أحكام النقض – المكتب الفني – جنائي
العدد الأول – السنة 20 – صـ 124

جلسة 13 من يناير سنة 1969

برياسة السيد/ المستشار محمد صبري، وعضوية السادة المستشارين: محمد عبد المنعم حمزاوي، ونصر الدين عزام، ومحمد أبو الفضل حفني، وأنور أحمد خلف.

(26)
الطعن رقم 2000 لسنة 38 القضائية

حكم. "تسبيبه. تسبيب معيب". إثبات. "إثبات بوجه عام". "شهادة". "خبرة". قتل عمد.
متى يكون الحكم معيباً بالفساد في الاستدلال؟ مثال في مجال التوفيق بين الدليلين القولي والفني. وجوب بناء الأحكام الجنائية على الجزم واليقين لا على الظن والاحتمال.
إذا كان الحكم المطعون فيه في مجال التوفيق بين الدليلين القولي والفني قد افترض من عنده أن المجني عليه كان عند إطلاق النار عليه قد خر على الأرض منكمشاً على نفسه ليستقيم له تصحيح رواية شاهدي الحادث وهو في ذلك قد نقض ما سبق له أن أثبته نقلاً عنهما من رؤيتهما رأى العين للواقعة على الصورة التي أدلياً بها والتي مؤداها أن المجني عليه كان واقفاً يستدير المتهمين عند إطلاق العيار الأول عليه ثم يستقبلهما عند إصابته بالعيار الثاني، وجهد في المواءمة والملائمة بين هاتين الصورتين المختلفتين باعتبارات عامة مجردة لا تصدق في كل الأحوال، وكان هذا الافتراض لا سند له ولا شاهد عليه حسبما أثبته الحكم وبينه في مدوناته، وكانت الأحكام الجنائية يجب أن تبنى بالجزم واليقين على الواقع الذي يثبته الدليل المعتبر ولا تؤسس بالظن والاحتمال على الفروض والاعتبارات المجردة، فإن الحكم المطعون فيه يكون فاسد الاستدلال معيباً بما يوجب نقضه.


الوقائع

اتهمت النيابة العامة الطاعنين بأنهما في يوم 2 يوليه سنة 1965 بدائرة مركز أسيوط محافظة أسيوط: (أولاً) قتلا عمدا بخيت أحمد بخيت بأن أطلقا عليه أعيرة نارية من بندقيتين يحمل كل منهما واحدة منها فأحدثا به الإصابات الموصوفة بتقرير الصفة التشريحية والتي أودت بحياته وقد اقترنت هذه الجناية بجناية أخرى هي أنهما في الزمان والمكان نفسه شرعا في قتل مصطفى أحمد سليمان وعبد الهادي مرسي عمداً ومع سبق الإصرار والترصد بأن انتويا قتلهما وعقدا العزم على ذلك وأعدا لهذا الغرض سلاحين ناريين (بندقيتين) وترصداهما في المكان الذي أيقنا سلفاً تواجدهما فيه وما أن ظفرا بهما حتى أطلقا عليهما عدة أعيرة نارية قاصدين من ذلك قتلهما وخاب أثر الجريمة لسبب لا دخل لإرادتهما فيه هو عدم إحكام الرماية. (ثانياً) أحرزا بغير ترخيص سلاحين ناريين مششخنين. (ثالثاً) أحرزا طلقات مما تستعمل في السلاحين الناريين السالفين دون أن يكون مرخصاً لهما في حيازتهما وإحرازها. وطلبت من مستشار الإحالة إحالتهما إلى محكمة الجنايات لمعاقبتهما بالمواد 45 و46 و230 و231 و232 و234/ 2 من قانون العقوبات والمواد 1/ 1 و6 و26/ 2 – 4 و30 من القانونين رقمي 394 لسنة 1954 و75 لسنة 1958 والبند (ب) من القسم الأول جدول 3 المرفق، فقرر بذلك. وادعت مدنيا...... أرملة المجني عليه وطلبت القضاء لها قبل المتهمين متضامنين بمبلغ قرش صاغ واحد على سبيل التعويض المؤقت مع المصاريف وأتعاب المحاماة. ومحكمة جنايات أسيوط قضت حضورياً عملا بالمواد 230/ 2 و234/ 2 من قانون العقوبات و61 و26/ 2 - 4 و30 من القانون رقم 394 لسنة 1954 والجدول 3 المرافق مع تطبيق المادتين 17 و32 من قانون العقوبات بمعاقبة كل من المتهمين بالأشغال الشاقة المؤبدة عن التهم المسندة إليهما وألزمتهما متضامنين أن يؤديا إلى بخيته محمد على قرشاً واحداً على سبيل التعويض المؤقت مع المصاريف المدنية وعشرة جنيهات مقابل أتعاب المحاماة. فطعن الطاعنان في هذا الحكم بطريق النقض... الخ.


المحكمة

حيث إن مما ينعاه الطاعنان على الحكم المطعون فيه أنه إذ دانهما بجريمة القتل العمد قد شابه القصور في التسبيب والفساد في الاستدلال، ذلك بأن المدافع عنهما أثار أمر الخلاف بين الدليلين القولي والفني في شأن كيفية إصابة المجني عليه، مدللاً بذلك على كذب شاهدي الرؤية، ولكن الحكم افترض أن المجني عليه أصيب وهو جالس القرفصاء منكمشاً على نفسه مما لا سند له من أقوالهما التي تتضمن أنه أصيب وهو واقف يستدير المتهمين تارة، ويستقبلها تارة أخرى والجميع في مستوى واحد من الأرض، واعتمد هذه الأقوال في الإدانة في موضع ثم استبعدها بما يجرحها في موضع آخر، مما يعيبه بما يبطله ويوجب نقضه.
وحيث إن الحكم المطعون فيه عرض لما أثاره الدفاع عن الطاعنين من أمر الخلاف بين الدليلين القولي والفني على أساس أن الطبيب الشرعي انتهى في تقريره وفي شهادته بجلسة المحاكمة إلى أن إطلاق النار على المجني عليه كان بميل من أسفل إلى أعلا، وأن ذلك يتنافى مع ما قرره شاهد الرؤية من أن الإطلاق كان على مستوى أفقي واحد في الوضع القائم وأنه أصيب أولا من الخلف بعيار ثم استدار فأصيب بالعيار الثاني من أمام ورد على هذا الدفاع بما نصه "وحيث إن المحكمة إذ استدعت كبير الأطباء الشرعيين الدكتور صبحي اسكندر بجلسة اليوم وعرضت عليه التقرير الطبي ومحضر المعاينة وأقوال الشهود، وطلبت منه بيان كيفية إصابة المجني عليه بالصورة الواردة بالتقرير الطبي الشرعي، فأبان بأنه لا يمكن تعليل مستوى الأعيرة النارية إلا بأن المجني عليه قد جلس على الأرض أثناء الإطلاق، وفي هذه الحالة يكون الفخذ الأيمن أعلا من الحوض فينقلب المستوى بدلاً من أعلا إلى أسفل كالمنتظر، فيكون من أسفل إلى أعلا، وقد ذهب الدفاع إلى افتراض أن يكون الجاني مختفياً في الترعة المواجهة لدكان "إمام قناوي" وبندقيته على مستوى الأرض والمجني عليه واقفاً فمن الممكن أن تكون إصابته على الصورة التي ظهرت في تقرير الصفة التشريحية، وقد أيد كبير الأطباء الحاضر هذه الصورة. وإن ما ذهب إليه الدفاع مردود بأن المحكمة على يقين تام من وقوع الحادث على الصورة التي رواها الشهود ومن قدوم المتهمين - الطاعنين - ومحاولتهما قتل الشاهدين مصطفى وعبد الهادي سليمان ثم إطلاقهما النار على بخيت أحمد بخيت فقتلاه وهربا على الصورة التي شهد بها كل من "جابر عبد الفضيل" و"أحمد سليم" "وتوفيق محمد عجمي" "وعبد المجيد إمام". ولا ترى المحكمة في اختلاف تصوير الشاهدين جابر وكمال عن موقف المجني عليه وقت الإطلاق عما ظهر من تقرير الصفة التشريحية ذلك أن موقف المجني عليه يرجع إلى حركاته التي تحكمها حالته وقدرته على التفكير وهو بين براثن الاعتداء، واختلاف الشاهد في ذلك أمر طبيعي لأنه لا يتصور ما فعله الجاني بعقله وفكره هو في الوقت الذي يكون الشاهد مصوباً أعصابه الموترة صوب الجاني الذي يخشى منه ويلحظه بالاهتمام الأكبر، وبالنسبة للشاهد "جابر عبد الفضيل" ففضلاً عما ذكره بأنه ليس من الأسرة المطلوب منها الثأر، إلا أنه لا شك كان يخشى الاعتداء عليه أو إصابته خطأ فلا بد أن يكون قد اتخذ ساتراً يرى منه الحادث، ويقي نفسه شره، ولا تعول المحكمة على ذكره في هذا الصدد من تحديد موقف المجني عليه على وجه الدقة وقت إصابته، أما الشاهد "كمال عبد الحميد" وسنه لا يزيد على 14 عاماً فإن المحكمة لا تعتقد أنه بعد رؤيته للمتهمين يطلقان النار على "مصطفى وعبد الهادي سليمان" ورؤيته لهذين المتهمين يقفان أمام دكانه أن يتمالك أعصابه ويظل واقفاً في مواجهتهما رغم احتمال إصابته شخصياً... وإن المحكمة فضلاً عما سلف ترى بيقين أن المجني عليه إذ شاهد واقعة الإطلاق الأولى التي لم تسفر عن إصابته وعاد المتهمان من ذات الطريق توقع شراً فما أن وقف المتهمان أمامه حتى خر على الأرض يحاول أن يجعل نفسه في أقل حيز ممكن، ولكن المتهمين لم يمهلاه فأطلقا عليه العيارين اللذين أصابا منه مقتلاً.. وإن التصوير الذي فرضه الدفاع قد جاء مخالفاً للثابت في التحقيقات بل إن المعاينة التي لم تسفر عن أثر لمثل هذا الفرض قد أبانت أن الطلقين كانا بالطريق أمام الدكان وهو ما يقطع بأن الجانيين كانا بالطريق على الصورة التي ذكرها الشهود" ومفاد ما تقدم أن الحكم المطعون فيه – في مجال التوفيق بين الدليلين القولي والفني – قد افترض من عنده أن المجني عليه كان عند إطلاق النار عليه قد خر على الأرض منكمشاً على نفسه ليستقيم له تصحيح رواية الشاهدين، وهو في ذلك قد نقض ما سبق له أن أثبته نقلاً عنهما من رؤيتهما رأى العين للواقعة على الصورة التي أدليا بها والتي مؤداها أن المجني عليه كان واقفا يستدير المتهمين عند إطلاق العيار الأول عليه ثم يستقبلهما عند إصابته بالعيار الثاني، وجهد في المواءمة والملائمة بين هاتين الصورتين المختلفتين باعتبارات عامة مجردة لا تصدق في كل الأحوال، ولما كان هذا الافتراض لا سند له ولا شاهد عليه حسبما أثبته الحكم وبينه في مدوناته، وكانت الأحكام الجنائية يجب أن تبنى بالجزم واليقين على الواقع الذي يثبته الدليل المعتبر، ولا تؤسس بالظن والاحتمال على الفروض والاعتبارات المجردة، فإن الحكم المطعون فيه يكون فاسد الاستدلال معيباً بما يوجب النقض والإحالة، وذلك دون حاجة للتصدي لسائر أوجه الطعن.