مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الرابعة عشرة - العدد الثاني (من منتصف فبراير سنة 1969 إلى آخر سبتمبر سنة 1969) - صـ 543

(71)
جلسة 30 من مارس سنة 1969

برئاسة السيد الأستاذ مصطفى كامل إسماعيل - رئيس مجلس الدولة، وعضوية السادة الأساتذة محمد مختار العزبي وسليمان محمود فهمي طاهر وإبراهيم خليل الشربيني - المستشارين.

القضية رقم 1183 لسنة 10 القضائية

( أ ) - اختصاص "اختصاص القضاء الإداري".
المنازعات الخاصة بالمرتبات - اختصاص القضاء الإداري بنظرها - شموله لأصل هذه المنازعات وجميع ما يتفرع منها، وما يصدر فيها من قرارات وإجراءات - اختصاصه بالمنازعة حول استقطاع جزء من راتب الموظف استيفاء لدين عليه.
(ب) - خطأ شخصي.
الخطأ الشخصي الذي يسأل عنه الموظف - إذا كان الإهمال والغفلة هما السبب المباشر فيما هو منسوب إليه - فإنه يكون قد أخطأ خطأ شخصياً جسيماً يسأل عن نتائجه مدنياً، مثال.
1 - إن اختصاص القضاء الإداري بنظر المنازعات الخاصة بالمرتبات منصوص عليه في الفقرة الثانية من المادة الثامنة من القانون رقم 55 لسنة 1959 في شأن تنظيم مجلس الدولة وهو اختصاص مطلق شامل لأصل تلك المنازعات ولجميع ما يتفرع عنها من مسائل وبهذه المثابة تنظر المحكمة في حدود اختصاصها الكامل ما يكون قد صدر في شأن تلك المرتبات من قرارات أو اتخذ من إجراءات وذلك باعتبارها من العناصر التي تثير المنازعة حول استحقاق هذا المرتب كاملاً خلال فترة زمنية معينة، ومن ثم فإذا استقطعت الإدارة جزءاً من راتب المدعي استيفاء لدين لها في ذمته، فإن هذا الاستقطاع في ذاته هو مثار المنازعة في الراتب، فتختص المحكمة بنظره بمقتضى اختصاصها الكامل، ومن ثم يكون الدفع بعدم الاختصاص غير قائم على أساس سليم من القانون متعيناً لذلك رفضه والحكم باختصاص مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري بنظر الدعوى.
2 - ولئن كانت هذه التحقيقات جميعاً، قد قصرت عن تجميع الأدلة الكافية التي تدين المتهم بتهمة الاختلاس، إلا أنها قد أجمعت على أن إهماله وغفلته كانا السبب المباشر في فقد المؤمن، ذلك أن الثابت من التحقيقات أنه وقع الاستمارة رقم 35 ح بما يدل على تسلمه خطابين مؤمن عليهما من مساعده السيد.....، دون أن يطابق بين ما تسلمه فعلاً وبين ما وقع بتسلمه، وعندما تكشف له فقد المؤمن الذي وقع بتسلمه أمعن في الخطأ بأن مزق الاستمارة رقم 15 ح الثابت بها وصول المؤمن المفقود وتسلمه له واستبدل بها استمارة أخرى غير ثابتة بها هذه البيانات، كما غير في البيانات المدونة في الدفتر رقم 38 ح بأن عدلها على النحو الذي لا يبين منه وصول هذا المؤمن أو تسلمه إياه، وهو بهذه الأخطاء المتلاحقة إنما يخل بكيان العمل ذاته، ويزعزع الثقة في مرفق البريد الذي يعمل به، ذلك أن عملية تسليم وتسلم الطرود والخطابات المؤمن عليها قوامها مطابقة الطرود والخطابات المسلمة على تلك التي يوقع الموظف المسئول بتسلمها، وبدون انتظام هذه المطابقة تفقد العملية كيانها، وتصبح مائعة لا ضابط لها، وتضيع في غمار ذلك مصالح الجمهور، كما تنهار سمعة المرفق وتختل الثقة فيه، ومن ثم فإن الإخلال بهذا الإجراء الجوهري يشكل بذاته خطأ شخصياً جسيماً، طالما كان تحقيق هذا الإجراء أمراً في مقدور أي موظف متوسط الكفاية يوجد في الظروف ذاتها التي وجد فيها المدعي، وطالما لم يثبت أن ثمة أعذاراً أو ظروفاً تبرر الإخلال بالإجراء المشار إليه.
ومن حيث إن المدعي ساق أعذاراً واهية، لتبرير إخلاله بهذا الإجراء الجوهري، منها عدم أمانة مساعده السيد........ ومنها تلاحق وصول القطارات في وقت الظهيرة، وهذه الأعذار التي ساقها لتبرير إهماله هي في حقيقتها ظروف تشدد مسئوليته، وتجسم خطأه، ذلك أن علمه بأن مساعده السيد.... تحوطه الريب، وتلاحقه الشكوك والتهم، كان يقتضي منه مزيداً من الحرص في التعامل معه، ومن اليقظة في تسليمه الطرود والخطابات المؤمنة وفي تسلمها منه، ولا سيما في فترة الظهيرة التي يتلاحق فيها وصول القطارات والتي قد تسنح فيها الفرصة للعبث بمثل هذه الخطابات، فإذا كان الأمر كذلك، وكانت الخطابات التي سلمها السيد الذكور للمدعي في هذه الفترة لم يجاوز عددها خطابين، لا يحتاج تسلمهما منه إلى جهد يجاوز الطاقة العادية، التي يتعين توفرها في أي موظف متوسط الكفاية منوط به مثل هذا العمل، وأنه إذا ما أهمل في ذلك، وأدى إهماله إلى فقد أحد هذين الخطابين يكون قد أخطأ - بغير عذر أو مبرر مقبول - خطأ شخصياً جسيماً في حق المرفق الذي يعمل به بحيث لا يسوغ بعد ذلك، أن يتحمل عنه المرفق، مسئولية هذا الخطأ لخروجه عن نطاق الأخطاء المرفقية، وانحصاره في دائرة الأخطاء الشخصية التي تقع مسئوليتها على عاتق مرتكبها وحده ذلك أنه لا توجد ثمة قاعدة عامة مجردة تضع ضوابط محددة، تفصل بوجه قاطع بين الأخطاء المرفقية وبين الأخطاء الشخصية وإنما يتحدد كل نوع من هذه الأخطاء في كل حالة على حدة تبعاً لما يستخلصه القاضي من ظروفها وملابساتها مستهدياً في ذلك بعديد من المعايير منها نية الموظف ومبلغ الخطأ من الجسامة والدافع إلى ارتكابه فإذا كان العمل الضار غير مصطبغ بطابع شخصي بل ينم عن موظف معرض للخطأ والصواب، كأن يهدف من التصرف الذي صدر منه إلى تحقيق أحد الأغراض المنوط بالإدارة تحقيقها والتي تدخل في وظيفتها الإدارية فإن خطأه يعتبر في هذه الحالة مرفقياً، أما إذا كان العمل الضار مصطبغاً بطابع شخصي يكشف عن الإنسان بضعفه وشهواته ونزواته وعدم تبصره ويقصد من ورائه النكاية أو الإضرار أو ابتغاء منفعة ذاتية فإن الخطأ في هذه الحالة يعتبر خطأ شخصياً، وهو يعتبر كذلك أيضاً - ولو لم تتوفر في مرتكبه هذه النية - إذا كان الخطأ جسيماً وتحديد درجة جسامة الخطأ مسألة نسبية تتفاوت تبعاً للظروف المختلفة ويستهدى فيها بقدرة الموظف المتوسط الكفاية الذي يوجد في ظروف مماثلة لتلك التي كان فيها الموظف المخطئ، ويدخل في نطاق الخطأ الجسيم الإخلال بأي إجراء جوهري يؤثر في كيان العمل المنوط بالموظف أداؤه.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، وسماع الإيضاحات، وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة تتحصل - حسبما يبين من أوراق الطعن - في أن المدعي أقام الدعوى رقم 229 لسنة 10 القضائية ضد السيد مدير الهيئة العامة للبريد بعريضة أودعت قلم كتاب المحكمة الإدارية لوزارة المواصلات في 6 من يناير سنة 1963 طلب فيه الحكم "بإلغاء قرار هيئة البريد بخصم ربع مرتبه وفاء لقيمة الطرد الذي فقد من مكتب بريد طنطا محطة بتاريخ 7 من أغسطس سنة 1960 وما يترتب على ذلك من آثار بما في ذلك رد ما سبق خصمه وإلزام جهة الإدارة المصروفات ومقابل أتعاب المحاماة". وقال شرحاً لدعواه أنه كان يشغل وظيفة معاون صر الطرود بمكتب بريد "طنطا محطة" حيث يقوم بتسليم وتسلم الطرود المؤمن عليها التي ترد إلى محطة طنطا وكان يعاونه في هذه المهمة ثلاثة من موظفي البريد، وفي يوم 7 من أغسطس سنة 1960 كانت نوبة عمله تمتد من الساعة السادسة صباحاً حتى المساء، ونظراً لوصول عدة قطارات في الساعة النهائية من ظهر ذلك اليوم فقد عهد إلى مساعديه بالتوجه إلى القطارات لاستلام الطرود المؤمن عليها وإحضارها إلى مكتب بريد طنطا لقيدها واتخاذ اللازم نحوها، وقد أحضر مساعده السيد.... طردين مؤمن عليهما من قطار دمياط - طنطا أحدهما وارد من المنصورة في طريقه إلى الزقازيق ومؤمن عليه بمبلغ ستة جنيهات والثاني وارد من المحلة الكبرى إلى خزينة محافظة الغربية ومؤمن عليه بمبلغ 265 جنيهاً. فلما حان موعد قيام القطار المتجه إلى الزقازيق كلف مساعده المذكور بتسليم الطرد الذي يخص هذا القطار إلا أنه انتهز فرصة زحمة العمل وأخذ الطردين ولم يتنبه المدعي إلى اختفاء الطرد الآخر إلا في المساء عند إجراء عملية التسليم والتسلم مع زميله صاحب نوبة المساء فاتخذت الجهات المسئولة إجراءات التحقيق التي انتهت باتهامه في جناية اختلاس قضى فيها ببراءته من محكمة جنايات أمن الدولة العليا بطنطا، كما شكلت لجنة إدارية لبحث الموضوع انتهت إلى أن الحادث يرجع إلى أسباب متعددة منها تعيين السيد/..... للمساعدة في هذه العملية على الرغم من ماضيه الحافل بالجزاءات ومن سابقة صدور قرار بمنعه من الاشتغال بأعمال العهدة والأعمال المالية، وقد جوزي وكيل مكتب البريد بسبب إلحاقه للسيد المذكور بهذا العمل، ومنها عدم قيام المراجع بمراجعة أعمال المدعي في هذا اليوم وقد جوزي المراجع عن ذلك بخصم يومين من راتبه كما جوزي المدعي بخصم عشرة أيام من راتبه، كما ألزمته المصلحة دون الآخرين - بقيمة الطرد المفقود وأخذت تخصم ربع مرتبه شهرياً وفاء لقيمة الطرد التي تبلغ 265 جنيهاً وإذ كان الخطأ الذي وقع منه خطأ مصلحياً وليس خطأ شخصياً فقد أقام دعواه الراهنة طالباً إلغاء هذا القرار. وقد أجابت الجهة الإدارية عن الدعوى بأنه أثناء عمل المدعي بمكتب بريد طنطا فقد خطاب مؤمن عليه بمبلغ 265 جنيهاً وأن النيابة الإدارية أجرت في هذا الخصوص تحقيقاً في القضية رقم 201/ 62 انتهى إلى مساءلة المدعي وآخرين وقد جوزي المدعي بخصم عشرة أيام من راتبه مع تحميله بالمبلغ المؤمن به على الخطاب المفقود وذلك بمقتضى القرار رقم 87 الصادر في 28 من مايو سنة 1962 وقد تظلم المدعي من هذا القرار في 16 من يونيه سنة 1962 وأخطر برفض تظلمه من 5 من أغسطس سنة 1962، إلا أنه لم يقم دعواه إلا في 6 من يناير سنة 1963 ومن ثم تكون الدعوى غير مقبولة شكلاً، ومن حيث الموضوع فإن خطأ المدعي ثبت من التحقيق الذي أجرته النيابة الإدارية، وهو خطأ شخصي يسأل عنه ولا يعد خطأ مصلحياً وانتهت جهة الإدارة إلى طلب الحكم بعدم قبول الدعوى شكلاً ورفضها موضوعاً وبجلسة 14 من إبريل سنة 1964 قضت المحكمة الإدارية "بإلغاء قرار السيد مدير عام هيئة البريد رقم 87 لسنة 1962 فيما تضمنه من تحميل المدعي بقيمة المؤمن المفقود مع ما يترتب على ذلك من آثار وإلزام الهيئة المصروفات ومبلغ مائتي قرش مقابل أتعاب المحاماة" وأقامت قضاءها على أن اللجنة المشكلة لتحقيق الحادث أرجعت فقد الخطاب المؤمن عليه إلى عدة أسباب من بينها إهمال المدعي الذي كان السبب المباشر في فقده وكذا سوء اختيار السيد/...... لمساعدته في أعماله على الرغم من ماضيه الحافل بالجزاءات والاتهامات، وعدم القيام بمراجعة أعمال الصر في فترة الظهيرة ووصول عدة قطارات في وقت واحد مما يؤدي إلى العجلة في تسليم البريد المؤمن عليه، فإذا أضيفت إلى ذلك أن محكمة الجنايات قضت ببراءة المتهم من تهمة اختلاس الخطاب المؤمن عليه التي كانت مسندة إليه، لتبين أن الخطأ المنسوب إلى المدعي لا يعدو أن يكون خطأ مرفقياً لا يتحمل آثاره في أمواله الخاصة.
ومن حيث إن الطعن يقوم على أن المنازعة تدور حول مسئولية المدعي عن قيمة الخطاب المفقود وهي منازعة مدنية بطبيعتها لا يختص بنظرها مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري، وإنما تختص بنظرها المحاكم المدنية ذات الولاية العامة، كما أنه ومن وجه آخر فإن الحكم المطعون فيه قد أخطأ إذ اعتبر الخطأ الواقع من المدعي خطأ مرفقياً على حين أنه خطأ شخصي نظراً لما ثبت من التحقيق من أن إهماله كان السبب المباشر في فقد الخطاب المؤمن عليه.
( أ ) عن الدفع بعد اختصاص القضاء الإداري بنظر الدعوى:
ومن حيث إن مبنى الدفع بعدم الاختصاص هو أن المنازعة الراهنة ذات طابع مدني بحت إذ قوامها مسئولية المدعي عن قيمة المؤمن المفقود، تلك المسئولية التي استوجبت خصم قيمة هذا المؤمن من مرتبه وهي بذلك تخرج عن نطاق المنازعات في المرتبات التي يختص القضاء الإداري بالفصل فيها.
ومن حيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن اختصاص القضاء الإداري بنظر المنازعات الخاصة بالمرتبات منصوص عليه في الفقرة الثانية من المادة الثامنة من القانون رقم 55 لسنة 1959 في شأن تنظيم الدولة وهو اختصاص مطلق شامل لأصل تلك المنازعات ولجميع ما يتفرع عنها من مسائل وبهذه المثابة تنظر المحكمة في حدود اختصاصها الكامل ما يكون قد صدر في شأن تلك المرتبات من قرارات أو اتخذ من إجراءات، وذلك باعتبارها من العناصر التي تثير المنازعة حول استحقاق هذا المرتب كاملاً خلال فترة زمنية معينة، ومن ثم فإذا استقطعت الإدارة جزءاً من راتب المدعي استيفاء لدين لها في ذمته، فإن هذا الاستقطاع في ذاته هو مثار المنازعة في الراتب، فتختص المحكمة بنظره بمقتضى اختصاصها الكامل، ومن ثم يكون الدفع بعدم الاختصاص غير قائم على أساس سليم من القانون متعيناً لذلك رفضه والحكم باختصاص مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري بنظر الدعوى.
(ب) عن الموضوع:
من حيث إن الثابت من الأوراق أن النيابة العامة قد اتهمت المدعي بأنه في يوم 10 من أغسطس سنة 1960: 1 - بصفته موظفاً عمومياً "معاون صر بمكتب بريد طنطا" اختلس أموالاً مسلمة إليه بسبب وظيفته حالة كونه من الأمناء على الودائع بأن استولى على مبلغ الـ265 جنيهاً المسلم إليه لتسليمه لرئيس خزانة مكتب بريد طنطا في أثناء تأدية وظيفته 2 - بصفته سالفة الذكر ارتكب تزويراً مادياً في محرر رسمي هو استمارة بريد 38ح وكان ذلك بتغيير المحرر بأن محا الرقم الدال على إثبات ورود الخطاب المحتوي على المبلغ المختلس، ورقم 4 المثبت لمجموع الطرود التي تسلمها واستبدل به رقم "3" ليتوصل بذلك إلى إخفاء واقعة تسلمه لهذا الطرد واختلاس المبلغ، وقد أحيل المدعي إلى محكمة جنايات طنطا في الجناية رقم 909 لسنة 1960 كلي، فقضت المحكمة المذكورة بجلسة 4 من يونيه سنة 1961 ببراءته، وأقامت قضاءها في خصوص تهمة الاختلاس على أن الأدلة التي قدمتها النيابة قبل المتهم عن هذه الجريمة قد انصبت على إثبات واقعة تسلمه للمؤمن موضوع التحقيق، إلا أن هذه الأدلة قصرت عن إثبات اختلاس المتهم للمؤمن على نحو يقنع المحكمة بقيام هذه الجريمة في حقه. وفي خصوص تهمة التزوير استند حكم البراءة إلى أنه لا يكفي لقيام جريمة التزوير في حق المتهم أن يثبت ارتكابه للشطب والتغيير في بيانات الاستمارة رقم 38 ح بل يتعين أن يتوفر لديه قصد جنائي خاص ينصب على إحداث تغيير مخالف للحقيقة فيما أجراه من شطب وتغيير، وأن المتهم حين غير في البيانات الواردة في الاستمارة إنما قصد إلى تصويب ما ظن أنه وقع منه خطأ في بياناتها الأولى ولم يكن قصده وقتذاك منصباً على إحداث تغيير في الحقيقة. كما يبين من الأوراق أيضاً، أن النيابة الإدارية أجريت تحقيقاً في هذا الموضوع انتهت فيه إلى أن إهمال المدعي كان السبب المباشر في فقد المؤمن، وأن ما نسب إلى زملائه الآخرين من إهمال لم تكن له علاقة بحادثة السرقة الأمر الذي يجعله يتحمل وحده قيمة المؤمن المفقود واقترحت مجازاته بخصم عشرة أيام من راتبه مع تحمله بقيمة المؤمن المفقود. كما شكلت لجنة إدارية لفحص هذا الموضوع انتهت إلى أن فقد المؤمن رقم 93/ 9189 كان نتيجة لإهمال المدعي في مراجعة بيانات الاستمارات 35 ح الواردة والإرساليات المؤمن عليها وإن غفلته كانت السبب المباشر في فقد هذا المؤمن، يضاف إلى ذلك وصول عدة قطارات في وقت واحد مما يقتضي العجلة في تسليم وتسلم الإرساليات المؤمن عليها، وعدم التوفيق في اختيار السيد/...... لمساعدة المدعي في عمله نظراً لماضيه الحافل بالاتهامات والجزاءات، وإهمال مراجعة عملية الصر في فترة الظهيرة مما أدى إلى التأخير في كشف فقد المؤمن.
ومن حيث إنه ولئن كانت هذه التحقيقات جميعاً، قد قصرت عن تجميع الأدلة الكافية التي تدين المتهم بتهمة الاختلاس، إلا أنها قد أجمعت على أن إهماله وغفلته كانا السبب المباشر في فقد المؤمن، ذلك أن الثابت من التحقيقات أنه وقع الاستمارة رقم 35 ج بما يدل على تسلمه خطابين مؤمن عليهما من مساعده السيد/.......، دون أن يطابق بين ما تسلمه فعلاً وبين ما وقع بتسلمه، وعندما تكشف له فقد المؤمن الذي وقع بتسلمه أمعن في الخطأ بأن مزق الاستمارة رقم 15 ح الثابت بها وصول المؤمن المفقود وتسلمه له واستبدل بها استمارة أخرى غير ثابتة بها هذه البيانات، كما غير في البيانات المدونة في الدفتر رقم 38 ح بأن عدلها على النحو الذي لا يبين منه وصول هذا المؤمن أو تسلمه إياه، وهو بهذه الأخطاء المتلاحقة إنما يخل بكيان العمل ذاته، ويزعزع الثقة في مرفق البريد الذي يعمل به، ذلك أن عملية تسليم وتسلم الطرود والخطابات المؤمن عليها قوامها مطابقة الطرود والخطابات المسلمة على تلك التي يوقع الموظف المسئول بتسلمها، وبدون انتظام هذه المطابقة تفقد العملية كيانها، وتصبح مائعة لا ضابط لها، وتضيع في غمار ذلك مصالح الجمهور، كما تنهار سمعة المرفق وتختل الثقة فيه، ومن ثم فإن الإخلال بهذا الإجراء الجوهري يشكل بذاته خطأ شخصياً جسيماً، طالما كان تحقيق هذا الإجراء أمراً في مقدور أي موظف متوسط الكفاية يوجد في الظروف ذاتها التي وجد فيها المدعي، وطالما لم يثبت أن ثمة أعذاراً أو ظروفاً تبرر الإخلال بالإجراء المشار إليه.
ومن حيث إن المدعي ساق أعذاراً واهية، لتبرير إخلاله بهذا الإجراء الجوهري، منها عدم أمانة مساعده السيد/...... ومنها تلاحق وصول القطارات في وقت الظهيرة، وهذه الأعذار التي ساقها لتبرير إهماله هي في حقيقتها ظروف تشدد مسئوليته، وتجسم خطأه، ذلك أن علمه بأن مساعده السيد/....... تحوطه الريب، وتلاحقه الشكوك والتهم، كان يقتضي منه مزيداً من الحرص في التعامل معه، ومن اليقظة في تسليمه الطرود والخطابات المؤمنة وفي تسلمها منه، ولا سيما في فترة الظهيرة التي يتلاحق فيها وصول القطارات والتي قد تسنح فيها الفرصة للعبث بمثل هذه الخطابات، فإذا كان الأمر كذلك، وكانت الخطابات التي سلمها السيد الذكور للمدعي في هذه الفترة لم يجاوز عددها خطابين، لا يحتاج تسلمهما منه إلى جهد يجاوز الطاقة العادية، التي يتعين توفرها في أي موظف متوسط الكفاية منوط به مثل هذا العمل فإنه إذا ما أهمل في ذلك، وأدى إهماله إلى فقد أحد هذين الخطابين، يكون قد أخطأ - بغير عذر أو مبرر مقبول - خطأ شخصياً جسيماً في حق المرفق الذي يعمل به بحيث لا يسوغ بعد ذلك، أن يتحمل عنه المرفق، مسئولية هذا الخطأ لخروجه عن نطاق الأخطاء المرفقية، وانحصاره في دائرة الأخطاء الشخصية التي تقع مسئوليتها على عاتق مرتكبها وحده، ذلك أنه لا توجد ثمة قاعدة عامة مجردة تضع ضوابط محددة، تفصل بوجه قاطع بين الأخطاء المرفقية وبين الأخطاء الشخصية وإنما يتحدد كل نوع من هذه الأخطاء، في كل حالة على حدة تبعاً لما يستخلصه القاضي من ظروفها وملابساتها مستهدياً في ذلك بعديد من المعايير منها نية الموظف ومبلغ الخطأ من الجسامة والدافع إلى ارتكابه فإذا كان العمل الضار غير مصطبغ بطابع شخصي بل ينم عن موظف معرض للخطأ والصواب، كأن يهدف من التصرف الذي صدر منه إلى تحقيق أحد الأغراض المنوط بالإدارة تحقيقها والتي تدخل في وظيفتها الإدارية فإن خطأه يعتبر في هذه الحالة خطأ مرفقياً، أما إذا كان العمل الضار مصطبغاً بطابع شخصي يكشف عن الإنسان بضعفه وشهواته ونزواته وعدم تبصره ويقصد من ورائه النكاية أو الإضرار أو ابتغاء منفعة ذاتية فإن الخطأ في هذه الحالة يعتبر خطأ شخصياً، وهو يعتبر كذلك أيضاً - ولو لم تتوفر في مرتكبه هذه النية - إذا كان الخطأ جسيماً وتحديد درجة جسامة الخطأ مسألة نسبية تتفاوت تبعاً للظروف المختلفة ويستهدى فيها بقدرة الموظف المتوسط الكفاية الذي يوجد في ظروف مماثلة لتلك التي كان فيها الموظف المخطئ، ويدخل في نطاق الخطأ الجسيم الإخلال بأي إجراء جوهري يؤثر في كيان العمل المنوط بالموظف أداؤه.
ومن حيث إنه على هدي ما تقدم، فإن دعوى المدعي تكون غير قائمة على أساس سليم في الواقع أو القانون، ويكون الحكم المطعون فيه إذ أخذ بغير هذا النظر واعتبر الخطأ الذي وقع من المذكور خطأ مرفقياً، قد أخطأ في تأويل القانون وتطبيقه، ويتعين - والحالة هذه - القضاء بإلغائه، وبرفض الدعوى، مع إلزام المدعي بالمصروفات.

"فلهذه الأسباب"

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبرفض الدفع بعدم الاختصاص، وباختصاص مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري بنظر الدعوى، وبرفضها موضوعاً، وألزمت المدعي بالمصروفات.