أحكام المحكمة الدستورية العليا - الجزء الثامن
من أول يوليو 1996 حتى آخر يونيو 1998 - صـ 1302

جلسة 9 مايو 1998

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر - رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: حمدي محمد علي والدكتور عبد المجيد فياض وماهر البحيري ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله، وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي - رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر - أمين السر.

قاعدة رقم (98)
القضية رقم 41 لسنة 19 قضائية "دستورية"

1 - دعوى دستورية "المصلحة الشخصية المباشرة: مناطها".
مناط المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - هو ارتباطها عقلاً بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي - ذلك بأن يكون الفصل في المسائل الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها.
2 - تنفيذ جبري - تشريع "قانون الحجز الإداري رقم 308 لسنة 1955":
الأصل أن التنفيذ قسراً لاقتضاء الحقوق استثناءً لا يتم بغير سند تنفيذي - قانون الحجز الإداري يعتبر استثناء من القواعد التي تضمنها قانون المرافعات في شأن التنفيذ الجبري - اتخاذ جهة الإدارة بذاتها - وفقاً له - قراراً باقتضاء مستحقاتها يكون معادلاً لسند التنفيذ بها جبراً، ومتضمناً تحديداً من جانبها للحقوق التي تدعيها من حيث مصدرها أو مقدارها.
3 - مرافق عامة "أموال: إدارة":
إدارة أموال المرافق العامة تغاير أوضاع الدومين الخاص وطرق تنظيمها - ضبط ماليتها وفق معايير جامدة تحول دون مجاوزة تقديراتها، أو استخداماتها في غير الأغراض المرصودة عليها.
4 - مرفق عام "مصلحة عامة - وسائل القانون العام":
اتصال الأعمال التي ينهض بها المرفق العام بالمصلحة العامة - كفالة إشباعها من خلال وسائل القانون العام - جواز قيام أحد أشخاص هذا القانون عليها ابتداء أو أن يعهد بها إلى غيره.
5 - مرفق عام "قضاء مقارن":
اطراد القضاء المقارن على أن العمال غير المتصلة بالمصلحة العامة لا تعتبر مرفقاً عاماً - كذلك تلك التي تكون ربحيتها غرضاً مقصوداً.
6 - دومين خاص "إدارة":
أموال هذا الدومين مشبهة في خصائصها ونظامها القانوني بالملكية الخاصة - إدارتها تتم بوسائل القانون الخاص.
7 - مرفق عام "موضوع الأعمال":
المرفق العام لا يكون كذلك إلا بالنظر إلى موضوع الأعمال التي يباشرها ومردودها ونظم إدارتها.
8 - بنوك "طبيعة أعمالها - قانون خاص":
قيام البنوك - ومن بينها بنك التنمية الصناعية - بأعمال مصرفية بحتة - خضوع هذه الأعمال لقواعد القانون الخاص بالنظر إلى طبيعتها ولو كان رأس مال البنك مملوكاً للدولة كله أو بعضه.
9 - تشريع "قانون الحجز الإداري: نطاق تطبيقه":
الطبيعة الاستثنائية لقواعد الحجز الإداري تقتضي أن يكون نطاق تطبيقها مرتبطاً بأهدافها، ومتصلاً بتسيير الإدارة لمرافقها.
10 - تشريع "البند ط من المادة الأولى من قانون الحجز الإداري: مخالفة مبدأ الخضوع للقانون":
بسط هذا البند قواعد الحجز الإداري في شأن تحصيل الديون التي تطلبها البنوك من عملائها يخل بمبدأ الخضوع للقانون - افتراض هذا المبدأ تقيد أشخاص القانون الخاص في نشاطها المصرفي بقواعد ووسائل هذا القانون دون غيرها.
1 - المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها ارتباطها عقلاً بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الفصل في المسائل الدستورية التي تدعى هذه المحكمة لحسمها، لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها؛ وكان النزاع الموضوعي يتعلق بقيام بنك التنمية الصناعية بتوقيع حجز على أموال يملكها المدعي إعمالاً للبند ط من المادة الأولى من القانون رقم 308 لسنة 1955 في شأن الحجز الإداري التي تجيز إتباع إجراءات الحجز الإداري التي بينها هذا القانون لاستيفاء المبالغ التي تستحقها البنوك التي تساهم الحكومة في رءوس أموالها بما يزيد على نصفها، وكان المدعي قد دفع أثناء نظر دعواه الموضوعية التي طلب فيها الحكم ببطلان إجراءات الحجز التي وقعها بنك التنمية الصناعية على الأموال التي يملكها، بعدم دستورية البند ط من المادة الأولى من قانون الحجز الإداري؛ وكان نطاق الدعوى الدستورية يتحدد بنطاق الدفع المبدي أمام محكمة الموضوع، فإن المسائل الدستورية التي تُدعى هذه المحكمة للفصل فيها والتي تتصل بها مصلحته الشخصية المباشرة، إنما تتحدد على ضوء الأحكام التي تضمنها هذا البند دون نص المادة الثانية من هذا القانون التي أقحمها المدعي في صحيفة دعواه الدستورية.
2 - الأصل في الحقوق إلى يقتضيها أصحابها جبراً من المدينين بها، هو أن يكون حملهم على إيفائها من خلال وسائل التنفيذ التي رسمها قانون المرافعات المدنية والتجارية، وقوامها أن التنفيذ قسراً لاقتضائها يلحق أصلاً بالمدين بها آثاراً خطيرة لا يجوز أن يتحملها، إلا إذا كان بيد دائنه - وقبل البدء في التنفيذ - سند به؛ وهو ما يعني أن الحق في التنفيذ لا يوجد بغير سند تنفيذي.
إن قانون الحجز الإداري - وعلى ما تنص عليه المادة 75 منه - يعتبر استثناء من القواعد التي تضمنها قانون المرافعات المدنية والتجارية في شأن التنفيذ الجبري، ذلك أن القواعد التي رسمها قانون الحجز الإداري لإجراءاته، تعتبر أصلاً يحكمها، فلا ينظمها قانون المرافعات المدنية والتجارية إلا في المسائل التي لا نص عليها في قانون الحجز الإداري، وبما لا يتعارض مع أحكام هذا القانون. وقد تمثل الخروج على القواعد التي حددها قانون المرافعات المدنية والتجارية للتنفيذ الجبري، فيما تنص عليه المادة الثانية من قانون الحجز الإداري، من أن إجراءات هذا الحجز يجوز اتخاذها بناء على أمر مكتوب صادر من الوزير أو رئيس المصلحة أو المحافظ أو المدير أو ممثل الشخص الاعتباري العام حسب الأحوال، أو من ينيبه كل من هؤلاء في ذلك كتابة؛ بما مؤداه أن تتخذ جهة الإدارة بنفسها - ومن أجل الحصول على مستحقاتها - قراراً باقتضائها يكون معادلاً لسند التنفيذ بها جبراً؛ ومتضمناً تحديداً من جانبها للحقوق التي تدعيها سواء تعلق الأمر بمصدرها أو بمقدارها؛ وهو ما يعني أن يكون تقديرها - وقد أفرغ في شكل قرار صادر عنها - سنداً تنفيذياً.
3 - من المقرر، أن المرافق العامة إنما تتوخى إشباع أغراض بذواتها تقتضيها خصائص نشاطها التي تقدر معها الجهة التي أنشأتها - وسواء أكان تقديرها صائباً أو مخطئاً - أن أشخاص القانون الخاص لا يقوون على مباشرة الأعمال التي تنهض بها، أو ينفرون منها، أو قد يديرونها وفق نظم لا تلائمها. ومن ثم تقرر هذه الجهة - وهي بالضرورة من أشخاص القانون العام - تنظيمها بما يكفل سريان نظام قانوني خاص عليها، سواء في شأن علاقتها بالعاملين فيها؛ أو على صعيد عقودها؛ أو قواعد مسئوليتها؛ أو طرق محاسبتها، أو الجهة القضائية التي تنفرد بالفصل في منازعاتها.
وكلما تعلق الأمر بأموال هذه المرافق، فإن إدارتها تغاير أوضاع الدومين الخاص وطرق تنظيمها. ذلك أن ماليتها تضبطها معايير جامدة تحول دون مجاوزة تقديراتها، أو استخدامها في غير الأغراض المرصودة عليها.
4 - مفهوم المرفق العام، إنما يتحدد أصلاً بالنظر إلى طبيعة الأعمال التي يتولاها la notion matérielle، سواء أكان الانتفاع بها حقاً للمواطنين في مجموعهم أم كان مقصوراً على بعضهم، ويفترض وجود هذا المرفق، عدداً من العناصر، أرجحها أن الأعمال التي ينهض بها، ينبغي أن تتصل جميعها - من جهة غايتها - بالمصلحة العامة، وأن يكون إشباعها مكفولاً أصلاً من خلال وسائل القانون العام les procédés de droit public؛ ومقتضياً تدخلاً من أحد أشخاص هذا القانون، سواء قام عليها ابتداء، أو عهد بها إلى غيره.
بيد أن شرط المصلحة العامة وإن كان كامناً في فكرة المرفق العام، ويعتبر مفترضاً أولياً لوجوده، إلا أن هذا الشرط ليس كافياً، ذلك أن المشروع قد يكون اقتصادياً متوخياً إشباع أغراض لها صلة وثقى بهذه المصلحة، ولا يعتبر مع هذا مرفقاً عاماً. وإنما يكون المشروع كذلك إذا استهدفها، وكان تحقيقها قد تم من خلال تدخل أحد أشخاص القانون العام إيجابياً في الشئون التي يقوم عليها، وليس لازماً أن يكون هذا التدخل عن طريق الاستغلال المباشر.
5، 6، 7 - إن القضاء المقارن، يؤكد اطراده على أن الأعمال التي تفقد اتصالها بالمصلحة العامةétrangére à l’intêret public، وكذلك تلك التي تكون ربحيتها le but lucratif غرضاً مقصوداً أصلاً من مباشرتها، لا تعتبر مرفقاً عاماً، على تقدير أن هذه المرافق لا تباشر نشاطها أصلاً إلا من خلال خضوعها لقواعد القانون العام، وحتى عند من يقولون بأن هذا القانون ليس بالضرورة قانون هذه المرافق، وأن من الأفضل التركيز على لجوئها إلى وسائل القانون العام فيما تتولاه من الأعمال، فإن إدارة أموال الدومين الخاص la gestion domaniales تظل نائية بطبيعتها عن مفهوم المرفق العام، بالنظر إلى أن هذه الأموال مشبهة - في خصائصها ونظامها القانوني - بالملكية الخاصة، وأن إدارتها لا تتم أصلاً إلا بوسائل القانون الخاص التي تلائم أغراض استخدامها واستثمارها.
إذ ذلك مؤداه، أن المرفق العام لا يكون كذلك إلا بالنظر إلى موضوع الأعمال التي يباشرها l’objet de service؛ ومردودها rentabilité؛ ونظم إدارتها Fonctionnement، وأن ما يعتبر معياراً مادياً لهذا المرفق le sens matériel ou objectif إنما يتصل بطبيعة الأعمال التي يؤديها، ولا يجوز بالتالي أن تختلط بالجهة التي تقوم على إدارتها le sens organique ou formel، فقد تكون شخصاً عاماً، أو يعهد بها إلى أحد أشخاص القانون الخاص.
8 - إن الأعمال التي تقوم عليها البنوك بوجه عام - ويندرج تحتها بنك التنمية الصناعية - وهو الجهة الحاجزة - تعتبر جميعها من قبيل الأعمال المصرفية التي تعتمد أصلاً على تنمية الادخار والاستثمار وتقديم خدماتها الائتمانية لمن يطلبها، وأعمالها هذه - وبالنظر إلى طبيعتها - تخضعها لقواعد القانون الخاص، وهي تباشرها بوسائل هذا القانون ولو كان رأس مالها مملوكاً - كلياً أو جزئياً - للدولة، إذ لا صلة بين الجهة التي تملك أموالها، وموضوع نشاطها؛ ولا بطرائقها في تسييره؛ وليس من شأن هذه الملكية أن تحيل نشاطها عملاً إدارياً، أو منفصلاً عن ربحيتها باعتبارها غرضاً نهائياً تتغياه، بل هو مطلبها من تنظيمها لأعمالها وتوجيهها لها.
9، 10 - إن القواعد التي تضمنها قانون الحجز الإداري، غايتها أن تكون بيد أشخاص القانون العام وسائل ميسرة تمكنها من تحصيل حقوقها - وعلى الأخص تلك التي تقابل أعمالاً بذلتها أو تدابير اتخذتها - فلا يتقيد اقتضاؤها جبراً عن مدينيها بالقواعد التي فصلها قانون المرافعات المدنية والتجارية في شأن التنفيذ الجبري، وإنما تعتبر استثناء منها، وامتيازاً مقرراً لصالحها يجعلها دائماً في مركز المدعى عليه. ذلك أن قرار جهة الإدارة بإسناد ديون تدعيها إلى آخرين، يفيد أن قولها بوجودها وتحديدها لمقدارها، يعتبر سنداً تنفيذياً بها، يغنيها عن اللجوء إلى القضاء لإثباتها، فلا يبقى مركزها مساوياً لمركز مدينيها، بل يكون قرارها بالديون التي تطلبها منهم، سابقاً على التدليل عليها من جهتها du privilége prealable، وناقلاً إليهم مهمة نفيها.
إن الطبيعة الاستثنائية لقواعد الحجز الإداري، تقتضي أن يكون نطاق تطبيقها مرتبطاً بأهدافها، ومتصلاً بتسيير جهة الإدارة لمرافقها، فلا يجوز نقل هذه القواعد إلى غير مجالها، ولا إلباسها ثوباً مجافياً لحقيقتها، وعلى الأخص بالنظر إلى أن الديون التي تدعيها تعامل بافتراض ثبوتها في حق من تراهم ملتزمين بها أو مسئولين عنها.
وإذا جاز هذا الافتراض في شأن ديون تطلبها جهة الإدارة لنفسها، وتقتضيها بوسائل استثنائية في طبيعتها، تجاوز بها ما يكون مألوفاً من صور التعامل في علائق الأفراد بعضهم ببعض، إلا أن بسطها وتقرير سريانها في شأن ما ينشأ عن العمليات المصرفية التي تباشرها البنوك من ديون تدعيها قبل عملائها - والأصل فيها التحوط لأدلتها وتهيئتها وتوثيقها؛ وتكافؤ أطرافها في مجال إثباتها ونفيها - مؤداه إلحاق نشاطها - في هذا النطاق - بالأعمال التي ينهض عليها المرفق العام، واعتبارها من جنسها، وإخضاع تحصيل الديون التي تطلبها من عملائها - ودون مقتض - لقواعد تنافي بصرامتها، مرونة عملياتها وتجاريتها، واطمئنان عملائها إليها فيما يحصلون عليه من ائتمان منها.
إن النص المطعون فيه، يكون بذلك مخالفاً لنص المادة 65 من الدستور، ذلك أن مبدأ الخضوع للقانون المقرر بها، يفترض تقيد أشخاص القانون الخاص في مجال نشاطها المصرفي بقواعد ووسائل هذا القانون دون غيرها، فلا يكون الخروج عليها إلا لضرورة، وبقدرها.


الإجراءات

بتاريخ 6 مارس سنة 1997، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالباً الحكم بعدم دستورية الفقرة (9) من المادة الأولى من قانون الحجز الإداري رقم 308 لسنة 1955 وكذلك مادته الثانية.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعي كان قد أقام الدعويين رقمي 273 لسنة 1995، 275 لسنة 1995 مدني مركز الجيزة ضد المدعى عليه الثاني بصفته وكذلك ورثة المرحوم محمود أحمد أنور طالباً في الدعوى الأولى الحكم برفع الحجز عن ممتلكاته المتمثلة في حق انتفاعه بالأرض المبينة بصحيفة تلك الدعوى وما عليها من مبان يملكها وإلغاء أمر الحجز الإداري الصادر بتاريخ 5/ 1/ 1995؛ وفي الدعوى الثانية الحكم بتثبيت ملكيته لحق الانتفاع بالعقار المذكور وبإلغاء إجراءات الحجز الإداري التي تمت عليه. وأثناء نظر الدعويين - بعد ضمهما - دفع المدعي بعدم دستورية الفقرة (9) من المادة الأولى من قانون الحجز الإداري رقم 308 لسنة 1955، وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية دفعه، وخولته رفع الدعوى الدستورية، فقد أقامها.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها ارتباطها عقلاً بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الفصل في المسائل الدستورية التي تدعى هذه المحكمة لحسمها، لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها؛ وكان النزاع الموضوعي يتعلق بقيام بنك التنمية الصناعية بتوقيع حجز على أموال يملكها المدعي إعمالاً للبند ط من المادة الأولى من القانون رقم 308 لسنة 1955 في شأن الحجز الإداري التي تجيز إتباع إجراءات الحجز الإداري التي بينها هذا القانون لاستيفاء المبالغ التي تستحقها البنوك التي تساهم الحكومة في رءوس أموالها بما يزيد على نصفها، وكان المدعي قد دفع أثناء نظر دعواه الموضوعية التي طلب فيها الحكم ببطلان إجراءات الحجز التي وقعها بنك التنمية الصناعية على الأموال التي يملكها، بعدم دستورية البند ط من المادة الأولى من قانون الحجز الإداري؛ وكان نطاق الدعوى الدستورية يتحدد بنطاق الدفع المبدي أمام محكمة الموضوع، فإن المسائل الدستورية التي تُدعى هذه المحكمة للفصل فيها والتي تتصل بها مصلحته الشخصية المباشرة، إنما تتحدد على ضوء الأحكام التي تضمنها هذا البند دون نص المادة الثانية من هذا القانون التي أقحمها المدعي في صحيفة دعواه الدستورية.
وحيث إن المدعي ينعي على البند (ط) المطعون عليه، مخالفته للمواد 40 و64 و65 و68 من الدستور، وذلك من الوجوه الآتية:
1 - إن هذا البند لا يخول البنوك جميعها حق اتخاذ إجراءات الحجز الإداري للحصول على مستحقاتها التي أخل مدينوها بإيفائها في مواعيدها، وإنما منح هذا الامتياز لفئة من بينها، هي تلك التي تساهم الحكومة في رؤوس أموالها بأكثر من نصفها.
2 - إن إجراءات الحجز الإداري تعتبر امتيازاً استثنائياً مقرراً لجهة الإدارة، ولضرورة تحصيل أموالها، فلا يجوز أن ينقل المشرع هذا الامتياز إلى غيرها، وإلا كان ذلك منافياً مبدأ الخضوع للقانون.
3 - إن حق التقاضي مؤداه، أن يكون اقتضاء الحقوق من خلال السلطة القضائية التي تُعْمِل نظرتها المحايدة فصلاً فيما يثور من نزاع بشأنها. ولا كذلك إجراءات الحجز الإداري التي يكون بها الدائن خصماً وحكماً في آن واحد.
وحيث إن النظام المصرفي في مصر تتولاه أصلاً شركات مساهمة تعتبر من أشخاص القانون الخاص، وتباشر نشاطها وفقاً لقواعد هذا القانون.
وهي باعتبارها كذلك لا يقارن التبرع أعمالها، ولكنها تتخذ منها طريقاً إلى إنماء مواردها. وسواء كانت الدولة تملك أموالها بكاملها أو كان نصيبها فيها غالباً، فإن ملكيتها هذه لا أثر لها على طبيعة عملياتها أو طرق إدارتها، فلا تماثل خدماتها المصرفية، في بنيانها، تلك التي تقدمها جهة الإدارة لمواطنيها في مجال انتفاعهم بالمرافق التي تقوم عليها، وتنهض على تسييرها. وإنما تكون علاقتها بعملائها في الحدود ذاتها التي تحكم النشاط المصرفي الخاص.
وحيث إن الأصل في الحقوق إلى يقتضيها أصحابها جبراً من المدينين بها، هو أن يكون حملهم على إيفائها من خلال وسائل التنفيذ التي رسمها قانون المرافعات المدنية والتجارية، وقوامها أن التنفيذ قسراً لاقتضائها يلحق أصلاً بالمدين بها آثاراً خطيرة لا يجوز أن يتحملها، إلا إذا كان بيد دائنه - وقبل البدء في التنفيذ - سند به؛ وهو ما يعني أن الحق في التنفيذ لا يوجد بغير سند تنفيذي.
وحيث إن قانون الحجز الإداري - وعلى ما تنص عليه المادة 75 منه - يعتبر استثناء من القواعد التي تضمنها قانون المرافعات المدنية والتجارية في شأن التنفيذ الجبري، ذلك أن القواعد التي رسمها قانون الحجز الإداري لإجراءاته، تعتبر أصلاً يحكمها، فلا ينظمها قانون المرافعات المدنية والتجارية إلا في المسائل التي لا نص عليها في قانون الحجز الإداري، وبما لا يتعارض مع أحكام هذا القانون. وقد تمثل الخروج على القواعد التي حددها قانون المرافعات المدنية والتجارية للتنفيذ الجبري، فيما تنص عليه المادة الثانية من قانون الحجز الإداري، من أن إجراءات هذا الحجز يجوز اتخاذها بناء على أمر مكتوب صادر من الوزير أو رئيس المصلحة أو المحافظ أو المدير أو ممثل الشخص الاعتباري العام حسب الأحوال، أو من ينيبه كل من هؤلاء في ذلك كتابة؛ بما مؤداه أن تتخذ جهة الإدارة بنفسها - ومن أجل الحصول على مستحقاتها - قراراً باقتضائها يكون معادلاً لسند التنفيذ بها جبراً؛ ومتضمناً تحديداً من جانبها للحقوق التي تدعيها سواء تعلق الأمر بمصدرها أو بمقدارها؛ وهو ما يعني أن يكون تقديرها - وقد أفرغ في شكل قرار صادر عنها - سنداً تنفيذياً.
وحيث إن من المقرر، أن المرافق العامة إنما تتوخى إشباع أغراض بذواتها تقتضيها خصائص نشاطها التي تقدر معها الجهة التي أنشأتها - وسواء أكان تقديرها صائباً أو مخطئاً - أن أشخاص القانون الخاص لا يقوون على مباشرة الأعمال التي تنهض بها، أو ينفرون منها، أو قد يديرونها وفق نظم لا تلائمها. ومن ثم تقرر هذه الجهة - وهي بالضرورة من أشخاص القانون العام - تنظيمها بما يكفل سريان نظام قانوني خاص عليها، سواء في شأن علاقتها بالعاملين فيها؛ أو على صعيد عقودها؛ أو قواعد مسئوليتها؛ أو طرق محاسبتها، أو الجهة القضائية التي تنفرد بالفصل في منازعاتها.
وكلما تعلق الأمر بأموال هذه المرافق، فإن إدارتها تغاير أوضاع الدومين الخاص وطرق تنظيمها. ذلك أن ماليتها تضبطها معايير جامدة تحول دون مجاوزة تقديراتها، أو استخدامها في غير الأغراض المرصودة عليها.
وحيث إن ذلك مؤداه، أن مفهوم المرفق العام، إنما يتحدد أصلاً بالنظر إلى طبيعة الأعمال التي يتولاها la notion matérielle، سواء أكان الانتفاع بها حقاً للمواطنين في مجموعهم أم كان مقصوراً على بعضهم، ويفترض وجود هذا المرفق، عدداً من العناصر، أرجحها أن الأعمال التي ينهض بها، ينبغي أن تتصل جميعها - من جهة غايتها - بالمصلحة العامة، وأن يكون إشباعها مكفولاً أصلاً من خلال وسائل القانون العام les procédés de droit public؛ ومقتضياً تدخلاً من أحد أشخاص هذا القانون، سواء قام عليها ابتداء، أو عهد بها إلى غيره.
بيد أن شرط المصلحة العامة وإن كان كامناً في فكرة المرفق العام، ويعتبر مفترضاً أولياً لوجوده، إلا أن هذا الشرط ليس كافياً، ذلك أن المشروع قد يكون اقتصادياً متوخياً إشباع أغراض لها صلة وثقى بهذه المصلحة، ولا يعتبر مع هذا مرفقاً عاماً. وإنما يكون المشروع كذلك إذا استهدفها، وكان تحقيقها قد تم من خلال تدخل أحد أشخاص القانون العام إيجابياً في الشئون التي يقوم عليها، وليس لازماً أن يكون هذا التدخل عن طريق الاستغلال المباشر.
وحيث إن إعمال هذه العناصر على ضوء القضاء المقارن، يؤكد اطراده على أن الأعمال التي تفقد اتصالها بالمصلحة العامة étrangére à l’intêret public، وكذلك تلك التي تكون ربحيتها le but lucratif غرضاً مقصوداً أصلاً من مباشرتها، لا تعتبر مرفقاً عاماً، على تقدير أن هذه المرافق لا تباشر نشاطها أصلاً إلا من خلال خضوعها لقواعد القانون العام، وحتى عند من يقولون بأن هذا القانون ليس بالضرورة قانون هذه المرافق، وأن من الأفضل التركيز على لجوئها إلى وسائل القانون العام فيما تتولاه من الأعمال، فإن إدارة أموال الدومين الخاص la gestion domaniales تظل نائية بطبيعتها عن مفهوم المرفق العام، بالنظر إلى أن هذه الأموال مشبهة - في خصائصها ونظامها القانوني - بالملكية الخاصة، وأن إدارتها لا تتم أصلاً إلا بوسائل القانون الخاص التي تلائم أغراض استخدامها واستثمارها.
وحيث إن ذلك مؤداه، أن المرفق العام لا يكون كذلك إلا بالنظر إلى موضوع الأعمال التي يباشرها l’objet de service؛ ومردودها rentabilité؛ ونظم إدارتها Fonctionnement، وأن ما يعتبر معياراً مادياً لهذا المرفق le sens matériel ou objectif إنما يتصل بطبيعة الأعمال التي يؤديها، ولا يجوز بالتالي أن تختلط بالجهة التي تقوم على إدارتها le sens organique ou formel، فقد تكون شخصاً عاماً، أو يعهد بها إلى أحد أشخاص القانون الخاص.
وحيث إن الأعمال التي تقوم عليها البنوك بوجه عام - ويندرج تحتها بنك التنمية الصناعية - وهو الجهة الحاجزة - تعتبر جميعها من قبيل الأعمال المصرفية التي تعتمد أصلاً على تنمية الادخار والاستثمار وتقديم خدماتها الائتمانية لمن يطلبها، وأعمالها هذه - بالنظر إلى طبيعتها - تُخْضِعها لقواعد القانون الخاص، وهي تباشرها بوسائل هذا القانون ولو كان رأس مالها مملوكاً - كلياً أو جزئياً - للدولة، إذ لا صلة بين الجهة التي تملك أموالها، وموضوع نشاطها؛ ولا بطرائقها في تسييره؛ وليس من شأن هذه الملكية أن تحيل نشاطها عملاً إدارياً، أو منفصلاً عن ربحيتها باعتبارها غرضاً نهائياً تتغياه، بل هو مطلبها لأعمالها وتوجيهها لها.
وحيث إن القواعد التي تضمنها قانون الحجز الإداري، غايتها أن تكون بيد أشخاص القانون العام وسائل ميسرة تمكنها من تحصيل حقوقها - وعلى الأخص تلك التي تقابل أعمالاً بذلتها أو تدابير اتخذتها - فلا يتقيد اقتضاؤها جبراً عن مدينيها بالقواعد التي فصلها قانون المرافعات المدنية والتجارية في شأن التنفيذ الجبري، وإنما تعتبر استثناء منها، وامتيازاً مقرراً لصالحها يجعلها دائماً في مركز المدعى عليه. ذلك أن قرار جهة الإدارة بإسناد ديون تدعيها إلى آخرين، يفيد أن قولها بوجودها وتحديدها لمقدارها، يعتبر سنداً تنفيذياً بها، يغنيها عن اللجوء إلى القضاء لإثباتها، فلا يبقى مركزها مساوياً لمركز مدينيها، بل يكون قرارها بالحقوق التي تطلبها منهم، سابقاً على التدليل عليها من جهتها du privilége prealable، وناقلاً إليهم مهمة نفيها.
وحيث إن الطبيعة الاستثنائية لقواعد الحجز الإداري، تقتضي أن يكون نطاق تطبيقها مرتبطاً بأهدافها، متصلاً بتسيير جهة الإدارة لمرافقها، فلا يجوز نقل هذه القواعد إلى غير مجالها، ولا إلباسها ثوباً مجافياً لحقيقتها، وعلى الأخص بالنظر إلى أن الديون التي تدعيها تعامل بافتراض ثبوتها في حق من تراهم ملتزمين بها أو مسئولين عنها.
وإذا جاز هذا الافتراض في شأن ديون تطلبها جهة الإدارة لنفسها، وتقتضيها بوسائل استثنائية في طبيعتها، تجاوز بها ما يكون مألوفاً من صور التعامل في علائق الأفراد بعضهم ببعض، إلا أن بسطها وتقرير سريانها في شأن ما ينشأ عن العمليات المصرفية التي تباشرها البنوك من ديون تدعيها قبل عملائها - والأصل فيها التحوط لأدلتها، وتهيئتها وتوثيقها؛ وتكافؤ أطرافها في مجال إثباتها ونفيها - مؤداه إلحاق نشاطها - في هذا النطاق - بالأعمال التي ينهض عليها المرفق العام، واعتبارها من جنسها، وإخضاع تحصيل الديون التي تطلبها من عملائها - ودون مقتض - لقواعد تنافي بصرامتها، مرونة عملياتها وتجاريتها، واطمئنان عملائها إليها فيما يحصلون عليه من ائتمان منها.
وحيث إن النص المطعون فيه، يكون بذلك مخالفاً لنص المادة 65 من الدستور، ذلك أن مبدأ الخضوع للقانون المقرر بها، يفترض تقيد أشخاص القانون الخاص في مجال نشاطها المصرفي بقواعد ووسائل هذا القانون دون غيرها، فلا يكون الخروج عليها إلا لضرورة، وبقدرها.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية البند ط من المادة الأولى من القانون رقم 308 لسنة 1955 في شأن الحجز الإداري، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.