مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الأولى - العدد الثالث (من يونيه سنة 1956 إلى آخر سبتمبر سنة 1956) - صـ 807

(98)
جلسة 2 من يونيه سنة 1956

برئاسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة بدوي إبراهيم حمودة والإمام الإمام الخريبي وعلي إبراهيم بغدادي ومصطفى كامل إسماعيل المستشارين.

القضية رقم 157 لسنة 2 القضائية

( أ ) القضاء الإداري - تميزه عن القضاء المدني في أنه ليس مجرد قضاء تطبيقي، بل هو على الأغلب قضاء إنشائي - عدم التزامه بتطبيق قواعد القانون المدني على روابط القانون العام إلا بنص خاص يستلزم ذلك - عند انعدام النص تكون له حريته في انتزاع الحلول المناسبة - مثال بالنسبة لقواعد التقادم في فقه القضاء الإداري الفرنسي.
(ب) ماهية - صيرورتها حقاًًًًً مكتسباًًًًً للحكومة إذا لم يطالب بها صاحبها في مدة خمس سنوات - عدم تخلف أي التزام طبيعي في ذمة الدولة - المحاكم تقضي بهذا السقوط من تلقاء نفسها عند توافر شرائطه - أوجه الخلاف مع قواعد التقادم المدنية - المادة 50 من اللائحة المالية للميزانية والحسابات.
(ج) تقادم - المطالبة التي تقطع التقادم طبقاًًًًً للقواعد المدنية هي المطالبة القضائية - تقرير القضاء الإداري لقاعدة ميسرة في علاقة الحكومة بموظفيها - الاكتفاء في قطع التقادم بمجرد الطلب أو التظلم.
1 - إن روابط القانون الخاص تختلف في طبيعتها عن روابط القانون العام، وأن قواعد القانون المدني قد وضعت لتحكم روابط القانون الخاص، ولا تطبق وجوباًًًًً على روابط القانون العام إلا إذا وجد نص خاص يقضي بذلك، فإن لم يوجد فلا يلتزم القضاء الإداري بتطبيق القواعد المدنية حتماًًًًً وكما هي، وإنما تكون له حريته واستقلاله في ابتداع الحلول المناسبة للروابط القانونية التي تنشأ في مجال القانون العام بين الإدارة في قيامها على المرافق العامة وبين الأفراد، فله أن يطبق من القواعد المدنية ما يتلاءم معها، وله أن يطرحها إن كانت غير متلائمة معها، وله أن يطورها بما يحقق هذا التلاؤم. ومن هنا يفترق القانون الإداري عن القانون المدني في أنه غير مقنن حتى يكون متطوراً غير جامد، ويتميز القضاء الإداري عن القضاء المدني في أنه ليس مجرد قضاء تطبيقي، مهمته تطبيق نصوص مقننة مقدماًًًًً، بل هو على الأغلب قضاء إنشائي، لا مندوحة له من خلق الحل المناسب، وبهذا أرسى القواعد لنظام قانوني قائم بذاته، ينبثق من طبيعة روابط القانون العام، واحتياجات المرافق ومقتضيات حسن سيرها، وإيجاد مركز التوازن والمواءمة بين ذلك وبين المصالح الفردية، فابتدع نظرياته التي استقل بها في هذا الشأن أو سبق بها القانون الخاص، سواء في علاقة الحكومة بالموظف، أو في المرافق العامة وضرورة استدامتها وحسن سيرها، أو في العقود الإدارية، أو في المسئولية، أو في غير ذلك من مجالات القانون العام. ولهذا فإن فقه القضاء الإداري في فرنسا، مستهدياًًًًً بتلك الاعتبارات، لم يطرح بالكلية تطبيق النصوص المدنية الخاصة بالتقادم، وإنما طبقها في مجال روابط القانون العام بالقدر الذي يتفق مع طبيعتها، إلا إذا وجد نص خاص في مسألة بعينها فيجب عندئذ التزام هذا النص. وعلى مقتضى ذلك وبمراعاة النصوص الخاصة عندهم, فرقوا بين ديون الدولة المستحقة لها قبل الغير وبين ديون الغير قبلها، فقالوا إن الأولى تسقط بالمدد المعتادة (طبقاًًًًً للنصوص المدنية) أما الثانية فتسقط بمضي أربع سنوات (بمقتضى قانون خاص صدر في هذه الخصوص) إن لم ينص قانون آخر على السقوط بمدة أقصر، وقالوا إن سقوط ديون الغير قبل الدولة بمضي المدة المذكورة حتمي ونهائي، فلا يحتمل وقفاً كما لا يحتمل مداًًًًً، إلا بمقدار ميعاد المسافة؛ ومرد ذلك إلى اعتبارات المصلحة العامة حتى لا نعلق المطالبات قبل الحكومة زمناًًًًً بعيداًًًًً يجعل الميزانية - وهي سنوية بطبيعتها - عرضة للمفاجآت والاضطراب، وبهذا قرروا أن مثل هذه الالتزام إذا سقط لا يتخلف عنه التزام طبيعي في ذمة الدولة، ولا يلزم أن يدفع به المدين أو دائنوه بل يجوز للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها.
2 - إن المادة 50 من القسم الثاني من اللائحة المالية للميزانية والحسابات تنص على أن "الماهيات التي لم يطالب بها في مدة خمس سنوات تصبح حقاً مكتسباً للحكومة"، ويظهر من ذلك أنها وإن اقتبست من النصوص المدنية مدة التقادم الخمسي، إلا أنها قررت في الوقت ذاته أنه بمجرد انقضاء المدة تصبح تلك الماهيات حقاًًًًً مكتسباًًًًً للحكومة، فنفت تخلف أي التزام طبيعي في ذمة الدولة، وافترقت بذلك عن الأحكام المدنية التي تقضي بأنه وإن كان يترتب على التقادم انقضاء الالتزام إلا أنه مع ذلك يتخلف عنه التزام طبيعي (م 386 مدني) ، وأنه لا يجوز للمحكمة أن تقضي بالتقادم من تلقاء نفسها بل يجب أن يكون ذلك بناء على طلب المدين أو بناء على طلب دائنيه أو أي شخص له مصلحة فيه ولو لم يتمسك به المدين (م 387 مدني)؛ ومرد ذلك - بحسب النظرية المدنية - إلى أن التقادم ليس سبباً حقيقياً من أسباب براءة الذمة بل مجرد وسيلة لقطع حق المطالبة به، فيظل التزاماً مدنياً إلى أن يدفع بتقادمه، وينقضي إذا تم التمسك به ولكن يتخلف عنه التزام طبيعي في ذمة المدين، لذلك ينبغي أن يتمسك به ذوو الشأن، ولا يجوز للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها - بينما الاعتبارات التي يقوم عليها نص المادة 50 من اللائحة المالية للميزانية والحسابات هي اعتبارات تنظيمية تتعلق بالمصلحة العامة وتهدف إلى استقرار الأوضاع الإدارية وعدم تعرض الميزانية - وهي في الأصل سنوية - للمفاجآت والاضطراب، ومن ثم فإن القاعدة التي قررتها هي قاعدة تنظيمية عامة، ويتعين على وزارات الحكومة ومصالحها التزامها، وتقضي بها المحاكم كقاعدة قانونية واجبة التطبيق في علاقة الحكومة بموظفيها، وهي علاقة تنظيمية تحكمها القوانين واللوائح ومن بينها تلك اللائحة.
3 - إنه وإن كان مفاد النصوص المدنية (م 383 مدني) أن المطالبة التي تقطع التقادم هي المطالبة القضائية دون غيرها، إلا أن مقتضيات النظام الإداري قد مالت بفقه القضاء الإداري إلى تقرير قاعدة أكثر تيسيراً في علاقة الحكومة بموظفيها بمراعاة طبيعة هذه العلاقة والتدرج الرئاسي الذي تقوم عليه، وأن المفروض في السلطة الرئاسية هو إنصاف الموظف بتطبيق القانون حتى ينصرف إلى عمله هادئ البال دون أن يضطر إلى الالتجاء إلى القضاء، فقرروا أنه يقوم مقام المطالبة القضائية في قطع التقادم، الطلب أو التظلم الذي يوجهه الموظف إلى السلطة المختصة متمسكاً فيه بحقه وطالباً أداءه.


إجراءات الطعن

في يوم 4 من فبراير سنة 1956 أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة سكرتيرية المحكمة عريضة طعن أمام هذه المحكمة في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري (الهيئة الثانية) بجلسة 7 من ديسمبر سنة 1955 في الدعوى رقم 8468 لسنة 8 القضائية المقامة من وزارة الشئون البلدية والقروية ضد محمد العدوي مصطفى، القاضي: "بقبول الطعن شكلاً، وبتعديل قرار اللجنة القضائية المطعون فيه، وبأحقية المطعون فيه، وبأحقية المطعون ضده في تسوية حالته طبقاً لأحكام كادر العمال على أساس تعيينه "صبي" من تاريخ إلحاقه بالخدمة وما يترتب على هذه التسوية من آثار مع عدم صرف ما انقضى عليه من الفروق المالية أكثر من خمس سنوات ميلادية سابقة على تاريخ 20 من سبتمبر سنة 1953 - تاريخ آخر تظلم تقدم منه لجهة الإدارة - وألزمت الحكومة المصروفات"، وطلب السيد رئيس هيئة المفوضين للأسباب التي استند إليها في عريضة طعنه "الحكم بقبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه فيما قضي به من عدم صرف ما انقضى عليه من الفروق المالية أكثر من خمس سنوات ميلادية سابقة على تاريخ 20 من سبتمبر سنة 1953". وقد أعلن هذا الطعن إلى وزارة الشئون البلدية والقروية في 8 من فبراير سنة 1956 وإلى المطعون لصالحه في 2 من أبريل سنة 1956، وعين لنظره جلسة 5 من مايو سنة 1956 التي أبلغ بتاريخها الطرفان، ولم يقدم أيهما مذكرة بملاحظاته في الميعاد القانوني. وبالجلسة سمعت المحكمة ما رأت سماعه من إيضاحات على الوجه المبين بمحضر الجلسة، ثم قررت إرجاء النطق بالحكم في الطعن إلى جلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة تتحصل، حسبما يبين من أوراق الطعن، في أن المطعون لصالحه رفع إلى اللجنة القضائية الإضافية لجميع مصالح الحكومة بالإسكندرية التظلم رقم 552 لسنة 2 القضائية بعريضة أودعها سكرتيرية اللجنة في 17 من نوفمبر سنة 1953 ذكر فيها أنه عين ببلدية الإسكندرية في سنة 1929 بوظيفة صبي بأجر يومي قدره 50 م بلغ 80 م في 16 من أكتوبر سنة 1937 حيث رقي إلى وظيفة مساعد، و 180 في سنة 1945، وعند تنفيذ كادر العمال في سنة 1945 سويت حالته على أساس ترقيته إلى وظيفة صانع اعتباراً من 16 من أكتوبر سنة 1942، أي بعد مضي خمس سنوات على ترقيته إلى وظيفة مساعد، ثم تدرج أجره حتى وصل إلى 380 م في أول مايو سنة 1951. وعندما صدر قرار مجلس الوزراء في 11 من أغسطس سنة 1951 القاضي بترقية الصناع الدقيق إلى صانع دقيق ممتاز إذا قضى في درجته اثنتي عشرة سنة علم أنه سيحرم من هذه الدرجة بحجة أنه لم يقض في درجة صانع دقيق المدة القانونية، مع أن كادر العمال ينص على أن الصبي يرقى إلى درجة صانع دقيق بعد ثمان سنوات من تاريخ دخوله الخدمة، ولما كان قد دخل الخدمة في 4 من يناير سنة 1929 فقد أصبح يستحق وضعه في درجة صانع دقيق منذ 4 من يناير سنة 1937، ثم في درجة صانع ممتاز بعد ذلك تطبيقاً لقرار مجلس الوزراء الصادر في 11 من أغسطس سنة 1951، وخلص من هذا إلى طلب ترقيته إلى درجة صانع دقيق ممتاز التي استحقها لقضائه أكثر من المدة القانونية اللازمة للحصول عليها. وبجلسة 15 من ديسمبر سنة 1953 أصدرت اللجنة القضائية قرارها بـ "أحقية المتظلم في أن يعامل بكادر العمال على أساس تعيينه "صبي" من بدء دخوله الخدمة وما يترتب على إجراء هذه التسوية من آثار"، واستندت في ذلك إلى أن قواعد كادر العمال تقضي بمعاملة العامل بالتسوية الأصلح لحالته، وإلى أن المتظلم لو عومل على أساس أنه "صبي" من 9 من يناير سنة 1929 لرقى إلى درجة صانع دقيق من سنة 1937 أي بعد ثمان سنوات، ثم إلى صانع دقيق ممتاز من سنة 1942، وهذه التسوية أصلح له مما لو عومل على أساس اعتباره مساعد صانع من 16 من أكتوبر سنة 1937. وقد طعنت وزارة الشئون البلدية والقروية في هذا القرار أمام محكمة القضاء الإداري بالدعوى رقم 8468 لسنة 8 القضائية التي أودعت صحيفتها سكرتيرية المحكمة في 8 من يونيه سنة 1954 طالبة "الحكم بقبول هذا الطعن شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء قرار اللجنة الصادر لصالح المطعون ضده في التظلم المقيد تحت رقم 552 لسنة 2 ق، مع إلزامه بالمصروفات ومقابل الأتعاب"، وأسست طعنها على أن العبرة في التسوية عند تطبيق كادر العمال هي بالوظيفة التي يشغلها العامل أو الصانع في أول يوليه سنة 1945 بغض النظر عن الوظائف التي شغلها قبل هذا التاريخ، ومن ثم فليس للمطعون ضده أن يختار تسوية حالته على غير الوظيفة التي كان يشغلها في التاريخ المذكور ولو كان ذلك أصلح له، كما أن مجلس الوزراء قرر بجلسته المنعقدة في 20 من نوفمبر سنة 1949 منع تقديم طلبات لإعادة النظر في التسويات التي تمت. وبجلسة 7 من ديسمبر سنة 1955 قضت محكمة القضاء الإداري (الهيئة الثانية) في هذه الدعوى "بقبول الطعن شكلاً. وبتعديل قرار اللجنة القضائية المطعون فيه، وبأحقية المطعون ضده في تسوية حالته طبقاً لأحكام كادر العمال على أساس تعيينه "صبي" من تاريخ إلحاقه بالخدمة وما يترتب على هذه التسوية من آثار، مع عدم صرف ما انقضى عليه من الفروق المالية أكثر من خمس سنوات ميلادية سابقة على تاريخ 20 من سبتمبر سنة 1953 - تاريخ أخر تظلم تقدم منه لجهة الإدارة - وألزمت الحكومة بالمصروفات"، وكان السيد المفوض قد انتهى في مذكرته إلى أن المطعون ضده على حق في تسوية حالته من بدء الخدمة على أساس "صبي" مع ما يترتب على ذلك من آثار، ودفع في الوقت ذاته بالتقادم الخمسي بالنسبة للفروق التي مضى عليها أكثر من خمس سنوات سابقة لتاريخ المطالبة بها أمام اللجنة القضائية في 17 من نوفمبر سنة 1953 وذلك طبقاً للمادة 375 من القانون المدني. وقد أقامت المحكمة قضاءها على أن كادر العمال نص في الكشوف حرف "ب" الملحقة به والتي تنطبق على المعينين قبل أول مايو سنة 1945 - تاريخ نفاذ الكادر - على اعتبار الصبي صانعاً بعد مضي ثمان سنوات عليه في الخدمة، ثم يوضع في الوظيفة التي تحتاج إلى دقة من التاريخ التالي لمضي هذه السنوات الثمان، وتدرج أجرته بالعلاوات في هذه الدرجة. ولما كان المدعى عليه قد عين صبي براد في 4 من يناير سنة 1929 فإنه يستحق تسوية حالته طبقاً للقواعد السابقة باعتباره صانعاً دقيقاً في 4 من يناير سنة 1937، ثم يرقى طبقاً للكشف رقم (6) إلى درجة الدقة الممتازة في 4 من يناير سنة 1943، ويدرج بالعلاوات إلى أول مايو سنة 1945، ثم يخضع بعد ذلك لقواعد الترقية العادية وهي جوازية. أما بالنسبة لطلب الفروق المترتبة على هذه التسوية فقد رأت المحكمة أنه لما كانت هذه الفروق ناشئة عن حق دوري يتجدد فإنه يسقط منها بالتقادم ما يكون قد مضى عليه أكثر من خمس سنوات سابقة على تاريخ المطالبة، وقد قدم المدعى عليه في 20 من سبتمبر سنة 1953 آخر تظلم له إلى الجهة الرئاسية بطلب تطبيق كادر العمال عليه تطبيقاً صحيحاً وذلك قبل عرض شكواه على اللجنة القضائية، ومن ثم فإنه يتعين تعديل قرار اللجنة على هذا الأساس. وفي 4 من فبراير سنة 1956 طعن السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة في هذا الحكم بعرضية أودعها سكرتيرية هذه المحكمة طلب فيها "الحكم بقبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه فيما قضى به من عدم صرف ما انقضى عليه من الفروق المالية أكثر من خمس سنوات ميلادية سابقة على تاريخ 20 من سبتمبر سنة 1953"، وذكر أنه لا مطعن له على الحكم المطعون فيه فيما قضى به من تسوية حالة المتظلم على أساس تعيينه في درجة "صبي" من تاريخ إلحاقه بالخدمة، وإنما ينحصر طعنه في أن الحكم قضى بالتقادم تطبيقاً للمادة 375 من القانون المدني دون أن تدفع به الحكومة ودون أن يشير في أسبابه إلى دفع المفوض بالتقادم، وبذا إما أن تكون المحكمة قد قضت بالتقادم من تلقاء نفسها مخالفة بذلك المادة 387/ 1 من القانون المدني التي تنص على أنه لا يجوز للمحكمة أن تقضي بالتقادم من تلقاء نفسها، بل يجب أن يكون ذلك بناء على طلب المدين أو بناء على طلب دائنيه أو أي شخص له مصلحة فيه ولو لم يتمسك به المدين، وإما أن تكون قد استندت ضمناً إلى دفع المفوض وخالفت بذلك القانون، لأن هيئة مفوضي الدولة لا تنوب عن أحد من طرفي المنازعة الإدارية سواء أكان الحكومة أم الفرد، وإنما تمثل الحيدة لصالح القانون وحده، وإبداء الدفع بالتقادم ليس مسألة قانونية، بل هو دفع في الموضوع، وإذ ذهب الحكم المطعون فيه غير هذا المذهب فإنه يكون قد خالف القانون في هذا الخصوص وتكون قد قامت به الحالة الأولى من أحوال الطعن في الأحكام أمام المحكمة الإدارية العليا طبقاً لنص المادة 15 من قانون مجلس الدولة.
ومن حيث إنه بالنسبة إلى ما قضى به من أحقية المطعون لصالحه في تسوية حالته طبقاً لأحكام كادر العمال على أساس تعيينه في درجة "صبي" من تاريخ التحاقه بالخدمة، فإنه يبين من ملف خدمة المذكور أنه عين بمجلس بلدي الإسكندرية بصفة صبي براد بأجر يومي قدره 50 م اعتباراً من 4 من يناير سنة 1929، ثم رقي إلى وظيفة مساعد براد (شاب) من 16 من أكتوبر سنة 1937، وعند تطبيق كادر العمال في سنة 1945 سويت حالته على أساس ترقيته إلى وظيفة صانع اعتباراً من 16 من أكتوبر سنة 1942 - أي بعد مضي خمس سنوات على ترقيته إلى وظيفة مساعد صانع - وبلغ أجره اليومي 283 م في أول سنة 1945 بعد خصم 12% طبقاً لأحكام الكادر و400 م في أول مايو سنة 1953، وقد نص كتاب وزارة المالية الدوري ملف رقم ف 234 - 9/ 53 الصادر في 16 من أكتوبر سنة 1945 بشأن كادر عمال اليومية تنفيذاً لقراري مجلس الوزراء الصادرين في 23 من نوفمبر و28 من ديسمبر سنة 1944 على إعداد بيانين عن تسوية حالة الصبيان: (الأول) ويكون عنوانه تكاليف إنصاف الصبيان "أ" وتسوى حالة الموجودين في الخدمة على النحو الذي أورده على أن "من قضى منهم من تاريخ دخوله الخدمة لغاية الآن أكثر من ثمان سنوات تفترض له ترقية لدرجة صانع بأجرة يومية قدرها 200 م من التاريخ التالي لانتهاء هذه السنوات الثمان مباشرة وتدرج أجرته بالعلاوات في درجته" و (الثاني) ويكون عنوانه تكاليف إنصاف الصبيان "ب" "وتحسب التكاليف على أساس افتراض أن الصبي يعتبر صانعاً بعد مضي ثمان سنوات عليه في الخدمة، ويوضع في الوظيفة التي تحتاج إلى دقة بأجر قدره 240 م من التاريخ التالي لمضي هذه السنوات الثمان وتدرج أجرته بالعلاوات في هذه الدرجة". ومفاد هذا كما سبق أن قضت هذه المحكمة هو أن تطبيق أحكام كادر العمال ينصرف إلى طائفتين متميزتين من عمال اليومية لكل منهما وضع متباين عن الأخرى: "(الطائفة الأولى) هي طائفة العمال الموجودين بالخدمة فعلاً وقت تنفيذ الكادر المذكور والذين تحققت فيهم شروطه في أول مايو سنة 1945 وهؤلاء تحسب لهم ترقيات اعتبارية في مواعيدها في الماضي دون توقف على وجود درجات خالية أو ارتباط باعتمادات مقررة، لقيام التسوية بالنسبة إليهم على أسس فرضية محضة، لا جوازية ولا اختيارية، ولأن الفروق المالية والنفقات المترتبة على إجراء هذه التسوية ووجهت في جملتها باعتمادات خاصة. و (الطائفة الثانية) هي طائفة العمال الذين سيطبق عليهم الكادر مستقبلاً، إما لتعيينهم بعد أول مايو سنة 1945 - تاريخ تنفيذ الكادر - وإما لاستيفائهم الشروط المطلوبة بعد هذا التاريخ، ولو كانوا معينين قبله، وهؤلاء يخضعون في ترقياتهم لأحكام هذا الكادر بما أورده على الترقية من قيود، سواء من حيث وجوب مراعاة نسبة معينة لكل فئة من الصناع في القسم الواحد من كل وزارة أو مصلحة حسب ما تقتضيه حالة العمل، أو من حيث التزام حدود اعتماد مالي معين أو ضرورة وجود درجات خالية مما يجعل ترقيتهم جوازية منوطة بتوافر هذه الشروط، تترخص الإدارة في تقدير ملاءمتها لمقتضيات المصلحة العامة، لا حتمية ولا واقعة بقوة القانون، بحيث لا ينشأ المركز القانوني الذاتي فيها من تلقاء نفسه. ولما كان المطعون لصالحه قد دخل الخدمة بصفة صبي براد منذ 4 من يناير سنة 1929، واستكمل قبل أول مايو سنة 1945 المدة اللازمة للترقية الفرضية التي يستحقها وفقاً لكتاب وزارة المالية الدوري المتقدم ذكره، فإن تطبيق أحكام هذا الكتاب في حقه لإجراء التسوية التي قضى بها يقتضي إعمال أثر هذه التسوية بمراعاة حالته وقت دخوله الخدمة، والتدرج في ذلك حتى تاريخ تنفيذ كادر العمال لوضعه في المركز الصحيح المقدر له، دون اعتداد بالدرجة التي كان يشغلها فعلاً في هذا التاريخ، ودون تجريده من ماضي خدمته ومدة الخدمة، والقول بغير ذلك يفضي إلى تفاوت غير عادل، وإخلال بالمساواة في نتائج التسويات تبعاً للظروف الخاصة بكل عامل أو صانع على حدة، وإهدار للضوابط التي استنها الكادر المذكور وتغيا بها إنصاف العمال الموجودين في الخدمة وقت نفاذه بتسوية حالتهم على أسس موحدة تقوم على المساواة في المعاملة بين ذوي الظروف والمراكز المتماثلة. ومن ثم يكون الحكم المطعون فيه في محله في هذا الشق منه.
ومن حيث إنه فيما يتعلق بما قضى به الحكم المطعون فيه من عدم صرف ما انقضى عليه من الفروق المالية أكثر من خمس سنوات ميلادية سابقة على 20 من سبتمبر سنة 1953 تاريخ آخر تظلم تقدم من المطعون لصالحه لجهة الإدارة، ففضلاً عن أن الواقع من الأمر أن الحكم أشار في صدره إلى "الاطلاع على الأوراق وعلى تقرير المفوض"، كما أنه يبين من الأوراق أن المفوض دفع في تقريره المؤرخ 5 من سبتمبر سنة 1955 بسقوط الحق في المطالبة بالفروق المالية التي مضى عليها أكثر من خمس سنوات سابقة على تاريخ المطالبة بها في 17 من نوفمبر سنة 1953 وذلك بالتطبيق للمادة 375 من القانون المدني، فإنه يجب التنبيه بادئ ذي بدء إلى أن روابط القانون الخاص تختلف في طبيعتها عن روابط القانون العام، وأن قواعد القانون المدني قد وضعت لتحكم روابط القانون الخاص، وأنها لا تطبق وجوباًًًًً على روابط القانون العام إلا إذا وجد نص خاص يقضي بذلك، فإن لم يوجد فلا يلتزم القضاء الإداري بتطبيق القواعد المدنية حتماًًًًً وكما هي، وإنما تكون له حريته واستقلاله في ابتداع الحلول المناسبة للروابط القانونية التي تنشأ في مجال القانون العام بين الإدارة في قيامها على المرافق العامة وبين الأفراد، فله أن يطبق من القواعد المدنية ما يتلاءم معها، وله أن يطرحها إن كانت غير متلائمة معها، وله أن يطورها بما يحقق هذا التلاؤم. ومن هنا يفترق القانون الإداري عن القانون المدني في أنه غير مقنن حتى يكون متطوراً غير جامد، ويتميز القضاء الإداري عن القضاء المدني في أنه ليس مجرد قضاء تطبيقي، مهمته تطبيق نصوص مقننة مقدماًًًًً، بل هو على الأغلب قضاء إنشائي، لا مندوحة له من خلق الحل المناسب، وبهذا أرسى القواعد لنظام قانوني قائم بذاته، ينبثق من طبيعة روابط القانون العام، واحتياجات المرافق ومقتضيات حسن سيرها، وإيجاد مركز التوازن والمواءمة بين ذلك وبين المصالح الفردية، فابتدع نظرياته التي أستقل بها في هذا الشأن أو سبق بها القانون الخاص، سواء في علاقة الحكومة بالموظف، أو في المرافق العامة وضرورة استدامتها وحسن سيرها، أو في العقود الإدارية، أو في المسئولية، أو في غير ذلك من مجالات القانون العام.
ومن حيث إن فقه القضاء الإداري في فرنسا، مستهدياًًًًً بتلك الاعتبارات، لم يطرح بالكلية تطبيق النصوص المدنية الخاصة بالتقادم، وإنما طبقها في مجال روابط القانون العام بالقدر الذي يتفق مع طبيعتها، إلا إذا وجد نص خاص في مسألة بعينها فيجب عندئذ التزام هذا النص. وعلى مقتضى ذلك، وبمراعاة النصوص الخاصة عندهم, فرقوا بين ديون الدولة المستحقة لها قبل الغير وبين ديون الغير قبلها، فقالوا إن الأولى تسقط بالمدد المعتادة (طبقاًًًًً للنصوص المدنية) أما الثانية فتسقط بمضي أربع سنوات (بمقتضى قانون خاص صدر في هذه الخصوص) إن لم ينص قانون آخر على السقوط بمدة أقصر، وقالوا إن سقوط ديون الغير قبل الدولة بمضي المدة المذكورة حتمي ونهائي، فلا يحتمل وقفاً كما لا يحتمل مداًًًًً، إلا بمقدار ميعاد المسافة؛ ومرد ذلك إلى اعتبارات المصلحة العامة حتى لا تعلق المطالبات قبل والحكومة زمناًًًًً بعيداًًًًً يجعل الميزانية - وهي سنوية بطبيعتها - عرضة للمفاجآت والاضطراب، وبهذا قرروا أن مثل هذه الالتزام إذا سقط لا يتخلف عنه التزام طبيعي في ذمة الدولة، ولا يلزم أن يدفع به المدين أو دائنون بل يجوز للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها.
ومن حيث إن المادة 50 من القسم الثاني من اللائحة المالية للميزانية والحسابات تنص على أن "الماهيات التي لم يطالب بها في مدة خمس سنوات تصبح حقاً مكتسباً للحكومة"، ويظهر من ذلك أنها وإن اقتبست من النصوص المدنية مدة التقادم الخمسي، إلا أنها قررت في الوقت ذاته أنه بمجرد انقضاء المدة تصبح تلك الماهيات حقاًًًًً مكتسباًًًًً للحكومة، فنفت تخلف أي التزام طبيعي في ذمة الدولة وافترقت بذلك عن الأحكام المدنية التي تقضي بأنه وإن كان يترتب على التقادم انقضاء الالتزام إلا أنه مع ذلك يتخلف عنه التزام طبيعي (م 386 مدني) ، وأنه لا يجوز للمحكمة أن تقضي بالتقادم من تلقاء نفسها بل يجب أن يكون ذلك بناء على طلب المدين أو بناء على طلب دائنيه أو أي شخص له مصلحة فيه ولو لم يتمسك به المدين (م 387 مدني)؛ ومرد ذلك - بحسب النظرية المدنية - إلى أن التقادم ليس سبباً حقيقياً من أسباب براءة الذمة، بل مجرد وسيلة لقطع حق المطالبة به، فيظل التزاماً مدنياً إلى أن يدفع بتقادمه، وينقضي إذا تم التمسك به ولكن يتخلف عنه التزام طبيعي في ذمة المدين، لذلك ينبغي أن يتمسك به ذوو الشأن، ولا يجوز للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها - بينما الاعتبارات التي يقوم عليها نص المادة 50 من اللائحة المالية للميزانية والحسابات هي اعتبارات تنظيمية تتعلق بالمصلحة العامة وتهدف إلى استقرار الأوضاع الإدارية وعدم تعرض الميزانية - وهي في الأصل سنوية - للمفاجآت والاضطراب، ومن ثم فإن القاعدة التي قررتها هي قاعدة تنظيمية عامة، ويتعين على وزارات الحكومة ومصالحها التزامها، وتقضي بها المحاكم كقاعدة قانونية واجبة التطبيق في علاقة الحكومة بموظفيها، وهي علاقة تنظيمية تحكمها القوانين واللوائح ومن بينها تلك اللائحة.
ومن حيث إنه وإن كان مفاد النصوص المدنية (م 383 مدني) أن المطالبة التي تقطع التقادم هي المطالبة القضائية دون غيرها. إلا أن مقتضيات النظام الإداري قد مالت بفقه القضاء الإداري إلى تقرير قاعدة أكثر تيسيراً في علاقة الحكومة بموظفيها بمراعاة طبيعة هذه العلاقة والتدرج الرئاسي الذي تقوم عليه، وأن المفروض في السلطة الرئاسية هو إنصاف الموظف بتطبيق القانون حتى ينصرف إلى عمله هادئ البال دون أن يضطر إلى الالتجاء إلى القضاء، فقرروا أنه يقوم مقام المطالبة القضائية في قطع التقادم الطلب أو التظلم الذي يوجهه الموظف إلى السلطة متمسكاً فيه بحقه وطالباً أداءه. وعلى مقتضى ذلك قد بان للمحكمة من ملف خدمة المطعون لصالحه أنه قدم في 10 من سبتمبر سنة 1946 طلباً يلتمس تسوية حالته فيه وفقاً لأحكام كادر العمال، ثم سكت منذ ذلك التاريخ نيف وسبع سنوات حتى 20 من سبتمبر سنة 1953 حيث قدم تظلماً لتسوية حالته بالتطبيق لأحكام الكادر المذكور، ثم لجأ إلى اللجنة القضائية في 17 من نوفمبر سنة 1953، فيكون التظلم الأول قد زال أثره في قطع التقادم بعد إذ مضى عليه أكثر من خمس سنوات، ويكون التظلم المؤرخ 20 من سبتمبر سنة 1953 ما زال أثره قائماً.
ومن حيث إنه لكل ما تقدم يكون الحكم المطعون فيه في محله، ويكون الطعن فيه على غير أساس سليم من القانون متعيناً رفضه.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وبرفضه موضوعاً.