أحكام المحكمة الدستورية العليا - الجزء الثامن
من أول يوليو 1996 حتى آخر يونيو 1998 - صـ 1519

جلسة 4 أكتوبر 1997

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر - رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ومحمد ولي الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف ومحمد عبد القادر عبد الله، وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي - رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر - أمين السر.

قاعدة رقم (15)
القضية رقم 7 لسنة 18 قضائية "تنازع"

1 - دعوى تنازع تنفيذ الأحكام المتناقضة "وحدة الموضوع".
مباشرة المحكمة الدستورية العليا لولايتها في مجال فض التناقض المدعي به بين حكمين نهائيين تعذر تنفيذهما معاً يقتضيها التحقق ابتداء من وحدة موضوعهما - انتفاء التناقض إذا كان موضوعهما مختلفاً.
2 - دعوى تنازع تنفيذ الأحكام المتناقضة "تنفيذ أحد حديه".
يلزم إثبات الادعاء بتنفيذ أحد الحكمين المتناقضين بدليل جلي في معناه - تحقق ذلك من خلال إجراء قضائي تم به التنفيذ - عدم اعتبار النزاع الدائر حول حقوق تتردد بين ثبوتها وإنكارها من قبيل ذلك.
3 - المحكمة الدستورية العليا "تكييف".
قيام هذه المحكمة بتكييف المسائل التي يثيرها النزاع المعروض عليها - تحديدها قصد الخصوم من طلباتهم بشأنها.
4 - دعوى تنازع تنفيذ الأحكام المتناقضة "الحكم الأولى بالتنفيذ"
الحكم الأولى بالتنفيذ من الأحكام المدعي بتناقضها هو ذاك الصادر من الجهة التي اختصها المشرع بولاية الفصل في الخصومة القضائية محددة على ضوء قواعد الاختصاص الولائي التي حدد بها المشرع لكل جهة قضائية نصيبها في المنازعات التي عهد إليها بالفصل فيها.
5 - عقد إداري "مقوماته".
العقد لا يعتبر إدارياً ما لم يكن أحد طرفيه شخصاً معنوياً عاماً، واتصاله في موضوعه بتسيير أو بتنظيم أو تطوير مرفق عام، ومتضمناً شروطاً استثنائية غير مألوفة في عقود القانون الخاص.
6 - عقود "الطبيعة المدنية: استثناء".
الأصل في العقود هو طبيعتها المدنية - خروج الإدارة على هذا الأصل استثناء بانتهاجها وسائل القانون العام - وذلك من خلال مباشرتها امتيازاتها قبل المتعاقد معها أو عن طريق تخويلها هذا المتعاقد جانباً من سلطاتها لاستخدامها في تسيير وتنظيم المرفق المتعاقد عليه.
7 - اختصاص "عقد من طبيعة مدنية".
احتواء العقد موضوع المنازعة على شروط توافق جميعها ما ينحاه الأفراد في تعاملهم - اتصافه من ثم بالطبيعة المدنية - اندراج الاختصاص بنظره تحت ولاية القضاء العادي - الحكم النهائي الصادر في شأنه من هذه الجهة هو الأولى بالتنفيذ.
1 - التناقض بين حكمين نهائيين صادرين من جهتين قضائيتين مختلفين - في تطبيق أحكام قانون المحكمة الدستورية العليا - يفترض وحدة موضوعهما محدداً على ضوء نطاق الحقوق التي فصلا فيها. بيد أن وحدة هذا الموضوع، لا تفيد بالضرورة تناقضهما فيما فصلا فيه. كذلك فإن تناقضهما - إذا قام الدليل عليه - لا يدل لزوماً على تعذر تنفيذهما معاً؛ بما مؤداه أن مباشرة المحكمة الدستورية العليا لولايتها في مجال فض التناقض المدعى به بين حكمين نهائيين تعذر تنفيذهما معاً، يقتضيها أن تتحقق أولاً من وحدة موضوعهما؛ ثم من تناقض قضائيهما وبتهادمهما معاً فيما فصلا فيه من جوانب ذلك الموضوع؛ فإذا قام الدليل لديها على وقوع هذا التناقض، كان عليها عندئذ أن تفصل فيما إذا كان تنفيذهما معاً متعذراً. وهو ما يعني أن بحثها في تعذر تنفيذ هذين الحكمين، يفترض تناقضهما؛ ولا يقوم هذا التناقض - بداهة - إذا كان موضوعهما مختلفاً.
2 - القول بتنفيذ أحد الحكمين المتناقضين - إذا نازع فيه خصم يحتج به عليه - ينبغي أن يؤيد بدليل يكون جلياً في معناه، وهو ما يتحقق على الأخص من خلال إجراء قضائي بتم به التنفيذ. ولا كذلك نزاع يدور حول حقوق تتردد بين ثبوتها وإنكارها، فلا يكون النزاع بشأن نشوئها، وزوالها إلا جدلاً موضوعياً يدخل الفصل فيه في اختصاص محكمة الموضوع تتولاه من خلال بحثها للوقائع والأعمال القانونية التي تعتبر مصدراً لهذه الحقوق، وكذلك تلك التي تقضيها.
3، 4 - المحكمة الدستورية العليا - ومن خلال فصلها في المسائل التي يثيرها النزاع المعروض عليها - هي التي تتولى تكييفها، وتحديد ما قصده الخصوم من طلباتهم بشأنها، لا تتقيد في ذلك إلا بحقيقتها، ودون ما اعتداد بصيغها اللفظية إذا قام دليل على أن مبانيها تناقض المعاني المقصودة منها ومراميها؛ وكان فض النزاع القائم بشأن حكمين مدعى تناقضهما، يفترض تحديد أولاهما بالتنفيذ على ضوء قواعد الاختصاص الولائي التي ضبطها المشرع ليحدد بها لكل جهة قضائية نطاق سلطتها؛ وكانت المدعية لا تتوخى بطلبها الماثل سوى مجرد الاعتداد بالحكم الصادر عن محكمة شبين الكوم الابتدائية دون غيره، فإن دعواها هذه تنحل إلى طلبها تغليبه على الحكم الصادر من جهة القضاء الإداري.
5 - العقد لا يعتبر إدارياً ما لم يكن أحد طرفيه شخصاً معنوياً عاماً؛ وكان - في موضوعه - متصلاً بتسيير أو بتنظيم أو تطوير مرفق عام؛ ومتضمناً شروطاً استثنائية تخرج بطبيعتها عن تلك التي ألفها الأفراد فيما يدخلون فيه من عقود القانون الخاص، فلا يكون إيراد هذه الشروط في العقد، إلا تعبيراً عن خصائص السلطة العامة، وانتهاجاً لوسائل القانون العام التي لا تتكافأ بها في العقود مصالح أطرافها، بل تكون المصلحة العامة موطئها وغايتها، وبها ترجح الحقوق التي تقارنها أو تتصل بها على ما دونها.
6 - الأصل في العقود، هو طبيعتها المدنية التي لا يجوز الخروج عليها إلا في الأحوال الاستثنائية التي تفصح الإدارة فيها عن نيتها في انتهاج وسائل القانون العام في شأن العقود التي تبرمها وعلى الأخص من خلال امتيازاتها التي تباشرها قبل المتعاقد معها؛ أو عن طريق تخويلها هذا المتعاقد جانباً من سلطاتها لاستخدامها في تسيير وتنظيم المرافق العامة التي كان ينبغي أن تقوم أصلاً عليها.
7 - العقد محل النزاع الماثل، تعلق باستغلال برج المنوفية وفق قواعد اتفق الطرفان عليها، ولا تنافي في مضمونها تلك التي درج المتعاقدون في نطاق القانون الخاص على التزامها فيما يشابهها من الأعمال. فهذه المنشآت، تقدم خدماتها لمن يطلبها دون تمييز، ووفق متطلباتها سياحياً، وفي حدود أعرافها، وبمراعاة تقيدها بما يكفل حسن أدائها. والبين من نصوص هذا العقد أن التمهيد الوارد به تضمن إبداء المدعية رغبتها في استغلال برج المنوفية وفق الأسس التي انتظمها قرارا محافظ القاهرة رقما 4 لسنة 1972 و11 لسنة 1977، وقبولها كذلك - عند تجديد التعاقد - الزيادة المقررة بمقتضى هذين القرارين في شأن الأجرة، وذلك باستهلاكها خصماً من قيمة إنشاءاتها وترميماتها وتعديلاتها التي أحدثتها لتطويره، وعلى أن تؤول ملكيتها بعد استكمال هذا الخصم إلى جهة الإدارة.
وتلك شروط توافق جميعها ما ينحاه الأفراد في تعاملهم، فلا يعارضونها. ولا ينافيها كذلك أن يكون حق الإدارة في فسخ التعاقد قبل انتهاء المدة المقررة، مرتبطاً باستعمال المبنى في غير الأغراض التي رصد عليها، أو بما يخل بأمن الجماعة أو نظامها أو آدابها، وكذلك عند التراخي في أداء مقابل الانتفاع المتفق عليه في المواعيد المحددة.
وما تضمنه العقد من شروط أخرى - كتلك التي تتعلق بعدم جواز إجراء المدعية تغييراً في المبنى بغير الرجوع إلى جهة الإدارة، وتعهدها بمباشرة أعمال الصيانة الدورية التي يقتضيها؛ وأدائها ما يفرض على نشاطها فيه من المكوس على اختلافها؛ والتزامها قبل جهة الإدارة بصون ما يكون في المبنى من أدواتها ومنقولاتها وأثاثها؛ وتقيدها بمراعاة القوانين واللوائح التي نظم بها المشرع إدارة المحال الصناعية والتجارية والمحال العامة - لا يفصح عن امتياز للإدارة قبل المتعاقد معها، ولا عن لجوئها لأشكال من وسائل القانون العام، بما مؤداه اندراج الاختصاص بنظره تحت ولاية جهة القضاء العادي دون غيرها، ويكون الحكم النهائي الصادر عنها واجباً تنفيذه قانوناً.


الإجراءات

بتاريخ 9/ 6/ 1996، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالباً الحكم بصفة مستعجلة - وإلى حين الفصل في الموضوع - بوقف تنفيذ الحكم الصادر من المحكمة الإدارية العليا بتاريخ 16/ 4/ 1996 في الطعن رقم 865 لسنة 31 قضائية. وفي الموضوع بالفصل في النزاع القائم بشأن تنفيذ هذا الحكم، والحكم الصادر من محكمة شبين الكوم الابتدائية بجلسة 20/ 6/ 1983 في الدعوى رقم 1489 لسنة 1983 مدني كلي شبين الكوم، والمؤيد استئنافياً.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن الشركة المدعية كانت تقوم باستغلال برج المنوفية بمدينة قويسنا منذ إنشائه عام 1962 وذلك بمقتضى عقود قابلة للتجديد، كان آخرها العقد الذي أبرم معها اعتباراً من 15/ 8/ 1975 وحتى 14/ 8/ 1978. وأثناء سريان هذا العقد تقدمت الشركة بطلب إلى رئيس مجلس مدينة قويسنا بتاريخ 9/ 9/ 1977، عرضت فيه تطوير البرج من خلال بعض التعديلات عليه وكذلك إجراء أعمال الترميم والديكور، على أن تمتد الإجارة بقدر ما يقابل قيمة هذه الأعمال من الأجرة.
وبتاريخ 22/ 10/ 1977 وافق مجلس إدارة هيئة المشروعات بالمحافظة على مقترحاتها في هذا الشأن، وأخطرت الشركة بقبولها في 26/ 10/ 1977، على أن تقوم الشركة بتنفيذ الأعمال التي تعهدت بها لتطوير البرج، وفي حدود تكلفتها المقدرة. وبتاريخ 15/ 8/ 1978، أبرم عقد إيجار جديد بين المحافظة والشركة المدعية مدته خمس سنوات تنتهي في 14/ 8/ 1983 مع جواز تجديدها - وبذات شروطه - لمدة مماثلة على أن تؤول ملكية المنشآت الجديدة إلى المحافظة بعد استهلاكها لتكلفتها.
بيد أن المحافظة - إخلالاً من جانبها بهذا الاتفاق على حد قول الشركة - قامت بإخطارها في 10/ 2/ 1983 بعزمها على إنهاء العقد المبرم معها وطرح عملية استغلال البرج من مزايدة علنية، مما حملها على أن تقيم ضدها الدعوى رقم 1489 لسنة 1983 مدني كلي شبين الكوم بطلب الحكم بصفة مستعجلة بوقف المزايدة، وبأحقيتها في الاستمرار في استئجار البرج محل التداعي بعد 14/ 8/ 1983، وبذات شروط العقد القائم، وحتى يتم استهلاك المبالغ التي كانت قد أنفقتها في شأن الأعمال التي أحدثتها لتطويره. ولم تقنع الشركة المدعية بدعواها هذه، ولكنها أتبعتها بالدعوى رقم 5289 لسنة 37 قضائية التي أقامتها أمام محكمة القضاء الإداري طالبة في صحيفتها الحكم بوقف تنفيذ القرار الصادر عن المحافظة بإنهاء عقد الإيجار المبرم معها، وفي الموضوع الحكم بانعدام هذا القرار.
وقد أجابت محكمة شبين الكوم الابتدائية الشركة المدعية إلى طلباتها، بيد أن المحكمة الاستئنافية بطنطا التي طعن أمامها على هذا الحكم - بالاستئنافين رقمي 227 و230 لسنة 16 قضائية - انتهت إلى عدم اختصاص محكمة أول درجة بالفصل في النزاع الذي كان معروضاً عليها، وأحالت الأوراق المتعلقة به إلى محكمة القضاء الإداري لاختصاصها بنظره، وقد قررت هذه المحكمة ضم الدعوى المحالة إليها - والمقيدة أمامها برقم 1248 لسنة 38 قضائية - إلى الدعوى رقم 5289 لسنة 37 قضائية، ليصدر فيهما حكم واحد.
ثم أصدرت محافظة المنوفية بعدئذ القرار رقم 45 لسنة 1984 متضمناً تشكيل لجنة عُهد إليها باستلام هذا البرج من الشركة المدعية، فاختصمتها بدعواها الثالثة - المقيدة برقم 1343 لسنة 38 قضائية - والتي أقامتها أمام محكمة القضاء الإداري بطلب وقف تنفيذ هذا القرار، مع تعويضها عن الأضرار المترتبة عليه.
وقد قضت محكمة القضاء الإداري في الدعوى رقم 3143 لسنة 38 قضائية، بقبولها شكلاً ورفضها موضوعاً، وفي الدعويين المضمومتين - وهما الدعويان رقما 5289 لسنة 37 قضائية و1248 لسنة 38 قضائية - بعدم جواز نظرهما لسابقة الفصل في موضوعهما، ولم ترتض الشركة المدعية هذين الحكمين، فطعنت عليهما أمام المحكمة الإدارية العليا بالطعنين رقمي 253 لسنة 31 قضائية و865 لسنة 31 قضائية على التوالي. وقد انتهت هذه المحكمة إلى قبولهما شكلاً، وفي الموضوع برفض الطعن رقم 253 لسنة 31 قضائية، وبإلغاء الحكم محل الطعن رقم 865 لسنة 31 قضائية، وبقبول الدعويين المضمومتين رقمي 5289 لسنة 37 قضائية و1248 لسنة 38 قضائية - شكلاً ورفضهما موضوعاً.
وقد طعنت الشركة المدعية في هذا الحكم بالبطلان أمام المحكمة الإدارية العليا وذلك بالطعن رقم 139 لسنة 33 قضائية، حيث قضت هذه بقبول الطعن شكلاً، وببطلان الحكم المطعون فيه. ثم عادت - بعد قضائها ببطلان الحكم - إلى الفصل مجدداً - بهيئة أخرى - في الطعنين رقمي 253 و865 لسنة 31 قضائية، وخلص قضاؤها بجلسة 16/ 4/ 1996 إلى الحكم بقبولهما شكلاً، وفي الموضوع برفض الطعن رقم 253 لسنة 31 قضائية، وبالنسبة للطعن رقم 865 لسنة 31 قضائية بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبقبول الدعويين رقمي 5289 لسنة 37 قضائية و1248 لسنة 38 قضائية شكلاً ورفضهما موضوعاً.
ومن جهة أخرى، كانت الشركة المدعية قد طعنت أمام محكمة النقض في قضاء المحكمة الاستئنافية بطنطا في الاستئنافين رقمي 228 و230 لسنة 16 قضائية؛ وإذ كانت محكمة النقض قد خلصت إلى نقض الحكم المطعون فيه، وبإحالة النزاع إلى محكمة استئناف طنطا "مأمورية شبين الكوم" التي انتهت بجلسة 23 مايو سنة 1990 إلى الحكم برفض الاستئنافين وتأييد الحكم المستأنف الصادر من محكمة شبين الكوم الابتدائية بإجابة الشركة إلى طلباتها، فقد طعنت محافظة المنوفية على هذا الحكم أمام محكمة النقض بالطعن رقم 3434 لسنة 60 قضائية، ولا زال هذا الطعن منظوراً أمامها.
وعلى ضوء ما تقدم، ارتأت الشركة المدعية أن الحكم الصادر من محكمة شبين الكوم الكلية بتاريخ 20/ 6/ 1983 في الدعوى رقم 1489 لسنة 1983 المؤيد استئنافياً في 23/ 5/ 1990 [بعد صدور حكم النقض بتاريخ 17/ 12/ 1989 في الطعن رقم 2216 لسنة 53 قضائية]؛ يناقض الحكم الصادر من المحكمة الإدارية العليا في 16/ 4/ 1996، وأن تنفيذ هذين الحكمين معاً متعذر، وهو ما حدا بها إلى إقامة الدعوى الماثلة للفصل في النزاع القائم بشأن أولى هذين الحكمين بالتنفيذ.
وحيث إنه بعرض الشق المستعجل من الدعوى الماثلة على السيد المستشار رئيس المحكمة الدستورية العليا - إعمالاً للفقرة الثالثة من المادة 32 من قانونها - التي تخول رئيسها - وبناء على طلب من ذوي الشأن - أن يأمر بوقف تنفيذ الحكمين النهائيين المدعى تناقضهما أو أحدهما حتى الفصل في النزاع، أصدر السيد الرئيس أمره بوقف تنفيذ الحكم الصادر من المحكمة الإدارية العليا بجلسة 16/ 4/ 1996 في الطعنين رقمي 865 لسنة 31 قضائية، و253 لسنة 31 قضائية، وذلك حتى الفصل في النزاع.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن التناقض بين حكمين نهائيين صادرين من جهتين قضائيتين مختلفين - في تطبيق أحكام قانون المحكمة الدستورية العليا - يفترض وحدة موضوعهما محدداً على ضوء نطاق الحقوق التي فصلا فيها. بيد أن وحدة هذا الموضوع، لا تفيد بالضرورة تناقضهما فيما فصلا فيه. كذلك فإن تناقضهما - إذا قام الدليل عليه - لا يدل لزوماً على تعذر تنفيذهما معاً؛ بما مؤداه أن مباشرة المحكمة الدستورية العليا لولايتها في مجال فض التناقض المدعى به بين حكمين نهائيين تعذر تنفيذهما معاً، يقتضيها أن تتحقق أولاً من وحدة موضوعهما؛ ثم من تناقض قضائيهما وبتهادمهما معاً فيما فصلا فيه من جوانب ذلك الموضوع؛ فإذا قام الدليل لديها على وقوع هذا التناقض، كان عليها عندئذ أن تفصل فيما إذا كان تنفيذهما معاً متعذراً. وهو ما يعني أن بحثها في تعذر تنفيذ هذين الحكمين، يفترض تناقضهما؛ ولا يقوم هذا التناقض - بداهة - إذا كان موضوعهما مختلفاً.
وحيث إن المحافظة تذهب إلى أن استهلاكها للمبالغ التي تقول المدعية بأنها أنفقتها على تطوير البرج، مؤداه أن الحكم الصادر من محكمة شبين الكوم الكلية في 20/ 6/ 1983 في الدعوى رقم 1489 لسنة 1983، والمؤيد استئنافياً في 23/ 5/ 1990 قد تم تنفيذه.
وحيث إن القول بتنفيذ أحد الحكمين المتناقضين - إذا نازع فيه خصم يحتج به عليه - ينبغي أن يؤيد بدليل يكون جلياً في معناه، وهو ما يتحقق على الأخص من خلال إجراء قضائي يتم به التنفيذ. ولا كذلك نزاع يدور حول حقوق تتردد بين ثبوتها وإنكارها، فلا يكون النزاع بشأن نشوئها، وزوالها إلا جدلاً موضوعياً يدخل الفصل فيه في اختصاص محكمة الموضوع تتولاه من خلال بحثها للوقائع والأعمال القانونية التي تعتبر مصدراً لهذه الحقوق، وكذلك تلك التي تقضيها.
وحيث إن هذه المحكمة - ومن خلال فصلها في المسائل التي يثيرها النزاع المعروض عليها - هي التي تتولى تكييفها، وتحديد ما قصده الخصوم من طلباتهم بشأنها، لا تتقيد في ذلك إلا بحقيقتها، ودون ما اعتداد بصيغها اللفظية إذا قام دليل على أن مبانيها تناقض المعاني المقصودة منها ومراميها؛ وكان فض النزاع القائم بشأن حكمين مدعى تناقضهما، يفترض تحديد أولاهما بالتنفيذ على ضوء قواعد الاختصاص الولائي التي ضبطها المشرع ليحدد بها لكل جهة قضائية نطاق سلطتها؛ وكانت المدعية لا تتوخى بطلبها الماثل سوى مجرد الاعتداد بالحكم الصادر عن محكمة شبين الكوم الابتدائية دون غيره، فإن دعواها هذه تنحل إلى طلبها تغليبه على الحكم الصادر من جهة القضاء الإداري.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان الحكمان اللذان يشكلان حدي التناقض المعروض، يتصلان فيما فصلا فيه، بعقد أبرم بين محافظة المنوفية والشركة المدعية في 15/ 8/ 1978، فإن أولاهما بالفصل في الخصومة التي عرض أمرها عليهما - وتفترض بالضرورة وحدة موضوعها - يتحدد على ضوء ما إذا كان هذا العقد يعتبر عقد إدارياً أم مدنياً.
وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا في الدعوى رقم 2 لسنة 15 قضائية بجلسة 17/ 12/ 1994 لا يتضمن فصلاً في الطبيعة القانونية لعقد استغلال برج المنوفية، وإنما اقتصر بحثها على تحديد طبيعة القرار الصادر عن المحافظة بطرح استغلال هذا البرج في مزايدة عامة. وقد خلص تكييفها إلى اعتباره قراراً إدارياً منفصلاً، تقديراً بأن الإدارة - في مجال إبرامها لعقودها - عليها أن تلتزم طرقاً بعينها توصلاً إلى اختيار المتعاقد معها، وكثيراً ما تكون قراراتها متضمنة إنهاء علاقة تعاقدية بعد نشوئها، أو ممهدة لعلاقة قانونية جديدة لا تزال في طور تكوينها. وأنه سواء آل أمر هذه العلاقة الجديدة إلى إبرامها عقداً من عقود القانون الخاص أو عقداً إدارياً، فإن قراراتها التي تتصل بالعقد سواء من ناحية الإذن به أو إبرامه أو اعتماده، لا يمكن دمجها فيه، بل تنفصل عنه، ويجوز الطعن فيها بالتالي استقلالاً عن العقد محل التداعي.
وحيث إن من المقرر - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن العقد لا يعتبر إدارياً ما لم يكن أحد طرفيه شخصاً معنوياً عاماً؛ وكان - في موضوعه - متصلاً بتسيير أو بتنظيم أو تطوير مرفق عام؛ ومتضمناً شروطاً استثنائية تخرج بطبيعتها عن تلك التي ألفها الأفراد فيما يدخلون فيه من عقود القانون الخاص، فلا يكون إيراد هذه الشروط في العقد، إلا تعبيراً عن خصائص السلطة العامة، وانتهاجاً لوسائل القانون العام التي لا تتكافأ بها في العقود مصالح أطرافها، بل تكون المصلحة العامة موطئها وغايتها، وبها ترجح حقوقها على غيرها.
وحيث إن الأصل في العقود، هو طبيعتها المدنية التي لا يجوز الخروج عليها إلا استثناء ووفق معايير وضوابط تظهر الإدارة من خلالها نيتها في انتهاج وسائل القانون العام فيما تتعاقد عليه؛ سواء من خلال امتيازاتها التي تباشرها قبل المتعاقد معها؛ أو عن طريق تخويلها هذا المتعاقد جانباً من سلطاتها لاستخدامها في تسيير وتنظيم المرفق العام.
ولا كذلك العقد محل النزاع الماثل، فقد تعلق موضوع هذا العقد باستغلال برج المنوفية وفق قواعد اتفق الطرفان عليها، ولا تنافي في مضمونها تلك التي درج المتعاقدون في نطاق القانون الخاص على التزامها فيما يشابهها من الأعمال. فهذه المنشآت، تقدم خدماتها لمن يطلبها دون تمييز، ووفق متطلباتها سياحياً، وفي حدود أعرافها، وبمراعاة تقيدها بما يكفل حسن أدائها. والبين من نصوص هذا العقد أن التمهيد الوارد به تضمن إبداء المدعية رغبتها في استغلال برج المنوفية وفق الأسس التي انتظمها قرارا محافظ القاهرة رقما 4 لسنة 1972 و11 لسنة 1977، وقبولها كذلك - عند تجديد التعاقد - الزيادة المقررة بمقتضى هذين القرارين في شأن الأجرة، وذلك باستهلاكها خصماً من قيمة إنشاءاتها وترميماتها وتعديلاتها التي أحدثتها لتطويره، وعلى أن تؤول ملكيتها بعد استكمال هذا الخصم إلى جهة الإدارة.
وتلك شروط توافق جميعها ما ينحاه الأفراد في تعاملهم، فلا يعارضونها. ولا ينافيها كذلك أن يكون حق الإدارة في فسخ التعاقد قبل انتهاء المدة المقررة، مرتبطاً باستعمال المبنى في غير الأغراض التي رصد عليها، أو بما يخل بأمن الجماعة أو نظامها أو آدابها، وكذلك عند التراخي في أداء مقابل الانتفاع المتفق عليه في المواعيد المحددة.
وما تضمنه العقد من شروط أخرى - كتلك التي تتعلق بعدم جواز إجراء المدعية تغييراً في المبنى بغير الرجوع إلى جهة الإدارة، وتعهدها بمباشرة أعمال الصيانة الدورية التي يقتضيها؛ وأدائها ما يفرض على نشاطها فيه من المكوس على اختلافها؛ والتزامها قبل جهة الإدارة بصون ما يكون في المبنى من أدواتها ومنقولاتها وأثاثها؛ وتقيدها بمراعاة القوانين واللوائح التي نظم بها المشرع إدارة المحال الصناعية والتجارية والمحال العامة - لا يفصح عن امتياز للإدارة قبل المتعاقد معها، ولا عن لجوئها لأشكال من وسائل القانون العام، بما مؤداه اندراج الاختصاص بنظره تحت ولاية جهة القضاء العادي دون غيرها، ويكون الحكم النهائي الصادر عنها واجباً تنفيذه قانوناً.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بالاعتداد بالحكم الصادر من محكمة شبين الكوم الكلية بجلسة 20/ 6/ 1983 في الدعوى رقم 1489 لسنة 1983 مدني كلي شبين الكوم والمؤيد استئنافياً بالاستئنافين رقمي 227 و230 لسنة 16 قضائية.