مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثالثة عشرة - العدد الأول (من أول أكتوبر سنة 1967 إلى منتصف فبراير سنة 1968) - صـ 166

(25)
جلسة 2 من ديسمبر سنة 1967

برئاسة السيد الأستاذ الدكتور محمود سعد الدين الشريف - رئيس مجلس الدولة، وعضوية السادة الأساتذة الدكتور أحمد موسى وعبد الستار عبد الباقي آدم ومحمد طاهر عبد الحميد وعباس فهمي محمد بدر - المستشارين.

القضية رقم 333 لسنة 10 القضائية

( أ ) - عقد إداري. "إبرامه".
الإعلان عن إجراء مناقصة أو مزايدة أو ممارسة - ليس إلا دعوة إلى التعاقد - التقدم بالعطاء هو الإيجاب.
(ب) - عقد إداري. "تفسيره".
أصول التفسير في حالتي وضوح عبارة العقد وعدم وضوحها - المقصود بوضوح العبارة.
(جـ) - عقد إداري. "تفسيره".
الطبيعة المميزة لإجراءات التعاقد الإداري - لا تستقيم مع التقدم بعطاء مغاير للشروط الجوهرية التي تضعها الإدارة - التزام قواعد التفسير الضيق فيما يرد على خلاف هذا الأصل.
1 - أن إعلان الإدارة عن مناقصة أو مزايدة أو ممارسة لتوريد بعض الأصناف عن طريق التقدم بعطاءات ليس إلا دعوة إلى التعاقد، وأن التقدم بالعطاءات وفقاً للمواصفات والاشتراطات المعلن عنها هو الإيجاب الذي ينبغي أن يلتقي عنده قبول الإدارة لينعقد العقد.
2 - أن الأصل في تفسير العقود - مدنية كانت أم إدارية - أنه إذا كانت عبارة العقد واضحة فلا يجوز الانحراف عنها عن طريق تفسيرها للتعرف على إرادة المتعاقدين أما إذا كانت غير واضحة فقد لزم تقصي النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ مع الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل وما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين وفقاً للعرف الجاري في المعاملات. والمقصود بوضوح العبارة هو وضوح الإرادة فقد تكون العبارة في ذاتها واضحة لكن الظروف تدل على أن المتعاقدين أساءوا استعمال التعبير الواضح فقصدا معنى وعبرا عنه بلفظ لا يستقيم له هذا المعنى بل هو واضح في معنى آخر ففي هذه الحالة لا يؤخذ بالمعنى الواضح للفظ بل يجب أن يعدل عنه إلى المعنى الذي قصد إليه المتعاقدان دون أن يرمي ذلك بالمسخ والتشويه فالعبرة في تفسير العقود والتعرف على النية المشتركة للمتعاقدين عن طريق معايير موضوعية تمكن من الكشف عنها.
3 - الأصل أن من يوجه الإيجاب في العقد الإداري إنما يوجهه على أساس الشروط العامة المعلن عنها والتي تستقل الإدارة بوضعها دون أن يكون للطرف الآخر حق الاشتراك في ذلك وليس لمن يريد التعاقد إلا أن يقبل هذه الشروط أو يرفضها، فإذا أراد الخروج في عطائه على هذه الشروط فإن الأصل أن يستبعد هذا العطاء إلا أن يكون الخروج مقصوراً على بعض التحفظات التي لا تؤثر على الشروط الجوهرية المعلنة ففي هذه الحالة أجيز للإدارة أن تتفاوض مع صاحب العطاء الأقل للنزول عن كل أو بعض تحفظاته. ففي ضوء هذه الطبيعة المميزة لإجراءات التعاقد الإداري والتي لا يستقيم معها في الأصل المتقدم بعطاء مغاير للشروط الجوهرية التي تضعها الإدارة، يصح القول بالتزام قواعد التفسير الضيق فيما يرد على خلاف هذا الأصل وبحيث تعتبر طبيعة العقد من العوامل التي يستعان بها في ترجيح المعنى الذي يتفق مع هذه الطبيعة.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة تتحصل - على ما يبين من أوراق الطعن - في أن المطعون ضده أقام الدعوى رقم 879 لسنة 15 القضائية أمام محكمة القضاء الإداري ضد وزير الداخلية طالباً الحكم بإلزام المدعى عليها بأن تدفع له مبلغ 146 جنيهاً 74 مليماً والمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة مع حفظ حقه في التعويض والفوائد من تاريخ المطالبة الرسمية وقال المدعي في تبيان دعواه أن إدارة أسلحة وإمدادات الشرطة طلبت توريد بويات وحدايد فتقدم في 31 من يوليه سنة 1960 بعينات عن 19 صنفاً فأشر على أربعة منها بالقبول ليكون التوريد على أساسها وقد حدد الأسعار في عطائه قرين كل صنف مشترطاً أن يكون التوريد طبقاً للعينات المقدمة منه فأخطرته الإدارة بقبول هذا العرض بالتحفظات التي ذكرها في عطائه وقام بالتوريد وقبلت منه الإدارة البضاعة بعد أن وقعت على الفاتورة رقم 49 في 11 من سبتمبر سنة 1960 بما يفيد الاستلام ثم حررت معه العقد بعد ذلك وجاء في ديباجته أنه تم توريد الأصناف بالأسعار وخلال المدة المحددة في العرض المقدم بتاريخ 7 من أغسطس سنة 1960 ومضى المدعي يقول أنه كان المفروض أن تقوم الإدارة بعد ذلك بدفع ثمن ما ورده فعلاً إلا أنه فوجئ بكتاب منها يتضمن أن ما ورده من البويات مخالف للمواصفات وأنها ترفض هذه الأصناف بحجة أن التوريد يجب أن يكون متفقاً مع قائمة الأصناف بمواصفاتها المحددة بالقائمة وأن العينات إنما تخص القسم الأول من القائمة دون القسم الثاني المرفوض. وأضاف أن الوزارة أصدرت قراراً بإلغاء العقد وتمسك المدعي بأن العقد تم إبرامه من تاريخ استلام أمر التوريد وأنه قام بالتوريد وفقاً للعينات المقبولة.
عقبت الوزارة على الدعوى بمذكرة قالت فيها أن إدارة الأسلحة والمهمات كانت قد أعلنت عن توريد أصناف لازمة لورشة النقاشين وقسمت هذه الأصناف إلى قسمين الأول أصناف مطلوب تقديم عينات عنها والقسم الثاني أصناف حسب مواصفات الجهة الإدارية ومنها البويات فتقدم المدعي بعطاء ضمنه أن توريد الأصناف الآتية يكون حسب العينة وهي الساقطة الحديد مغطية 10 سم والساقطة النحاس والمفصلة البقجة 3 سم وكتب أمام كل من هذه الأصناف "حسب العينة" أو "كالعينة" وجميع هذه الأصناف من الأصناف التي طلبت جهة الإدارة تقديم عينة عنها ولم يذكر المدعي في عطائه أمام أي صنف من الأصناف التي اشترطت الإدارة أن تكون حسب مواصفاتها أنه قدم عنها عينة وقد رسا عليه توريد كمية من البوية الحمراء الجاهزة بالزيت وكمية من البوية السوداء الجاهزة بالزيت والخالية من الأبيض الرصاصي وزيت نفض حسب المواصفات. وفي 23 من أغسطس سنة 1960 أخطر المطعون ضده بقبول عطائه وطلب منه سداد التأمين والتوقيع على العقد وتسلم أمر التوريد. وفي 11 من سبتمبر سنة 1960 تم التوقيع على العقد وجاء به أن التوريد يكون بجميع الشروط والمواصفات التي طرحت على أساسها العملية كما ذكر في العقد أمام الأصناف الثلاثة موضوع النزاع أن التوريد حسب المواصفات ونوع المواصفات التي يتم على أساسها التوريد وأنه لما قام المدعي بتوريد هذه الأصناف وأرسلت عينة من كل منها للتحليل ووردت نتيجة المعمل عن البوية الحمراء والسوداء أنها غير مطابقة للمواصفات من ناحية الخواص الطبيعية للدهان والتركيب الكيماوي وعلى هذا الأساس رفض التوريد وأخطر المتعهد لاستبدال الأصناف بغيرها تكون مطابقة للمواصفات واستطردت الوزارة إلى القول أنه ظاهر من العرض المقدم من المدعي عن الأصناف المطلوب توريدها حسب مواصفات جهة الإدارة أنه قدم حسب مواصفات السلاح لا حسب عينة وأن الملحوظة المدرجة بأسفل العطاء المتضمنة أن يكون التوريد حسب العينات المقدمة منه لا تعني أن جميع الأصناف سيتم توريدها حسب عينات وإلا لنص على ذلك قرين جميع الأصناف الواردة بالعطاء كما فعل بالنسبة للأصناف التي تقدم عنها بعينات وأن سبب عدم وجود عبارة حسب العينة أو كالعينة قرين الأصناف المطلوب توريدها حسب مواصفات الجهة الإدارية هو أنه لم يقدم عنها عينات فعلاً بل قدم عطاءه عنها حسب مواصفات الجهة الإدارية وأنه إذا فرض جدلاً أن المدعي تقدم بعطائه على أساس أن يتم توريد البويات وزيت النفض وفقاً لعينات يدعي تقديمها فإن اتفاقه اللاحق في العقد قد تضمن أن يكون توريد هذه الأصناف حسب المواصفات وبذلك فقد تعدل عرضه السابق بما يقتضي أن يكون التوريد حسب الاتفاق النهائي والأخير.
وبجلسة أول ديسمبر سنة 1963 أصدرت محكمة القضاء الإداري حكمها المشار إليه وأقامت قضاءها على ما استخلصته من الأوراق من أن المدعي أرفق بعطائه عينات عن الأصناف المطلوب عنها عينات وكذلك عن الأصناف الأخرى التي كان مطلوباً توريدها حسب المواصفات وهي البويات والزيوت الأمر الذي يقطع في الدلالة على أنه تقدم بعطائه على أساس أن يتم توريد الأصناف التي يقبل عنها العطاء وفقاً للعينات المقدمة منه. وأنه رغم وضح ما قصده المدعي بعرضه فإنه بالرجوع إلى محضر لجنة الممارسة يبين أنها أوصت بقبول هذا العرض بالنسبة إلى صنفي البوية وصنف زيت النفض على أساس أن العرض مقدم عن هذه الأصناف وفقاً للمواصفات لا العينات كما يبين أن الوزارة اعتمدت توصية لجنة الممارسة على هذا الأساس أيضاً وبناء على توصية لجنة الممارسة التي اعتمدتها الوزارة بكتابها المؤرخ 17 من أغسطس سنة 1960 أرسلت إدارة أسلحة وإمدادات الشرطة إلى المدعي كتابها المؤرخ 23 من أغسطس سنة 1960 المتضمن قبوله لعرضه وأعدت العقد الذي وقعه الطرفان في 11 من سبتمبر سنة 1960.
ومضى الحكم إلى القول بأن الشروط والمواصفات التي طرح التوريد على أساسها والتي علم بها المدعي ووقع عليها بما يفيد ذلك لا تخرج عن كونها نموذج "بيان الأصناف اللازمة لورشة النقاشين بالإدارة" ذلك النموذج الذي تقدم عليه المدعي بعرضه وكان توقيعه مقترناً بتحفظ مضمونه أن يكون التوريد حسب العينات المقدمة منه وأنه بإحالة العقد على تلك الشروط والمواصفات التي وقعها المدعي بالتحفظ المذكور تعتبر هذه الشروط بما فيها هذا التحفظ مكملة للعقد ويكون من حق المدعي بعد توقيعه هذا العقد أن يتمسك بقيام تحفظه سالف الذكر رغم ترديد العقد بعد ذلك للمواصفات التي تضمنها نموذج بيان الأصناف والتي انطوى التحفظ المشار إليه على تعديلها وينبني على ذلك أنه لا يمكن أن ينسب إلى المدعي أنه بتوقيعه العقد المذكور قد تنازل عن ذلك التحفظ أو قصد العدول عن عرضه السابق خصوصاً وأنه كانت لديه فعلاً البويات والزيت التي انصب عليها عرضه وقام بتوريدها في 11 من سبتمبر سنة 1960 أي في ذات يوم التوقيع على العقد. وأضاف الحكم أن الواقع من الأمر حسبما يستفاد من الأوراق أن الإدارة عندما أصدرت قبولها لعرض المدعي كانت واقعة في غلط إذ كانت تعتقد أن هذا العرض ينصب على توريد زيت وبويات مطابقة لمواصفاتها فأقدمت على التعاقد معه على هذا الأساس ولم يكن المدعي على علم بهذا الغلط وما كان من السهل عليه أن يتبينه في الظروف سالفة الذكر أي أن الغلط لم يكن مشتركاً وينبني على ذلك بقاء العقد صحيحاً وبذلك يكون المدعي ملزماً بالتوريد طبقاً لعرضه المقبول بما انطوى عليه من تحفظ وأنه لما كان لا يوجد في الأوراق ما يفيد أن الزيت والبويات التي وردها مخالفة لتلك العينات لذلك تكون الوزارة المدعى عليها ملزمة بأداء ثمنها بالإضافة إلى ثمن مفصلات تم قبولها فعلاً.
أقامت الوزارة طعنها على أن العبارة الواردة بذيل عطاء المدعي لا تنصرف إلا إلى القسم الأول من الأصناف المطلوب توريدها وهي التي طلب تقديم عينات عنها فقط أي أن هذه العبارة لا تنطوي على أي تحفظ وأن الأصل في عقود التوريد أن يتم التوريد طبقاً لمواصفات ورسوم المصلحة أما الاستثناء فهو أن يتم التوريد طبقاً لعينة من مقدم العطاء على شريطة أن تعلن الوزارة عن ذلك صراحة طبقاً لنص البند الخامس من المادة 137 من لائحة المخازن والمشتريات والمادة 38 من لائحة المناقصات والمزايدات وعلى ذلك فإن الوزارة لم تقع في غلط كما ذهب الحكم المطعون فيه وإنما قدم المطعون ضده العينة بالنسبة للبوية لمطابقتها لمواصفات الوزارة وأنه مما يؤكد انصراف العبارة التي أوردها المدعي بذيل عطائه إلى أصناف القسم الأول دون الزيت والبويات أنه وقع في 11 من سبتمبر سنة 1960 عقداً تعهد فيه بالتوريد طبقاً لشروط المصلحة ومواصفاتها.
ومن حيث إنه يبين من الرجوع إلى الاستمارة التي أعدت لتحرير العطاءات عليها أنها تضمنت قسمين من الأصناف المطلوب توريدها. القسم الأول وقد طلب من المتعهدين التقدم فيه على أساس التوريد بالعينة والقسم الثاني على أساس المواصفات الموضحة بالاستمارة وهي مواصفات نموذجية محددة سلفاً. والثابت أن المطعون ضده دون أسعاره مقابل كل صنف منها فيما خلا ثلاثة أصناف اعتذر عن التقدم فيها. وأنه دون أمام بعض أصناف القسم الأول أن التوريد حسب العينة أو كالعينة ولم يذكر هذه العبارة مقابل أي صنف من أصناف القسم الثاني التي هي مثار النزاع. ويبين من الاطلاع على محضر الممارسة المؤرخ 7 من أغسطس سنة 1960 أن اللجنة أوصت بقبول عرض المطعون ضده من صنف واحد من القسم الأول وهو المفصلات وعن ثلاثة أصناف من القسم الثاني وهي الزيت والبوية وكان واضحاً من أعمال اللجنة أن التوريد فيما يتعلق بأصناف القسم الثاني سوف يجرى على أساس المواصفات وليس على أساس العينة، وبناء على توصية اللجنة قبلت الوزارة عطاء المطعون ضده ووجهت إليه كتابها المؤرخ 23 من أغسطس سنة 1960 الذي أشارت فيه إلى العرض المقدم منه في الممارسة ودعته إلى الحضور لدفع التأمين النهائي واستلام أمر التوريد والتوقيع على العقد. وفي 11 من سبتمبر سنة 1960 تم التوقيع على العقد الذي تضمن تعهد المورد بأن يراعي في التوريد جميع الشروط والمواصفات التي طرحت على أساسها العملية التي علم بها ووقع عليها بما يفيد ذلك. وتدل الأوراق على أن المطعون ضده قام بالتوريد يوم توقيع العقد بموجب فاتورة أشر عليها الموظف المختص بأن الأصناف وردت تحت الفحص والاستلام.
ومن حيث إن إعلان الإدارة عن إجراء مناقصة أو مزايدة أو ممارسة لتوريد بعض الأصناف عن طريق التقدم بعطاءات ليس إلا دعوة إلى التعاقد، وأن التقدم بالعطاء وفقاً للمواصفات والاشتراطات المعلن عنها هو الإيجاب الذي ينبغي أن يلتقي عنده قبول الإدارة لينعقد العقد.
ومن حيث إن مثار النزاع الراهن هو الوقوف على المحل الذي التقت عنده إرادة الطرفين فعلى حين يذهب المطعون ضده إلى أن عطاءه كان على أساس التوريد بالعينة وفقاً للتحفظ الذي أردفه به والذي لقي - على حد قوله - استجابة الإدارة حين أبلغته بكتابها المؤرخ 23 من أغسطس سنة 1960 أنها قبلت عطاءه ودعته إلى القيام بالتوريد والحضور لتوقيع مشروع العقد تقرر الإدارة أن التوريد كان على أساس المواصفات حسبما ورد باستمارة العطاء وما تنطق به أعمال لجنة الممارسة وما نص عليه العقد الذي تم إبرامه في 11 من سبتمبر سنة 1960. ذلك يقتضي بالضرورة تقصي الإرادة المشتركة للطرفين في ضوء عباراته والظروف التي اكتنفت إبرامه حتى يتبين ما إذا كانت هذه الإرادة قد انصرفت إلى إبرام العقد على أساس العينة أو على أساس المواصفات أو أن الإرادتين لم تلتقيا على شيء فلا يكون ثمة عقد يمكن الارتكان إليه في المطالبة بثمن الأصناف المشار إليها. ذلك أن واقع الحال في هذه المنازعة أن عبارات العقد وملحقاته قد تحتمل أكثر من معنى ومن ثم لزم اللجوء إلى تفسيره باستخلاص النية المشتركة للمتعاقدين أو الإرادة الباطنة دون اعتداد بما لأي منهما من إرادة فرية لم يتلاق مع المتعاقد الآخر فيها.
ومن حيث إن الأصل في تفسير العقود - مدنية كانت أم إدارية - أنه إذا كانت عبارة العقد واضحة فلا يجوز الانحراف عنها عن طريق تفسيرها للتعرف على إرادة المتعاقدين، أما إذا كانت غير واضحة فقد لزم تقصي النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ مع الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل. وما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين وفقاً للعرف الجاري في المعاملات. والمقصود بوضوح العبارة هو وضوح الإرادة فقد تكون العبارة في ذاتها واضحة لكن الظروف تدل على أن المتعاقدين أساءا استعمال التعبير الواضح فقصدا معنى وعبرا عنه بلفظ لا يستقيم له هذا المعنى بل هو واضح في معنى آخر ففي هذه الحالة لا يؤخذ بالمعنى الواضح للفظ بل يجب أن يعدل عنه إلى المعنى الذي قصد إليه المتعاقدان دون أن يرمي ذلك بالمسخ والتشويه فالعبرة في تفسير العقود هي التعرف على النية المشتركة للمتعاقدين عن طريق معايير موضوعية تمكن من الكشف عنها.
ومن حيث إن الحكم المطعون فيه استخلص إرادة المتعاقدين من مجرد المعنى المتبادر من العبارة التي أوردها المطعون ضده في ذيل عطائه ومؤداها أن يكون التوريد حسب العينات المقدمة من محله فاعتبر الحكم أن هذه العبارة تمثل تحفظاً هو جزء من عطائه وأن قبول الإدارة لهذا العطاء بحالته ينصرف إلى العطاء مقروناً بهذا التحفظ.
ومن حيث إن الثابت أن استمارة العطاء واضحة في أن يكون توريد الأصناف المتنازع عليها على أساس العينة كما أن الثابت أيضاً أن المطعون ضده دون أسعاره على هذه الأصناف دون أن يشير أمامها أو أمام أي صنف منها إلى أن التوريد سيتم على أساس العينة مثلما فعل بالنسبة إلى أصناف القسم الأول ولو قد قصد المدعي حقاً إلى شمول عبارته للأصناف جميعها على خلاف الشروط العامة للتعاقد لأفصح عن مراده بطريقة جلية لا تدع مجالاً للشك أو التأويل فإذا أضيف أن المدعي وقع العقد بعد ذلك متضمناً النص على التزامه بأن يراعي في التوريد جميع الشروط والمواصفات التي طرحت على أساسها العملية دل ذلك على أن إيراده العبارة المذيل بها العطاء على الوجه التي وردت به يجاوز قصده. يساند ذلك طبيعة التعامل ذاته فالأصل أن من يوجه الإيجاب في العقد الإداري إنما يوجهه على أساس الشروط العامة المعلن عنها والتي تستقل الإدارة بوضعها دون أن يكون للطرف الآخر حق الاشتراك في ذلك وليس لمن يريد التعاقد إلا أن يقبل هذه الشروط أو يرفضها. فإذا أراد الخروج في عطائه على هذه الشروط فإن الأصل أن يستبعد هذا العطاء إلا أن يكون الخروج مقصوراً على بعض التحفظات التي لا تؤثر على الشروط الجوهرية المعلنة ففي هذه الحالة أجيز للإدارة أن تتفاوض مع صاحب العطاء الأقل للنزول عن كل أو بعض تحفظاته. ففي ضوء هذه الطبيعة المميزة لإجراءات التعاقد الإداري والتي لا يستقيم معها في الأصل التقدم بعطاء مغاير للشروط الجوهرية التي تضعها الإدارة، يصح القول بالتزام قواعد التفسير الضيق فيما يرد على خلاف هذا الفصل وبحيث تعتبر طبيعة العقد من العوامل التي يستعان بها في ترجيح المعنى الذي يتفق مع هذه الطبيعة وعلى ذلك فإنه بفرض أن العبارة التي ذيل بها المدعي عطاءه تحتمل معنيين أحدهما شمولها لجميع أصناف العطاء على خلاف الشروط المعلنة والثاني قصرها على أصناف القسم الأول وهو ما يتفق مع هذه الشروط فإن طبيعة هذا العقد تكون من العوامل المرجحة للمعنى الثاني على المعنى الأول ويتعين من ثم تغليب هذا المعنى المرجح في مجال التفسير.
يضاف إلى ما تقدم أن المشرع اعتد في المادة 38 من لائحة المناقصات والمزايدات المعمول بها والتي يسري حكمها على الممارسات بحكم الإحالة الواردة في المادة 124 بالعينات النموذجية والمواصفات أو الرسومات المعتمدة فيما يتم الاتفاق على توريده لجهة الإدارة واعتبر تقديم عطاء بالتوريد - في غير الحالات التي تجيز فيها الإدارة عدم التقيد بالعينات - قرينة قاطعة على علم المتعهد بها والتزامه التوريد على موجبها بصرف النظر عن أي عينة يرفقها المتعهد بعطائه. ومؤدى هذا الحكم في النزاع الراهن، هو عدم التعويل على ما يحتمل أن يكون المورد قد قدمه من عينات بالنسبة إلى أصناف القسم الثاني تغاير المواصفات الموضحة باستمارة العطاء.
ومن حيث إنه لما تقدم فإن تأويل الحكم المطعون فيه للعبارة الذي ذيل بها المدعي عطاءه والمشار إليها يكون تأويلاً مجافياً لحقيقة الواقع ومناقضاً للثابت في الدعوى مما يتعين معه إلغاؤه فيما قضى به من ثمن الأصناف الموجودة من القسم الثاني.
ومن حيث إنه فيما يتعلق بالمفصلات التي قام المطعون ضده بتوريدها من أصناف القسم الأول على أساس العينة فإن الثابت من الأوراق أن الجهة الإدارية قبلتها ولم تجحد أحقية المطعون ضده في ثمنها ومقداره جنيه و274 مليماً ومن ثم يتعين الحكم بإلزام الإدارة بأدائه.

"فلهذه الأسباب"

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً وعن موضوعه بتعديل الحكم المطعون فيه وذلك بإلزام الوزارة الطاعنة بأن تدفع للمدعي مبلغ جنيه و274 مليماً (فقط جنيه ومائتين وأربعة وسبعين مليماً) والمصروفات المناسبة ورفضت ما عدا ذلك من الطلبات.