أحكام النقض - المكتب الفني - جنائي
العدد الأول - السنة 7 - صـ 430

جلسة 20 من مارس سنة 1956

برياسة السيد مصطفى فاضل - وكيل المحكمة، وبحضور السادة حسن داود، ومحمود إبراهيم إسماعيل، ومحمد محمد حسنين، وفهيم يسى الجندي - المستشارين.

(124)
القضية رقم 49 سنة 26 القضائية

إضراب. جريمة التحريض على ترك العمل الفردي. القصد الجنائي فيها. عدم اشتراط القانون قصداً جنائياً خاصاً لقيامها. تحدث الحكم عن هذا الركن بعبارة مستقلة. غير لازم.
لا يشترط القانون لقيام جريمة التحريض على ترك العمل الفردي توافر قصد جنائي خاص بل يكفي لتوافرها أن يحصل التحريض عن إرادة من الجاني وعلم منه بجميع أركانها التي تتكون منها قانوناً وإن لم يترتب على تحريضه أو تشجيعه أية نتيجة. كما أنه لا يلزم أن يتحدث الحكم عن ركن القصد الجنائي بعبارة مستقلة بل يكفي أن يستفاد توافر هذا القصد ضمناً من البيانات الواردة في الحكم.


الوقائع

اتهمت النيابة العامة الطاعنين بأنهما: حرضا وشجعا عبد الرحمن أحمد أحمد حامد ومحمد علي محمود الأجيرين بمشروعات ري الجيزة وغيرهما من العمال الذين يشتغلون في خدمة الحكومة بأن طلب إليهم ترك العمل بمصالح الحكومة بدعوى قلة أجورهما وأنها ستستغني عنهم في القريب وحببا إليهم العمل بالسلطات العسكرية البريطانية بأجور مرتفعة تدفع لهم مقدماً ولم يترتب على تحريضهما أو تشجيعهما أية نتيجة لرفض العمال الاستماع إلى دعايتهما. وطلبت عقابهما بالمواد 124/ 9 و124/ 1 - 2 و124 ج من قانون العقوبات المعدلة بالقانون رقم 24 سنة 1951. نظرت محكمة جنح القاهرة المستعجلة هذه الدعوى وقضت حضورياً بتاريخ 25 من ديسمبر سنة 1951 عملاً بمواد الاتهام مع تطبيق المادة 463 فقرة ثانية من قانون تحقيق الجنايات بحبس كل من المتهمين سنة مع الشغل والنفاذ وتغريم كل منهما مائة جنيه. فاستأنف المتهمان هذا الحكم. نظرت محكمة مصر الابتدائية هذا الاستئناف ثم قضت حضورياً بقبوله شكلاً وفي الموضوع برفضه وتأييد الحكم المستأنف بالنسبة للمتهم الأول وتعديله بالنسبة للمتهم الثاني والاكتفاء بحبسه ستة شهور مع الشغل وتغريمه خمسين جنيهاً وأمرت المحكمة بأن يعامل المتهمان داخل السجن معاملة الفئة أ طبقاً للمادة 9 من المرسوم بقانون رقم 180 لسنة 1949 للائحة السجون. فطعن الطاعنان في هذا الحكم بطريق النقض. ومحكمة النقض قضت بقبوله شكلاً وفي الموضوع بنقض الحكم المطعون فيه وإحالة القضية إلى محكمة مصر الابتدائية للحكم فيه مجدداً من دائرة استئنافية أخرى وقيد هذا الطعن بجدول هذه المحكمة برقم 455 سنة 22 القضائية. ومحكمة مصر الابتدائية بعد سماع هذا الطعن للمرة الثانية قضت حضورياً بقبوله شكلاً وفي الموضوع برفضه وتأييد الحكم المستأنف بالنسبة للمتهم الأول وتعديله بالنسبة للمتهم الثاني والاكتفاء بحبسه ستة أشهر مع الشغل وتغريمه 50 ج بلا مصروفات جنائية. فطعن الطاعنان في هذا الحكم بطريق النقض للمرة الثانية... الخ.


المحكمة

.... وحيث إن مبنى الطعن هو أن الحكم المطعون فيه - إذ دان الطاعنين بجريمة التحريض على ترك العمل - قد انطوى على قصور في التسبيب وخطأ في تطبيق القانون وخطأ في الإسناد وإخلال بحقهما في الدفاع - ذلك بأن الاتهام الذي وجه للطاعنين تناول جريمتين إحداهما التحريض على ترك العمل والأخرى التشجيع عليه - وقد اقتصر حديث الحكم الابتدائي - المؤيد لأسبابه بالحكم الاستئنافي على جريمة التحريض دون غيرها مما مقتضاه ضمناً القضاء بالبراءة في جريمة التشجيع ولم تستأنف النيابة هذا الحكم وعندما تناول الحكم جريمة التحريض قصر عن الإحاطة بتوافر أركانها وشروطها وأدلة توافرها - هذا إلى أن الواقعة على فرض حصولها لا عقاب عليها - لأن القانون رقم 24 لسنة 1951 الذي عدل المادة 124 من قانون العقوبات - وضع لمقاومة الحركات الإجماعية - ولم يذكر الحكم شيئاً عن مطالب معينة للعمال تدفعهم إلى التكتل الطائفي والقيام بحركة إضراب إجماعي - أو يتحدث عن غرض مشترك للموظفين كانوا قد أجمعوا وتضامنوا على تحقيقه بطريق الإضراب الإجماعي - فضلاً عن أن الشارع حين ربط بين جريمة التحريض على ترك العمل وبين جريمة ترك العمل المنصوص عنها في الفقرة الثالثة من المادة 124 عقوبات المعدلة - قد دل على أن شروط جريمة التحريض هي بذاتها شروط الجريمة الأصلية وهي جريمة ترك العمل - وهذه الجريمة الأخيرة تستلزم قصداً خاصاً هو قصد عرقلة سير العمل والإخلال بنظامه وأن تقع جريمة التحريض في صورة فعل مباشر يتناول الموظف شخصياً حتى يكون شرط الوظيفة الحكومية قائماً - ولكن الحكم المطعون فيه أغفل ذلك كله ثم أن الواقعة المنسوبة إلى الطاعنين لا تقوم إلا إذا كان التحريض موجهاً إلى ثلاثة من الموظفين الحكوميين على الأقل أو من في حكمهم - لكن الحكم الابتدائي - المؤيد بالحكم المطعون فيه - ذكر اثنين من الموظفين وبقى غيرهما مجهولاً لم يتحقق توافر هذا الشرط في شأنه - ولم يذكر الحكم شيئاً عن طبيعة أعمال هذين الشخصين وإلى أي حد يكون تركهما العمل مؤدياً إلى توقف دولاب الأداة الحكومية وعرقلة سير العمل فيها واكتفى الحكم المطعون فيه بأن أخذ بأسباب الحكم الابتدائي الذي قال إنهما يعملان في إدارة تفتيش ري الجيزة دون أن يذكر مصدر هذا الثبوت في دليل معين يواجه به الطاعنين مما يجعله قاصراً في هذه الناحية أيضاً ثم أن المحكمة الاستئنافية برفضها إجراء المعاينة التي طلبها الطاعنان بمقولة "إنه ليس هناك ما يمنع ارتكاب الجريمة في محل الحادث" قد أغفلت دفاعهما في خصوصية هذا المكان الذي كان يتولى حراسته عدد كبير من رجال البوليس السري والعلني - يضاف إلى ذلك أن الحكم قرر أن المسافة بين ملتقى شارع خليل أغا وشارع البرجاس تقدر بنحو 550 متراً وأسس على ذلك تعذر سماع رجال البوليس ما يقع بمكان الحادث اعتماداً على محضر المعاينة الذي أجرته المحكمة الاستئنافية مع خلو محضر المعاينة من ذلك - هذا وقد حجزت محكمة ثاني درجة القضية للحكم مع الترخيص للدفاع بتقديم مذكرات وحرمتهما من المرافعة الشفوية وهو ضمان مقرر لهما في القانون - ومع هذا فقد أغفل الحكم الرد على ما جاء بهذه المذكرة من دفاع للطاعنين قام في أساسه على أن الاتهام ملفق صدر عن باعث سياسي من حزب الحكومة القائمة في ذلك الحين وقدم تدليلاً على ذلك أدلة ومستندات لم تكن تحت نظر محكمة أول درجة التي أيدت حكمها.
وحيث إن واقعة الحال أن النيابة أقامت الدعوى العمومية ضد الطاعنين بأنهما في 13 من ديسمبر سنة 1951 بدائرة قسم السيدة زينب حرضا وشجعا عبد الرحمن حامد أحمد ومحمد علي محمود الأجيرين بمشروعات ري الجيزة وغيرهما من العمال الذين يشتغلون في خدمة الحكومة بأن طلبا إليهم ترك العمل بمصالح الحكومة بدعوى قلة أجورها وأنها ستستغني عنهم في القريب العاجل وحبب إليهم العمل في السلطات العسكرية البريطانية بأجور مرتفعة تدفع لهم مقدماً ولم يترتب على تحريضهما أو تشجيعهما أية نتيجة لرفض العمال الاستماع إلى ادعائهما وطلبت عقابهما بالمواد 124/ 1 و124 "أ" و"ب" و124 "ج" من قانون العقوبات المعدل بالقانون رقم 24 لسنة 1951 وقد بين الحكم الابتدائي المؤيد لأسبابه بالحكم المطعون فيه واقعة الدعوى في قوله: "تتحصل في أنه حضر إلى القسم الصول السيد مرسي الشامي وأحمد محمد العرابي وجمال الدين الشرنوبي وصلاح الدين حمزة البنان ومعهم المتهمان وقرر الثاني والثالث أنهما أثناء سيرهما بجاردن سيتي بشارع خليل أغا شاهدا المتهمين واقفين مع بعض العمال يحرضانهما على ترك العمل بمصالح الحكومة والعودة للعمل بمعسكرات الجيش البريطاني بأجور مرتفعة، كما تقدم له كل من العسال عبد السيد محمد وحسن إبراهيم ومحمد علي محمود وعبد الرحمن حامد أحمد وعدلي علي أبو النور وقرروا جميعاً بأن المتهمين استوقفوهم ومعهم آخرون وظلوا ينصحونهم بترك العمل بالحكومة المصرية والعودة للعمل بالمعسكرات البريطانية حيث تضاعف الأجور وأنهما على استعداد لدفع الأجور مقدماً" . وأورد مؤدى الأدلة التي اعتمد عليها في ثبوت هذه الواقعة وعنى الحكم بالرد على ما دفع به الطاعنون من أن التحريض لم يكن مباشراً ولم يوجه إلى عمال يشتغلون في خدمة الحكومة فقال "وحيث إن دفاع المتهمين مردود بأنه مع التسليم بأنه يشترط في الركن المادي لجريمة التحريض المنصوص عليها في المادة 124 "أ" أن يكون التحريض مباشرة Pireute إلا أن المقصود من هذه العبارة ليس كما ذهب الدفاع في تفسيرها إنما المقصود أن يكون بين التحريض والفعل المرتكب رابطة السببية - أي بينه وبين الجريمة التي وقعت ما بين السبب والنتيجة فيجب أن يقع التحريض على فعل أو ترك يعتبره القانون جريمة وأن يصرف المحرض جهده وقصده إلى حمل سامعيه ودفعهم إلى هذا الفعل... وهذا ما وقع من المتهمين فقد كانت عباراتهما التي ذكرها الشهود جميعاً صريحة ومحددة وموجهة إلى قصد معين هو حمل العمال المحرضين على ترك العمل في خدمة الحكومة والالتحاق بخدمة الجيش البريطاني أما ما يستند إليه المتهمان في دفاعهما من أنه لم يثبت أن ما اقترفاه من تحريض على عمال يشتغلون في خدمة الحكومة... هذا القول مردود بما شهد عليه بالجلسة عبد الرحمن حامد أحمد من أن المتهمين حرضاه شخصياً هو وزميله محمد علي محمود على ترك العمل بالحكومة وما شهد به جمال الدين محمد الشرنوبي وصلاح الدين حمزة البنان اللذين قررا أن أحد العمال الذين كان المتهمان يحرضانهم أجاب عليهما بأنه يقبض أجرة من الحكومة... كما ثبت من أقوال الشهود جميعاً أمام المحكمة وفي تحقيق النيابة أن ثمة عمالاً آخرين كانوا واقفين وقت الحادث أثناء تحريض المتهمين لهم وأنهم فهموا أن هؤلاء العمال ملحقون بخدمة الحكومة" - وهذا الذي قرره الحكم صحيح في القانون. ذلك بأن المادة 124 عقوبات فرقت بين الترك الإجماعي للأعمال الذي نصت عليه في فقرتها الأولى وبين امتناع الموظف عن العمل دون حصول اتفاق مع الغير الذي نصت عليه الفقرة الثالثة منها وكذلك فصلت المادة 124 "أ" في صدد جريمة التحريض ففرقت في العقوبة بين من يقوم بالتحريض على ترك العمل الإجماعي وبين من يقوم بالتحريض على ترك العمل الفردي وهو ما تناولته الفقرة الثانية إذ نصت على أنه "يعاقب بالعقوبات المقررة بالفقرة الأولى وهي الحبس مدة لا تقل عن ثلاثة شهور ولا تجاوز سنة وبغرامة لا تتجاوز 100 جنيه" من المادة المذكورة (المادة 124 عقوبات) كل من حرض أو شجع موظفاً أو مستخدماً عمومياً أو موظفين أو مستخدمين عموميين بأية طريقة كانت على ترك العمل أو الامتناع عن تأدية واجب من واجبات وظيفته إذا لم يترتب على تحريضه أو تشجيعه أية نتيجة" - لما كان ذلك، وكانت العقوبة المقضي بها على الطاعنين تدخل في نطاق العقوبة المقررة للتحريض على الامتناع الفردي وكان القانون لا يشترط لقيام هذه الجريمة توافر قصد جنائي خاص بل يكفي لتوافرها أن يحصل التحريض عن إرادة من الجاني وعلم منه بجميع أركانها التي تتكون منها قانوناً - وإن لم يترتب على تحريضه أو تشجيعه أية نتيجة - وكان لا أساس لما يثيره الطاعنان من التفرقة بين جريمة التحريض والتشجيع فكل منهما صورة للأخرى وقد أورد الحكم الأدلة على قيام الجريمة من أقوال للشهود مردودة إلى أصلها في الأوراق وكان لا يلزم أن يتحدث الحكم عن ركن القصد الجنائي بعبارة مستقلة بل يكفي أن يستفاد توافر هذا القصد ضمناً من البيانات الواردة في الحكم وكان لا محل لما يثيره الطاعنان بصدد المنازعة في صفة من وقع عليهم التحريض ما دام أن الحكم أثبت في مدوناته صفتهما ولم ينكر الطاعنان ذلك أمام محكمة الموضوع - وكان الحكم قد رد على طلب معاينة مكان الحادث بقوله "ولا محل لإجابة هذا الطلب ذلك لأن محضر المعاينة التي أجرتها هذه المحكمة تضمن انتقالها إلى شارع أحمد باشا المذكور وتبين أن المسافة بين ملتقى شارع خليل أغا بشارع البرجاس ومنزل الرئيس السابق بشارع أحمد باشا تقدر بنحو 550 متراً وبالتالي فإن المسافة بين هذا الشارع وشارع الفسقية الذي وقع به الحادث أطول وبديهي أن هذه المسافة لا تسمح بأن يسمع من يكون بشارع أحمد باشا ما يقال بشارع الفسقية" - لما كان ما تقدم وكان ما قاله الحكم - وله أصله الثابت في الأوراق التي أمرت المحكمة بضمها تحقيقاً لهذا الوجه من الطعن - قد استمده من ماديات المعاينة التي أجرتها المحكمة، وكان الثابت من محضر جلسة 20 من نوفمبر سنة 1954 أن الطاعنين أبديا دفاعهما شفوياً وطلبا تأجيل الحكم مع التصريح لهما بمذكرات فأجابتهما المحكمة إلى طلبهما وليس في هذا الإجراء ما يخالف القانون - وكان ما يثيره الطاعنان في الوجه الأخير من الطعن من أن التهمة قد لفقت عليهما هو جدل موضوعي مما لا يصح إثارته أمام محكمة النقض - لما كان هذا كله فإن الطعن يكون برمته على غير أساس ويتعين رفضه موضوعاً.