مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الرابعة - العدد الثاني (من أول فبراير سنة 1959 إلى آخر مايو سنة 1959) - صـ 1162

(103)
جلسة 25 من أبريل سنة 1959

برياسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة السيد إبراهيم الديواني ومحيي الدين حسن والدكتور محمود سعد الدين الشريف وعبد المنعم سالم مشهور المستشارين.

القضية رقم 501 لسنة 4 القضائية

( أ ) طوائف. حرية الطوائف غير الإسلامية في ممارسة شعائرها الدينية - كفالة الدساتير المصرية لها - حق كل طائفة في إقامة دور عبادة خاصة بها - اشتراط صدور ترخيص به من وزارة المالية - حكمة ذلك.
(ب) قرار إداري. ترخيص ببناء كنيسة - رفض الإدارة لإصداره - قيام ذلك على أسباب صحيحة تبرره وتؤدي إليه - صحة القرار - مراجعة القضاء الإداري للإدارة في تقريرها للاعتبارات المتعلقة بمناسبة إصدار القرار - لا تجوز - مثال.
(جـ) قرار إداري. ملاءمة إصداره وتقدير المناسبات التي تدعو إلى ذلك - استقلال الإدارة بذلك - مدى حق القضاء الإداري في رقابة ذلك.
1 - إن الطوائف غير الإسلامية من أهل الكتاب تتمتع في مصر من قديم الزمان بحرية القيام بشعائرها الدينية، وذلك وفقاً لأحكام الإسلام وتعاليمه السمحة، وقد رددت ذلك نصوص الخط الهمايوني الصادر من الباب العالي في نوفمبر سنة 1856، ومن بعده نصوص الدساتير المصرية التي أصدرت منذ سنة 1923 حتى الآن. ويتفرع عن ذلك أن لكل طائفة أن تطلب إقامة الدور اللازمة لأداء شعائرها الدينية من كنائس وبيع وأديرة ومعابد، إلا أنه لاعتبارات تتعلق بالصالح العام قضت نصوص الخط الهمايوني بوجوب الحصول على ترخيص في إنشاء تلك الدور، وأكدت الدساتير المصرية ذلك عند الإشارة إلى وجوب مراعاة ما جرى عليه العرف والتقاليد في هذا الشأن من قديم الزمان، وهى التي دونتها وزارة الداخلية في 19 من ديسمبر سنة 1933، ودرج العمل على مقتضاها عند النظر في هذا الشأن. وقد أريد بذلك كله أن تتوافر في إنشاء تلك الدور الشروط التي تكفل إقامتها في بيئة محترمة تتفق مع وقار الشعائر الدينية وطهارتها، والبعد بها عما يكون سبباً لاحتكاك الطوائف الدينية المختلفة وإثارة الفتن بينها.
2 - إذ كانت الإدارة قد أبانت الأسباب التي دعتها إلى رفض الترخيص في بناء الكنيسة في المكان الذي أصر المدعي على بنائها فيه، وهى تتلخص في قرب هذا الموقع من مسجدي القرية ومدرستها وقربة من مساكن المسلمين الذين عارضت أغلبيتهم في إقامتها مع قلة عدد المسحيين في القرية نسبياً الذين درجوا من قديم الزمان على إقامة الشعائر في كنيسة ميت خاقان المجاورة لقرية وزير، وتلك الأسباب قدرتها الإدارة بما لها من حق التقدير في ضوء الصالح العام، توقياً من حصول الفتن والاحتكاكات بين المسلمين والأقباط، مما قد يخل بالنظام والأمن العام، ولهذه الأسباب أساسها الصحيح الثابت في الأوراق، وهى تؤدي إلى النتيجة التي انتهت إليها الإدارة من رفض طلب الترخيص في الموقع المذكور، ولم تنحرف في ذلك بسلطتها العامة، ولم ينطو قرارها على أية شائبة من إساءة استعمال السلطة. وآية ذلك أنها عرضت على المدعي الترخيص له في إقامة الكنيسة في أي موقع آخر من البلدة ينأى بسكانها - أقباطاً ومسلمين - عن حصول الاحتكاك أو الفتن بينهم للأسباب التي فصلتها الإدارة، إذا كان ذلك كذلك، فإن القرار المطعون فيه يكون - والحالة هذه - قد صدر مطابقاً للقانون خالياً من أي عيب، ويكون الحكم المطعون فيه - إذ ذهب غير هذا المذهب - قد خرج عن مجال التعقيب القانوني الصحيح على القرار واتجه وجهة وأخرى قوامها مراجعة الإدارة في وزنها لمناسبات القرار وملاءمة إصداره، فأحل نفسه بذلك محلها فيما هو داخل في صميم اختصاصها وتقديرها، بدعوى أن الأسباب التي أخذت بها الإدارة لا تؤدي عقلاً إلى النتيجة التي انتهت إليها، مع أن هذه دعوى لا تستند إلى أي أساس سليم من الواقع أو القانون، بل على العكس من ذلك قد كان وزن الإدارة لمناسبات قرارها وزناً معقولاً مستخلصاً استخلاصاً سائغاً من الوقائع التي فصلتها بشأن الموقع الذي يصر المدعي على إقامة الكنيسة فيه، وما قد يترتب على ذلك - في نظر الإدارة - من اضطراب حبل الأمن في القرية، وهى صاحبة التقدير الأول والأخير في هذا الشأن.
3 - ليس من حق القضاء الإداري أن يستأنف النظر بالموازنة والترجيح فيما قام لدى جهة الإدارة من اعتبارات قدرت على مقتضاها ملاءمة إصدار القرار، ما دام هذا التقدير استخلص استخلاصاً سائغاً من الوقائع الثابتة في الأوراق، وإلا كان في ذلك مصادرة للإدارة على تقديرها، وغَلا ليدها عن مباشرة وظيفتها في الحدود الطبعية التي تقتضيها هذه الوظيفة، وما تستلزمه من حرية في وزن مناسبات القرارات التي تصدرها، وتقدير ملاءمة إصدارها.


إجراءات الطعن

في يوم 8 من مايو سنة 1958 أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة طعناً في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري (الهيئة الأولى) بجلسة 11 من مارس سنة 1958 في الدعوى رقم 3508 لسنة 9 ق المقامة من عوض الله إبراهيم ضد وزارة الداخلية، القاضي بإلغاء القرار الإداري الصادر من وزارة الداخلية بتاريخ 29 من مارس سنة 1955 برفض التصريح للمدعي بإقامة كنيسة للأقباط الأرثوذكس بناحية وزير ومنشأة إبراهيم حبشي مركز شبين الكوم مديرية المنوفية، وألزمت الحكومة بالمصروفات وبمبلغ خمسمائة قرش مقابل أتعاب المحاماة. وطلب السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة - للأسباب التي استند إليها - الحكم بقبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع إلغاء الحكم المطعون فيه، ورفض الدعوى، وإلزام المدعي بالمصروفات. وقد أعلن الطعن للحكومة في 17 من مايو سنة 1958، وللمدعي في 25 منه، وتحد لنظر الطعن أمام هذه المحكمة جلسة 31 من مايو سنة 1958. وفي 7 من مايو سنة 1958 أبلغت الحكومة والمدعي بميعاد هذه الجلسة، وفيها وفي الجلسات التالية سمعت المحكمة ما رأت سماعه من إيضاحات ذوي الشأن على الوجه الموضح بمحضر الجلسة، ثم قررت إرجاء النطق بالحكم في الطعن إلى جلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة - حسبما يبين من الأوراق - تتحصل في أنه بصحيفة مودعة سكرتارية محكمة القضاء الإداري في 4 من يوليه سنة 1955 أقام المدعي هذه الدعوى وطلب فيها الحكم بإلغاء القرار الإداري الصادر برفض الترخيص في إقامة كنيسة للأقباط الأرثوذكس بناحية زوير منوفية، مع الترخيص بإقامتها، وبإلزام الوزارة بالمصاريف والأتعاب. وقال شرحاً لدعواه إنه تقدم لوزارة الداخلية بطلب الترخيص له بإقامة كنيسة صغيرة للأقباط الأرثوذكس ببلدته الأصلية ناحية وزير ومنشأة إبراهيم حبشي التابعة لمركز شبين الكوم، وأرفق بطلبه العقد الذي اشترى بمقتضاه الأرض اللازمة لهذا المشروع الخيري على أمل وفقها وتخصيصها لإقامة الكنيسة عليها، كما قدم رسماً للأرض والكنيسة ومكانها من القرية ومن الأمكنة المجاورة، غير أن وزارة الداخلية لم توافق على الطلب أخذاً باقتراح مأمور المركز الذي استند إلى القول بأن الأرض المزمع إقامة الكنيسة عليها قريبة من أحد مساجد القرية ومن المدرسة ومن مساكن المسلمين؛ ولأن عدد أقباط القرية لا يجاوز مائتي شخص ذكوراً وإناثاً يمكنهم الصلاة في كنيسة بقرية مجاورة تبعد ثلاثة كيلو مترات عن ناحية وزير ومنشأة إبراهيم، وقد ثار عدد من الأهالي عندما عملوا بإقامة الكنيسة، وأبرقوا لوزارة الداخلية، وضمنوا شكواهم بأن إقامة الكنيسة يحدث فتنة بين الأقباط والمسلمين. واستطرد المدعي قائلاً بأن هذه الحجج واهية وغير صادقة ومصطنعة؛ ذلك أن المكان المزمع إقامة الكنيسة عليه يقع في أقصى مكان في القرية، ومجاور للمزارع، ويفصله عن أقرب مسجد ثلاثة شوارع. وبدهي أن القرية مساحتها صغيرة، كما أن مبنى المدرسة مؤجر ويحتمل نقلها إلى مكان آخر، ولن يضايق الطلبة وجود كنيسة أو جامع على مقربة منهم، وهم الذين يتلقون آيات التسامح، وأن المسيحيين في هذه القرية يشق عليهم الانتقال لكنيسة القرية المجاورة، وهى تبعد ثلاثة كيلو مترات، وأخيراً إذا كان عدد المسحيين لا يزيد على مائتي نسمة، وقد رغب المدعي أن يقيم لهم كنيسة في بلدتهم قربى لله، فلا يقال إن هذا محدث لفتنة. وقد أجابت وزارة الداخلية على الدعوى بمذكرة تضمنت أن السيد يحيى صليب جرجس تقدم بطلب للترخيص كنيسة لطائفة الأقباط الأرثوذكس تبرع بها السيد/ عوض الله إبراهيم بناحية زوير ومنشأة حبشي بمركز شبين الكوم، وقد تبين من التحريات الإدارية التي أجريت في شأن هذه الكنيسة ما يأتي: 1 - الأرض المزمع إنشاء الكنيسة عليها مملوكة لعوض الله إبراهيم (المدعي) بمقتضى عقد عرفي غير مسجل، ويقول المالك إن في نيته وقف الأرض بعد إنشاء الكنيسة عليها. 2 - تبعد أرض الكنيسة 50 متراً من المدرسة الابتدائية ومائتي متر من المسجد البحري ومائة متر من المسجد القبلي، ويرى مأمور المركز أن صوت الجرس سوف يؤثر على سير الدراسة بالمدرسة وعلى إقامة الصلاة بالمسجدين. 3 - يجاور أرض الكنيسة مساكن للمسيحيين والمسلمين، وقدم المسلمون عدة شكاوى ضد فكرة إقامة هذه الكنيسة، ويرى مأمور المركز أنهم محقون في شكواهم. 4 - يؤدي أقباط ناحية وزير شعائرهم الدينية في كنيسة ميت خاقان، وهى على بعد كيلو مترين، وتسع ألفين من المصلين، ويرى المركز أنها كافية، كما توجد بحصة مليج - على بعد أربعة كيلو مترات - كنيسة أخرى. 5 - عدد المصلين من أبناء الطائفة بناحية وزير لا يزيد عن ستين شخصاً من مجموعهم البالغ 169. ويرى مأمور المركز عدم الموافقة على إنشاء الكنيسة مع حفظ الطلب، وقد وافقت المديرية على هذا الرأي. ثم تقدم المدعي بالتماس لرياسة مجلس الوزراء للترخيص له في بناء الكنيسة، وأرفق بالتماسه مذكرة ضمنها أن الأبعاد ليست حقيقية، وأن الجرس لا يؤثر على سير الدراسة ولا على الصلاة بالمسجدين، وذكر أن المأمور هو الذي يمانع في بناء الكنيسة. فكتبت الوزارة للمديرية لفحص الموضوع وإبداء الرأي النهائي. وفي 24 من مارس سنة 1955 ردت المديرية الأوراق ومعها محضر معاينة أجراها مفتش بوليس منطقة شبين الكوم ومفتش ضبط المديرية بالاشتراك مع مهندس المساحة لمديريتي المنوفية والقليوبية، وأتضح من المعاينة أن المكان المزمع إنشاء الكنيسة عليه يبعد عن المسجد القبلي بمسافة قدرها 130 متراً، وعن المسجد البحري بمسافة قدرها 170 متراً، وعن المدرسة بمسافة قدرها 85 متراً، وأن إنشاء الكنيسة مع وجود أجراس بها سيؤثر على سير الدراسة بالمدرسة وعلى إقامة الصلاة بالمسجد القبلي. وللتوفيق بين إقامة الشعائر الدينية بالكنيسة مع عدم التأثير على سير الدراسة بالمدرسة وإقامة الصلاة بالمسجد القبلي، اقترح مفتش البوليس ومفتش الضبط الترخيص في إنشاء الكنيسة في الموقع المشار إليه، على أن تكون بدون أجراس. وقد وافقت المديرية على هذا الرأي مع أخذ تعهد بعدم إقامة أبراج للأجراس بالكنيسة، أو وضع أجراس على قوائم بها قبل الترخيص بإنشائها. وتأشر على المذكرة من السيد/ طه عبد المطلب في 27 من مارس سنة 1955، بأنه يتضح من الأوراق أن هناك معارضة جديدة في إقامة الكنيسة المطلوبة وسط مساكن المسلمين والمساجد والمدارس، وقد حدا ذلك بمأمور المركز وبالمديرية إلى عدم الموافقة على إقامتها، وأنه بناء على شكوى عوض الله إبراهيم (المدعي) أعادت المديرية النظر في الموضوع بواسطة لجنة مكونة من القائمقام مفتش منطقة شبين الكوم ومفتش الضبط ومهندس المساحة فاتضح أن المسافات بين الموقع المعد للكنيسة وبين المسجدين والمدرسة كما يأتي:

من موقع الكنيسة في تقدير المأمور في تقدير اللجنة
إلى المسجد البحري 200 170
إلى المسجد القبلي 100 130
إلى المدرسة 50 85

ويقول السيد/ طه عبد المطلب إن هذا الاختلاف لا يدل على ميل خاص للمأمور أو رغبة في تغيير الحقائق كدعوى الشاكي. وانتهت التأشيرة إلى أن المأمور قد راعى الظروف المحلية في المنطقة نظراً لشكاوى المسلمين وقلة عدد المسحيين، ووجود كنيسة قائمة في ناحية ميت خاقان على بعد كيلو مترين. وقد سلكت لجنة المديرية الأخيرة طريقاً وسطاً بالموافقة على الترخيص ببناء الكنيسة مع عدم تركيب أجراس بها. ويرى محرر التأشيرة السيد/ طه عبد المطلب - أنه إزراء الشكاوى التي لا تزال قائمة من المسلمين - الموافقة على رأى مأمور المركز، والتنبيه على الطالب باختيار قطعة أرض أخرى. وقد أشر وكيل الوزارة الدائم في 29 من مارس سنة 1955 بما يفيد موافقته على هذا الرأي الأخير. وبجلسة 11 من مارس سنة 1958 قضت المحكمة بإلغاء القرار الإداري 29 من مارس سنة 1955 برفض الترخيص للمدعي في إقامة كنيسة للأقباط الأرثوذكس بناحية زوير ومنشأة إبراهيم حبشي مركز شبين الكوم مديرية المنوفية، وألزمت الحكومة بالمصروفات وبمبلغ خمسمائة قرش مقابل أتعاب المحاماة، وأسست المحكمة قضاءها على أن المدعي ينعى على القرار الصادر برفض الترخيص في إقامة كنيسة ببلدة زوير منوفية انطواءه على التعسف وسوء استعمال السلطة؛ ذلك أنه بني على أسباب غير صحيحة ولا تؤدي إلى رفض الترخيص. ويذكر الحكم أن الطوائف غير الإسلامية تتمتع في الديار المصرية من قديم الزمان بحرية القيام بشعائرها الدينية؛ عملاً بنصوص الشريعة الإسلامية الغراء. وقد تأكد ذلك بنصوص الخط الهمايوني الصادر من الباب العالي في نوفمبر سنة 1856، وبالنص على ذلك في جميع الدساتير المصرية التي صدرت منذ سنة 1923 حتى الآن. ويتفرع عن هذه الحرية حق كل طائفة في إقامة الدور اللازمة لأداء شعائرها الدينية، كالكنائس والمعابد والبيع والأديرة؛ وذلك بشرط واحد ورد في الخط الهمايوني سالف الذكر ولا زال مرعياً حتى الآن باعتباره من العادات المرعية من قديم الزمان، وهذا الشرط هو صدور رخصة بذلك من الباب العالي أو من رئيس الدولة في مصر بعد ما انتقل إليه هذا الحق لما انفصلت مصر عن الدولة العثمانية منذ سنة 1914 واستقلت بشئونها. ويقول الحكم إن الحكمة في اشتراط الترخيص هو تمكين الحكومة من الإشراف على بناء الكنائس ودور العبادة حتى تقوم في بيئة محترمة ولائقة، وحتى لا ينشأ عن قيامها فتنة تخل بالأمن العام أو تثير أحقاداً دينية بين أهل الأديان والملل المختلفة من سكان البلاد؛ ومن ثم وجب أن يكون إشراف الحكومة في هذه النطاق، فلا يتعداه إلى إيجاد أي تفرقة بين الطوائف في إنشاء هذه الدور، أو خلق عقبات أو قيود لا مبرر لها في إنشائها، وإلا كان ذلك حداً لحرية هذه الطوائف في إقامة شعائرها الدينية لا يجيزه القانون. ويستطرد الحكم إلى القول بأن التحريات التي تجريها وزارة الداخلية عادة عند طلب الترخيص في إنشاء كنيسة أو دار للعبادة لا تهدف في الواقع إلا إلى الغاية المتقدمة، وهى التحقق مما إذا كان إنشاء الكنيسة في الموقع المختار لها لائقاً، مما إذا كان يهدد الأمن ويثير الفتن بين الناس أم لا. ولما كانت الضوابط الدالة على ذلك غير ثابتة، بل هي تختلف باختلاف كل مدينة أو بلد بدرجة اتساعها وحالة سكانها الاجتماعية وعادتهم ودرجة ثقافتهم، فإنه يجب أن ينظر إلى كل حالة على حدة بحسب ظروفها، والمعول عليه دائماً في صحة القرار الإداري برفض الترخيص في بناء الكنيسة، هو أن يقوم على أسباب صحيحة تخل فعلاً بالأمن العام أو يخشى أن تخل به، فإذا ما توافرت هذه الأسباب في القرار كان صحيحاً ولا غبار عليه. وتذكر المحكمة أنه قد استبان لها من أوراق الدعوى أن الجهة الإدارة قد استندت في قراراها - المطعون فيه - برفض الترخيص للمدعي في بناء الكنيسة إلى قيام معارضة جدية من أهالي القرية في إقامتها، وإلى أن أصوات الأجراس المقتضي وضعها بالكنيسة تؤثر على إقامة الصلاة بالمسجدين وعلى سير الدراسة في المدرسة، وإلى أن عدد المسحيين قليل، وأنهم يؤدون شعائرهم الدينية في كنيسة قائمة ببلدة ميت خاقان القريبة. وتقول الجهة الإدارية إنها تغيت في قرارها صيانة الأمن العام وتفادي الاحتكاك، وأشارت على الطالب باختيار مكان صالح غير ذلك. واستخلص الحكم مما تقدم أن القرار المطعون فيه قد قام على أسباب أربعة: الأول قرب الكنيسة من مدرسة القرية ومسجديها، والثاني قربة من مساكن المسلمين الذين عارضوا في إقامة الكنيسة، والثالث قلة عدد المسيحيين، والرابع وجود الكنيسة في بلدة ميت خاقان المجاورة لقرية زوير يمكن لأقباط هذه البلدة الأخيرة أداء شعائرهم الدينية فيها. وناقشت المحكمة السببين الأول والثاني قائلة إن الثابت من الأوراق ومن الخريطة المقدمة أن الموقع الذي اختياره المدعي لبناء الكنيسة يقع في أقصى القرية ويجاور المزارع ويبعد عن أحد مسجدي القرية بمائة وسبعين متراً، وعن المسجد الآخر بمائة وثلاثين متراً، وعن المدرسة بخمسة وثمانين متراً. وترى المحكمة أن هذه الأبعاد بالنسبة لقرية لا يتجاوز عدد سكانها ألفي نسمة كافية لمنع كل احتكاك بين أهل القرية أو شوشرة على الدراسة، هذا بالإضافة إلى أن الجهة الإدارية باشتراطها على المدعي عدم تركيب جرس للكنيسة قد أبعدت كل احتمال في ذلك. وتقول المحكمة إن المقصود من التحري في شأن السببين الثالث والرابع هو الوقوف على مدى الحاجة إلى الكنيسة المطلوب الترخيص بها، فإذا ما تبين أنه ليس هناك ضرورة ملحة إلى ذلك، كان عليها أن تتحرى عن البواعث الحقيقة لإنشائها، لعل الباعث لدى الطالب يكون مجرد التحدي لطائفة أخرى، أوجب التظاهر الذي يثير الحماس الديني والغيرة في نفوس أهل الطوائف الأخرى، فيؤدي ذلك إلى إثارة الفتن والإخلال بالأمن، ففي هذه الحالة يحق لها أن تتدخل وترفض الترخيص. أما إذ تبين أن ليس في الأمر شيء من ذلك، وأن الدافع الحقيقي لطالب الترخيص على إنشاء الكنيسة، كما هو الحال في خصوصية هذه الدعوى، هو البر المحض بأهل الطائفة؛ إذ تقدم متبرعاً بالأرض والمال اللازم لإنشاء الكنيسة بقصد التخفيف عن أهل القرية من المسيحيين، والتيسير عليهم في إقامة شعائرهم الدينية إذا مات أحدهم أو تزوج أو أرادوا إقامة الصلاة فيها أيام الأعياد والمواسم؛ وذلك بعد أن كانوا يتكبدون في سبيل ذلك مشقة الانتقال إلى قرية ميت خاقان المجاورة والبعيدة عنهم بثلاثة كيلو مترات ونصف - متى كان ذلك كذلك، فإنه لا يصح في الذهن أن الأمن العام يتأثر بإنشاء الكنيسة في هذه الحالة، وبالتالي لا يجوز رفض الترخيص لهذين السببين. هذا ويرى الحكم أن القول بأن هناك شكاوى من فريق من مسلمي القرية بالتضرر من إقامة الكنيسة، أن هذه الشكاوى يقابلها أيضاً قبول من فريق آخر من مسلمي القرية بالموافقة على إنشاء الكنيسة، ومع ذلك فإن هذه الشكاوى تقوم على أساس واحد، وهو أن الكنيسة غير لازمة للمسيحيين من أهل القرية لقلة عددهم، وأنه يحسن أن يتجه المدعي بماله إلى مشروع أنفع للقرية لو أنه أراد الخير حقيقة؛ إذ ليس بالبلدة عملية مياه لتغذية أهلها. ويقول الحكم إن هذا الذي يقوله الشاكون هو رغبة سليمة قد تكون في محلها، ولكنها لا تخول الجهة الإدارية فرض إدارتها على المدعي فتوجهه الوجهة التي يريدها الشاكون، وتحوله عن بناء الكنيسة إلى إقامة عملية مياه لأهل القرية، وليس في هذه الشكاوى ما يدل على اتجاه واضح لمقدميها إلى الإخلال بالأمن العام بأية صورة إذا ما أنشئت الكنيسة. ويستطرد الحكم قائلاً إنه وإن كانت للجهة الإدارية سلطة تقديرية في الترخيص ببناء كنيسة ما أو رفضه، إلا أن قرارها يجب أن يكون مستنداً إلى وقائع صحيحة تؤدي إليه، وإلا انعدام أساسه وخالف القانون، وإذ كانت الواقعة التي يستند إليها القرار برفض الترخيص ببناء الكنيسة - كما سبق القول - هي عدم ملاءمة الموقع المختار لها، إما لمساسه بالأمن العام، وإما لأنه لا يقع في بيئة محترمة ولائقة. وقد أسست الحكومة قرارها المطعون فيه على أن الموقع المختار ضار بالأمن العام، إلا أن الأسباب التي ساقتها لإثبات هذه الواقعة لا تؤدي عقلاً لإثباتها كما سبق بيانه. ويختتم الحكم أسبابه التي قام عليها بالقول: ومن ثم يكون القرار قد انعدم أساسه وخالف القانون، ويتعين إجابة المدعي إلى طلب إلغائه.
ومن حيث إن الطعن يقوم على أن الحكم المطعون فيه لا ينازع في أنه يشترط لإنشاء معابد للطوائف الدينية المختلفة غير الإسلامية صدور رخصة في ذلك من السلطات المختصة، والفكرة في ذلك - كما يقول الحكم المطعون فيه - صيانة الأمن العام والحيلولة بين أفراد الشعب والفتن الطائفة. والإدارة إذ أصدرت القرار المطعون فيه برفض إنشاء الكنيسة إنما أصدرته في حدود سلطتها التقديرية التي لا يحدها إلا التعسف أو الانحراف. ويرى الطعن أن الإجراءات التي اتخذت حيال الطلب تنفي وجود أي تعسف أو انحراف، بل تفصح في جلاء عن أن الوزارة قد تغيت الصالح العام واستهدفت حفظ الأمن ومنع الفتنة الطائفية أن تنشب في هذه القرية الآمنة. ويقول الطعن إن الأسباب الأربعة التي استندت إليها الإدارة في قرارها بالرفض سليمة ووجهة، وتؤدي عقلاً ومنطقاً للنتيجة التي انتهت إليها، وهى رفض الطلب لعدم ملاءمة الموقع بالنسبة للأمن العام. فعدد أقباط القرية 169 شخصاً بين ذكور وإناث، والمصلون منهم لا يجاوز عددهم الستين شخصاً، ويمكنهم أن يؤدوا شعائر دينهم في كنيسة ميت خاقان الرحبة التي تسع لآلاف المصلين، والتي لا تبعد عنهم بأكثر من ثلاثة كيلو مترات والتي يساهمون في نفقاتها، كما أن الموقع المختار لإقامة الكنيسة وإن كان في أقصى البلد إلا أنه متاخم لمساكن المسلمين وقريب جداً من مسجدي البلد ومن المدرسة، فهو يبعد عن المسجد البحري بمائة وسبعين متراً، وعن المسجد القبلي بمائة وثلاثين متراً، وعلى المدرسة بخمسة وثمانين متراً، وإذا كانت المسافة مسألة نسبية كما يقول الحكم، فإنه يجب أن ينظر إليها بعين الإدارة المسئولة عن الأمن والحريصة عليه، والتي تقدر المسافة في ضوء حالة القرية ومدى اتساع أفق أهليها أو ضيقه. وقد قدرت في حدود سلطتها أن هذا الموقع غير ملائم، وأن من شأنه - في ضوء الاعتبارات المتقدمة - أن يثير فتنة تهدد حبل الأمن بالاضطراب، كما أنه لا حجة في قول الحكم بأنه إذا كان هناك من يشكو من الترخيص في إقامة الكنيسة، فهناك مثلهم من أبدوا موافقهم على إقامتها - لا حجة في ذلك؛ لأن العبرة في نظر الإدارة برأي الشاكين؛ لأن هؤلاء هم الذين يخشى أن يؤدي عدم الإصغاء إلى شكايتهم إلى الإخلال بالأمن وبث روح الفتنة الطائفية. ويستطرد الطعن قائلاً إن الإدارة قد درست الطلب دراسة وافية، وأبدت فيه رأيها في ضوء الصالح العام، فلما اشتكى الطالب اتسع صدورها، وأعادت فحص الموضوع وانتهت إلى نفس النتيجة، فأصدرت بالرفض في حدود سلطتها التقديرية دون ما تعسف أو انحراف؛ ومن ثم جاء قرارها سليماً حصيناً من الإلغاء، لا سيما وقد طلبت إليه اختيار موقع آخر، كما وافقت على الترخيص بدون أجراس، فرفض المدعي. ويختتم الطعن أسبابه بالقول بأنه إذ ذهب الحكم المطعون فيه غير هذا المذهب فقد تعين الطعن فيه أمام المحكمة العليا بالإلغاء.
ومن حيث إن الطوائف غير الإسلامية من أهل الكتاب تتمتع في مصر من قديم الزمان بحرية القيام بشعائرها الدينية؛ وذلك وفقاً لأحكام الإسلام وتعاليمه السمحة، وقد رددت ذلك نصوص الخط الهمايوني الصادر من الباب العالي في نوفمبر سنة 1856، ومن بعده نصوص الدساتير المصرية التي صدرت منذ سنة 1923 حتى الآن، ويتفرع عن ذلك أن لكل طائفة أن تطلب إقامة الدور اللازمة لأداء شعائرها الدينية من كنائس وبيع وأديرة ومعابد، إلا أنه لاعتبارات تتعلق بالصالح العام قضت نصوص الخط الهمايوني بوجوب الحصول على ترخيص في إنشاء تلك الدور، وأكدت الدساتير المصرية ذلك عند الإشارة إلى وجوب مراعاة ما جرى عليه العرف والتقاليد في هذا الشأن من قديم الزمان، وهي التي دونتها وزارة الداخلية في 19 من ديسمبر سنة 1933، ودرج العمل على مقتضاها عند النظر في هذا الشأن. وقد أريد بذلك كله أن تتوافر في إنشاء تلك الدور الشروط التي تكفل إقامتها في بيئة محترمة تتفق مع وقار الشعائر الدينية وطهارتها والبعد بها عما يكون سبباً لاحتكاك الطوائف الدينية المختلفة وإثارة الفتن بينها.
ومن حيث إن الإدارة قد أبانت الأسباب التي دعتها إلى رفض الترخيص في بناء الكنيسة في المكان الذي أصر المدعي على بنائها فيه، وهى تتلخص في قرب هذا الموقع من مسجدي القرية ومدرستها وقربة من مساكن المسلمين الذين عارضت أغلبيتهم في إقامتها، مع قلة عدد المسحيين في القرية نسبياً الذين درجوا من قديم الزمان على إقامة الشعائر في كنيسة ميت خاقان المجاورة لقرية زوير، وتلك الأسباب قدرتها الإدارة بما لها من حق التقدير في ضوء الصالح العام؛ توقياً من حصول الفتن والاحتكاكات بين المسلمين والأقباط، مما قد يخل بالنظام والأمن العام؛ ولهذه الأسباب أساسها الصحيح الثابت في الأوراق، وهى تؤدي إلى النتيجة التي انتهت إليها الإدارة من رفض طلب الترخيص في الموقع المذكور، ولم تنحرف في ذلك بسلطتها العامة، ولم ينطو قرارها على أية شائبة من إساءة استعمال السلطة. وآية ذلك أنها عرضت على المدعي الترخيص له في إقامة الكنيسة في أي موقع آخر من البلدة ينأى بسكانها - أقباطاً ومسلمين - من حصول الاحتكاك أو الفتن بينهم؛ للأسباب التي فصلتها الإدارة. فيكون القرار المطعون فيه - والحالة هذه - قد صدر مطابقاً للقانون خالياً من أي عيب، ويكون الحكم المطعون فيه - إذ ذهب غير هذا المذهب - قد خرج عن مجال التعقيب القانوني الصحيح على القرار، واتجه وجهة وأخرى قوامها مراجعة الإدارة في وزنها لمناسبات القرار وملاءمة إصداره، فأحل نفسه بذلك محلها فيها هو داخل في صميم اختصاصها وتقديرها؛ بدعوى أن الأسباب التي أخذت بها الإدارة لا تؤدي عقلاً إلى النتيجة التي انتهت إليها، مع أن هذه دعوى لا تستند إلى أي أساس سليم، لا من الواقع أو القانون، بل على العكس من ذلك قد كان وزن الإدارة لمناسبات قرارها وزناً معقولاً مستخلصاً استخلاصاً سائغاً من الواقع التي فصلتها بشأن الموقع الذي يصر المدعي على إقامة الكنيسة فيه، وما قد يترتب على ذلك - في نظر الإدارة - من اضطراب حبل الأمن في القرية، وهى صاحبة التقدير الأول والأخير في هذا الشأن، كما يجب التنبيه في هذا المقام إلى أنه ليس من حق القضاء الإداري أن يستأنف النظر بالموازنة والترجيح فيما قام لدى جهة الإدارة من اعتبارات قدرت على مقتضاها ملاءمة إصدار القرار، ما دام هذا التقدير قد استخلص استخلاصاً سائغاً من الوقائع الثابتة في الأوراق، وإلا كان في ذلك مصادرة للإدارة على تقديرها وغلا ليدها عن مباشرة وظيفتها في الحدود الطبعية التي تقتضيها هذه الوظيفة، وما تستلزمه من حرية في وزن مناسبات القرارات التي تصدرها، وتقدير ملاءمة إصدارها؛ ومن ثم يتعين إلغاء الحكم المطعون فيه، ورفض الدعوى.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وفي وموضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبرفض الدعوى، وألزمت المدعي بالمصروفات.