تامة, فيكون صحيحا ما خلص إليه الحكم من أن تحريضا على ارتكاب الجريمة لم يقع من جانب رجلي الضبط القضائي.


الوقائع

اتهمت النيابة العامة الطاعن وآخر بأنهما: بصفتهما موظفين عموميين - الأول (الطاعن) معاون نقطة المحجر الجمركية والثاني عسكري بها طلبا لنفسيهما وقبلا مبلغا للإخلال بواجباتهما بأن طلبا من اليوزباشي رمضان مصطفى ابراهيم مبلغ 250 قرش ليسمحا لسيارته المحملة بضائع من مخلفات الجيش البريطاني يستحق عنها رسوم جمركية بالمرور دون أدائها وتقديم ما يدل على ذلك. وقررت غرفة الاتهام إحالتهما إلى محكمة الجنايات لمعاقبتهما بالمواد 103, 104, 110, 111 من قانون العقوبات المعدلة بالقانون رقم 69 سنة 1953, والمحكمة المذكورة قضت حضوريا للطاعن وغيابيا للثاني عملا بمواد الاتهام مع تطبيق المادة 17 من قانون العقوبات بمعاقبة كل من المتهمين بالسجن لمدة ثلاث سنوات وبتغريم كل منهما ألفي جنيه. فطعن الطاعن في هذا الحكم بطريق النقض... إلخ.


المحكمة

... وحيث إن الطاعن ينعي على الحكم المطعون فيه الخطأ في تطبيق القانون وفي تأويله, ذلك أن الطاعن دفع أمام محكمة الموضوع ببطلان جميع الاجراءات التي اتخذت في الدعوى إذ لو صحت الوقائع التي رواها شاهد الدعوى وحصلها الحكم المطعون فيه لكان رجل الضبط القضائي هو الذي خلق الجريمة المسندة إلى الطاعن بغشه وخداعه وتحريضه - وأن المادة 21 من قانون الإجراءات الجنائية وإن نصت على أن يقوم مأمور الضبط القضائي بالبحث عن الجرائم ومرتكبيها وجمع الاستدلالات التي تلزم للتحقيق في الدعوى وأن يستعين بكافة الطرق الفنية للتحري والبحث إلا أنه لا يجوز له أن يحرض على ارتكاب الجريمة أو يخلقها خلقا بطريق الغش والخداع والتحريض وإلا لخرج عن اختصاصه مما يقتضي في ذاته البطلان - وبإنزال هذه القواعد على واقعة الدعوى كما حصلها الحكم يبين أن شاهدي الإثبات النقيب شفيق ندا وزميله رمضان مصطفى وقد تسلطت عليهما فكرة الضبط تنفيذا للأمر الصادر لهما بذلك أخذا في الإلحاح على الطاعن ورجال القوة في الإرشاد وكلما رفض أوغلا في طريقهم وما كانت الجريمة لتقع لولا هذا التدخل, وقد فهم الحكم المطعون فيه أحكام القانون على غير وجهها الصحيح وانتهى إلى أن الجاني يعذر إذا حرض على ارتكاب الجريمة حين تقوم لديه حالة الضرورة المنصوص عليها في المادة 61 من قانون العقوبات فخلط بذلك بين أحكام قانون الإجراءات الجنائية وأحكام قانون العقوبات.
وحيث إن الحكم المطعون فيه حصل واقعة الدعوى بما مؤداه أن النقيب شفيق حسن ندا معاون مباحث مديرية الشرقية تحرى من جانبه عما جاء بتقرير سري لمكتب الأمن بوزارة الداخلية بشأن ارتشاء القوة المعينة بنقطة التفتيش الجمركي بالمحجر فدلته تحرياته على أن الطاعن وآخرين من قوة النقطة الجمركية قد اعتادوا تقاضي الرشاوى من السيارات المارة بالنقطة محملة بمخلفات الجيش مقابل تغاضيهم عما يعثورها من مخالفات جمركية والسماح لها بالمرور فحرر محضرا بتحرياته واجتمع بمفتش مباحث مديرية الشرقية المقدم أحمد حسن الصبان والرائد حسين علي عطيه نائب قائد القسم السري بإدارة السواحل ببور سعيد والنقيب رمضان مصطفى ابراهيم قائد السواحل بالزقازيق لوضع خطة لضبط الجناة متلبسين بجريمتهم وتم الاتفاق على قيام النقيبين شفيق حسن ندا ورمضان مصطفى ابراهيم بإجراءات الضبط بعد عرض الأمر على النيابة العامة ورؤى إحكاما لضبط الواقعة أن يتخفى الضابطان في ذي يستر شخصيتهما وسلمهما مفتش المباحث ورقة مالية من ذات الجنيه وأخرى من ذات الخمسين قرشا وورقتين من ذات الخمسة وعشرين قرشا بعد أن أثبت أرقامها واستؤذنت النيابة العامة في تفتيش الأشخاص المذكورين بمحضر التحري فأذنت بذلك للضابطين شفيق ندا ورمضان مصطفى ومن يرافقهما أو من يندبه أحدهما للتفتيش واستقل الضابطان سيارة نقل محملة صاجا وحديدا من مخلفات الجيش البريطاني كانت في طريقها إلى النقطة الجمركية بالمحجر حيث انتحلا شخصية صاحب البضاعة وسائق السيارة وكلفا من بالسيارة التزام الصمت حيال رجال النقطة تاركين الأمر لهما بعد أن كشفا لهما عن شخصيتهما, ولما بلغت السيارة النقطة استوقفهما المتهم الآخر سائلا عن الترخيص المثبت لسداد رسوم الملاحظة الجمركية فتعلل النقيب رمضان مصطفى الذي انتحل شخصية مالك البضاعة بوجود التصريح في سيارة أخرى لاحقة وطلب إليه أن يقوده إلى معاون الجمرك للتفاهم معه في هذا الشأن فقاده إلى الطاعن الذي عاب عليه عدم إدراكه لوجوب التفاهم السابق معه رأسا في هذا الشأن فأبدى له الضابط استعداده لأداء ما يطلب منه وعندئذ تقدم إليه النقيب شفيق ندا الذي انتحل شخصية السائق وقدم لزميله رمضان مصطفى الورقة المالية ذات الخمسين قرشا والورقتين ذات الخمسة وعشرين قرشا المنوه عنها آنفا وتركه للتفاهم مع الطاعن وعاد أدراجه إلى السيارة حيث كان المتهم الآخر, وأعاد عليه التداخل في المساعدة لدى معاون الجمرك فرد عليه بقوله "ما أنا وديت له المعلم - يقصد الضابط مصطفى رمضان" - ثم عاد الضابط مصطفى رمضان وأنبأ زميله أن الطاعن يطلب مبلغ جنيهين يقتسم منها جنيها ونصف مع رجال القوة ويختص لنفسه بالباقي فأعطاه الضابط شفيق ندا الورقة المالية ذات الجنيه وإذ تنبه المتهم الآخر إلى نية الطاعن التي نقلها عنه النقيب مصطفى رمضان حتى طالب بنصيب رجال القوة في المبلغ مما اقتضى رفعه إلى مبلغ مائتين وخمسين قرشا عرضه النقيب رمضان مصطفى على الطاعن فأخذ منه الجنيه المرقوم لنفسه تاركا ما جاوزه لرجال القوة فأخذه المتهم الأخر وعندئذ أطلق المتهمان سراح السيارة المحجوزة فتابعت سيرها واستدعى الضابطان الرائد حسن علي عطيه الذي كان في انتظارهما بمركز البوليس فسارع إليهما على رأس قوة واتجه الجميع إلى نقطة المحجر حيث فتش الرائد حسن علي عطيه (الطاعن) فعثر في جيب بنطلونه على الورقة المالية من ذات الجنيه المرقومة ولم يعثر النقيب رمضان مصطفى على شئ من النقود مع المتهم الآخر ثم اقتاد رجال الشرطة المتهمين إلى مركز البوليس وتولت النيابة التحقيق. واستندت المحكمة في إدانة الطاعن إلى أدلة استمدتها من شهادة النقيب شفيق حسن ندا معاون مباحث مديرية الشرقية وزميله رمضان مصطفى قائد سواحل الزقازيق والرائد حسن علي عطيه نائب قائد القسم السري بإدارة السواحل ببور سعيد والمقدم أحمد حسن الصبان مفتش مباحث مديرية الشرقية, وخلصت إلى أن الطاعن والمتهم الآخر بصفتهما موظفين عموميين طلبا لنفسيهما وقبلا مبلغ الرشوة للإخلال بواجباتهما وسمحا لسيارة النقل بالمرور من نقطة المراقبة الجمركية وهى محملة ببضائع من مخلفات الجيش البريطاني دون الاطلاع على الشهادة الدالة على أدائها ما يستحق عليها من رسم أو التثبت من ذلك وعاقبتهما على هذا الأساس وحين عرض الحكم لدفاع الطاعن الذي يثيره في طعنه رد عليه بقوله "وحيث إنه بالنسبة للدفع ببطلان الإجراءات لوقوع الجريمة نتيجة تحريض رجال البوليس بحيث أنها ما كانت لتقع لولا تدخلهم فإنه وإن كان صحيحا أن عمل رجال الضبط هو ضبط الجريمة لا خلقها إلا أن القانون لم يضع على حرية هؤلاء الرجال في سلوك السبل المؤدية إلى ضبط تلك الجرائم قيودا اليهم إلا حماية حريات الأشخاص ومساكنهم فضلا عن القيود الخاصة بالنظام العام وحسن الآداب, كما أن من أولى واجبات رجل الضبط القضائي تلقى التبليغات عن الجرائم وجمع الاستدلالات وتلقى الإيضاحات عن الجريمة ومرتكبها إلى غير ذلك وله أن يرتاد ما يراه محققا لضبط الجرائم من مسالك طالما أنه بعيد عن المساس بتلك الحريات, ومع ذلك فإنه كما يمكن له الإنتقال إلى مكان الجريمة عقب وقوعها لضبط الواقعة فإن له التربص للجاني إذا كان قد وصل إلى علمه نبأ اعتزامه ارتكاب الجريمة للإطباق به حال ارتكابها إذ في ذلك ما يزيد من الاطمئنان إلى دقة ما يحصلون عليه من وقائع تنير في كشف الحقيقة باعتبار أن في المشاهدة ما يفوق السماع تثبيتا للدليل وتقوية لليقين, ومن ثم فلا جناح عليهم في دخول مسرح الجريمة حتى إذا ما وقعت كانوا لها شهودا ولا تثريب عليهم في سبيل ذلك في التخفي أو انتحال الصفات التي تدرأ عنهم اشتباه الجاني في أمرهم لدخول ذلك وأمثاله في نطاق المشروع من الوسائل التي لم يضع الشارع على سلوكها قيودا. وحيث إنه بالنسبة لما قد يفسر في تداخل رجال الضبط في مسرح الجريمة بصفة مباشرة والظن بأن ذلك تحريضا على ارتكابها بحيث أنه لولا هذا التداخل المباشر لما وقعت فإن مثل هذا التداخل سواء وقع من رجال الضبط أو من سواهم من عامة الناس إن كان له أثر في قيام الجريمة فإنما يقتصر على ما يتصل بالركن المعنوي فيها وهو القصد الجنائي لدى الفاعل بحيث أنه إذا ما بلغ التداخل أو التحريض الحد الذي لا يجعل للجاني خيارا في الوقوع في حمأة الجريمة ويدفعه إلى التردي فيها دفعا لا يملك إزاءه ردا فإن مثل هذا التداخل من شأنه أن يعدم الرضاء ويرفع المسئولية عن الفاعل وينتفي بذلك العقاب لانعدام الإرادة التي يقوم عليها القصد الجنائي أما ما يقع من مجرد تلاقي تصرف رجل الضبط أو سواء مع رغبة الجاني الإجرامية ومسايرته له فلا يعتبر ذلك تحريضا على مقارفة الجريمة معدما للإرادة وليس فيه استهواء إلى مخالفة القانون بإغراء لا تقوى إرادته على دفعه, ولا يؤثر في قيام أركان هذه الجريمة أن تقع نتيجة تداخل أو تدبير لضبطها وأن الراشي لم يكن جادا فيما عرضه على المتهمين إذ أن عرض الشاهدين الأول والثاني أو أحدهما الرشوة كان جديا في ظاهره وكان المتهمان قد قبلاها على أنها جديه وعبثا إثر ذلك بمقتضيات وظيفتهما لمصلحة الراشي بإخلاء سبيل السيارة بمحتوياتها دون التثبت من وجود الشهادة الجمركية لدى ناقلها" - وهذا الذي قاله الحكم سديد في القانون ذلك أنه مما يدخل في اختصاص مأموري الضبط القضائي أن يتخذوا ما يلزم من الاحتياطات لاكتشاف الجرائم وضبط المتهمين فيها وأن عليهم بمقتضى المادة 21 من قانون الإجراءات الجنائية أن يقوموا بالبحث عن الجرائم ومرتكبيها وجمع الاستدلالات التي تلزم لتحقيق الدعوى - ولذا فلا تثريب عليهم فيما يقومون به من التحري عن الجرائم بقصد اكتشافها ولو اتخذوا في سبيل ذلك التخفي وانتحال الصفات حتى يأنس الجاني لهم ويأمن جانبهم وليتمكنوا من أداء واجبهم ما دام أن إرادة الجاني تبقى حرة غير معدومة. لما كان ذلك, وكان ما أثبته الحكم من أن الطاعن قد أومأ للضابط رمضان مصطفى من بادئ الأمر بما كان ينبغي عليه من التقدم إليه مباشرة دون تداخل المتهم الآخر الذي أوصله وأرشده إليه لتذليل ما يعترض مرور السيارة من عقبات الأمر الذي فسرته المحكمة بحق بأنه إيماء من الطاعن باستعداده للتغاضي عن المخالفة الجمركية لقاء ما يبذله من مال ثم المساومة بعد ذلك على مبلغ الرشوة وقبضه فعلا وضبط بعضه في جيبه وأن ذلك كله حدث في وقت كانت إرادة الطاعن فيه حرة طليقة, وكان انزلاقه إلى مقارفة الجريمة وليد إرادة تامة ثم خلص الحكم من ذلك إلى أن المحكمة لا ترى فيما وقع تحريضا من جانب رجلي الضبط القضائي على ارتكاب الجريمة. لما كان ما تقدم, وكان ما ساقه الحكم عن المادة 61 من قانون العقوبات المقابلة للمادة 64 من قانون العقوبات الفرنسي إنما هو رد على ما أثاره الدفاع في خصوص أن بعض المحاكم الفرنسية قد جرت على عدم تجريم الفعل الصادر من الجاني إذا كان وليد ضغط على إرادته من جانب رجال البوليس في بعض الجرائم وقالت المحكمة أن هذا الرأي محل نقد وخلصت إلى أن الدفع في غير محله ورفضته, ولم تتعرض المحكمة لأحكام قانون الإجراءات الجنائية في هذا الخصوص ولم يكن فيما قالته ما يتعارض مع ما انتهت إليه من توافر عناصر الجريمة التي دانت الطاعن بها.
وحيث إنه لما تقدم يكون الطعن على غير أساس ويتعين رفضه موضوعا.