أحكام النقض – المكتب الفني - جنائي
العدد الأول - السنة 14 - صـ 72

جلسة 4 من فبراير سنة 1963

برياسة السيد/ محمد متولي عتلم نائب رئيس المحكمة: وبحضور السادة المستشارين: محمود حلمي خاطر، وعبد الحليم البيطاش، ومختار رضوان، ومحمد صبري.

(16)
الطعن رقم 2190 لسنة 32 قضائية

تجمهر. سبق الإصرار. محكمة الموضوع.
( أ ) شروط قيام التجمهر: أن يكون مؤلفاً من خمسة أشخاص على الأقل، وأن يكون الغرض منه ارتكاب جريمة أو منع أو تعطيل تنفيذ القوانين أو اللوائح أو التأثير على السلطات في أعمالها أو حرمان شخص من حرية العمل باستعمال القوة أو التهديد باستعمالها.
مناط العقاب على التجمهر وتضامن المتجمهرين في المسئولية عما يقع من جرائم تنفيذاً للغرض منه: هو ثبوت علمهم بهذا الغرض.
(ب) ظرف سبق الإصرار. البحث في توافره: موضوعي. لا رقابة لمحكمة النقض في ذلك: ما دام استنتاجه من وقائع الدعوى سائغاً.
1 - حددت المادتان الثانية والثالثة من القانون رقم 10 لسنة 1941 شروط قيام التجمهر قانوناً في أن يكون مؤلفاً من خمسة أشخاص على الأقل وأن يكون الغرض منه ارتكاب جريمة أو منع أو تعطيل تنفيذ القوانين أو اللوائح أن التأثير على السلطات في أعمالها أو حرمان شخص من حرية العمل باستعمال القوة أو التهديد باستعمالها، وأن مناط العقاب على التجمهر وشرط تضامن المتجمهرين في المسئولية عن الجرائم التي تقع تنفيذاً للغرض منه هو ثبوت علمهم بهذا الغرض. وما دامت المحكمة قد خلصت – في حدود سلطتها التقديرية – إلى عدم قيام الدليل على توافر العناصر القانونية لجريمة التجمهر، واستندت في ذلك إلى أن المجني عليه الأول أصيب قبل اكتمال النصاب العددي اللازم لتوافر حالة التجمهر، وأن من قدم بعد ذلك من الأهليين إنما كان مدفوعاً بعامل الفضول وحب الاستطلاع دون أن يتوافر الدليل على أن حضورهم كان مقروناً بأي غرض غير مشروع مما تنص المادة الثانية من قانون التجمهر على وجوب توافره وعلم المتجمهرين به أو قيام التوافق بينهم على تنفيذه، فان ما انتهى إليه الحكم في هذا الصدد يكون صحيحاً.
2 - البحث في توافر ظرف سبق الإصرار أو عدم توافره داخل تحت سلطة قاضي الموضوع يستنتجه من وقائع الدعوى وظروفها ما دام موجب هذه الوقائع والظروف لا يتنافر عقلاً مع هذا الاستنتاج، وما دامت المحكمة قد استخلصت في استدلال سائغ أن الحادث لم يكن وليد إصرار سابق بل حدث فجأة، فإنها تكون قد فصلت في مسألة موضوعية لا رقابة لمحكمة النقض عليها فيها.


الوقائع

اتهمت النيابة العامة المطعون ضدهم بأنهم في يوم 3 من يونيو سنة 1954 بدائرة مركز منوف مديرية المنوفية: اشتركوا في تجمهر من خمسة أشخاص مهدد للسلم والنظام العام كان الغرض منه ارتكاب الجرائم، مستعملين في ذلك القوة والعنف وحالة كون بعضهم يحمل الآت من شأنها إحداث الموت إذا استعملت بصفة أسلحة وتولى المتهم الأول تدبير هذا التجمهر، وذلك بأن اتحدت إرادة المتهمين على التوجه بجموعهم حاملين العصي إلى مكان وجود ساقية يملكها على محمد السيد أبو المجد بالاشتراك مع المتهم السابع وآخرين للعمل على منع الأول من استعمال الساقية لري أرضه بالقوة والتعدي عليه بالضرب فوقعت بقصد تنفيذ الغرض المقصود من هذا التجمهر الجرائم الآتية: أولاً – ضربوا على محمد السيد أبو المجد عمداً بأن تعدوا عليه بالضرب بالعصي فأحدثوا به الإصابات الموضحة بالتقرير الطبي، ولم يقصدوا من ذلك قتلاً ولكن الضرب أفضى إلى موت المجني عليه، وكان ذلك مع سبق الإصرار. ثانياً – ضربوا مصطفى على أبو المجد عمداً فأحدثوا به الإصابات الموضحة بالتقرير الطبي والتي تخلف لديه من جرائها عاهة مستديمة يستحيل برؤها هي فقد جزء من عظام الجمجمة مما يقلل من قدرته وكفاءته على العمل بحوالي 60% وكان ذلك مع سبق الإصرار. ثالثاً – ضربوا أحمد على أبو المجد عمداً فأحدثوا به الإصابات الموضحة بالتقرير الطبي والتي تخلف لديه من جرائها عاهة مستديمة يستحيل برؤها هي فقد جزء من عظام الجمجمة مما يقلل من قدرته وكفاءته على العمل بحوالي 12%، وكان ذلك مع سبق الإصرار. رابعاً – ضربوا عبد المقصود على أبو المجد عمداً فأحدثوا به الإصابات الموضحة بالتقرير الطبي والتي تخلفت لديه من جرائها عاهة مستديمة يستحيل برؤها هي فقد جزء من عظام الجمجمة مما يقلل من قدرته وكفاءته على العمل بحوالي 5%، وكان ذلك مع سبق الإصرار. خامساً – ضربوا محمد محمد محجوب عمداً فأحدثوا به الإصابات الموضحة بالتقرير الطبي والتي تخلف لديه من جرائها عاهة مستديمة يستحيل برؤها هي إعاقات بحركة الأصبع البنصر من اليد، وكان ذلك مع سبق الإصرار. سادساً – ضربوا كلاً من محمد محمد سعد وأحمد محمد محجوب عمداً فأحدثوا بهما الإصابات الموضحة بالتقارير الطبية والتي أعجزتهما عن أعمالهما الشخصية مدة لا تزيد عن عشرين يوما، وكان ذلك مع سبق الإصرار. وطلبت إلى المحكمة العسكرية العليا معاقبتهم بالمواد 1/ 1 و20/ 2 و3 و4 من الأمر العسكري رقم 5 في شأن التجمهر والمواد 40/ 1 و2 و41 و236/ 2 و240/2 من قانون العقوبات. وبتاريخ 8 من أكتوبر سنة 1956 قررت المحكمة العسكرية العليا إحالتهم إلى محكمة الجنايات لمحاكمتهم بالمواد سالفة الذكر. وقد ادعت نفيسة عبد العال عبد الله زوجة القتيل على محمد السيد أبو المجد عن نفسها وبصفتها وصية على أولادها عبد الله وفريال وعلية ومحمد وسعيد والشناوية بحق مدني قدره ثلاثة الآف جنيه، كما أدعى مصطفى على محمد السيد أبو المجد قبل المتهمين متضامنين بمبلغ ألفي جنيه, وادعى أيضاً أحمد علي محمد السيد أبو المجد قبل المتهمين متضامنين بمبلغ خمسمائة جنيه وأدعى عبد المقصود على محمد السيد أبو المجد بمبلغ سبعمائة جنيه قبل المتهمين وذلك بطريق التضامن. ومحكمة جنايات شبين الكوم قضت في الدعوى حضورياً بتاريخ 13 فبراير سنة 1960 عملاً بالمواد 1 و2 و3 و4 من القانون رقم لسنة 1914 والمواد 236/ 201 و242 و32/ 2 من قانون العقوبات بمعاقبة كل من المتهمين بالسجن لمدة ثلاث سنوات وبإلزامهم متضامنين بأن يدفعوا لنفيسة عبد العال عن نفسها وبصفتها وصية على القصر الشناوية وفريال وعلية وعبد الله ومحمد وسعيد أولاد المرحوم على محمد السيد أبو المجد مبلغ أربعمائة جنيه مع المصروفات المناسبة وبإلزامهم أيضاً متضامنين بأن يدفعوا لمصطفى على محمد السيد أبو المجد مبلغ مائتي جنيه والمصروفات المدنية المناسبة وبإلزامهم أيضاً متضامنين بأن يدفعوا لعبد المقصور على محمد السيد أبو المجد مبلغ مائة جنيه مع المصروفات المناسبة وإلزامهم أيضاً متضامنين بأن يدفعوا لأحمد على محمد السيد أبو المجد مبلغ خمسين جنيها مع المصروفات المدنية المناسبة. فطعن المحكوم عليهم في هذا الحكم بطريق النقض وقيد الطعن بجدول المحكمة برقم 828 سنة 30 ق. وبتاريخ 26 من يونيه سنة 1960 قضت محكمة النقض بقبول الطعن شكلاً وفى الموضوع بنقض الحكم المطعون فيه وإحالة القضية إلى محكمة شبين الكوم لتحكم فيها مجدداً دائرة أخرى. ومحكمة جنايات شبين الكوم سمعت هذه الدعوى من جديد وقضت فيها حضورياً بتاريخ 17 مايو سنة 1961 عملاً بالمادتين 304/ 1 و381/ 1 من قانون الإجراءات الجنائية ببراءة جميع المتهمين مما اسند إليهم ورفض الدعاوى المدنية المقامة عليهم وإلزام رافعيها مصروفاتها. فطعن مصطفى علي محمد السيد أبو المجد "أحد المدعين بالحق المدني" في هذا الحكم بطريق النقض... الخ.


المحكمة

حيث إن مبنى الوجه الأول من الطعن هو التناقض والفساد في الاستدلال، ذلك أن الحكم المطعون فيه انتهى إلى عدم قيام الأدلة على توافر جريمة التجمهر بكافة عناصرها مع أن الأوراق تحمل الأدلة على توافر هذه الجريمة من أقوال شهود الواقعة. كما صور الحكم واقعة الدعوى على نحو يتنافى مع منطق الأوراق والتحقيقات إذ أثبت أن المطعون ضده الأول أقبل إلى مكان الحادث بعد وقوع الاعتداء الذي ذهب ضحيته المجني عليه علي محمد أبو المجد. ثم عاد إلى تصوير ثان فقال إنه لم يكن بمكان الحادث وقت وقوع الاعتداء سوى المطعون ضدهم الثاني والثالث والرابع وأضاف إليهم في موضع آخر المطعون ضده الأول. ثم عاد إلى القول بأن الحشد الذي تجمهر بقيادة المطعون ضده الأول إنما جاء أفراده بدافع الفضول وحب الاستطلاع وإنهم ذهبوا إلى مكان الحادث وهم خلو الذهن من أي غرض آخر. وأخيراً أورد تصويراً جديداً لكيفية وقوع الحادث وهو أن الاعتداء وقع بعد حضور المتجمهرين ولم يكن مقروناً بغرض غير مشروع. ثم أضاف الحكم تخريجاً خاطئا إذ أثبت أن وقوع النقاش بين القتيل والمطعون ضده الرابع وصحبه ليس من شأن من يذهب بقصد الاعتداء، والتفت بذلك عن تعليل حضور المطعون ضده الأول وأقاربه حاملين أسلحتهم وتعرضهم للمجني عليهم وتحقق بغيتهم من منع المجني عليهم من ري أرضهم مع أن ذلك يوفر عناصر جريمة التجمهر.
وحيث إن الحكم المطعون فيه بين واقعة الدعوى في قوله "إنه في صباح يوم 2 من يونيه سنة 1954 حصلت مشاجرة بين أفراد عائلة عيسى وأفراد عائلة محجوب بناحية شبشير طملاوى من أعمال مركز منوف بسبب نزاع على إدارة ساقية للري مشتركة بينهما وقد أصيب علي محمد أبو المجد بإصابة أفضت إلى وفاته كما أصيب آخرون غيره بإصابات مختلفة إلا أن إصابات كل من أحمد على أبو المجد وعبد المقصود على أبو المجد ومحمد محمد محجوب قد تخلف عنها عاهة مستديمة بكل واحد منهم".
واستطرد الحكم إلى بيان أركان جريمة التجمهر وإلى عدم توافرها في قوله "بما أن النيابة العامة أسندت إلى المتهمين جميعاً تهمة التجمهر وحملتهم على هذا الأساس مسئولية جميع هذه الجرائم التي وقعت بمقولة إنها وقعت تنفيذا للغرض الذي من أجله قد تم هذا التجمهر. كما حملت المتهم الأول – المطعون ضده الأول – مسئولية تدبير هذا التجمهر كل هذا استناداً إلى المادتين الثانية والثالثة من القانون رقم 10 لسنة 1914. وبما أنه ينبغي لإمكان مساءلة المتهمين على هذا الأساس أن يقدم الدليل بادي ذي بدء على توافر التجمهر بكافة عناصره القانونية والتي هي إلى جانب النصاب العددي الذي يجب أن يكون أن يكون خمسة على الأقل، أن يكون قد تم بقصد تنفيذ غرض من الأغراض الغير مشروعة المنصوص عنها في المادة الثانية من القانون رقم 10 لسنة 1914 وأن يثبت علم المتجمهرين بالغرض المذكور، وأن تكون الجرائم قد وقعت حال قيام التجمهر وبقصد تنفيذ الغرض المقصود منه. وبما أنه لا نزاع طبقا للتحقيقات في أن إصابة القتيل علي محمد السيد أبو المجد بتلك الإصابة التي أفضت إلى موته كانت أولى الجرائم التي ارتكبت وقد قرر عبد الله على أبو المجد في بدء التحقيق في تصوير كيفية حصول هذه الواقعة أنه ذهب يوم الحادث في الصباح المبكر مع والده وبعض ذويه إلى الساقية وأداروها فعلاً واستمرواً على ذلك حتى الساعة التاسعة صباحاً فحضر إليهم المتهمون الثاني والثالث والرابع وطلب هذا الأخير منهم وقف الساقية حتى يتمكن هو وأفراد عائلته من إدارتها لري أرضهم وحصلت مشاحنة بين الطرفين لهذا السبب حصل خلالها الاعتداء على القتيل بتلك الضربة التي أفضت إلى موته. وبعد ذلك أقبل عدد من أفراد العائلتين وغيرهم من الأهالي ثم حصلت المشاجرة بين أفراد العائلتين فأصيب خلالها من أصيب... وبما أن معنى ما قرره عبد الله على أبو المجد هذا أن والده "القتيل" لما أصيب بتلك الضربة التي أفضت إلى وفاته لم يكن موجوداً بحسب روايته سوى ثلاثة أشخاص هم المتهمون الثاني والثالث والرابع على حد قوله في أول الأمر أو أربعة أشخاص على حد قوله في موضع آخر من التحقيق وكان الرابع هو المتهم الأول الذي أسندوا إليه أنه حضر وقال "اضرب يا ولد" الأمر الذي يستفاد منه أن القتيل وهو أول من أصيب بإجماع أقوال الشهود قد حصل الاعتداء عليه في ظروف لا يمكن القول معها بتوافر حالة التجمهر من حيث النصاب العددي والذي هو خمسة أشخاص على الأقل. فإذا أضفنا إلى ذلك أن من اجتمع على أثر وقوع الحادث من الأهالي إنما اجتمع بدافع الفضول وحب الاستطلاع ومن ثم فقد ذهب إلى محل الحادث وهو خالي الذهن من أي غرض إجرامي، لوضح أنه لا يمكن القول بإمكان توافر حالة التجمهر بشروطها القانونية ذلك أن المشاجرة التي وقعت بعد ذلك لم يكن يربطها غرض غير مشروع من الأغراض التي نصت عليها المادة الثانية من القانون رقم 10 لسنة 1914 وهو العنصر المميز لجريمة التجمهر والتي تقوم إلى جانب وجوب وجود غرض غير مشروع يسعى المتجمهرون إلى تنفيذه، وجوب علم المتجمهرين أيضاً بهذا الغرض أو على الأقل قيام التوافق بينهم على تنفيذ مثل هذا الغرض وهو ما لم يقم الدليل عليه. يؤيد هذا النظر ما جاء على لسان مصطفى على أبو المجد في التحقيقات من أن المتهم الرابع لما وصل إلى مكان الساقية طلب من والده "القتيل" حل الساقية وعدم الاستمرار في إدارتها حتى يتمكن هو أيضا من ري أرضه فأمهله القتيل نصف ساعة أخرى حتى يتم ري أرضه فحصلت بينهما المشاحنة التي أدت إلى قيام المشاجرة بين الطرفين. ودلالة هذا أن المتهم الرابع لما حضر هو ومن معه لم يكن غرضه الاعتداء وإنما حصلت مشاورة بينه وبين القتيل بخصوص إنهاء الري من الساقية وآية ذلك أن القتيل استمهله حوالي نصف ساعة حتى ينتهي من ري أرضه وليس هذا شأن من يحضر بقصد الاعتداء من أول الأمر وإنما الاعتداء قد حصل بعد أن قامت المشاحنة لا قبل ذلك. و معنى ذلك أن قيام المشاجرة ابن وقته ووليد ساعته دون تدبير سابق أو تصميم معقود العزم عليه من قبل. ويؤيد ذلك أيضاً أن الاعتداء لو كان وليد تدبير سابق لما ترك فريق المتهمين الفريق الآخر يقوم بإدارة الساقية في الصباح المبكر حتى الساعة التاسعة صباحاً ولكانوا سبقوهم في الصباح المبكر إلى مكان الساقية ومنعوهم من إدارتها. ومن ثم فإن المشاجرة لما قامت حصلت الاعتداءات خلالها دون أن يربط المعتدين غرض معين يسعون إليه أو يرغبون في تنفيذه، إنما حصلت هذه الاعتداءات بناء على دوافع شخصية دون أن يضم مقترفيها توافق يمكن أن يجعلهم جميعاً مسئولين عنها دون تفريق. لما كان ذلك، وكان ما أورده الحكم من بيان عناصر وأركان جريمة التجمهر يتفق وصحيح القانون، ذلك أن المادتين الثانية والثالثة من القانون رقم 10 لسنة 1914 في شأن التجمهر حددتا شروط قيام التجمهر قانوناً في أن يكون مؤلفاً من خمسة أشخاص على الأقل وأن يكون الغرض منه ارتكاب جريمة أو منع أو تعطيل تنفيذ القوانين أو اللوائح أو التأثير على السلطات في أعمالها أو حرمان شخص من حرية العمل باستعمال القوة أو التهديد باستعمالها وأن مناط العقاب على التجمهر وشرط تضامن المتجمهرين في المسئولية عن الجرائم التي تقع تنفيذاً للغرض منه هو ثبوت علمهم بهذا الغرض وما دامت المحكمة قد خلصت في حدود سلطتها التقديرية إلى عدم قيام الدليل على توافر العناصر القانونية لجريمة التجمهر واستندت في ذلك إلى أن المجني عليه الأول أصيب قبل اكتمال النصاب العددي اللازم لتوافر حالة التجمهر، وأن من قدم بعد ذلك من الأهليين إنما كان مدفوعا بعامل الفضول وحب الاستطلاع دون أن يتوافر الدليل على أن حضورهم كان مقروناً بأي غرض غير مشروع مما تنص المادة الثانية من قانون التجمهر على وجوب توافره وعلم المتجمهرين به أو قيام التوافق بينهم على تنفيذه فإن ما انتهى إليه الحكم في هذا الصدد يكون صحيحاً والنعي عليه بدعوى توافر جريمة التجمهر من أقوال شهود الواقعة في غير محله. لما كان ذلك، وكان لمحكمة الموضوع أن تستخلص الواقعة وتتبينها على حقيقتها من أدلتها وعناصرها المختلفة وأن ترد الحادث إلى صورته الصحيحة من مجموع الأدلة المطروحة عليها دون أن تتقيد في هذا التصوير بدليل بعينه وكانت المحكمة قد بينت أن الاعتداء الذي وقع على المجني عليه الأول القتيل كان وليد ساعته إثر المشاحنة التي قامت بينه وبين المطعون ضده الرابع حول حل الساقية وعدم الاستمرار في إدارتها حتى يتمكن بدوره من ري أرضه فلما استمهله القتيل بعض الوقت قامت المشاجرة بين الطرفين، وأضافت المحكمة إلى ذلك أنه لو كان الحادث وليد تدبير وتصميم سابق لما ترك المطعون ضدهم المجني عليه القتيل وفريقه يديرون الساقية منذ الصباح المبكر حتى الساعة التاسعة صباحاً ولسارعوا إلى مكان الساقية في الصباح المبكر ومنعوا القتيل من إدارتها وهو تصوير سليم لواقعة الدعوى لا تناقض فيه. أما ما يثيره الطاعن من قصور الحكم عن تعليل حضور باقي المطعون ضدهم يحملون أسلحتهم من عصى غليظة وتعرضهم للمجني عليه ووصلوهم إلى بغيتهم من منعهم من ري أرضهم رغم توافر عناصر جريمة التجمهر فمردود بأن المحكمة قد اطمأنت للأسباب السائغة التي أوردتها إلى أنه عقب مقتل المجني عليه الأول توجه بعض أفراد العائلتين وبعض الأهالي إلى مكان الحادث تحدوهم الرغبة في استطلاع ما حدث وبدافع من الفضول فنشب الشجار بينهم ونتج عنه إصابات باقي المجني عليهم فلا يحق للطاعن بعد ذلك أن يصادر المحكمة في معتقدها وان يتمسك بأن باقي المطعون ضدهم قد تجمعوا حاملين أسلحتهم من عصى غليظة متجهين إلى مكان الحادث بقصد الاعتداء على المجني عليهم، إذ لا يعدو ما يثيره في هذا الشأن أن يكون جدلاً موضوعياً لا يجوز إثارته أمام محكمة النقض. ومن ثم فإن ما ينعاه الطاعن في هذا الوجه لا يكون له محل.
وحيث إن مبنى الوجه الثاني من أوجه الطعن هو القصور والخطأ في القانون والخطأ في الإسناد ذلك أن الحكم إذ انتهى إلى عدم توافر أركان جريمة التجمهر اتجه إلى مساءلة كل منهم على حدة مع أن الثابت من الأوراق أن الجرائم التي نشأت عن التجمهر كما وردت في وصف التهمة كانت مقرونة بسبق الإصرار مما يوجب مساءلة المتهمين في الاعتداء على شخص معين عن النتائج الكاملة لهذا الاعتداء. يضاف إلى ذلك أن ما أثبته الحكم عن عناصر جريمة التجمهر وشروطها لا يتفق ومراد الشارع من قانون التجمهر. كما أخطأه التوفيق فيما استند إليه من أقوال عبد الله أبو المجد من أنه لم يتواجد وقت الاعتداء على القتيل سوى المطعون ضدهم الثاني والثالث والرابع، ثم الأول وهو ما استخلص منه عدم اكتمال النصاب العددي للتجمهر، مع أنها تخالف أقواله الثابتة في التحقيقات ومحضر الجلسة فضلاً عن أنها لا تتفق مع ما أورده الحكم في موضع آخر منه من أن الاعتداء وقع بعد اكتمال هذا العدد بحضور أفراد عائلة العمدة حاملين أسلحتهم والذي أثبت على فهم خاطئ منه لواقعة الدعوى وأدلتها إنهم حضرواً بدافع الفضول وحب الاستطلاع وأن العمدة أقبل على رأسهم بوصفه عمدة للبلدة لا بوصفة المحرض الأول لهذا التجمهر والمدبر له. كما يعيب الحكم أيضا أنه وقد ذهب إلى أن المتجمهرين حضرواً إلى مكان الحادث بدافع الفضول لم يستطع تعليل الاعتداء الجسيم الذي نتج عنه وفاة القتيل وإصابة أولاده بعاهات مستديمة، مع أن مؤدى هذه الجرائم أن المتجمهرين رموا إلى الحيلولة دون القتيل وأولاده وري أرضهم بالقوة.
وحيث إن الحكم المطعون فيه بعد أن أثبت عدم توافر أركان جريمة التجمهر خلص إلى أن الحادث وقع دون تصميم سابق في قوله "إن قيام المشاجرة كان ابن وقته ووليد ساعته دون تدبير سابق أو تصميم معقود العزم عليه من قبل"، ثم استطرد بعد ذلك إلى القول "إن المشاجرة لما قامت حصلت الاعتداءات خلالها دون أن يربط المعتدين غرض معين يسعون إليه أو يرغبون في تنفيذه وإنما حصلت هذه الاعتداءات بناءً على دوافع شخصية دون أن يضم مقترفيها توافق يمكن أن يجعلهم جميعاً مسئولين عنها دون تفريق" ثم عرض الحكم إلى اتهام المطعون ضده الأول وهو عمدة البلدة بتدبير الحادث لسبق تدخله بين الفريقين في اليوم السابق وإلى ما قيل من تهديده القتيل بالأذى إن أدار المسقى ورد عليه في قوله "إن الفريقين المتنازعين لجأ إلى العمدة كما يحصل عادة لفض النزاع بينهما وأن العمدة هدد الفريقين معا إذا ارتكبا أي حماقة قد يؤدى إليها نزاعهما على الساقية وكانت هذه هي وسيلة لتسوية مثل هذا النزاع. ومن ثم فلا يمكن تحميل هذه الواقعة أكثر مما تحتمل خصوصاً وقد وقع الحادث دون تدبير سابق بل كان وليد وقته وابن ساعته كما سلف البيان. أما ذهاب العمدة إلى محل الحادث فإنه أمر طبيعي تحتمه عليه واجبات وظيفته خصوصاً وأنه لم يثبت أن العمدة ذهب على رأس فريقه للاعتداء كما أراد فريق المصابين أن يصور الحادث. أما ما أسند إلى المتهم الأول من أنه قال "اضرب يا ولد" أو أنه أمسك بالقتيل حتى يتمكن المتهمان الثاني والثالث من ضربه كما روى بعض الشهود فهو قول قصد به النكاية بالعمدة والكيد له باعتبار أنه كبير عائلته التي ينتمي إليها باقي المتهمين". ثم أوردت المحكمة بعد ذلك أقوال شهود الإثبات. وأفصحت عن عدم اطمئنانها إلى أقوالهم لما شابها من تضارب وما قام بينهما وبين التقارير الطبية من تناقض آثار الشك في عقيدتها وولد لديها اعتقادا بأنهم كالوا الاتهام جزافاً لفريق المطعون ضدهم بقصد النيل من أكبر عدد منهم. لما كان ذلك، وكان البحث في توافر ظرف سبق الإصرار أو عدم توافره داخل تحت سلطة قاضي الموضوع يستنتجه من وقائع الدعوى وظروفها ما دام موجب هذه الوقائع والظروف لا يتنافى عقلاً مع هذا الاستنتاج وما دامت المحكمة قد استخلصت في استدلال سائغ أن الحادث لم يكن وليد إصرار سابق بل حدث فجأة إثر المشاحنة التي قامت بين القتيل والمطعون ضدهم الثاني والثالث والرابع فإنها تكون قد فصلت في مسألة موضوعية لا رقابة لمحكمة النقض عليها فيها. لما كان ذلك، وكان الثابت من الاطلاع على المفردات المضمومة أن ما أورده الحكم من أقوال الشاهد عبد الله على أبو المجد. من أنه لم يكن موجوداً وقت الاعتداء على القتيل سوى المطعون ضدهم الثاني والثالث والرابع ثم أضاف إليهم الأول له أصله الثابت في أوراق الدعوى مما ينفى عن الحكم قالة الخطأ في الإسناد، كما أنه لا تعارض بين ما أورده الحكم من أقوال هذا الشاهد وما ذكره الحكم في موضع آخر من حضور عدد من أفراد العائلتين وغيرهم من الأهالي بعد مقتل المجني عليه بدافع الفضول وقيام مشاجرة بين أفراد العائلتين أصيب خلالها باقي المجني عليهم. أما النعي على الحكم بالخطأ في تبيان عناصر جريمة التجمهر بما لا يتفق ومراد الشارع من هذا القانون فقد سبق تناوله في الوجه الأول من وجهي الطعن. لما كان ذلك، وكان الحكم المطعون فيه قد أورد الأدلة السائغة التي استند إليها والتي من شانها أن تؤدى إلى ما رتبه عليها من عدم اطمئنانه إلى صحة إسناد الاتهام إلى المطعون ضدهم واطرح أدلة الإثبات المقدمة في الدعوى بعد أن داخلته الريبة في صحة عناصرها، وكان يكفى في المحاكمة الجنائية أن يتشكك القاضي في صحة إسناد التهمة إلى المتهمين لكي يقضى ببراءتهم إذ المرجع في ذلك إلى ما يطمئن إليه في تقدير الدليل ما دام الظاهر من الحكم أنه فحص الدعوى وأحاط بظروفها. لما كان ما تقدم، فإن ما يثيره الطاعن بشأن الأدلة التي أطرحتها المحكمة في حدود سلطتها المطلقة في التقدير لا يعدو أن يكون جدلاً موضوعياً مما لا تجوز إثارته أمام محكمة النقض. ومن ثم فإن الطعن برمته يكون على غير أساس متعيناً رفضه ومصادرة الكفالة.