مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثانية - العدد الأول (من أكتوبر سنة 1956 إلى آخر يناير سنة 1957) - صـ 129

(16)
جلسة 8 من ديسمبر سنة 1956

برياسة السيد/ السيد علي السيد - رئيس مجلس الدولة، وعضوية السادة السيد إبراهيم الديواني والإمام الإمام الخريبي وعلي إبراهيم بغدادي ومصطفى كامل إسماعيل - المستشارين.

القضية رقم 98 لسنة 2 القضائية

( أ ) القضاء الإداري - عدم التزامه بتطبيق قواعد القانون المدني على روابط القانون العام إلا بنص خاص يستلزم ذلك - عند انعدام النص تكون له حريته في انتزاع الحلول المناسبة - له أن يقتبس من القواعد المدنية ما يتلاءم مع طبيعة روابط القانون العام.
(ب) تقادم - نص المادة 172 مدني الخاص بتقادم دعوى التعويض عن العمل غير المشروع - نص استثنائي - قصر تطبيقه على الحقوق الناشئة عن العمل غير المشروع دون تلك التي يكون منشؤها مصدراً آخر من مصادر الالتزام.
(جـ) مسئولية الحكومة عن الأفعال المادية - مصدرها العمل غير المشروع - مسئوليتها عن القرارات الإدارية الصادرة في شأن الموظفين - مصدرها القانون.
(د) تقادم - لا إلزام على القضاء الإداري تطبيق النصوص المدنية الخاصة بالتقادم إلا إذا وجد نص خاص، أو رأي تطبقها على وجه يتلاءم مع روابط القانون العام - مثال بالنسبة لقواعد التقادم في الفقه الإداري الفرنسي.
(هـ) ماهية - صيرورتها حقاً مكتسباً للحكومة إذا لم يطالب بها صاحبها في مدة خمس سنوات - عدم تخلف أي التزام طبيعي في ذمة الدولة - المحاكم تقضي بهذا السقوط من تلقاء نفسها عند توافر شرائطه - أوجه الخلاف مع قواعد التقادم المدنية - المادة 50 من اللائحة المالية للميزانية والحسابات.
(و) تقادم - دعاوى المطالبة بتعويض بسبب الفصل قبل بلوغ السن القانونية - سريان مدة التقادم المسقطة للراتب ذاته.
(ز) تقادم - المطالبة التي تقطع التقادم طبقاً للقواعد المدنية هي المطالبة القضائية - تقرير القضاء الإداري لقاعدة ميسرة في علاقة الحكومة بموظفيها - الاكتفاء في قطع التقادم بمجرد الطلب أو التظلم - طلب الإعفاء من الرسوم القضائية قاطع للتقادم.
(حـ) مستخدمون خارج هيئة العمال - سن الفصل بالنسبة إليهم هو سن الخامسة والستين.
1- إن روابط القانون الخاص تختلف في طبيعتها عن روابط القانون العام، وإن قواعد القانون المدني قد وضعت لتحكم روابط القانون الخاص، فلا تطبق وجوباً على روابط القانون العام إلا إذا وجد نص خاص يقضي بذلك، فإن لم يوجد فلا يلتزم القضاء الإداري بتطبيق القواعد المدنية حتماً وكما هي، وإن كان له أن يقتبس من تلك القواعد ما يتلاءم مع طبيعة روابط القانون العام، كما له أن ينسقها ويطورها وفقاً لاحتياجات سير المرافق، والتوفيق بين ذلك وبين حقوق الأفراد؛ ومن أجل هذا كان لفقه القضاء الإداري استقلاله الذاتي ونظرياته التي تميز بها عن فقه القانون المدني مستلهماً في ذلك كله شتى الاعتبارات المشار إليها.
2- إن نص المادة 172 من القانون المدني - الذي استحدث تقادم الثلاث السنوات بالنسبة إلى دعوى التعويض الناشئة عن العمل غير المشروع من اليوم الذي علم فيه المضرور بحدوث الضرر وبالشخص المسئول عنه - هو نص استثنائي على خلاف الأصل العام في التقادم، وقد ورد بخصوص الحقوق التي تنشأ عن المصدر الثالث من مصادر الالتزام في القانون المدني، وهو العمل غير المشروع، بحيث لا يجوز تطبيقه بالنسبة إلى الحقوق الناشئة عن مصادر أخرى إلا إذا وجد نص خاص يقضي بذلك، كما فعل الشارع في المادة 180 من القانون المدني بالنسبة إلى دعوى التعويض عن الإثراء بلا سبب وفي المادة 187 بالنسبة لدعوى استرداد ما دفع بغير حق وفي المادة 197 بالنسبة للدعوى الناشئة عن الفضالة، وكلها صور من حقوق الناشئة عن المصدر الرابع من مصادر الالتزام في القانون المدني؛ ومن ثم فلا يسري هذا التقادم الخاص على الحقوق الناشئة عن مصادر أخرى كالمصدر الأول وهو العقد، كما لو كان التعويض مترتباً على إخلال المتعاقد بالتزاماته، وكذلك لا يسري على الحقوق الناشئة عن المصدر الخامس من مصادر الالتزام وهو القانون، كما لو كان التعويض المطلوب مترتباً على الإخلال بالتزام ينشئه القانون مباشرة.
3- إذا كانت مسئولية الحكومة عن الأفعال المادية قد تنسب في مفهومات القانون المدني إلى المصدر الثالث من مصادر الالتزام (وهو العمل غير المشروع)، فليس من شك في أن مسئوليتها عن القرارات الإدارية الصادرة في شأن الموظفين إنما تنسب إلى المصدر الخامس (وهو القانون)، باعتبار أن هذه القرارات هي تصرفات قانونية وليست أفعالاً مادية، وأن علاقة الحكومة بموظفيها هي علاقة تنظيمية عامة مصدرها القوانين واللوائح.
4- لا يلتزم القضاء الإداري بتطبيق النصوص المدنية في التقادم أياً كان مجال تطبيقها، إلا إذا وجد نص خاص يقضي بذلك أو رأى تطبيقها على وجه يتلاءم مع روابط القانون العام، وقد أتجه الفقه الإداري في فرنسا هذا الاتجاه مستهدياً بتلك الاعتبارات، ففرق بين ديون الدولة المستحقة لها قبل الغير وبين ديون الغير قبلها، وانتهى إلى أن الأولى تسقط بالمدد المعتادة (طبقاً للنصوص المدنية) وأن الثانية تسقط بمضي أربع سنوات (بمقتضى قانون خاص صدر في هذا الخصوص) إن لم ينص قانون آخر على السقوط بمدة أقصر، كما انتهى إلى أن سقوط دين الغير قبل الدولة بمضي المدة المذكورة حتمي ونهائي، فلا يحتمل وقفاً كما لا يحتمل مداً إلا بمقدار ميعاد المسافة، وأن الدين إذا سقط لا يتخلف عنه التزام طبيعي في ذمة الدولة، ولا يلزم أن يدفع به المدين أو دائنوه، بل يجوز للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها، ثم اتجه إلى أن التعويض المترتب على الإخلال بالالتزام هو من طبيعة الحق الناشئ عن هذا الالتزام؛ لأنه هو المقابل له فتسري بالنسبة للتعويض مدة التقادم التي تسري بالنسبة للحق الأصلي؛ فإذا كان التعويض مثلاً مطلوباً مقابل حرمان الموظف من مرتبه بسب فصله بدون وجه حتى سقطت دعوى التعويض بمضي مدة التقادم المسقطة للمرتب.
5- إن المادة 50 من القسم الثاني من اللائحة المالية للميزانية والحسابات تنص على أن "الماهيات التي لم يطالب بها في مدة خمس سنوات تصبح حقاً مكتسباً للحكومة". ويظهر من ذلك أنها وإن اقتبست من النصوص المدنية مدة التقادم الخمس إلا أنها قررت في الوقت ذاته أنه بمجرد انقضاء المدة تصبح تلك الماهيات حقاً للحكومة، فنفت تخلف أي التزام طبيعي في ذمة الدولة، وافترقت بذلك عن الأحكام المدنية؛ ولذلك يجوز للمحكمة أن تقضي بالسقوط من تلقاء نفسها. والاعتبارات التي يقوم عليها نص المادة 50 من اللائحة المالية للميزانية والحسابات هي اعتبارات تنظيمية تتعلق بالمصلحة العامة استقراراً للأوضاع الإدارية؛ فيتعين على وزارات الحكومة ومصالحها التزام تلك القاعدة التنظيمية، وتقضي بها المحاكم كقاعدة قانونية واجبة التطبيق في علاقة الحكومة بموظفيها، وهي علاقة تنظيمية تحكمها القوانين واللوائح، ومن بينها تلك اللائحة.
6- إذا كان الثابت أن التعويض المطالب به هو مقابل حرمان المدعي من راتبه بسبب فصله لبلوغه سن الستين استناداً إلى أنه لا يجوز فصله قبل الخامسة والستين، فإنه - تأسيساً على ما تقدم - تسري على التعويض المطلوب مدة التقادم المسقطة للراتب ذاته.
7- إنه وإن كان مفاد النصوص المدنية (المادة 383 مدني) أن المطالبة التي تقطع التقادم هي المطالبة القضائية دون غيرها، إلا أن مقتضيات النظام الإداري قد انتهت بفقه القضاء الإداري إلى تقرير قاعدة أكثر تيسيراً في علاقة الحكومة بموظفيها بمراعاة طبيعة هذه العلاقة والتدرج الرئيسي الذي تقوم عليه، وأن المفروض في السلطة الرياسية هو إنصاف الموظف بتطبيق القانون؛ حتى ينصرف إلى عمله هادئ البال، دون أن يضطر إلى الالتجاء إلى القضاء؛ ولذلك يقوم مقام المطالبة القضائية في قطع التقادم الطلب أو التظلم الذي يعرضه الموظف على السلطة المختصة متمسكاً فيه بحقه مطالباً بأدائه. وطلب الإعفاء من الرسوم هو أقوى من التظلم الإداري القاطع للتقادم في هذا الخصوص.
8- تنص الفقرة الثالثة من المادة الرابعة عشرة من القانون رقم 5 لسنة 1909 بشأن المعاشات الملكية على رفت المستخدمين المؤقتين، والخدمة الخارجين عن هيئة العمال "متى بلغوا الخامسة والستين من سنهم، ما لم يرخص لهم ناظر المالية بالبقاء في الخدمة لمدة معينة بناء على طلبهم، ومع ذلك فلا يجوز في أي حالة من الأحوال إبقاؤهم في الخدمة بعد سن السبعين سنة"، وقد رددت لائحة مكافأة المستخدمين الخارجين عن هيئة العمال بمصلحة السكك الحديدية، الصادر في 13 من إبريل سنة 1914 هذا الحكم، كما ردده قرار مجلس الوزراء الصادر في 11 من يونيه 1950. ومن هذا يتضح أن سن الفصل بالنسبة إلى الخدمة الخارجيين عن هيئة العمال هو سن الخامسة والستين. فإذا كان الثابت من الأوراق أن المدعي ألحق بخدمة الحكومة في وظيفة عامل باليومية (عتال) وفصل لبلوغه سن الستين، فإن قرار الفصل يكون قد وقع مخالفاً للقانون.


إجراءات الطعن

في 12 من يناير سنة 1956 أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة طعناً في الحكم الصادر من المحكمة الإدارية لوزارة المواصلات ومصلحة السكك الحديدية بجلسة 14 من نوفمبر سنة 1955 في الدعوى رقم 266 لسنة 2 القضائية المرفوعة من عبد العزيز منصور عوض الله ضد مصلحة السكك الحديدية، والقاضي: "برفض الدعوى، وألزمت المدعي بالمصروفات"، وطالب السيد رئيس هيئة المفوضين للأسباب التي استند إليها في عريضة الطعن "الحكم بقبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع القضاء بإلغاء الحكم المطعون فيه والقضاء للمدعي بطلباته في الدعوى، مع إلزام الحكومة بالمصروفات". وأعلنت الجهة الإدارية بالطعن في 21 من يناير سنة 1956، وأعلن به المطعون لصالحه في 25 من يناير سنة 1956، ثم عين لنظر الطعن جلسة 28 من إبريل سنة 1956، وفيها سمعت ملاحظات الطرفين على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وأرجئ إصدار الحكم إلى جلسة 26 من مايو سنة 1956، ثم مد أجل النطق بالحكم إلى جلسة 30/ 6/ 1956، وأعيدت القضية للمرافعة لجلسة 13 من أكتوبر سنة 1956، وتأجلت لجلسة 17 من نوفمبر سنة 1956، وأرجئ إصدار الحكم إلى جلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة، حسبما يستفاد من أوراق الطعن، تتحصل في أن المطعون لصالحه أقام دعواه طالباً الحكم بإلزام وزارة المواصلات بأن تدفع له مبلغ 400 ج على سبيل التعويض لما أصابه به ضرر بسبب الاستغناء عن خدمته قبل بلوغه سن الخامسة والستين؛ مستنداً في ذلك إلى أن فصله من الخدمة قبل بلوغه سنة الخامسة والستين قد جاء مخالفاً لما نصت عليه المادة 14 من قانون المعاشات رقم 5 لسنة 1909 ولائحة المستخدمين الخارجين عن هيئة العمال لمصلحة السكك الحديدية الصادرة في إبريل سنة 1914. وقد دفعت الحكومة الدعوى بسقوط حق المدعي في المطالبة بالتعويض عن قرار فصله استناداً إلى نص المادة 172 من القانون المدني باعتبار أن قرار الفصل المخالف للقانون يعتبر من الأعمال غير المشروعة التي تسقط بالتقادم دعاوي التعويض الناشئة عنها بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي علم فيه المضرور بحدوث الضرر والشخص المسئول عنه. أما بالنسبة لموضوع الدعوى فقد طلبت الحكومة رفضها استناداً إلى أن المدعي من عمال اليومية وأنه يقوم بمجهود عضلي، فإذا رؤى أن الجهة التي يعمل بها لم تعد تفيد منه الفائدة المرجوة بسبب اضمحلال صحته وكبر سنه جاز لها أن تستغني عن خدماته ما دام أن تصرفها لا يشوبه عيب سوء استعمال السلطة. وقد قضت المحكمة الإدارية بحكمها الصادر في 14 من نوفمبر سنة 1955 "برفض الدعوى، وألزمت المدعي بالمصروفات"؛ وأسست قضاءها على "أنه لا مشاحة في أن المدعي علم بحدوث الضرر وبالشخص المسئول عنه عقب صدور قرار الفصل في سنة 1948، فلا يبقى إلا التأكد من استيفاء شرط المدة. وأنه يبين من الأوراق أن المدعي رفع دعواه في 21 من يوليه سنة 1952 فتكون قد مضت منذ رفع الدعوى مدة أكثر من ثلاث سنوات محسوبة من 15 من أكتوبر سنة 1949 تاريخ العمل بالقانون المدني الحالي وذلك إعمالاً لنص المادة الثامنة منه، وبذلك يكون الدفع بسقوط الدعوى بالتقادم في محله. ولا يغير من هذا النظر أن المدعي كلف الحكومة بالحضور أمام لجنة المعافاة؛ لأن هذا التكليف لا يقوم مقام المطالبة القضائية أو أي إجراء مماثل مما نص عليه في المادة 382 من القانون المدني".
ومن حيث إن الطعن يقوم على أن التقادم القصير الذي استحدثته المادة 172 من القانون المدني إنما اقتضته الرغبة في توحيد مدد تقادم الدعويين العمومية والمدنية بحيث تبقى دعوى المسئولية عن العمل غير المشروع ما بقيت الدعوى الجنائية عن هذا العمل قائمة، ومجال إعمال هذا الحكم المستحدث هو منطقة الالتزامات التي يرد مصدرها إلى العمل غير المشروع الذي يتبلور في الأعمال المادية دون تلك التي تنتسب إلى مصدر من المصادر الأربعة الأخرى للالتزام والتي هي حسبما حددها القانون المدني: العقد والإرادة المنفردة والإثراء بلا سبب والقانون. والتزام الإدارة بعدم فصل عامل اليومية أو المستخدم الخارج عن الهيئة قبل سن الخامسة والستين والتعويض عنه في حالة الإخلال به ليس مصدره العمل غير المشروع بالمعنى المقصود في هذا العمل كمصدر خاص من مصادر الالتزام في القانون المدني، وإنما مصدره القانون مباشرة وهو المصدر الخامس، باعتبار أن علاقة الحكومة بموظفيها هي علاقة تنظيمية عامة مصدرها القوانين واللوائح؛ ومن ثم فلا يسري في شأن تقادمها نص المادة 172 مدني، وهو نص خاص ورد على سبيل الاستثناء في شأن التزامات تنشأ عن مصادر معينة، وإنما تسري في خصوصها مدد التقادم المعتادة بحسب الأحوال وبمراعاة القوانين واللوائح الخاصة في هذا الشأن.
ومن حيث إنه يجب التنبيه بادئ ذي بدء إلى أن روابط القانون الخاص تختلف في طبيعتها عن روابط القانون العام وأن قواعد القانون المدني قد وضعت لتحكم روابط القانون الخاص، فلا تطبق وجوباً على روابط القانون العام إلا إذا وجد نص خاص يقضي بذلك، فإن لم يوجد فلا يلتزم القضاء الإداري بتطبيق القواعد المدنية حتماً وكما هي، وإن كان له أن يقتبس من تلك القواعد ما يتلاءم مع طبيعة روابط القانون العام، كما له أن ينسقها ويطورها وفقاًَ لاحتياجات سير المرافق والتوفيق بين ذلك وبين حقوق الأفراد؛ ومن أجل هذا كان لفقه القضاء الإداري استقلاله الذاتي ونظرياته التي تميز بها عن فقه القانون المدني مستلهما في ذلك كله شتى الاعتبارات المشار إليها.
ومن حيث إنه فضلاً عن أن نص المادة 172 من القانون المدني الذي استحدث تقادم الثلاث السنوات بالنسبة إلى دعوى التعويض الناشئة عن العمل غير المشروع من اليوم الذي علم فيه المضرور بحدوث الضرر وبالشخص المسئول عنه، هو نص استثنائي على خلاف الأصل العام في التقادم، وقد ورد بخصوص الحقوق التي تنشأ عن المصدر الثالث من مصادر الالتزام في القانون المدني وهو العمل غير المشروع بحيث لا يجوز تطبيقه بالنسبة إلى الحقوق الناشئة عن مصادر أخرى إلا إذا وجد نص خاص يقضي بذلك، كما فعل الشارع في المادة 180 من القانون المدني بالنسبة إلى دعوى التعويض عن الإثراء بلا سبب، وفي المادة 187 بالنسبة لدعوى استرداد ما دفع بغير حق، وفي المادة 197 بالنسبة للدعوى الناشئة عن الفضالة، وكلها صور من الحقوق الناشئة عن المصدر الرابع من مصادر الالتزام في القانون المدني؛ ومن ثم فلا يسري هذا التقادم الخاص على الحقوق الناشئة عن مصادر أخرى كالمصدر الأول وهو العقد، كما لو كان التعويض مترتباً على إخلال المتعاقد بالتزاماته، وكذلك لا يسري على الحقوق الناشئة عن المصدر الخامس من مصادر الالتزام وهو القانون كما لو كان التعويض المطلوب مترتباً على الإخلال بالتزام ينشئه القانون مباشرة، وأنه إذا كانت مسئولية الحكومة عن الأفعال المادية قد تنسب في مفهومات القانون المدني إلى المصدر الثالث من مصادر الالتزام، فليس من شك في أن مسئوليتها عن القرارات الإدارية الصادرة في شأن الموظفين إنما تنسب إلى المصدر الخامس باعتبار أن هذه القرارات هي تصرفات قانونية وليست أفعالاً مادية، وأن علاقة الحكومة بموظفيها هي علاقة تنظيمية عامة مصدرها القوانين واللوائح - فضلاً عن ذلك كله، فإنه كما سلف القول لا يلتزم القضاء الإداري بتطبيق النصوص المدنية في التقادم أيا كان مجال تطبيقها إلا إذا وجد نص خاص يقضي بذلك أو رأى تطبيقها على وجه يتلاءم مع تلك الروابط، فاتجه الفقه الإداري في فرنسا هذا الاتجاه، مستهدياً بتلك الاعتبارات؛ ففرق بين ديون الدولة المستحقة لها قبل الغير وبين ديون الغير قبلها، وانتهى إلى أن الأولى تسقط بالمدد المعتادة طبقاً للنصوص المدنية، وأن الثانية تسقط بمضي أربع سنوات بمقتضى قانون خاص صدر في هذا الخصوص، إن لم ينص قانون آخر على السقوط بمدة أقصر، كما انتهى إلى أن سقوط دين الغير قبل الدولة بمضي المدة المذكورة حتمي ونهائي، فلا يحتمل وقفاً كما لا يحتمل هذا إلا بمقدار ميعاد المسافة، وأن الدين إذا سقط لا يتخلف عنه التزام طبيعي في ذمة الدولة ولا يلزم أن يدفع به المدين أو دائنوه، بل يجوز للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها، ثم اتجه إلى أن التعويض المترتب على الإخلال بالالتزام هو من طبيعة الحق الناشئ عن هذا الالتزام؛ لأنه هو المقابل له فتسري بالنسبة للتعويض مدة التقادم التي تسري بالنسبة للحق الأصلي، فإذا كان التعويض مثلاً مطلوباً مقابل حرمان الموظف من مرتبه بسبب فصله بدون وجه حق سقطت دعوى التعويض بمضي مدة التقادم المسقطة للمرتب.
ومن حيث إن هذه المحكمة - على هدى ما تقدم - سبق أن قضت بأن المادة 50 من القسم الثاني من اللائحة المالية للميزانية والحسابات تنص على أن "الماهيات التي لم يطالب بها في مدة خمس سنوات تصبح حقاً مكتسباً للحكومة"، وإنه يظهر من ذلك أنها وإن اقتبست من النصوص المدنية مدة التقادم الخمسي إلا أنها قررت في الوقت ذاته أنه بمجرد انقضاء المدة تصبح تلك الماهيات حقاً للحكومة، فنفت تخلف أي التزام طبيعي في ذمة الدولة وافترقت بذلك عن الأحكام المدنية، ولذلك يجوز للمحكمة أن تقضي بالسقوط من تلقاء نفسها. وإن الاعتبارات التي يقوم عليها نص المادة 50 من اللائحة المالية للميزانية والحسابات هي اعتبارات تنظيمية تتعلق بالمصلحة العامة استقراراً للأوضاع الإدارية، فيتعين على وزارات الحكومة ومصالحها التزام تلك القاعدة التنظيمية وتقضي بها المحاكم كقاعدة قانونية واجبة التطبيق في علاقة الحكومة بموظفيها وهي علاقة تنظيمية تحكمها القوانين واللوائح، ومن بينها تلك اللائحة.
ومن حيث إنه لما كان التعويض المطالب به هو مقابل حرمان المدعي من راتبه بسبب فصله لبلوغه سن الستين استناداً إلى أنه لا يجوز فصله قبل الخامسة والستين فإنه تأسيساً على ما تقدم تسري على التعويض المطلوب مدة التقادم المسقطة للراتب ذاته.
ومن حيث إن هذه المحكمة سبق أن قضت كذلك بأنه وإن كان مفاد النصوص المدنية "المادة 383 مدني" أن المطالبة التي تقطع التقادم هي المطالبة القضائية دون غيرها، إلا أن مقتضيات النظام الإداري قد انتهت بفقه القضاء الإداري إلى تقرير قاعدة أكثر تيسيراً في علاقة الحكومة بموظفيها بمراعاة طبيعة هذه العلاقة والتدرج الرئيسي الذي تقوم عليه، وأن المفروض في السلطة الرياسية هو إنصاف الموظف بتطبيق القانون، حتى ينصرف إلى عمله هادئ البال دون أن يضطر إلى الالتجاء إلى القضاء. فيقوم مقام المطالبة القضائية في قطع التقادم الطلب أو التظلم الذي يوجهه الموظف إلى السلطة المختصة متمسكاً فيه بحقه مطالباً بأدائه وأن طلب الإعفاء من الرسوم هو أقوى من التظلم الإداري القاطع للتقادم في هذا الخصوص. على أنه قد بان للمحكمة من الأوراق أن المدعي بعد إذ فصل في 18 من أكتوبر سنة 1948 قدم طلباً للإعفاء ثم رفع دعواه في 21 من يوليه سنة 1952 أمام محكمة القضاء الإداري أي قبل مضي الخمس السنوات المسقطة للحق.
ومن حيث إنه فيما يتعلق بأصل الحق في الدعوى فقد بان للمحكمة من الأوراق أن المدعي ألحق بخدمة الحكومة في أول أغسطس سنة 1914 في وظيفة عامل باليومية "عتال" وفصل في 18 من أكتوبر سنة 1948 لبلوغه سن الستين وكان أجره اليومي 240 م فهو لذلك يخضع في أمر فصله إلى أحكام القانون رقم 5 لسنة 1909 بشأن المعاشات الملكية التي تنص الفقرة الثالثة من مادته الرابعة عشرة على رفت المستخدمين المؤقتين والخدمة الخارجين عن هيئة العمال متى بلغوا الخامسة والستين من سنهم ما لم يرخص لهم ناظر المالية في البقاء في الخدمة لمدة معينة بناء على طلبهم ومع ذلك فلا يجوز في أي حال من الأحوال إبقاؤهم في الخدمة بعد سن السبعين سنة. وقد رددت لائحة مكافأة المستخدمين الخارجين عن هيئة العمال بمصلحة السكك الحديدية الصادرة في 13 من إبريل سنة 1914 هذا الحكم كما ردده قرار مجلس الوزراء الصادر في 11 من يونيه سنة 1950. ومن هذا يتضح أن سن الفصل بالنسبة إلى الخدمة الخارجين عن هيئة العمال الخامسة والستون. ومن ثم يكون قرار فصل المدعي من الخدمة لبلوغه سن الستين قد وقع مخالفاً للقانون مما يسوغ له الحق في المطالبة بالتعويض عما أصابه من ضرر، وتقدر المحكمة التعويض بمبلغ 108 ج وهو ما كان يتقاضاه المدعي من أجر لمدة سنة ونصف مراعية في الاقتصار على ذلك حريته في التكسب من العمل الحر وهو خارج من خدمة الحكومة.
ومن حيث إنه لما تقدم يكون الحكم المطعون فيه قد جاء مخالفاً للقانون فيتعين إلغاؤه على الوجه المبين بالمنطوق.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبإلزام الحكومة بأن تدفع للمدعي مبلغ 108 ج على سبيل التعويض، وألزمت الحكومة بالمصروفات المناسبة.