مجلس الدولة - المكتب الفني لرئيس مجلس الدولة - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة التاسعة والثلاثون - الجزء الأول (من أول أكتوبر سنة 1993 إلى أخر فبراير سنة 1994) - صـ 505

(47)
جلسة 26 من ديسمبر سنة 1993

برئاسة السيد الأستاذ المستشار/ علي فؤاد الخادم - رئيس مجلس الدولة، وعضوية السادة الأساتذة: جودة فرحات، وعادل محمود فرغلي، وعبد القادر النشار، وأحمد عبد العزيز أبو العزم - نواب رئيس مجلس الدولة.

الطعن رقم 3475 لسنة 32 القضائية

اختصاص - ما يدخل في اختصاص مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري - مسئولية الدولة عن أعمالها المادية في نطاق القانون العام - مسئولية هيئة قناة السويس عن أخطاء أطبائها في تشخيص حالة عامل بها - المادة (172) من الدستور - المادة (10) من القانون رقم 47 لسنة 1972 بشأن مجلس الدولة.
دعوى التعويض عن الأضرار التي أصابت المدعي بسبب خطأ أطباء هيئة قناة السويس هي دعوى تعويض عن عمل مادي قوامها مدى مسئولية الدولة عن أعمالها المادية في نطاق القانون العام - أساس ذلك: اتصالها مباشرة بمرفق عام يدار وفقاً للقانون العام وأساليبه ويبدو فيها واضحاً وجه السلطة العامة ومظهرها - هذه المنازعة لا تتعلق بجهة الإدارة وهي تمارس نشاطاً يخضع للقانون الخاص - يؤكد ذلك ما قررته محكمة التنازع الفرنسية من أن الدعوى التي يرفعها المريض أو خلفه ضد الطبيب أو الجراح الذي يعمل بالمستشفى العام لخطئه في أداء عمله الطبي لا يختص بها القضاء العادي - أساس ذلك: أن مثل هذه الأخطاء في حالة ثبوتها تكون مرتبطة بتنفيذ خدمة عامة يقع على عاتق الأطباء أداؤها ومن ثم يختص القضاء الإداري بمثل هذه الدعوى - تطبيق.


إجراءات الطعن

بتاريخ 24 من أغسطس سنة 1986 أودعت هيئة مفوضي الدولة قلم كتاب المحكمة الإدارية العليا تقرير طعن قيد بجدولها برقم 3475 لسنة 32 القضائية، في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري بالمنصورة بجلسة 26/ 6/ 1986 في الدعوى رقم 326 لسنة 4 القضائية المقامة من....... ضد: 1 - رئيس هيئة قناة السويس بالإسماعيلية بصفته 2 - ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية بصفته وذلك فيما قضى به من عدم اختصاص المحكمة ولائياً بنظر الطلب الثالث المتعلق بالتعويض وأمرت بإحالته بحالته إلى محكمة الإسماعيلية الابتدائية للاختصاص. وطلبت الطاعنة للأسباب المبينة بتقرير الطعن الحكم بقبول الطعن شكلاً وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه فيما قضى به في هذا الخصوص وإحالة الطلب إلى محكمة القضاء الإداري بالمنصورة للفصل فيه مجدداً مع إبقاء الفصل في المصروفات، وأعلن تقرير الطعن إلى المطعون ضدهما على الوجه المبين بالأوراق.
وعقبت هيئة مفوضي الدولة على الطعن بتقرير بالرأي القانوني مسبباً استمسكت فيه بقبول الطعن شكلاً وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبإعادة الدعوى إلى محكمة القضاء الإداري بالمنصورة لتفصل فيها بهيئة أخرى.
وعين لنظر الطعن أمام دائرة فحص الطعون بهذه المحكمة جلسة 15/ 3/ 1993، وبجلسة 7/ 6/ 1993 قررت الدائرة إحالة الطعن إلى المحكمة الإدارية العليا (الدائرة الأولى) التي عين لنظره أمامها جلسة 26/ 9/ 1993، وبعد تداول الطعن بالجلسات وسماع ما رأت المحكمة سماعه من إيضاحات تقرر بجلسة 14/ 11/ 1993 إصدار الحكم بجلسة اليوم 26/ 12/ 1993، وقد صدر الحكم وأودعت مسودته المشتملة على أسبابه عند النطق به.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر المنازعة وعلى ما يبين من الأوراق تتحصل في أنه بتاريخ 24/ 1/ 1982 أقام.......... الدعوى رقم 326 لسنة 4 ق أما محكمة القضاء الإداري بالمنصورة طالباً الحكم بإلزام المدعى عليهما باعتبار إصابته التي حدثت له يوم 11/ 4/ 1980 إصابة عمل، وثانياً بإلزام هيئة قناة السويس بإسناد عمل مكتبي ضعيف إليه، وثالثاً: بإلزام الهيئة الأخيرة بأن تدفع له تعويضاً مقداره خمسة آلاف جنيه بسبب خطأ أطبائها في تشخيص حالته وإلزامهم إياه بالاستمرار في عمله مما سبب له مضاعفات أدت إلى قصور بالدولة التاجية بأكملها وحدوث جلطة بالجدار الأمامي للقلب وإلزام هيئة قناة السويس المصروفات والأتعاب وقال شرحاً لدعواه أنه يشغل وظيفة مرشد ممتاز بهيئة قناة السويس وهي وظيفة تتطلب من شاغلها بذل عناية ومجهود كبيرين ويقظة دائمة، وقد أصيب نتيجة ظروف العمل بمرض الربو الشعبي المزمن ومرض البول السكري المزمن، وبتاريخ 16/ 5/ 1978 وقع عليه طبيب الهيئة الكشف الطبي وقرر أن يعمل بصفة عادية ويعفى من العمل في الساعات المتأخرة من الليل وكذلك في أيام العواصف الترابية، وبتاريخ 19/ 9/ 1978 أضاف طبيب الهيئة إلى ما تقدم ألا يعمل المدعي أكثر من خمسة عشر مركباً شهرياً، وأضاف أنه طلب منحه إجازة مرضية أو تكليفه بعمل خفيف طبقاً لأحكام القانون رقم 112 لسنة 1963 ولكن الهيئة لم تستجب لطلبه وأصر القسم الطبي على قراره المشار إليه، ونتج عن ذلك أنه في يوم 11/ 4/ 1980 كان يقوم بإرشاد إحدى البواخر الكبرى فأصيب أثناء عمله بانسداد في الشريان التاجي الأمامي للقلب وقرر القسم الطبي للهيئة ببور توفيق استمراره في العمل، وبتاريخ 15/ 4/ 1980 أصابه قصور في الدورة التاجية للقلب، وذلك يرجع إلى خطأ طبيب الهيئة ورئيس القسم الطبي بها في تشخيص حالته، واستطرد المدعي قائلاً أن كبار الأخصائيين قرروا - حين توقيع الكشف الطبي عليه - أن المرض الذي أصيب به يوم 11/ 4/ 1980 تطور إلى قصور بالدورة التاجية جميعها نتيجة استمراره في العمل، وبتاريخ 20/ 9/ 1981 قرر القومسيون الطبي لهيئة قناة السويس ببور توفيق منحه إجازة مرضية يتم تجديدها بسبب المرض الذي أصابه أثناء عمله يوم 11/ 4/ 1980 وإرغام القسم الطبي لهيئة قناة السويس له - رغم ذلك - بالاستمرار في عمله مما سبب له المضاعفات المشار إليها.
وبجلسة 26/ 6/ 1986 صدر الحكم المطعون فيه وقضى أولاً: باعتبار الخصومة منتهية في الطلبين الأول والثاني وألزمت الهيئتين المدعى عليهما مصروفاتهما. ثانياً: بعدم اختصاص المحكمة ولائياً بنظر الطلب الثالث المتعلق بالتعويض، وأمرت بإحالته بحالته إلى محكمة الإسماعيلية الابتدائية للاختصاص. وأقامت قضاءها بالنسبة لطلب التعويض على أن القضاء المدني قد استقر على أن مسئولية الطبيب هي مسئولية تقصيرية تقوم على الخروج على الأصول المستقرة لفن المهنة، سواء كان هذا الخروج جسيماً أم يسيراً باعتبار أن الانحراف عن السلوك الفني المألوف يعتبر خطأ مهنياً، بينما أن مسئولية الموظف العام لا تقوم إلا إذا كان قد ارتكب خطأ شخصياً أي خطأ جسيماً طبقاً لما نصت عليه الفقرة الأخيرة من المادة 78 من القانون رقم 47 لسنة 1978 بأن لا يسأل العامل مدنياً إلا عن خطئه الشخصي ولما كان المدعي يقيم طلبه على أساس أن مسئولية طبيب الهيئة مسئولية تقصيرية، فإن مقتضى ذلك أن يخرج نظر هذا الطلب عن ولاية القضاء الإداري وتختص بالفصل فيه المحكمة المدنية المختصة، ويتعين لذلك الحكم بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى بالنسبة لهذا الطلب والأمر بإحالتها إلى محكمة الإسماعيلية الابتدائية للاختصاص مع إبقاء الفصل في مصروفات هذا الطلب.
ومن حيث إن الطعن الماثل قوامه أن الحكم الطعين قد أخطأ في تطبيق وتأويل القانون فيما قضى به من عدم اختصاص المحكمة ولائياً بنظر الطلب الخاص بالتعويض ذلك أن اختصاص القضاء الإداري بنظر دعوى المسئولية عن الأعمال الإدارية حتى يتسنى القول بتعلق الأمر بمنازعة إدارية يتعين أن ينتج الضرر عن عمل إداري تقوم به الجهة الإدارية في حدود اختصاصها. وقوام الدعوى طلب التعويض عن الضرر الذي حاق بالمدعي من جراء خطأ أطباء هيئة قناة السويس والقسم الطبي بها في تشخيص حالته المرضية وإلزامه بالاستمرار في العمل رغم ذلك وهي بهذه المثابة منازعة إدارية مما وكل إلى مجلس الدولة منذ العمل بالقانون رقم 47 لسنة 1972 اختصاص الفصل فيه وطبقاً لنص المادة 172 من الدستور، بالإضافة إلى أن خطأ أطباء الهيئة والقسم الطبي بها في تشخيص الحالة المرضية للمدعي يعد خطأ مرفقياً أو مصلحياً يقع على عاتق الإدارة وحدها ولا يسأل الموظف عن أخطائه المصلحية الأمر الذي ينعقد معه الاختصاص بنظر الدعوى الماثلة لمجلس الدولة بهيئة قضاء إداري، وإذ ذهب الحكم المطعون فيه غير هذا المذهب الأمر الذي يستوجب إلغاؤه.
ومن حيث إن المادة 172 من الدستور تنص على أن "مجلس الدولة هيئة قضائية مستقلة ويختص بالفصل في المنازعات الإدارية وفي الدعوى التأديبية ويحدد القانون اختصاصاته الأخرى" ومن ثم فقد وسد لمجلس الدولة بنص الدستور وصريح عبارته ولاية الفصل في المنازعات الإدارية. وترتيباً على ذلك وإعمالاً لمقتضاه نصت المادة 10 من قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972 على اختصاص محاكم مجلس الدولة دون غيرها بالفصل في المسائل الآتية: (أولاً) الطعون الخاصة بانتخابات الهيئات المحلية (ثانياً).... (خامساً) الطلبات التي يقدمها الأفراد أو الهيئات بإلغاء القرارات الإدارية النهائية... (عاشراً) طلبات التعويض عن القرارات المنصوص عليها في البنود السابقة سواء رفعت بصفة أصلية أو تبعية (رابع عشر) سائر المنازعات الإدارية. ومقتضى ذلك أن مجلس الدولة أضحى بما عقد له من الاختصاص بموجب الدستور وصحيح القانون المنفذ له صاحب الولاية العامة بنظر سائر المنازعات الإدارية بحسبانه القاضي الطبيعي في هذا النوع من المنازعات وقاضي القانون العام في هذا الشأن، ولم يعد اختصاص المجلس على ما كان عليه بذي قبل اختصاصاً محدوداً معيناً على سبيل الحصر مقصوراً على طائفة بذاتها من المنازعات الإدارية. وأنه ولئن كانت المادة (10) من قانون مجلس الدولة المشار إليه قد أوضحت في البنود (أولاً) حتى (ثالث عشر) عن منازعات إدارية معينة ألحقت إليها بصريح النص فلا يعدو الأمر أن تكون هذه المنازعات قد وردت على سبيل المثال واستوت منازعات إدارية بنص القانون لا يقبل خلف على كنهها أو تكييفها، بيد أنها لا تستوي وحدها لحل المنازعات الإدارية التي ينبسط اختصاص مجلس الدولة شاملاً لها جميعاً، وإلا انطوى الأمر على مخالفة الدستور ذاته وإفراغ للبند (رابع عشر) المشار إليه من فحواه ومضمونه وتجريده من كل مغزى وأثر حال أن الأصل في النص وجوب إعماله لا إهماله سيما وأن له سنداً بيناً وأصلاً واضحاً من صميم الدستور وصريح عبارته.
ومن حيث إن دعوى المدعي تعويضه عن أضرار يدعيها بسبب خطأ أطباء هيئة قناة السويس إنما هي دعوى تعويض عن عمل مادي مدارها مدى مسئولية الدولة عن أعمالها المادية في نطاق القانون العام ومجالاته إذ هي منازعة يتأكد اتصالها مباشرة بمرفق عام يدار وفقاً للقانون العام وأساليبه ويتبدى فيها واضحاً وجه السلطة العامة ومظهرها، وهي ليست منازعة متعلقة بجهة الإدارة حيث تمارس نشاطاً يخضع للقانون الخاص أو يدور في فلكه وإنما هي منازعة نبتت في حقل القانون العام وتحت مظلته، ويشايع ذلك ويظاهره ما قررته محكمة التنازع في فرنسا بأن الدعوى التي يرفعها المريض أو خلفه ضد الطبيب أو الجراح الذي يعمل بالمستشفى العام لخطأه في أداء عمله الطبي لا يختص بها القضاء العادي لأن مثل هذه الأخطاء في حالة ثبوتها تكون مرتبطة بتنفيذ خدمة عامة يقع على عاتق الأطباء والممرضين أداؤها ومن ثم يختص القضاء الإداري بمثل هذه الدعوى متى كانت الأخطاء التي يرتكبها الطبيب العامل بمستشفى عام خلال قيامه بعمله لا تشكل أخطاء شخصية منفصلة عن أداء الخدمة الصحية المكلف بأدائها ولا ينفصل عن تلك الخدمة الخطأ المرتكب أثناء قيام الطبيب بعمله الفني وهدف هذا القضاء هو حمل الإدارة على تغطية الأخطاء الصادرة من تابعيها أثناء قيامهم بأعمال المرفق والمضرور ضماناً لحصوله على حقه - ينبغي عليه اختصام المتبوع أمام القضاء الإداري ولكن الأمر يختلف بطبيعة الحال إذا كان الخطأ الذي ارتكبه الطبيب غريباً عن عمله داخل المرفق الصحي مثل الأخطاء التي يرتكبها أطباء المستشفيات العامة أثناء قيامهم بالكشف الخاص لحسابهم فهو هنا يخضع للقضاء العادي وتنطبق عليه القواعد العامة في المسئولية المدنية للدكتور ولكل ذلك فلا يجوز النأي بالدعوى بالنسبة لطلب التعويض عن القضاء الإداري قاضيها الطبيعي، وقواعد القانون العام وضوابطه من حيث المسئولية وأركانها التي لا تبنى على قواعد القانون المدني، إذ لا غنى في مجالها عن وجوب استظهار ظروف المرفق وأعبائه وما يثقل به من الواجبات والصعاب وظروف الزمان والمكان ووجه العلاقة بين مدعي الضرر والمرفق.. وغير ذلك مما لا مندوحة عن وجوب تقديره في مقام وزن المسئولية الإدارية والتعويض عنها قانوناً وهو ما غاب عن محكمة القضاء الإداري نظره والتصدي له بعد إذ نأت بالمنازعة عن صحيح تكييفها قانوناً وتنكبت بها مسارها السوي، الأمر الذي يقتضي من أجله جميعاً إلغاء الحكم الطعين والقضاء باختصاص محكمة القضاء الإداري بالمنصورة بنظر الدعوى بحسبانها منازعة إدارية مدارها مسئولية الإدارة عن أعمالها المادية وإعادتها إليها مجدداً للفصل في موضوعها بعد إذ تتهيأ أسباب الحكم فيها.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه وباختصاص محكمة القضاء الإداري بالمنصورة بنظر الدعوى على الوجه المبين بأسباب الحكم وبإعادتها إليها للفصل في موضوعها، وأبقت الفصل في المصروفات.