أحكام المحكمة الدستورية العليا - الجزء الثامن
من أول يوليو 1996 حتى آخر يونيو 1998 - صـ 949

جلسة 15 نوفمبر 1997

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر - رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: نهاد عبد الحميد خلاف وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض وماهر أحمد البحيري ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور، وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي - رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر - أمين السر.

قاعدة رقم (65)
القضية رقم 149 لسنة 18 قضائية "دستورية"

1 - دعوى دستورية "المصلحة الشخصية المباشرة: مناطها".
مناط المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - ارتباطها عقلاً بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي - ذلك بأن يكون الحكم في المسائل الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها.
2 - خصومة دستورية "نطاقها".
لا شأن للخصومة الدستورية بما يخرج عن نطاق سريان النصوص المطعون عليها.
3 - دستور "المادة الثانية" - رقابة قضائية.
عدم امتداد الرقابة القضائية التي تباشرها المحكمة الدستورية العليا في مجال تطبيقها لنص المادة الثانية من الدستور لغير النصوص القانونية الصادرة بعد تعديلها في 22/ 5/ 1980.
4 - مبدأ تكافؤ الفرص "مفهومه".
الفرص التي يعنيها هذا المبدأ هي تلك التي تتعهد الدولة بتقديمها - فض التزاحم على طلبها يكون بترتيب المتزاحمين عليها فيما بينهم وفق شروط موضوعية تحدد أجدرهم باستحقاقها.
5 - جريمة جنائية "مادية الفعل".
تأثيم الدستور أو المشرع أفعالاً بذواتها أو صوراً من الامتناع يحددانها مؤداه أن يتخذ هذا الفعل أو الامتناع مظهراً مادياً.
6 - تنظيم الحقوق - سلطة تقديرية - حق الملكية.
السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في موضوع تنظيم الحقوق حدها قواعد الدستور - ينافي هذه القواعد نقل المشرع حقوق الملكية أو بعض عناصرها من أصحابها إلى غيرهم دون سند صحيح.
7 - حرية التعاقد - حرية شخصية - حق الملكية.
حرية التعاقد من الخصائص الجوهرية للحرية الشخصية - كذلك هي وثيقة الصلة بالحق في الملكية - القيود التي تفرضها السلطة التشريعية على هذه الحرية بما يحول دون انفلاتها لا يسعها أن تدهم الدائرة التي تباشر فيها الإرادة حركتها.
8 - إجارة "تأجير من الباطن".
الحقوق التي يستخلصها المستأجر من الإجارة - ومنها تأجيره للعين المؤجرة من الباطن - تقتضي تدخلاً من مؤجرها لإمكان مباشرتها - عدم جواز مزج هذه الحقوق بحق الانتفاع باعتباره من الحقوق المتفرعة عن حق الملكية.
9 - تشريع "نص المادة 40 من القانون رقم 49 لسنة 1977: عدوان على الإرادة".
ما انطوى عليه هذا النص من إسقاط إذن المؤجر في الترخيص للمستأجر الأصلي بالتأجير من الباطن المكان المؤجر مفروشاً يكون متضمناً عدواناً على الحدود المنطقية التي تعمل الإرادة الحرة للمالك في نطاقها.
10 - حق الملكية - وظيفة اجتماعية.
عدم جواز مساس المشرع بالملكية الخاصة دون ما ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية - ليس من شأن القيود التي يفرضها المشرع على الملكية لضمان هذه الوظيفة حرمان أصحابها من تقرير صور الانتفاع بها.
11 - تشريع "نص المادة 40 من القانون رقم 49 لسنة 1977: عدوان على الملكية".
فرض التأجير المفروش بقوة القانون في إطار علائق إيجارية شخصية بطبيعتها إهدار لإرادة مؤجرها في مجال قبوله لهذا التأجير أو الاعتراض عليه - انقضاض المشرع من خلال هذا النص على المزايا التي تنتجها الملكية بنقله ثمار الأعيان المؤجرة إلى من لا يستحقونها.
12 - دستور "تضامن اجتماعي".
قيام المجتمع - وفقاً للمادة 7 من الدستور - على أساس من التضامن الاجتماعي يعني وحدة الجماعة في بنيانها واتصال أفرادها وترابطهم فيما بينهم.
13 - تشريع "نص المادة 40 من القانون رقم 49 لسنة 1977: مفاهيم جائرة".
النص المشار إليه ليس إلا حلقة في اتجاه عام تبناه المشرع في إطار مفاهيم جائرة تنطوي على ظلم فادح لمؤجرين ما برح المستأجرون يرجحون عليهم مصالحهم.
1 - المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها ارتباطها عقلاً بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الحكم في المسائل الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المطروحة على محكمة الموضوع؛ وكان المدعي قد طعن بعدم دستورية نص المادة 40 من القانون رقم 49 لسنة 77 دون غيرها، تقديراً بأنها هي التي تخول مستأجر العين - وبغير موافقة مالكها بل ورغم اعتراضه - حق التأجير المفروش؛ وكانت المادة 45 من هذا القانون تحدد مقابلاً لهذا التأجير ممثلاً في أجرة إضافية يجب أن يؤديها مستأجر العين إلى مالكها عن المدة التي أمتد إليها التأجير مفروشاً؛ وكان جواز اقتضاء هذا المقابل، يفترض ألا يكون الدستور نابذاً أصل القاعدة التي يرد إليها والتي خول المشرع بمقتضاها حق التأجير المفروش لكل مستأجر في الأحوال وبالشروط التي حددها؛ فإن المادتين 40، 45 من القانون، تتكاملان فيما بينهما، ويفترض عند الفصل في الدعوى الدستورية، أن وحدة لا تنقسم تجمعهما، وبهما معاً يتحدد نطاقها.
2 - الخصومة الدستورية لا تتناول غير النصوص المطعون عليها في مجال تطبيقها، ولا شأن لها بما يخرج عن نطاق سريانها، تقديراً بأن الأضرار التي قارنتها تتصل بإنفاذها في شأن المخاطبين بها؛ وكانت المصايف والمشاتي المحددة وفقاً لأحكام القانون رقم 49 لسنة 1977 المشار إليه، مستثناه من حكم المادة 40 من هذا القانون المطعون عليها؛ فإن إبطال المحكمة لهذه المادة لمخالفتها الدستور، يكون مقصوراً على الأحكام التي تضمنتها في مجال تطبيقها، والتي لا يندرج تحتها التأجير المفروش لأماكن مهيأة باعتبارها مصيفاً أو مشتى مما حدده ذلك القانون. ومن ثم يظل باب الطعن مفتوحاً أمام هذه المحكمة في مجال تأجيرهما من الباطن مفروشاً.
3 - الرقابة القضائية على الشرعية الدستورية التي تباشرها هذه المحكمة في مجال تطبيقها لنص المادة الثانية من الدستور، لا تمتد - وعلى ما جرى به قضاؤها - لغير النصوص القانونية الصادرة بعد تعديلها في 22 مايو 1980. ولا يندرج تحتها القانون رقم 49 لسنة 1977 لصدوره قبلها. ومن ثم يظل نائياً عن رقابتها، ولو كانت النصوص التي تضمنها قد شابها عوار تناقضها مع الأحكام الشرعية المقطوع بثبوتها ودلالتها.
4 - الفرص التي يعنيها هذا المبدأ، هي تلك التي تتعهد الدولة بتقديمها. وكلما كان عددها محدوداً، كان التزاحم لطلبها واقعاً قائماً. ويقتضي تدافعهم على هذه الفرص المحدود عددها، ترتيبهم فيما بينهم وفق شروط موضوعية تحدد أجدرهم باستحقاقها. ولا كذلك النص المطعون فيه إذ لا يتعلق بفرص قائمة يتزاحم المستأجرون عليها، ويتفاضل بعضهم على بعض في مجال النفاذ إليها، بل يخولهم جميعاً - في مجال تطبيقه - الحقوق عينها، دون ما تمييز يفارق بينهم على صعيد مباشرتها.
5 - تأثيم الدستور أو المشرع أفعالاً بذواتها أو صوراً من الامتناع يحددانها، مؤداه أن يتخذ هذا الفعل أو الامتناع مظهراً مادياً، فلا يكون كامناً في أعماق النفوس مُغلفاً بدخائلها، بل ظاهراً جلياً مُعبراً عن إرادة عصيان نصوص عقابية آمرة زجر بها المشرع المخاطبين بها، محدداً من خلالها ما ينبغي عليهم أن يأتوه أو يدعوه من الأفعال، بعد تحديدها تحديداً قاطعاً لا يلبسها بغيرها. ولا كذلك ما تقره السلطة التشريعية من نصوص قانونية في مجال تنظيم الحقوق، ولا ما يصدر من هذه النصوص عن السلطة التنفيذية في حدود صلاحياتها التي ناطها الدستور بها، ذلك أن تلك النصوص جميعها لا تبلور عملاً مادياً تظهر به الجريمة على مسرحها، بل هي التي تحدد لدائرة التجريم نطاقها على ضوء الضرورة الاجتماعية التي تقدرها، وبما يكون مناسباً لمتطلباتها.
6 - السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في موضوع تنظيم الحقوق، حدها قواعد الدستور التي ينافيها أن ينقل المشرع حقوق الملكية أو بعض عناصرها من يد أصحابها إلى غيرهم دون سند صحيح؛ ويدنيها من أهدافها قدر من التوازن بين القيود عليها، وضرورة ربطها بالأغراض التي تقتضيها وظيفتها الاجتماعية، فلا يكون التدخل لتنظيمها افتئاتاً عليها.
7 - حرية التعاقد قاعدة أساسية يقتضيها الدستور صوناً للحرية الشخصية التي لا يقتصر ضمانها على تأمينها ضد صور العدوان على البدن، بل تمتد حمايتها إلى أشكال متعددة من إرادة الاختيار وسلطة التقرير التي ينبغي أن يملكها كل شخص، فلا يكون بها كائناً يحمل على ما لا يرضاه، بل بشراً سوياً.
إن حرية التعاقد هذه، فوق كونها من الخصائص الجوهرية للحرية الشخصية، إنها كذلك وثيقة الصلة بالحق في الملكية، وذلك بالنظر إلى الحقوق التي ترتبها العقود فيما بين أطرافها، أياً كان الدائن بها أو المدين بأدائها. بيد أن هذه الحرية - التي لا يكفلها انسيابها دون عائق، ولا جرفها لكل قيد عليها، ولا علوها على مصالح ترجحها، وإنما يدنيها من أهدافها قدر من التوازن بين جموحها وتنظيمها - لا تعطلها تلك القيود التي تفرضها السلطة التشريعية عليها بما يحول دون انفلاتها من كوابحها. ويندرج تحتها أن يكون تنظيمها لأنواع من العقود محدداً بقواعد آمرة تحيط ببعض جوانبها، غير أن هذه القيود لا يسعها أن تدهم الدائرة التي تباشر فيها الإرادة حركتها، فلا يكون لسلطانها بعد هدمها من أثر.
8 - الحقوق التي يستخلصها مستأجر من الإجارة التي دخل فيها - ويندرج تحتها تأجيره من الباطن عيناً بقصد استغلالها - تقتضي تدخلاً من مؤجرها لإمكان مباشرتها، ولا يجوز بالتالي مزجها بحق الانتفاع كأحد الحقوق العينية الأصلية المتفرعة عن الملكية، ذلك أن هذا الحق يعتبر واقعاً مباشرة على الأشياء التي تعلق بها، مشتملاً على سلطة استعمالها واستغلالها، متسلطاً عليها من هذين الوجهين دون تدخل من أصحابها، الذين لا يملكون كذلك الاعتراض على نزول المنتفع نهائياً عن هذا الحق للغير. ومن ثم كان ذلك الحق - وبالنظر إلى ثقل القيود التي يفرضها على الملكية - منتهياً حتماً بوفاة المنتفع، ولو كان ذلك قبل انقضاء الأجل المحدد اتفاقاً لمباشرة حق الانتفاع.
9 - النص المطعون فيه خول كل مستأجر أصلي - في الأحوال وبالشروط التي حددها - أن يحيل من باطنه عيناً كان قد اتخذها سكناً، إلى مكان مفروش يؤجره لغيره، ولو كانت الإجارة الأصلية أو الأوضاع التي لابستها، تفيد شرطاً صريحاً أو ضمنياً مانعاً من النزول عنها إلى الغير أو من التأجير من الباطن؛ وكان النص المطعون فيه - وباعتباره واقعاً في إطار القيود الاستثنائية التي نظم بها المشرع العلائق الإيجارية - ما تقرر إلا لإسقاط إذن المؤجر في الترخيص للمستأجر الأصلي بالتأجير من الباطن، وهو ما تدل عليه الأعمال التحضيرية لهذا النص؛ وكان من المقرر قانوناً أن حق المستأجر لا زال حقاً شخصياً مقصوراً على استعمال عين بذاتها فيما لا يجاوز المنفعة التي أعدت لها، فلا يمتد هذا الحق إلى سلطة استغلالها إذا منعها أصحابها عن مستأجرين من خلال شرط اتصل بإجارة أبرموها معهم، صريحاً كان هذا الشرط أم ضمنياً؛ وكان حق المستأجر في التأجير المفروش قد صار بمقتضى النص المطعون فيه قائماً في كل الأحوال التي حددها؛ ومستنداً بالتالي إلى قاعدة آمرة لا يجوز الاتفاق على خلافها؛ وبها صار منتهياً حق من يملكون الأعيان، في ألا يباشر أغيار سلطة استغلالها بغير إذنهم؛ فإن هذا النص يكون متضمناً عدواناً على الحدود المنطقية التي تعمل الإرادة الحرة في نطاقها، والتي لا تستقيم الحرية الشخصية - في صحيح بنيانها - بفواتها، فلا تكون الإجارة إلا إملاء يناقض أسسها.
10 - صون الدستور للملكية الخاصة، مؤداه أن المشرع لا يجوز أن يجردها من لوازمها، ولا أن يفصل عنها بعض أجزائها، ولا أن ينتقص من أصلها أو يغير من طبيعتها دون ما ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية؛ وكان ضمان وظيفتها هذه يفترض ألا ترهق القيود التي يفرضها المشرع عليها جوهر مقوماتها، ولا أن يكون من شأنها حرمان أصحابها من تقرير صور الانتفاع بها، وكان صون الملكية وإعاقتها لا يجتمعان، فإن هدمها أو تقويض أسسها من خلال قيود تنال منها، ينحل عصفاً بها منافياً للحق فيها.
11 - استغلال الأعيان ممن يملكونها، قد يكون غير مباشر من خلال عقود إجارة يختارون بها من يستأجرونها؛ وكان حقهم في هذا الاختيار جزءاً لا يتجزأ من سلطة الاستغلال التي يباشرونها أصلاً عليها؛ وكان من المقرر أن لحقوق الملكية - بكامل عناصرها - قيماً مالية يجوز التعامل فيها؛ وكان الأصل أن يظل مؤجر العين متصلاً بها، فلا يُعزل عنها من خلال سلطة مباشرة يمارسها آخرون عليها بناءً على نص في القانون؛ وكان النص المطعون فيه قد فرض التأجير المفروش بقوة القانون في إطار علائق إيجارية شخصية بطبيعتها، مهدراً كل إرادة لمؤجرها في مجال القبول بهذا التأجير أو الاعتراض عليه، ناقلاً بذلك - وبقاعدة آمرة - ثمار الأعيان المؤجرة إلى من لا يستحقونها بعد أن اختصهم بمقابل التأجير المفروش كاملاً فيما خلا الأجرة الإضافية التي يدفعونها. وهو بعد مقابل يُعينهم في الأعم من الأحوال، على إيفاء الأجرة القانونية والأجرة الإضافية كلتيهما مع احتفاظهم بباقية، فلا يتحملون عبئاً مقابل انتفاعهم بالأعيان المؤجرة، بل يستخلصونها لأنفسهم انتهاباً لها، فلا تظهر الملكية بوصفها شيئاً مصوناً، بل ركاماً وعبثاً عريضاً. وما الملكية إلا المزايا التي تنتجها، فإذا انقض المشرع عليها، صار أمرها صريماً، ومسها بذلك ضر عظيم.
12 - ما نص عليه الدستور في المادة 7 من قيام المجتمع على أساس من التضامن الاجتماعي، يعني وحدة الجماعة في بنيانها، وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، واتصال أفرادها وترابطهم فيما بينهم فلا يكون بعضهم لبعض إلا ظهيراً، ولا يتفرقون بالتالي بدداً، أو يتناحرون طمعاً، أو يتنابذون بغياً، وهم بذلك شركاء في مسئوليتهم قبلها، لا يملكون التنصل منها أو التخلي عنها. وليس لفريق منهم أن يتقدم على غيره انتهازاً، ولا أن ينال قدراً من الحقوق يكون بها - عدواناً - أكثر علواً، وإنما تتضافر جهودهم وتتوافق توجهاتهم، لتكون لهم الفرص ذاتها التي تقيم لمجتمعاتهم بنيانها الحق، وتتهيأ معها تلك الحماية التي ينبغي أن يلوذ بها ضعفاؤهم، ليجدوا في كنفها الأمن والاستقرار.
13- النص المطعون فيه - بالصيغة التي أفرغ فيها - ليس إلا حلقة في اتجاه عام تبناه المشرع أمداً طويلاً في إطار من مفاهيم جائرة لا يمكن تبريرها منطقياً ولو أجهد الباحثون أنفسهم لبيان وجه الحق فيها؛ وكان ذلك بكل المقاييس ظلماً فادحاً لمؤجرين ما برح المستأجرون يرجحون عليهم مصالحهم، متدثرين في ذلك بعباءة قوانين استثنائية جاوز واضعوها بها - في كثير من جوانبها - حدود الاعتدال، فلا يكون مجتمعهم معها إلا متهاوياً عمداً، متحيفاً حقوقاً ما كان يجوز الإضرار بها، نائياً بالإجارة عن حدود متطلباتها، وعلى الأخص ما تعلق منها بتعاون طرفيها اقتصادياً واجتماعياً، حتى لا يكون صراعهما - بعد الدخول في الإجارة - إطاراً لها.


الإجراءات

بتاريخ 25 ديسمبر 1996، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالباً الحكم بعدم دستورية نص المادة 40 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعي كان قد أقام الدعوى رقم 3743 لسنة 1996 إيجارات كلي شمال القاهرة، طالباً في صحيفتها الحكم بإخلاء المدعى عليها الأخيرة من العين المؤجرة وتسليمها له خالية، تأسيساً على أنها كانت تستأجر منه شقة يملكها بالدور الخامس بالعقار رقم 1 شارع الشهيد عبد المنعم حافظ بمصر الجديدة وقد أخطرته برغبتها في تأجيرها مفروشة للغير، وعرضت عليه الأجرة الإضافية التي قررتها المادة 45 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، إلا أنه رفض عرضها، ودفع - أثناء نظر الدعوى الموضوعية - بعدم دستورية المادة 40 من هذا القانون التي تخولها حق التأجير المفروش للعين المؤجرة لها دون موافقة مالكها. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع، فقد قررت تأجيل نظرها للدعوى المطروحة عليها إلى جلسة 29/ 12/ 1996، على أن يقدم المدعي ما يفيد إقامته للدعوى الدستورية، فأقامها خلال الأجل المحدد لها.
وحيث إن المادة 40 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، تقضي بما يأتي:
"لا يجوز للمستأجر في غير المصايف والمشاتي المحددة وفقاً لأحكام هذا القانون، أن يؤجر المكان المؤجر له مفروشاً أو خالياً إلا في الحالات الآتية:
( أ ) إذا أقام خارج الجمهورية بصفة مؤقتة:
وعلى المستأجر الأصلي في هذه الحالة أن يخطر المستأجر من الباطن لإخلاء العين في الموعد المحدد لعودته للإقامة بالجمهورية، يشرط أن يمنح المستأجر من الباطن أجلاً مدته ثلاثة أشهر من تاريخ إخطاره، ليقوم بإخلاء العين وردها إلى المستأجر الأصلي، وإلا اعتبر شاغلاً للعين دون سند قانوني، وذلك أياً كانت مدة الإيجار المتفق عليه.
(ب) إذا كان مزاولاً لمهنة حرة أو حرفة غير مقلقة للراحة أو مضرة بالصحة، وأجر جزءاً من المكان المؤجر له لهذا الغرض إلى من يمارس مهنة أو حرفة ولو كانت مغايرة لمهنته أو حرفته.
(ج) إذا أجر المكان المؤجر له كله أو جزءاً منه للطلاب الذين يدرسون في غير المدن التي تقيم فيها أسرهم.
(د) التأجير للعمال في مناطق تجمعاتهم. وكذا التأجير للعاملين بمختلف أجهزة الدولة والحكم المحلي والقطاع العام، وذلك في المدن التي يعينون بها أو ينقلون إليها.
(هـ) في الحالات والشروط المبينة بالبندين أ و ب من المادة السابقة، وفي جميع الأحوال، يشترط ألا يزيد مجموع ما يقوم المستأجر هو وزوجته وأولاده القصر بتأجيره مفروشاً على شقة واحدة في نفس المدينة. ولا يفيد من حكم هذه المادة سوى مستأجري وحدات الأماكن الخالية".
وتنص المادة 45 من هذا القانون على ما يأتي: "في جميع الأحوال التي يجوز فيها للمستأجر تأجير المكان أو جزء من المكان المؤجر مفروشاً، يستحق المالك أجرة إضافية عن مدة التأجير مفروشاً بواقع نسبة من الأجرة القانونية تحسب على الوجه الآتي:
( أ ) أربعمائة في المائة (400%) عن الأماكن المنشأة قبل أول يناير سنة 1944.
(ب) مائتان في المائة (200%) عن الأماكن المنشأة منذ أول يناير سنة 1944 وقبل 5 نوفمبر سنة 1961.
(ج) مائة وخمسون في المائة (150%) عن الأماكن المنشأة منذ 5 نوفمبر سنة 1961 حتى تاريخ العمل بهذا القانون.
(د) مائة في المائة (100%) عن الأماكن التي يرخص في إقامتها اعتباراً من تاريخ العمل بأحكام هذا القانون.
وفي حالة تأجير المكان المفروش جزئياً، يستحق المالك نصف النسب الموضحة في هذه المادة".
وعملاً بالمادة 21 من القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، يشترط ألا يزيد مجموع ما يقوم المستأجر هو وزوجته وأولاده القصر غير المتزوجين بتأجيره مفروشاً بغير موافقة المالك على شقة واحدة في نفس المدينة.
ويعتد في تحديد المدينة بأحكام قانون الإدارة المحلية.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها ارتباطها عقلاً بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الحكم في المسائل الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المطروحة على محكمة الموضوع؛ وكان المدعي قد طعن بعدم دستورية نص المادة 40 من القانون رقم 49 لسنة 77 دون غيرها، تقديراً بأنها هي التي تخول مستأجر العين - وبغير موافقة مالكها بل ورغم اعتراضه - حق التأجير المفروش؛ وكانت المادة 45 من هذا القانون تحدد مقابلاً لهذا التأجير ممثلاً في أجرة إضافية يجب أن يؤديها مستأجر العين إلى مالكها عن المدة التي أمتد إليها التأجير مفروشاً؛ وكان جواز اقتضاء هذا المقابل، يفترض ألا يكون الدستور نابذاً أصل القاعدة التي يرد إليها والتي خول المشرع بمقتضاها حق التأجير المفروش لكل مستأجر في الأحوال وبالشروط التي حددها؛ فإن المادتين 40، 45 من القانون، تتكاملان فيما بينهما، ويفترض عند الفصل في الدعوى الدستورية، أن وحدة لا تنقسم تجمعهما، وبهما معاً يتحدد نطاقها.
وحيث إن الخصومة الدستورية لا تتناول غير النصوص المطعون عليها في مجال تطبيقها، ولا شأن لها بما يخرج عن نطاق سريانها، تقديراً بأن الأضرار التي قارنتها تتصل بإنفاذها في شأن المخاطبين بها؛ وكانت المصايف والمشاتي المحددة وفقاً لأحكام القانون رقم 49 لسنة 1977 المشار إليه، مستثناه من حكم المادة 40 من هذا القانون المطعون عليها؛ فإن إبطال المحكمة لهذه المادة لمخالفتها الدستور، يكون مقصوراً على الأحكام التي تضمنتها في مجال تطبيقها، والتي لا يندرج تحتها التأجير المفروش لأماكن مهيأة باعتبارها مصيفاً أو مشتى مما حدده ذلك القانون. ومن ثم يظل باب الطعن مفتوحاً أمام هذه المحكمة في مجال تأجيرهما من الباطن مفروشاً.
وحيث إن المدعي ينعي على نص المادة 40 من القانون رقم 49 لسنة 1977 المشار إليه، إهداره أحكام المواد 2 و7 و8 و32 و40 و57 من الدستور، تأسيساً على أن النص المطعون عليه منح المستأجر حرية التأجير المفروش بقوة القانون، ولم يقم وزناً لمصلحة المؤجر، بل غلب عليها مصلحة المستأجر دون ما ضرورة. ولا تعدو الأجرة الإضافية التي قررتها المادة 45 من هذا القانون، أن تكون زيادة ثابت مقدارها على مر الزمان، وكان ينبغي أن تكون متغيرة طبقاً لقوانين العرض والطلب. بل إن المستأجر إذا ما لجأ إلى التأجير المفروش، تقاضى من المستأجر من الباطن أجرة يزيد مقدارها أضعافاً مضاعفة على الأجرة الإضافية، ليحصل بذلك على حقوق تتمحض عدواناً على الملكية التي يحميها الدستور، تقديراً بأن حق مستأجر العين في استعمالها لا زال حقاً شخصياً، حتى بعد العمل بالتدابير الاستثنائية في مجال الإسكان. وما النص المطعون فيه إلا مزية استثنائية اقتحم المشرع بأبعادها حق الملكية إخلالاً بمجالاتها الحيوية التي لا يجوز أن يمسها، وهو بذلك لا يندرج تحت تنظيمها، وإنما أنشأ لكل مستأجر حقوقاً مبتدأة لا يتوازن بها مركزه القانوني مع المؤجر، ولا يقيم علاقتهما ببعض على أساس من التضامن الاجتماعي.
وحيث إن مناعي المدعي في شأن الأجرة الإضافية التي فرضتها المادة (45) من القانون رقم 49 لسنة 1977 مقابلاً للتأجير المفروش، تطرح بالضرورة ما إذا كان يجوز أصلاً وفقاً للدستور، إسناد رخصة التأجير المفروش - وبقوة القانون - إلى المستأجر، ذلك أن مباشرته لهذه الرخصة هي التي ينشأ بها الحق في تلك الأجرة. كذلك فإن مفاد إبطال المحكمة لهذه الرخصة في ذاتها - إذا شابها عوار مخالفتها للدستور - انتفاء كل مقتض لإعمال الشروط التي قيد بها المشرع نطاق ممارستها، وكذلك سقوط الأحكام التي فرض بها الأجرة الإضافية التي تقابل استعمالها.
وحيث إن ما ينعاه المدعي من مخالفة النص المطعون فيه لحكم المادة الثانية من الدستور التي تقيم من الشريعة الإسلامية - في ثوابتها ومبادئها الكلية - المصدر الرئيسي لكل قاعدة قانونية أقرتها السلطة التشريعية أو أصدرتها السلطة التنفيذية في حدود صلاحياتها التي ناطها الدستور بها. مردود بأن الرقابة القضائية على الشرعية الدستورية التي تباشرها هذه المحكمة في مجال تطبيقها لنص المادة الثانية من الدستور، لا تمتد - وعلى ما جرى به قضاؤها - لغير النصوص القانونية الصادرة بعد تعديلها في 22 مايو 1980. ولا يندرج تحتها القانون رقم 49 لسنة 1977 لصدوره قبلها. ومن ثم يظل نائياً عن رقابتها، ولو كانت النصوص التي تضمنها قد شابها عوار تناقضها مع الأحكام الشرعية المقطوع بثبوتها ودلالتها.
وحيث إن ما ينعاه المدعي من مخالفة النص المطعون فيه لمبدأ تكافؤ الفرص المنصوص عليه في المادة الثامنة من الدستور مردود بأن الفرص التي يعنيها هذا المبدأ، هي تلك التي تتعهد الدولة بتقديمها. وكلما كان عددها محدوداً، كان التزاحم لطلبها واقعاً قائماً. ويقتضي تدافعهم على هذه الفرص المحدود عددها، ترتيبهم فيما بينهم وفق شروط موضوعية تحدد أجدرهم باستحقاقها. ولا كذلك النص المطعون فيه إذ لا يتعلق بفرص قائمة يتزاحم المستأجرون عليها، ويتفاضل بعضهم على بعض في مجال النفاذ إليها، بل يخولهم جميعاً - في مجال تطبيقه - الحقوق عينها، دون ما تمييز يفارق بينهم على صعيد مباشرتها.
وحيث إن ما ينعاه المدعي من مخالفة النص المطعون فيه للمادة 57 من الدستور التي تقضي بأن كل اعتداء على الحرية الشخصية وعلى حرمة الحياة الخاصة، أو على الحقوق والحريات العامة التي يكلفها الدستور أو القانون، يعد جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا الدعوى المدنية الناشئة عنها بالتقادم مردود بأن تأثيم الدستور أو المشرع أفعالاً بذواتها أو صوراً من الامتناع يحددانها، مؤداه أن يتخذ هذا الفعل أو الامتناع مظهراً مادياً، فلا يكون كامناً في أعماق النفوس مُغلفاً بدخائلها، بل ظاهراً جلياً مُعبراً عن إرادة عصيان نصوص عقابية آمرة زجر بها المشرع المخاطبين بها، محدداً من خلالها ما ينبغي عليهم أن يأتوه أو يدعوه من الأفعال، بعد تحديدها تحديداً قاطعاً لا يلبسها بغيرها. ولا كذلك ما تقره السلطة التشريعية من نصوص قانونية في مجال تنظيم الحقوق، ولا ما يصدر من هذه النصوص عن السلطة التنفيذية في حدود صلاحياتها التي ناطها الدستور بها، ذلك أن تلك النصوص جميعها لا تبلور عملاً مادياً تظهر به الجريمة على مسرحها، بل هي التي تحدد لدائرة التجريم نطاقها على ضوء الضرورة الاجتماعية التي تقدرها، وبما يكون مناسباً لمتطلباتها.
وحيث إن البين من مضبطة الجلسة التاسعة والسبعين لمجلس الشعب المعقودة في 31/ 7/ 1977 أن أحد أعضاء هذا المجلس قرر أن التأجير المفروش للأعيان المؤجرة ينبغي أن يكون مشروطاً بإذن أصحابها توقياً لاتساع دائرة هذا التأجير بعد أن صار موطئاً لاستغلال البعض، إلا أن آخرين - أيدتهم أغلبية أعضاء المجلس عند التصويت على المشروع - عارضوه لضمان ألا يباشر مؤجر العين على مستأجرها من صور الاستغلال أسوأها.
وحيث إن السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في موضوع تنظيم الحقوق، حدها قواعد الدستور التي ينافيها أن ينقل المشرع حقوق الملكية أو بعض عناصرها من يد أصحابها إلى غيرهم دون سند صحيح؛ ويدنيها من أهدافها قدر من التوازن بين القيود عليها، وضرورة ربطها بالأغراض التي تقتضيها وظيفتها الاجتماعية، فلا يكون التدخل لتنظيمها افتئاتاً عليها.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن حرية التعاقد قاعدة أساسية يقتضيها الدستور صوناً للحرية الشخصية التي لا يقتصر ضمانها على تأمينها ضد صور العدوان على البدن، بل تمتد حمايتها إلى أشكال متعددة من إرادة الاختيار وسلطة التقرير التي ينبغي أن يملكها كل شخص، فلا يكون بها كائناً يحمل على ما لا يرضاه، بل بشراً سوياً.
وحيث إن حرية التعاقد هذه، فوق كونها من الخصائص الجوهرية للحرية الشخصية، إنها كذلك وثيقة الصلة بالحق في الملكية، وذلك بالنظر إلى الحقوق التي ترتبها العقود فيما بين أطرافها، أياً كان الدائن بها أو المدين بأدائها. بيد أن هذه الحرية - التي لا يكفلها انسيابها دون عائق، ولا جرفها لكل قيد عليها، ولا علوها على مصالح ترجحها، وإنما يدنيها من أهدافها قدر من التوازن بين جموحها وتنظيمها - لا تعطلها تلك القيود التي تفرضها السلطة التشريعية عليها بما يحول دون انفلاتها من كوابحها. ويندرج تحتها أن يكون تنظيمها لأنواع من العقود محدداً بقواعد آمرة تحيط ببعض جوانبها، غير أن هذه القيود لا يسعها أن تدهم الدائرة التي تباشر فيها الإرادة حركتها، فلا يكون لسلطانها بعد هدمها من أثر.
وحيث إن الحقوق التي يستخلصها مستأجر من الإجارة التي دخل فيها - ويندرج تحتها تأجيره من الباطن عيناً بقصد استغلالها - تقتضي تدخلاً من مؤجرها لإمكان مباشرتها، ولا يجوز بالتالي مزجها بحق الانتفاع كأحد الحقوق العينية الأصلية المتفرعة عن الملكية، ذلك أن هذا الحق يعتبر واقعاً مباشرة على الأشياء التي تعلق بها، مشتملاً على سلطة استعمالها واستغلالها، متسلطاً عليها من هذين الوجهين دون تدخل من أصحابها، الذين لا يملكون كذلك الاعتراض على نزول المنتفع نهائياً عن هذا الحق للغير. ومن ثم كان ذلك الحق - وبالنظر إلى ثقل القيود التي يفرضها على الملكية - منتهياً حتماً بوفاة المنتفع، ولو كان ذلك قبل انقضاء الأجل المحدد اتفاقاً لمباشرة حق الانتفاع.
وحيث إن النص المطعون فيه خول كل مستأجر أصلي - في الأحوال وبالشروط التي حددها - أن يحيل من باطنه عيناً كان قد اتخذها سكناً، إلى مكان مفروش يؤجره لغيره، ولو كانت الإجارة الأصلية أو الأوضاع التي لابستها، تفيد شرطاً صريحاً أو ضمنياً مانعاً من النزول عنها إلى الغير أو من التأجير من الباطن؛ وكان النص المطعون فيه - وباعتباره واقعاً في إطار القيود الاستثنائية التي نظم بها المشرع العلائق الإيجارية - ما تقرر إلا لإسقاط إذن المؤجر في الترخيص للمستأجر الأصلي بالتأجير من الباطن، وهو ما تدل عليه الأعمال التحضيرية لهذا النص؛ وكان من المقرر قانوناً أن حق المستأجر لا زال حقاً شخصياً مقصوراً على استعمال عين بذاتها فيما لا يجاوز المنفعة التي أعدت لها، فلا يمتد هذا الحق إلى سلطة استغلالها إذا منعها أصحابها عن مستأجرين من خلال شرط اتصل بإجارة أبرموها معهم، صريحاً كان هذا الشرط أم ضمنياً؛ وكان حق المستأجر في التأجير المفروش قد صار بمقتضى النص المطعون فيه قائماً في كل الأحوال التي حددها؛ ومستنداً بالتالي إلى قاعدة آمرة لا يجوز الاتفاق على خلافها؛ وبها صار منتهياً حق من يملكون الأعيان، في ألا يباشر أغيار سلطة استغلالها بغير إذنهم؛ فإن النص يكون متضمناً عدواناً على الحدود المنطقية التي تعمل الإرادة الحرة في نطاقها، والتي لا تستقيم الحرية الشخصية - في صحيح بنيانها - بفواتها، فلا تكون الإجارة إلا إملاء يناقض أسسها.
وحيث إن من المقرر كذلك أن صون الدستور للملكية الخاصة، مؤداه أن المشرع لا يجوز أن يجردها من لوازمها، ولا أن يفصل عنها بعض أجزائها، ولا أن ينتقص من أصلها أو يغير من طبيعتها دون ما ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية؛ وكان ضمان وظيفتها هذه يفترض ألا ترهق القيود التي يفرضها المشرع عليها جوهر مقوماتها، ولا أن يكون من شأنها حرمان أصحابها من تقرير صور الانتفاع بها، وكان صون الملكية وإعاقتها لا يجتمعان، فإن هدمها أو تقويض أسسها من خلال قيود تنال منها، ينحل عصفاً بها منافياً للحق فيها.
وحيث إن استغلال الأعيان ممن يملكونها، قد يكون غير مباشر من خلال عقود إجارة يختارون بها من يستأجرونها؛ وكان حقهم في هذا الاختيار جزءاً لا يتجزأ من سلطة الاستغلال التي يباشرونها أصلاً عليها؛ وكان من المقرر أن لحقوق الملكية - بكامل عناصرها - قيماً مالية يجوز التعامل فيها؛ وكان الأصل أن يظل مؤجر العين متصلاً بها، فلا يُعزل عنها من خلال سلطة مباشرة يمارسها آخرون عليها بناءً على نص في القانون؛ وكان النص المطعون فيه قد فرض التأجير المفروش بقوة القانون في إطار علائق إيجارية شخصية بطبيعتها، مهدراً كل إرادة لمؤجرها في مجال القبول بهذا التأجير أو الاعتراض عليه، ناقلاً بذلك - وبقاعدة آمرة - ثمار الأعيان المؤجرة إلى من لا يستحقونها بعد أن اختصهم بمقابل التأجير المفروش كاملاً فيما خلا الأجرة الإضافية التي يدفعونها. وهو بعد مقابل يُعينهم في الأعم من الأحوال، على إيفاء الأجرة القانونية والأجرة الإضافية كلتيهما مع احتفاظهم بباقية، فلا يتحملون عبئاً مقابل انتفاعهم بالأعيان المؤجرة، بل يستخلصونها لأنفسهم انتهاباً لها، فلا تظهر الملكية بوصفها شيئاً مصوناً، بل ركاماً وعبثاً عريضاً. وما الملكية إلا المزايا التي تنتجها، فإذا انقض المشرع عليها، صار أمرها صريماً، ومسها بذلك ضر عظيم.
وحيث إن ما نص عليه الدستور في المادة 7 من قيام المجتمع على أساس من التضامن الاجتماعي، يعني وحدة الجماعة في بنيانها، وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، واتصال أفرادها وترابطهم فيما بينهم فلا يكون بعضهم لبعض إلا ظهيراً، ولا يتفرقون بالتالي بدداً، أو يتناحرون طمعاً، أو يتنابذون بغياً، وهم بذلك شركاء في مسئوليتهم قبلها، لا يملكون التنصل منها أو التخلي عنها. وليس لفريق منهم أن يتقدم على غيره انتهازاً، ولا أن ينال قدراً من الحقوق يكون بها - عدواناً - أكثر علواً، وإنما تتضافر جهودهم وتتوافق توجهاتهم، لتكون لهم الفرص ذاتها التي تقيم لمجتمعاتهم بنيانها الحق، وتتهيأ معها تلك الحماية التي ينبغي أن يلوذ بها ضعفاؤهم، ليجدوا في كنفها الأمن والاستقرار.
وحيث إن النص المطعون فيه - بالصيغة التي أفرغ فيها - ليس إلا حلقة في اتجاه عام تبناه المشرع أمداً طويلاً في إطار من مفاهيم جائرة لا يمكن تبريرها منطقياً ولو أجهد الباحثون أنفسهم لبيان وجه الحق فيها؛ وكان ذلك بكل المقاييس ظلماً فادحاً لمؤجرين ما برح المستأجرون يرجحون عليهم مصالحهم، متدثرين في ذلك بعباءة قوانين استثنائية جاوز واضعوها بها - في كثير من جوانبها - حدود الاعتدال، فلا يكون مجتمعهم معها إلا متهاوياً عمداً، متحيفاً حقوقاً ما كان يجوز الإضرار بها، نائياً بالإجارة عن حدود متطلباتها، وعلى الأخص ما تعلق منها بتعاون طرفيها اقتصادياً واجتماعياً، حتى لا يكون صراعهما - بعد الدخول في الإجارة - إطاراً لها.
وحيث إنه لما تقدم، يكون النص المطعون فيه مخالفاً للمواد 7 و32 و34 و41 من الدستور.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة:
أولاً: بعدم دستورية نص المادة 40 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.
ثانياً: بسقوط نص المادة 45 من هذا القانون في مجال تطبيقها بالنسبة إلى الأماكن التي تم تأجيرها مفروشاً وفقاً لنص المادة 40 منه.
ثالثاً: بإلزام الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.