أحكام المحكمة الدستورية العليا - الجزء الثامن
من أول يوليو 1996 حتى آخر يونيو 1998 - صـ 1260

جلسة 4 أبريل 1998

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر - رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: عبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض وماهر البحيري ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور، وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي - رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر - أمين السر.

قاعدة رقم (95)
القضية رقم 37 لسنة 18 قضائية "دستورية"

1 - دعوى دستورية "المصلحة الشخصية المباشرة: مناطها".
مناط المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - هو ارتباطها عقلاً بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي - وذلك بأن يكون الحكم في المسائل الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها.
2 - حقوق "طبيعتها".
لا يجوز للمشرع أن يخرج الحقوق عن طبيعتها من خلال مفاهيم قانونية يجريها عليها بما يناقض خصائصها.
3 - تنظيم نقابي "طبيعته - أمواله".
المنظمة النقابية العمالية - وفقاً لقانون النقابات العمالية - تعد من أشخاص القانون الخاص - تمتعها ببعض خصائص السلطة العامة لا تحيلها إلى جهة إدارية في مقوماتها - اعتبار أموالها من الأموال الخاصة.
4 - تشريع "المادة 54 من قانون النقابات العمالية الصادر بالقانون رقم 35 لسنة 1976: تنظيم نقابي: أمواله".
انصراف الحماية المكفولة بهذه المادة على أموال المنظمات النقابية العمالية إلى نصوص قانون العقوبات دون غيرها - مجاوزة هذه الحماية لذلك المجال يكون مناقضاً للدستور.
5 - حق التقاضي "تيسيره".
افتراض حق التقاضي - ابتداء - أن يكون لكل شخص وطنياً أو أجنبياً نفاذ ميسر إلى الجهات القضائية المختلفة.
6 - حق التقاضي "ترضية قضائية".
غاية الخصومة القضائية اقتضاء منفعة يقرها القانون - اندماج الترضية القضائية التي يسعى المتقاضون للحصول عليها في الحق في التقاضي.
7 - الحق في الترضية القضائية "حقوق".
إنكار الحق في الترضية القضائية ينطوي على إهدار الحماية التي كفلها الدستور أو المشرع للحقوق على اختلافها.
8 - ترضية قضائية "تنفيذها".
افتقاد الترضية القضائية قيمتها عملاً إذا لم تقترن بوسائل الحمل على تنفيذها.
9 - مبدأ الخضوع للقانون "إهداره".
تعذر قهر المدين المماطل على أداء ما عليه من حقوق - كان سند اقتضائها مستوفياً قوة نفاذه - يجعل إعمال مبدأ الخضوع للقانون سراباً.
10 - نصوص قانونية "دستوريتها: مناطها"
مناط دستورية النصوص القانونية ارتباطها عقلاً بالأغراض التي تتوخاها والتي تبلور إطاراً لمصلحة مشروعة تحيط بها.
11 - ضمان عام "بطلان".
الأموال التي يملكها المدين يشملها الضمان العام لدائنيه - رد الدائنين عنها بنص تشريعي ودون مسوغ يجعل هذا النص باطلاً.
12 - تشريع "الفقرة الثانية من المادة 54 من قانون النقابات العمالية الصادر بالقانون رقم 35 لسنة 1976: حجز".
نص هذه الفقرة على عدم جواز الحجز على الأموال اللازمة لمباشرة المنظمة النقابية العمالية لنشاطها إنما ينطوي على عدوان على حق التقاضي - إفرادها كذلك المنظمة النقابية بمعاملة تفضيلية.
1 - إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها ارتباطها عقلاً بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الحكم في المسائل الدستورية، لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها؛ وكان النزاع الموضوعي متعلقاً بديون استحقتها الجهة المصرفية قبل المنظمة النقابية العمالية "المدعى عليها الرابعة"؛ وكان قانون النقابات العمالية - بالنصوص التي تضمنها، والتي تحول دون تحصيل هذه الجهة لديونها - قد أعاقتها عن الرجوع بها على المنظمة النقابية العمالية، فإن هذه النصوص هي التي يتحدد بها نطاق الخصومة الدستورية؛ وكذلك إطار المسائل التي تُدعى هذه المحكمة للفصل فيها.
2 - إن الحقوق جميعها - وكذلك النظم القانونية التي تضمها - إنما تستمد أوصافها من مكوناتها، فلا يجوز أن يُخْرِجها المشرع عن طبيعتها من خلال مفاهيم قانونية يجريها عليها بما يناقض خصائصها، ويحور بنيانها.
3 - المنظمة النقابية العمالية - وعلى ما تنص عليه المادة 8 من قانون النقابات العمالية - تتوخى الدفاع عن مصالح أعضائها من العمال المنضمين إليها؛ وكذلك حماية حقوقهم المشروعة وتطوير أوضاع وشروط العمل؛ والنهوض بثقافتهم وتطوير كفايتهم المهنية؛ وحثهم على دعم المال العام وحماية الإنتاج؛ فضلاً عن رعايتهم صحياً واجتماعياً هم وعائلاتهم؛ وكانت المنظمة النقابية بالنظر إلى أغراضها هذه - وعلى ضوء طبيعتها وكيفية تكوينها - تعد من أشخاص القانون الخاص، فلا تباشر نشاطها أصلاً إلا وفقاً لقواعد هذا القانون، ولو كان المشرع قد منحها جانباً من خصائص السلطة العامة وامتيازاتها - كتلك التي تخولها حق اللجوء إلى الطريق الإداري لرد العدوان على أموالها - ذلك أن وسائل السلطة العامة التي تمارس المنظمة النقابية بعض جوانبها، لا تحيلها إلى جهة إدارية في مقوماتها، ولا تلحقها بها أو تجعلها من فروعها؛ بل تظل المنظمة العمالية - حتى مع تمتعها ببعض من خصائص السلطة العامة - محتفظة بعناصر تكوينها الخاص، والتي ينافيها اعتبار أموالها من الأموال العامة - لا في مجال محدد أو دائرة بذاتها تتصل بإعمال النصوص العقابية في شأن أموالها لردع مختلسيها أو من يستولون عليها دون حق أو يسهلون ذلك لآخرين - بل كذلك على صعيد غيرها من النصوص القانونية التي تؤمن أشكالاً أخرى من الحماية التي يقتضيها ضمان تحقيق المنظمة العمالية لأهدافها من خلال أموالها.
4 - الحماية التي أضفتها الفقرة الأولى من المادة 54 المطعون عليها، في شأن أموال المنظمات النقابية العمالية، والتي تتمثل في اعتبارها مشبهة حكماً بالأموال العامة في مجال قانون العقوبات وغيرها من القوانين، مؤداها إسباغ حصانة على أموال المنظمة النقابية تحيط بها؛ وكان المجال الطبيعي لهذه الحماية يقتضي انصرافها إلى نصوص قانون العقوبات دون غيرها صوناً لأموال المنظمة النقابية بما يردع مغتصبيها ويردهم عنها من خلال جزاء جنائي يقارن اختلاسها أو تبديدها، ويكفل إحكام الرقابة عليها وزجر المتلاعبين بها؛ فإن مجاوزة هذه الحماية لذلك المجال، يكون مناقضاً للدستور، ومنافياً لخصائص المنظمة النقابية العمالية ومقوماتها التي تلحقها بأشخاص القانون الخاص، وتخضعها لنظم هذا القانون.
5 - حق التقاضي يفترض ابتداء وبداهة أن لكل شخص - وطنياً أو أجنبياً - نفاذاً ميسراً إلى الجهات القضائية على اختلافها، فلا تُوصد أي منها أبوابها في وجهه، بل يكون الفصل في الخصومة التي يطرحها عليها مقتضياً عرضها على محكمة تتوافر لها - ومن خلال حيدتها واستقلالها وحصانة أعضائها، وعلى ضوء الأسس الموضوعية لضماناتها العملية - المقاييس المعاصرة التي توفر لكل شخص حقاً مكتملاً متكافئاً فيه مع غيره في مجال الفصل في الحقوق التي يدعيها إنصافاً، وعلانية، وخلال مدة لا تستطيل دون مبرر، وبمراعاة أن تشكيل المحكمة، وقواعد تنظيمها، وطبيعة الضوابط الموضوعية والإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها عملاً، هي التي تقيم لها صحيح بنيانها.
6 - لحق التقاضي غاية نهائية يتوخاها، تمثلها الترضية القضائية التي يناضل المتقاضون من أجل الحصول عليها لجبر الأضرار التي أصابتهم من جراء العدوان على الحقوق التي يدعونها. وتندمج هذه الترضية - وبافتراض اتساقها مع أحكام الدستور والقانون - في الحق في التقاضي باعتبارها الحلقة الأخيرة فيه، ولأنها ترتبط بصلة وثقى بالأغراض النهائية التي تستهدفها الخصومة القضائية. ذلك أن هذه الخصومة لا يقيمها ذوو الشأن فيها للدفاع عن مصالح عقيمة نظرية في طبيعتها وخصائصها؛ وإنما غايتها اقتضاء منفعة يقرها القانون، وبها تحقيق للخصومة القضائية جوانبها العملية، فلا تعمل في فراغ.
7 - إنكار الحق في الترضية القضائية - سواء بمنعها ابتداء؛ أو من خلال إرهاقها بقيود تُعَسَّر الحصول عليها؛ أو عن طريق تباطؤ ملحوظ في تقديمها؛ مؤداه أن من يطلبونها لا يقتضونها في وقتها الملائم، أو يردون أصلاً عنها؛ أو يحصلون على قدر منها بعد انتقاصها من أطرافها، مما يعتبر إهداراً للحماية التي كفلها الدستور أو المشرع للحقوق على اختلافها، وإنكاراً لحقائق العدل في جوهر ملامحها وتوجهاتها.
8، 9 - الترضية القضائية التي لا تقترن بوسائل الحمل على تنفيذها، تفقد قيمتها عملاً. وكلما تعذر قهر المدين على أداء الحقوق التي ماطل في إيفائها لأصحابها؛ وكان سند اقتضائها مستوفياً قوة نفاذه؛ فإن إعمال مبدأ الخضوع للقانون يكون سراباً؛ ويغدو عبثاً كذلك تأسيس حقائق العدل وتثبيتها من خلال مباشرة السلطة القضائية لولايتها التي حدد الدستور والمشرع تخومها؛ وغايتها إيصال الحقوق لأصحابها، وحمل من ينازعون فيها إعناتاً على ردها؛ تقديراً بأن الحماية القضائية للحق أو الحرية، لازمها أن يكون الطريق إليها عبوراً إلى محصلتها النهائية، وانتقالاً من مرحلة التداعي بشأن الحق أو الحرية المتنازع عليها، إلى أشكال ضمانها، ومنها إلى وسائل فرضها على من يجحدونها؛ فلا يكون النزول عليها - ولو باستعمال القوة عند الضرورة - إلا أمراً كامناً في خصائص الحق أو الحرية التي قام الدليل على الإخلال بها، وكان العدوان عليها موضوع الخصومة القضائية، وصونها غايتها.
10، 11 - دستورية النصوص القانونية، مناطها ارتباطها عقلاً بالأغراض التي تتوخاها، والتي تبلور إطاراً لمصلحة مشروعة تحيط بها. فإذا كان اتصال هذه النصوص بالأغراض التي تبتغيها - وبافتراض مشروعيتها - مفتقداً أو واهياً، كان إبطال هذه النصوص لازماً؛ وكانت الأموال التي يملكها المدين - سواء كان شخصاً طبيعياً أو اعتبارياً - يشملها الضمان العام لدائنيه، فإن ردهم عنها بنص تشريعي - ودون مسوغ - مؤداه أن يكون هذا النص باطلاً.
12 - الفقرة الثانية من المادة 54 المطعون عليها، تحول بذاتها دون الحجز على مقار المنظمة النقابية وأثاثها ومعداتها، وكذلك أموالها اللازمة لمباشرة نشاطها؛ وكانت الأغراض التي تقوم المنظمة النقابية عليها - مع تعددها وتنوعها واتساعها - تقتضيها أن تعمل على إشباعها بكل الوسائل التي تملكها، ومن بينها استخدامها لأموالها في مجموعها بما يعود بالفائدة على أعضائها، سواء تعلق الأمر بصونها لعناصر هذه الأموال أو إنمائها، فإن أموالها تلك، تكون بأكملها ضرورية لمباشرتها لنشاطها، فلا يبقى بعدئذ شيء منها لدائنيها، ولن تكون الأحكام القضائية الصادرة لصالحهم غير أوراق مهملة لا قيمة لها، بما يجرد الحقوق التي كفلتها من قوة نفاذها.
ولا يعدو ذلك أن يكون عدواناً بئيساً على حق التقاضي؛ وتدخلاً غير مباشر في شئون العدالة بما يناقض متطلباتها؛ وإفراداً لأي منظمة نقابية - ودون مسوغ - بمعاملة تفضيلية تختص بها دون غيرها من أشخاص القانون الخاص في مجال الرجوع عليها بالديون المترتبة في ذمتها.


الإجراءات

بتاريخ الثاني والعشرين من أبريل سنة 1996، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طلباً للحكم بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة 54 من قانون النقابات العمالية الصادر بالقانون رقم 35 لسنة 1976.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعى عليها الرابعة، كانت قد أقامت الدعوى رقم 5710 لسنة 1994 مستعجل القاهرة ضد البنك المدعي ابتغاء القضاء بعدم الاعتداد بالحجز الموقع منه بتاريخ 17/ 7/ 1994 على رصيد اللجنة النقابية للعاملين بسكك حديد مصر، المودع لدى الفرع الرئيسي لبنك العمال وقدره 79761.84 جنيهاً؛ وذلك على سند أن البنك المدعي يداين اللجنة بأكثر من المبلغ المحجوز من أجله؛ وقد حَلَّ أجل الوفاء بالدين في 31/ 12/ 1993. وإذ تقاعست اللجنة المدينة عن السداد؛ فقد أوقع المدعي الحجز الإداري على رصيدها لدى البنك المحجوز تحت يده؛ وإذ يعد هذا الرصيد من قبيل أموال المنظمة النقابية اللازمة لمباشرة نشاطها؛ فإن الحجز عليه - في تقديرها - يكون غير جائز عملاً بنص الفقرة الثانية من المادة 54 من قانون النقابات العمالية. وبتاريخ 14/ 11/ 1997 قررت المحكمة إحالة الدعوى إلى محكمة قصر النيل الجزئية، وقيدت بجدولها برقم 2480 لسنة 1996 تنفيذ قصر النيل. وأثناء نظرها، دفع المدعي بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 54 من قانون النقابات العمالية. وبعد تقديرها جدية الدفع، خولت محكمة الموضوع المدعي إقامة دعواه الدستورية، فأقامها.
وحيث إن الفقرة الثانية من المادة 54 من قانون النقابات العمالية الصادر بالقانون رقم 35 لسنة 1976 - المطعون عليها - لا تجيز الحجز على مقار المنظمات النقابية أو أثاثها أو معداتها أو الأموال اللازمة لمباشرة نشاطها.
وحيث إن المدعي ينعي على النص المطعون عليه مخالفته أحكام المادتين 40 و68 من الدستور، وذلك تأسيساً على أن إخلال المدين بالوفاء بالدين اختياراً، يخول دائنه أن يقتضيه منه جبراً. كذلك، فإن حظر إيقاع الحجز على أموال المدين في مجموعها، إنما يعطل الضمان العام لدائنيه، ويفرغ الخصومة القضائية - وهي الوسيلة التي رسمها المشرع لحماية الحق أو الحرية - من مضمونها؛ ويمايز - دون مسوغ - بين المنظمة النقابية العمالية - في مجال الرجوع عليها بالديون المترتبة في ذمتها - وبين غيرها من الجهات المدينة.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها ارتباطها عقلاً بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الحكم في المسائل الدستورية، لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها؛ وكان النزاع الموضوعي متعلقاً بديون استحقتها الجهة المصرفية قبل المنظمة النقابية العمالية "المدعى عليها الرابعة"؛ وكان قانون النقابات العمالية - بالنصوص التي تضمنها، والتي تحول دون تحصيل هذه الجهة لديونها - قد أعاقتها عن الرجوع بها على المنظمة النقابية العمالية، فإن هذه النصوص هي التي يتحدد بها نطاق الخصومة الدستورية؛ وكذلك إطار المسائل التي تُدعى هذه المحكمة للفصل فيها.
وحيث إن المادة 54 من قانون النقابات العمالية الصادر بالقانون رقم 35 لسنة 1976 تنص في فقرتيها الأولى والثانية على ما يأتي:
فقرة أولى: "مع مراعاة الأحكام الواردة في هذا القانون واللوائح والأنظمة الأساسية الصادرة تنفيذاً له، تعتبر أموال المنظمات النقابية أموالاً عامة "بصفة خاصة" فيما يتعلق بتطبيق أحكام قانون العقوبات.
فقرة ثانية: ولا يجوز الحجز على مقار المنظمات النقابية أو الأثاثات أو المعدات أو الأموال اللازمة لمباشرة نشاطها".
وحيث إن مؤدى هاتين الفقرتين مترابطتين، أنه فيما عدا ما ورد في قانون النقابات العمالية من أحكام خاصة في شأن أموالها، كتلك التي تنص على عدم جواز الحجز على الأموال اللازمة لمباشرة نشاطها؛ فإن أصلاً يحيط بأموال هذه المنظمات وينبسط عليها، يقتضي اعتبارها من الأموال العامة - لا في مجال تطبيق أحكام قانون العقوبات وحدها - ولكنها تكون كذلك في غير ذلك من صور الحماية التي تتعلق بها.
وحيث إن المدعي وإن طعن بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة 54 من قانون النقابات العمالية، إلا أن ربطها بالفقرة الأولى من هذه المادة، يبلور إطار الحماية التي كفلها هذا القانون لأموالها، ويتعين بالتالي قراءتهما معاً.
وحيث إن الحقوق جميعها - وكذلك النظم القانونية التي تضمها - إنما تستمد أوصافها من مكوناتها، فلا يجوز أن يُخْرِجها المشرع عن طبيعتها من خلال مفاهيم قانونية يجربها عليها بما يناقض خصائصها، ويحور بنيانها.
وحيث إن المنظمة النقابية العمالية - وعلى ما تنص عليه المادة 8 من قانون النقابات العمالية - تتوخى الدفاع عن مصالح أعضائها من العمال المنضمين إليها؛ وكذلك حماية حقوقهم المشروعة وتطوير أوضاع وشروط العمل؛ والنهوض بثقافتهم وتطوير كفايتهم المهنية؛ وحثهم على دعم المال العام وحماية الإنتاج؛ فضلاً عن رعايتهم صحياً واجتماعياً هم وعائلاتهم؛ وكانت المنظمة النقابية بالنظر إلى أغراضها هذه - وعلى ضوء طبيعتها وكيفية تكوينها - تعد من أشخاص القانون الخاص، فلا تباشر نشاطها أصلاً إلا وفقاً لقواعد هذا القانون، ولو كان المشرع قد منحها جانباً من خصائص السلطة العامة وامتيازاتها - كتلك التي تخولها حق اللجوء إلى الطريق الإداري لرد العدوان على أموالها - ذلك أن وسائل السلطة العامة التي تمارس المنظمة النقابية بعض جوانبها، ولا تحيلها إلى جهة إدارية في مقوماتها، ولا تلحقها بها أو تجعلها من فروعها؛ بل تظل المنظمة العمالية - حتى مع تمتعها ببعض من خصائص السلطة العامة - محتفظة بعناصر تكوينها الخاص، التي ينافيها اعتبار أموالها من الأموال العامة - لا في مجال محدد أو دائرة بذاتها تتصل بإعمال النصوص العقابية في شأن أموالها لردع مختلسيها أو من يستولون عليها دون حق أو يسهلون ذلك لآخرين - بل كذلك على صعيد غيرها من النصوص القانونية التي تؤمن أشكالاً أخرى من الحماية التي يقتضيها ضمان تحقيق المنظمة العمالية لأهدافها من خلال أموالها.
وحيث إنه متى كان ذلك؛ وكانت الحماية التي أضفتها الفقرة الأولى من المادة 54 المطعون عليها، في شأن أموال المنظمات النقابية العمالية، والتي تتمثل في اعتبارها مشبهة حكماً بالأموال العامة في مجال قانون العقوبات وغيره من القوانين، مؤداها إسباغ حصانة على أموال المنظمة النقابية تحيط بها؛ وكان المجال الطبيعي لهذه الحماية يقتضي انصرافها إلى نصوص قانون العقوبات دون غيرها صوناً لأموال المنظمة النقابية بما يردع مغتصبيها ويردهم عنها من خلال جزاء جنائي يقارن اختلاسها أو تبديدها، ويكفل إحكام الرقابة عليها وزجر المتلاعبين بها؛ فإن مجاوزة هذه الحماية لذلك المجال، يكون مناقضاً للدستور، ومنافياً لخصائص المنظمة النقابية العمالية ومقوماتها التي تلحقها بأشخاص القانون الخاص، وتخضعها لنظم هذا القانون.
وحيث إن حق التقاضي يفترض ابتداء وبداهة أن لكل شخص - وطنياً أو أجنبياً - نفاذاً ميسراً إلى الجهات القضائية على اختلافها، فلا تُوصد أي منها أبوابها في وجهه، بل يكون الفصل في الخصومة التي يطرحها عليها مقتضياً عرضها على محكمة تتوافر لها - ومن خلال حيدتها واستقلالها وحصانة أعضائها، وعلى ضوء الأسس الموضوعية لضماناتها العملية - المقاييس المعاصرة التي توفر لكل شخص حقاً مكتملاً متكافئاً فيه مع غيره في مجال الفصل في الحقوق التي يدعيها إنصافاً، وعلانية، وخلال مدة لا تستطيل دون مبرر، وبمراعاة أن تشكيل المحكمة، وقواعد تنظيمها، وطبيعة الضوابط الموضوعية والإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها عملاً، هي التي تقيم لها صحيح بنيانها.
وحيث إن لحق التقاضي غاية نهائية يتوخاها، تمثلها الترضية القضائية التي يناضل المتقاضون من أجل الحصول عليها لجبر الأضرار التي أصابتهم من جراء العدوان على الحقوق التي يدعونها. وتندمج هذه الترضية - وبافتراض اتساقها مع أحكام الدستور والقانون - في الحق في التقاضي باعتبارها الحلقة الأخيرة فيه، ولأنها ترتبط بصلة وثقى بالأغراض النهائية التي تستهدفها الخصومة القضائية. ذلك أن هذه الخصومة لا يقيمها ذوو الشأن فيها للدفاع عن مصالح عقيمة نظرية في طبيعتها وخصائصها؛ وإنما غايتها اقتضاء منفعة يقرها القانون، وبها تحقيق للخصومة القضائية جوانبها العملية، فلا تعمل في فراغ.
وحيث إن إنكار الحق في الترضية القضائية - سواء بمنعها ابتداء؛ أو من خلال إرهاقها بقيود تُعَسِّر الحصول عليها؛ أو عن طريق تباطؤ ملحوظ في تقديمها - مؤداه أن من يطلبونها لا يقتضونها في وقتها الملائم، أو يردون أصلاً عنها؛ أو يحصلون على قدر منها بعد انتقاصها من أطرافها، مما يعتبر إهداراً للحماية التي كفلها الدستور أو المشرع للحقوق على اختلافها، وإنكاراً لحقائق العدل في جوهر ملامحها وتوجهاتها.
وحيث إن الترضية القضائية التي لا تقترن بوسائل الحمل على تنفيذها، تفقد قيمتها عملاً. وكلما تعذر قهر المدين على أداء الحقوق التي ماطل في إيفائها لأصحابها؛ وكان سند اقتضائها مستوفياً قوة نفاذه؛ فإن إعمال مبدأ الخضوع للقانون يكون سراباً؛ ويغدو عبثاً كذلك تأسيس حقائق العدل وتثبيتها من خلال مباشرة السلطة القضائية لولايتها التي حدد الدستور والمشرع تخومها؛ وغايتها إيصال الحقوق لأصحابها، وحمل من ينازعون فيها إعناتاً على ردها؛ تقديراً بأن الحماية القضائية للحق أو الحرية، لازمها أن يكون الطريق إليها عبوراً إلى محصلتها النهائية، وانتقالاً من مرحلة التداعي بشأن الحق أو الحرية المتنازع عليها، إلى أشكال ضمانها، ومنها إلى وسائل فرضها على من يجحدونها؛ فلا يكون النزول عليها - ولو باستعمال القوة عند الضرورة - إلا أمراً كامناً في خصائص الحق أو الحرية التي قام الدليل على الإخلال بها، وكان العدوان عليها موضوع الخصومة القضائية، وصونها غايتها.
وحيث إن من المقرر كذلك أن أموال المدين جميعها ضامنة للوفاء بديونه، وأن الدائنين جميعهم متكافئون في هذا الضمان، عدا من كل منهم مخولاً حق التقدم على غيره طبقاً للقانون. وكان الأصل جواز التنفيذ على أموال المدين بأكملها، وأن يتخذ الدائن بشأنها ما يراه من الطرق التحفظية والتنفيذية؛ وكانت دستورية النصوص القانونية، مناطها ارتباطها عقلاً بالأغراض التي تتوخاها، والتي تبلور إطاراً لمصلحة مشروعة تحيط بها. فإذا كان اتصال هذه النصوص بالأغراض التي تبتغيها - وبافتراض مشروعيتها - مفتقداً أو واهياً، كان إبطال هذه النصوص لازماً؛ وكانت الأموال التي يملكها المدين - سواء كان شخصاً طبيعياً أو اعتبارياً - يشملها الضمان العام لدائنيه، فإن ردهم عنها بنص تشريعي - ودون مسوغ - مؤداه أن يكون هذا النص باطلاً.
وحيث إن الفقرة الثانية من المادة 54 المطعون عليها تحول بذاتها دون الحجز على مقار المنظمة النقابية وأثاثها ومعداتها، وكذلك أموالها اللازمة لمباشرة نشاطها؛ وكانت الأغراض التي تقوم المنظمة النقابية عليها - مع تعددها وتنوعها واتساعها - تقتضيها أن تعمل على إشباعها بكل الوسائل التي تملكها، ومن بينها استخدامها لأموالها في مجموعها بما يعود بالفائدة على أعضائها، سواء تعلق الأمر بصونها لعناصر هذه الأموال أو إنمائها، فإن أموالها تلك، تكون بأكملها ضرورية لمباشرتها لنشاطها، فلا يبقى بعدئذ شيء منها لدائنيها، ولن تكون الأحكام القضائية الصادرة لصالحهم غير أوراق مهملة لا قيمة لها، بما يجرد الحقوق التي كفلتها من قوة نفاذها.
ولا يعدو ذلك أن يكون عدواناً بئيساً على حق التقاضي؛ وتدخلاً غير مباشر في شئون العدالة بما يناقض متطلباتها؛ وإفراداً لأي منظمة نقابية - ودون مسوغ - بمعاملة تفضيلية تختص بها دون غيرها من أشخاص القانون الخاص في مجال الرجوع عليها بالديون المترتبة في ذمتها؛ ومن ثم إخلالاً بأحكام المواد 40، 65، 68، 165 من الدستور.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة:
أولاً: بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 54 من قانون النقابات العمالية الصادر بالقانون رقم 35 لسنة 1976، وذلك فيما نصت عليه من اعتبار أموال المنظمة النقابية العمالية أموالاً عامة في غير مجال تطبيق قانون العقوبات.
ثانياً: بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 54 من هذا القانون وذلك فيما نصت عليه من عدم جواز الحجز على الأموال اللازمة لمباشرة المنظمة النقابية العمالية لنشاطها.
ثالثاً: بإلزام الحكومة المصروفات، ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.