أحكام المحكمة الدستورية العليا - الجزء الثامن
من أول يوليو 1996 حتى آخر يونيو 1998 - صـ 1315

جلسة 9 مايو 1998

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر - رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: سامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض وماهر البحيري ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله، وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي - رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر - أمين السر.

قاعدة رقم (99)
القضية رقم 64 لسنة 19 قضائية "دستورية"

1 - عقوبة "تفريدها - مشروعيتها":
الأصل في العقوبة هو تفريدها - مشروعية العقوبة من زاوية دستورية مناطها مباشرة القاضي سلطته في مجال التدرج بها تقديراً لها في الحدود المقررة قانوناً.
2 - عقوبة "وقف تنفيذ" - مفاهيم معاصرة:
سلطة القاضي في مجال وقف تنفيذ العقوبة فرع من تفريدها - اتصال التفريد بالمفاهيم المعاصرة للسياسة الجنائية - سلطة تفريد العقوبة يردها إلى جزاء يعايش الجريمة ومرتكبها - ولا ينفصل عن واقعها.
3 - تشريع "الفقرة الأخيرة من المادة 155 من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966: وقف تنفيذ":
نص هذه الفقرة على عدم جواز وقف تنفيذ عقوبتي الحبس والغرامة المنصوص عليهما بالفقرة الأولى من المادة المشار إليها - يجرد القاضي من سلطته في تفريد العقوبة - إخلاله من ثم بجوهر الوظيفة القضائية - انطواؤه على تدخل في شئونها - تقييده الحرية الشخصية في غير ضرورة - إهداره ضوابط المحاكمة المنصفة.
1 - الأصل في العقوبة هو تفريدها لا تعميمها، وتقرير استثناء من هذا الأصل - أياً كانت الأغراض التي يتوخاها - مؤداه أن المذنبين جميعهم تتوافق ظروفهم، وأن عقوبتهم بالتالي يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها، وهو ما يعني إيقاع جزاء في غير ضرورة بما يفقد العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها؛ وبما يقيد الحرية الشخصية دون مقتض. ذلك أن مشروعية العقوبة من زاوية دستورية؛ مناطها أن يباشر كل قاض سلطته في مجال التدرج بها وتجزئتها، تقديراً لها، في الحدود المقررة قانوناً. فذلك وحده الطريق إلى معقوليتها وإنسانيتها جبراً لآثار الجريمة من منظور موضوعي يتعلق بها وبمرتكبها.
2 - السلطة التي يباشرها القاضي في مجال وقف تنفيذ العقوبة، فرع من تفريدها؛ تقديراً بأن التفريد لا ينفصل عن المفاهيم المعاصرة للسياسة الجنائية، ويتصل بالتطبيق المباشر لعقوبة فرضها المشرع بصورة مجردة، شأنها في ذلك شأن القواعد القانونية جميعها؛ وإن إنزالها "بنصها" على الواقعة الإجرامية محل التداعي، ينافي ملاءمتها لكل أحوالها وملابساتها؛ بما مؤداه أن سلطة تفريد العقوبة - ويندرج تحتها الأمر بإيقافها - هي التي تخرجها من قوالبها الصماء، وتردها إلى جزاء يعايش الجريمة ومرتكبها، ولا ينفصل عن واقعها.
3 - تناسب العقوبة مع الجريمة ومرتكبها، إنصافاً لواقعها وحال مرتكبها، يتحقق بوسائل متعددة، من بينها تلك التي يجريها القاضي - في كل واقعة على حدة - بين الأمر بتنفيذها أو إيقافها؛ وكان المشرع - بالفقرة الأخيرة من المادة 155 المطعون عليها - قد جرد القاضي من السلطة التي يقدر بها لكل جريمة عقوبتها التي تناسبها بما يناقض موضوعية تطبيقها؛ وكان لا يجوز للدولة - في مجال مباشرتها لسلطة فرض العقوبة صوناً لنظامها الاجتماعي - أن تنال من الحد الأدنى لتلك الحقوق التي لا يطمئن المتهم في غيابها إلى محاكمة منصفة، غايتها إدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة وفقاً لمتطلباتها التي بينتها المادة 67 من الدستور؛ وكان من المقرر أن "شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها" مرتبطتان "بمن يكون قانوناً مسئولاً عن ارتكابها" على ضوء دوره فيها، ونواياه التي قارنتها، ومدى الضرر الناجم عنها، ليكون الجزاء عنها موافقاً لخياراته بشأنها؛ وكان تقدير هذه العناصر جميعها، داخلاً في إطار الخصائص الجوهرية للوظيفة القضائية باعتباره من مكوناتها؛ فإن حرمان من يباشرونها من سلطتهم في مجال تفريد العقوبة بما يوائم "بين الصيغة التي أفرغت فيها ومتطلبات تطبيقها في حالة بذاتها" مؤداه بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها، فلا تنبض بالحياة، ولا يكون إنفاذها "إلا عملاً مجرداً يعزلها عن بيئتها" دالاً على قسوتها أو مجاوزتها حد الاعتدال، جامداً فجاً منافياً لقيم الحق والعدل.


الإجراءات

في الثلاثين من مارس سنة 1997، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالباً الحكم بعدم دستورية الفقرة الأخيرة من المادة 155 من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966 فيما تنص عليه من عدم جواز الحكم بوقف تنفيذ عقوبتي الحبس والغرامة المنصوص عليهما بفقرتها الأولى.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن النيابة العامة كانت قد اتهمت المدعي بأنه في 1/ 10/ 1995 بدائرة أشمون، قام بعمل من شأنه تبوير الأرض الزراعية دون الحصول على ترخيص من الجهة المختصة، وقدمته للمحاكمة في قضية الجنحة رقم 2357 لسنة 1995 مستعجل أشمون؛ طالبة عقابه بالمادتين 151، 155 من القانون رقم 116 لسنة 1983 المعدل بالقانون رقم 2 لسنة 1985.
وبتاريخ 8/ 12/ 1996 قضت محكمة جنح أشمون بحبس المدعي شهراً، وتغريمه خمسمائة جنيه. استأنف المدعي هذا الحكم برقم 3827 لسنة 1997 جنح مستأنف شبين الكوم. وأثناء نظر استئنافه دفع المدعي بعدم دستورية المادة 155 من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 116 لسنة 1983. وبعد تقديرها جدية دفعه. أذنت محكمة الموضوع للمدعي بإقامة دعواه الدستورية فأقامها.
وحيث إن الفقرة الثانية من المادة 151 من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966، تحظر على مالك الأرض الزراعية أو نائبه أو حائزها بأية صفة، ارتكاب أي فعل أو الامتناع عن أي عمل من شأنه تبوير الأراضي الزراعية، أو المساس بخصوبتها.
كما تنص المادة 155 من هذا القانون - المطعون على فقرتها الأخيرة - على ما يأتي:
"يعاقب على مخالفة حكم المادة 151 من هذا القانون بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تزيد عن ألف جنيه عن كل فدان أو جزء منه من الأرض موضوع المخالفة.
وفي جميع الأحوال لا يجوز الحكم بوقف تنفيذ العقوبة. ولوزير الزراعة قبل الحكم في الدعوى أن يأمر بوقف أسباب المخالفة وإزالتها بالطريق الإداري وعلى نفقة المخالف".
وحيث إن نطاق الدعوى الدستورية، يتحدد بالفقرة الأخيرة من المادة 155 - المشار إليها - فيما نصت عليه من عدم جواز الحكم بوقف تنفيذ عقوبتي الحبس والغرامة المنصوص عليهما بفقرتها الأولى.
وحيث إن المدعي ينعي على النص المطعون فيه - محدداً نطاقاً على النحو المتقدم - مخالفته لنصوص المواد 86 و119/ 1 و165 و166 من الدستور، وذلك بما انطوى عليه من افتئات على الاختصاص المقرر دستورياً للسلطة القضائية؛ بحسبان أن وقف تنفيذ العقوبة جزء من تفريدها.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة، قد جرى على أن الأصل في العقوبة هو تفريدها لا تعميمها، وأن تقرير استثناء من هذا الأصل - أياً كانت الأغراض التي يتوخاها - مؤداه أن المذنبين جميعهم تتوافق ظروفهم، وأن عقوبتهم بالتالي يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها، وهو ما يعني إيقاع جزاء في غير ضرورة بما يفقد العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها؛ وبما يقيد الحرية الشخصية دون مقتض. ذلك أن مشروعية العقوبة من زاوية دستورية؛ مناطها أن يباشر كل قاض سلطته في مجال التدرج بها وتجزئتها، تقديراً لها، في الحدود المقررة قانوناً. فذلك وحده الطريق إلى معقوليتها وإنسانيتها جبراً لآثار الجريمة من منظور موضوعي يتعلق بها وبمرتكبها.
وحيث إن السلطة التي يباشرها القاضي في مجال وقف تنفيذ العقوبة، فرع من تفريدها؛ تقديراً بأن التفريد لا ينفصل عن المفاهيم المعاصرة للسياسة الجنائية، ويتصل بالتطبيق المباشر لعقوبة فرضها المشرع بصورة مجردة، شأنها في ذلك شأن القواعد القانونية جميعها؛ وإن إنزالها "بنصها" على الواقعة الإجرامية محل التداعي، ينافي ملاءمتها لكل أحوالها وملابساتها؛ بما مؤداه أن سلطة تفريد العقوبة - ويندرج تحتها الأمر بإيقافها - هي التي تخرجها من قوالبها الصماء، وتردها إلى جزاء يعايش الجريمة ومرتكبها، ولا ينفصل عن واقعها.
وحيث إن تناسب العقوبة مع الجريمة ومرتكبها، إنصافاً لواقعها وحال مرتكبها، يتحقق بوسائل متعددة، من بينها تلك التي يجريها القاضي - في كل واقعة على حدة - بين الأمر بتنفيذها أو إيقافها؛ وكان المشرع - بالفقرة الأخيرة من المادة 155 المطعون عليها - قد جرد القاضي من السلطة التي يقدر بها لكل جريمة عقوبتها التي تناسبها بما يناقض موضوعية تطبيقها؛ وكان لا يجوز للدولة - في مجال مباشرتها لسلطة فرض العقوبة صوناً لنظامها الاجتماعي - أن تنال من الحد الأدنى لتلك الحقوق التي لا يطمئن المتهم في غيابها إلى محاكمة منصفة، غايتها إدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة وفقاً لمتطلباتها التي بينتها المادة 67 من الدستور؛ وكان من المقرر أن "شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها" مرتبطتان "بمن يكون قانوناً مسئولاً عن ارتكابها" على ضوء دوره فيها، ونواياه التي قارنتها، ومدى الضرر الناجم عنها، ليكون الجزاء عنها موافقاً لخياراته بشأنها؛ وكان تقدير هذه العناصر جميعها، داخلاً في إطار الخصائص الجوهرية للوظيفة القضائية باعتباره من مكوناتها؛ فإن حرمان من يباشرونها من سلطتهم في مجال تفريد العقوبة بما يوائم "بين الصيغة التي أفرغت فيها ومتطلبات تطبيقها في حالة بذاتها" مؤداه بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها، فلا تنبض بالحياة، ولا يكون إنفاذها "إلا عملاً مجرداً يعزلها عن بيئتها" دالاً على قسوتها أو مجاوزتها حد الاعتدال، جامداً فجاً منافياً لقيم الحق والعدل.
وحيث إن النص المطعون فيه - وعلى ضوء ما تقدم - يكون قد أهدر - من خلال إلغاء سلطة القاضي في تفريد العقوبة - جوهر الوظيفة القضائية؛ وجاء منطوياً كذلك على تدخل في شئونها؛ مقيداً الحرية الشخصية في غير ضرورة؛ ونائباً عن ضوابط المحاكمة المنصفة؛ وواقعاً بالتالي في حمأة مخالفة أحكام المواد 41، 67، 165، 166 من الدستور.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية الفقرة الأخيرة من المادة 155 من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966، وذلك فيما نصت عليه من عدم جواز وقف تنفيذ عقوبتي الحبس والغرامة المنصوص عليهما بالفقرة الأولى من هذه المادة، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.