مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة العاشرة - العدد الأول (من أول أكتوبر سنة 1964 إلى آخر يناير سنة 1965) - صـ 313

(34)
جلسة 2 من يناير سنة 1965

برئاسة السيد الأستاذ حسن السيد أيوب رئيس المحكمة وعضوية السادة الأساتذة الدكتور ضياء الدين صالح ومحمد شلبي يوسف وعبد الستار آدم وأبو الوفا زهدي المستشارين.

القضية رقم 1289 لسنة 8 القضائية

( أ ) عقد إداري - مقصف - العقد المبرم مع مصلحة المساحة في شأن إيجار مقصفها - اتسامه بطابع العقود الإدارية واعتباره من قبيلها - بيان ذلك.
(ب) عقد إداري - قضاء إداري - اختلاف روابط القانون الخاص في طبيعتها عن روابط القانون العام - افتراق القانون الإداري عن القانون المدني في أنه غير مقنن حتى يكون متطوراً غير جامد - تميز القضاء الإداري عن القضاء المدني في أنه ليس مجرد قضاء تطبيقي بل هو على الأغلب قضاء إنشائي.
(جـ) عقد إداري - تأمين نهائي - تعويض - حق جهة الإدارة في مصادرة التأمين دون حاجة إلى الالتجاء إلى القضاء في حالة عدم التنفيذ - يثبت سواء نص في شروط العقد أم لم ينص عليه - ليس على جهة الإدارة أن تثبت في مجاله ركن الضرر وليس للمتعاقد معها أن يثبت أن الضرر الذي يلحقها يقل عن التأمين - التأمين قد يمثل الحد الأدنى للتعويض الذي يحق لجهة الإدارة اقتضاؤه لكنه يقيناً لا يمثل الحد الأقصى لما قد يطلب من تعويض - أساس ذلك أن التأمين شرع لمصلحة الإدارة وليس قيداً عليها أو ضاراً بحقوقها في التعويض الشامل.
(د) عقد إداري - تأمين نهائي - تعويض - رجوع جهة الإدارة بالتعويضات الأخرى عند مصادرة التأمين الذي يقل عن مستوى التعويض الكامل - أساسه في حالة فسخ العقد القواعد العامة في العقود والتي تقضي بأن كل خطأ ترتب عليه ضرر يلزم من ارتكبه بالتعويض - صور الأضرار التي يجرى التعويض عنها.
1 - لئن وصف العقد المبرم في 12 من أغسطس سنة 1957 بين مصلحة المساحة والمطعون عليه، بأنه عقد إيجار الكانتين، إلا أنه لا جدال في أنه عقد تقديم خدمات لمرفق من المرافق العامة هو مرفق مصلحة المساحة، وقد أجر الطرف الأول بمقتضاه للطرف الثاني كانتين المصلحة الكائن بالدور الأرضي من مبنى المصلحة المخصص له بالإدارة العامة، وذلك بالشروط المرفقة بالعقد وبموجبها يلتزم المطعون عليه بتهيئة المقصف المذكور بمصاريف من طرفه، بجميع أدوات الاستعمال من صواني وأطباق وثلاجات ووابورات الغاز وأكواب الماء والشوك والملاعق والسكاكين والفناجين والفوط والمفارش بالمقادير الكافية لموظفي ومستخدمي المصلحة من المأكولات والمشروبات الموضحة بالقائمة الملحقة بتلك الشروط العامة، وأن يبيعها بالأثمان المحددة أمام كل صنف منها. ويكون المتعهد مرتبطاً بالأسعار الواردة بالقائمة، ويجب أن يكون لدى المتعهد عدد من العمال كاف لإجابة طلبات الموظفين والمستخدمين لكي يتيسر لهم أخذ ما يلزم في الفترات القصيرة المعينة لهم، ويجب أن يكون أولئك العمال حسني الأخلاق، وأن يرتدوا ملابس بيضاء نظيفة ما داموا في المصلحة. وعلى المتعهد أن يبذل أقصى العناية بنظافة المقصف، وما يعرض فيه للبيع الذي يجب أن يكون من الأنواع الجيدة الطازجة، ولتحقيق هذا الغرض سيصير التفتيش على المقصف وما به، من وقت لآخر بمعرفة طبيب المصلحة وكل ما يوجد معروضاً للبيع بحالة غير مقبولة يصادر ويعدم في الحال دون أن يكون للمتعهد حق في المطالبة بثمنه، وكذلك نص في العقد وفي الشروط العامة على حق المصلحة في فسخ العقد والإخلاء ومصادرة التأمين دون حاجة إلى تنبيه أو إنذار، وكل أولئك شروط غير مألوفة في عقود القانون الخاص المماثلة, فهو عقد اتسم بالطابع المميز للعقود الإدارية من حيث اتصاله بمرفق عام وأخذه بأسلوب القانون العام فيما تضمنه من شروط غير مألوفة في مجال القانون الخاص.
2 - من المسلم أن روابط القانون الخاص تختلف في طبيعتها عن روابط القانون العام، وأن قواعد القانون المدني قد وضعت لتحكم روابط القانون الخاص ولا تطبق وجوباً على روابط القانون العام إلا إذا وجد نص خاص يقضي بذلك، فإن لم يوجد فلا يلتزم القضاء الإداري بتطبيق القواعد المدنية حتماً، وكما هي، وإنما يكون له حريته واستقلاله في ابتداع الحلول المناسبة للروابط القانونية التي تنشأ في مجال القانون العام بين الإدارة في قيامها على المرافق العامة، وبين الأفراد، فله أن يطبق من القواعد المدنية ما يتلاءم معها، وله أن يطرحها إن كانت غير ملائمة معها، وله أن يطورها بما يحقق هذا التلاؤم. ومن هذا يفترق القانون الإداري عن القانون المدني في أنه غير مقنن حتى يكون متطوراً غير جامد. ويتميز القضاء الإداري عن القضاء المدني، في أنه ليس مجرد قضاء تطبيقي مهمته تطبيق نصوص مقننة مقدماً، بل هو على الأغلب قضاء إنشائي لا مندوحة له من خلق الحل المناسب، وبهذا يرسي القواعد لنظام قانوني قائم بذاته ينبثق من طبيعة روابط القانون العام واحتياجات المرافق ومقتضيات حسن سيرها.
3 - يقصد بالتأمين النهائي le contionnement oefinitif أن يكون ضماناً لجهة الإدارة يؤمنها الأخطاء التي قد تصدر من المتعاقد معها حين يباشر تنفيذ شروط العقد الإداري. كما يضمن ملاءة المتعاقد معها عند مواجهة المسئوليات التي قد يتعرض لها من جراء إخلاله بتنفيذ أحكام العقد الإداري. فلا يمكن لجهة الإدارة أن تتجاوز عن التأمين حرصاً على مصلحة المرفق العام وانتظام سيره. ومن هذا الضمان تحصل الإدارة غرامات التأخير، والتعويضات والمبالغ المستحقة على المتعاقد نتيجة لتقصيره أو إخلاله بتنفيذ التزامات العقد. وإذا كان التأمين في حقيقته هو ضمان لتنفيذ العقد الإداري على النحو المذكور، فلا يمكن تصور قيام هذا الضمان، ما لم يكن للإدارة حق مصادرة التأمين، أي اقتضاء قيمته بطريق التنفيذ المباشر ودون حاجة إلى الالتجاء إلى القضاء، في حالة عدم التنفيذ، سواء نص أم لم ينص في الشروط على هذا الحق، وإلا لما كان هناك محل أصلاً لاشتراط إيداع التأمين مع العطاء. وإذا كان التأمين ضماناً لجهة الإدارة شرع لمصلحتها، ولحمايتها، فلا يتصور منطقاً أن يكون التأمين قيداً عليها، أو ضاراً بحقوقها، أو معوقاً لجبرها ومانعاً لها من المطالبة بالتعويضات المقابلة للأضرار الأخرى التي تكون قد لحقتها من جراء إخلال المتعاقد بتنفيذ شروط العقد الإداري. خاصة إذا كان التأمين المودع لا يكفي لجبر كافة الأضرار تعويضاً شاملاً وافياً. والقول بغير هذا النظر يؤدي إلى شذوذ في تطبيق أحكام العقد الإداري إذ من المسلم أن لجهة الإدارة الحق، توقيع غرامات تأخير على المتعهد الذي يتأخر في تنفيذ التزاماته في المواعيد، ومن المسلم أيضاً أن لها الحق في مصادرة التأمين عند وقوع الإخلال، وذلك دون حاجة لإثبات ركن الضرر، لا لأن هذا الركن غير مشترط أصلاً، وإنما لأنه ركن يفترض في كل عقد إداري بفرض غير قابل لإثبات العكس - فلا يجوز للمتعاقد مع جهة الإدارة أن يثبت أن الضرر الذي لحق الإدارة يقل عن التأمين - ومن ثم لا يتصور، والأمر كذلك، أن لا يكون للإدارة الحق في الرجوع على المتعهد المقصر، بالتعويض الذي يعادل قيمة الأضرار في الحالة التي تجاوز فيها هذه القيمة مبلغ التأمين المودع. بل يحق لجهة الإدارة بغير شك أن تطالب المتعاقد معها بتكملة ما يزيد على مبلغ التأمين الذي لا يفي بالتعويضات اللازمة عما أصاب جهة الإدارة من أضرار حقيقية وفعلية. ذلك أن التأمين قد يمثل الحد الأدنى للتعويض الذي يحق للإدارة اقتضاؤه، ولكنه يقيناً، لا يمثل الحد الأقصى لما قد يطلب من تعويض.
4 - إن رجوع الإدارة بالتعويضات الأخرى، على المتعاقد معها المقصر في حقها، عند مصادرة التأمين الذي يقل عن مستوى التعويض الكامل لا يستند إلى اعتبار العقد قائماً، ومنفذاً على حساب المتعاقد، مع أنه سبق فسخه - على نحو ما اتجه إليه الحكم المطعون فيه - وإنما يستند ذلك الرجوع، إلى أحكام القواعد العامة في أي عقد كان، وتلك الأحكام تقضي بأن كل خطأ ترتب عليه ضرر يلزم من ارتكبه بالتعويض وبقدر قيمة الضرر، وهذه الأحكام لا تتعارض البتة مع فكرة التأمين في العقود الإدارية بوجه عام. ولا غرو فإن فروق الأسعار، ونزول جعول المقاصف، وما يضيع على جهة الإدارة من كسب محقق، كل أولئك تمثل في حقيقتها أضراراً فعلية وقيماً معلومة لحقت الإدارة وتعاقبت عليها من جراء إخلال المتعاقد معها بتنفيذ ما التزم به قبلها.


إجراءات الطعن

في 19 من يونيو سنة 1962 أودع السيد/ محامي الحكومة سكرتيرية المحكمة تقرير طعن أمام هذه المحكمة قيد بجدولها تحت رقم (1289) لسنة 8 القضائية في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري - هيئة العقود الإدارية والتعويضات - بجلسة 22 من إبريل سنة 1962 في الدعوى رقم (146) لسنة 14 القضائية المقامة من وزارة الأشغال ضد حسان أحمد الشايب والذي قضى: (برفض الدعوى وإلزام الوزارة المدعية المصروفات). وطلب السيد/ محامي الحكومة للأسباب التي استند إليها في تقرير طعنه: "قبول هذا الطعن شكلاً, وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه, وإلزام المطعون عليه بأن يدفع لوزارة الأشغال مبلغ 81 جنيهاً و375 مليماً والفوائد القانونية عن مبلغ 28 جنيهاً و875 مليماً - المتأخر من الجعل - بواقع أربعة في المائة سنوياً من تاريخ المطالبة القضائية حتى السداد والمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة". وقد أعلن هذا الطعن إلى المطعون عليه في 20 من يونيه سنة 1962 وعين لنظره أمام دائرة فحص الطعون جلسة 4 من يناير سنة 1964 ثم بجلسة 21 من مارس سنة 1964 قررت الدائرة إحالة الطعن إلى المحكمة الإدارية العليا للمرافعة بجلسة 21 من نوفمبر سنة 1964 وفيها سمعت المحكمة ما رأت سماعه من إيضاحات ذوي الشأن على الوجه المبين بمحضر الجلسة ثم قررت المحكمة إرجاء النطق بالحكم في الطعن إلى جلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق, وسماع الإيضاحات, وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة, حسبما يبين من أوراق الطعن, تتحصل في أن وزارة الأشغال أقامت الدعوى رقم 146 لسنة 14 القضائية ضد حسان أحمد الشايب أمام محكمة القضاء الإداري - هيئة العقود الإدارية والتعويضات - بإيداع صحيفتها قلم كتاب تلك المحكمة في 26 من أكتوبر سنة 1959 وذكرت فيها أن مصلحة المساحة كانت قد رخصت للمدعى عليه في استغلال (كانتين المصلحة) الكائن بالدور الأرضي بجعل شهري قدره 19 جنيهاً و250 مليماً لمدة سنة ابتداء من 17 من أغسطس سنة 1957 وذلك على أن يدفع الجعل في اليوم الأول من كل شهر (المادة 18 من شروط الترخيص)، ولكن المدعى عليه توقف عن سداد الجعل المذكور ابتداء من الشهر الذي يبدأ في 17 من أكتوبر سنة 1957 فبادرت المصلحة إلى إنذاره في 27 من أكتوبر سنة 1957 ومع ذلك فإنه لم يسدد ما عليه، فقامت المصلحة في 27 من أكتوبر سنة 1957 بإلغاء الترخيص، وبمصادرة التأمين طبقاً للبند (28) من شروط الترخيص. وظل (الكانتين) مغلقاً لغاية آخر شهر ديسمبر سنة 1957 إلى أن رخصت المصلحة في استغلاله لمتعهد آخر ابتداء من أول يناير سنة 1958 بجعل قدره 12 جنيهاً و250 مليماً وترتب على ذلك حسبما جاءت به صحيفة دعوى الوزارة - أن استحق للمصلحة قبل المدعى عليه مبلغ 81 جنيهاً و375 مليماً تفصيلها:
( أ ) مبلغ 48 جنيهاً و125 مليماً متأخر جعل المدة من 17/ 10/ 1957 لغاية يوم 31/ 12/ 1957 (ب) مبلغ 52 جنيهاً و500 مليماً فروق الجعل الجديد الناقصة عن الجعل القديم في المدة الباقية من الترخيص. ثم يطرح من مجموع هذين البندين
( أ ) و(ب) والبالغ قدره 100 جنيه و625 مليماً مبلغ التأمين المدفوع من المدعى عليه للمصلحة وقدره 19 جنيهاً و250 مليماً فيكون الباقي المطلوب من المدعى عليه 81 جنيهاً و375 مليماً حيث إن المطالبة الودية لم تجد نفعاً. وقد طلبت الوزارة كذلك إلزام المدعى عليه بأن يدفع الفوائد القانونية بواقع أربعة في المائة سنوياً من تاريخ المطالبة القضائية عن مبلغ 28 جنيهاً و875 مليماً وهو القدر المتأخر من الجعل المستحق عليه. مع إلزامه بالمصاريف ومقابل الأتعاب - وقد أودعت الوزارة مع صحيفة الدعوى حافظة تضمنت العطاء المقدم من المدعى عليه، والعقد المبرم معه، وبعض المكاتبات المتبادلة بين المصلحة والمدعى عليه.
وقد أعلنت صحيفة الدعوى بتسليم صورتها إلى النيابة العامة لعدم الاستدلال على موطن المدعى عليه. وأودعت المدعية حافظة تضمنت التحريات التي تفيد عدم الاستدلال على محل إقامة المدعى عليه، كما أودعت حافظتين بإحداهما أوراق - مزايدة استغلال المقصف التي كان محدداً لها يوم 29/ 7/ 1957 والتي رست على المدعى عليه، وبالثانية أوراق مزايدة استغلال المقصف التي كان محدداً لها يوم 18/ 11/ 1957 والتي أسفرت عن رسوها على (عبد العزيز محمد عبد الهادي) مقابل 12 جنيهاً و250 مليماً شهرياً، وعن التعاقد مع هذا المتعهد الجديد لمدة سنة تبدأ من أول يناير إلى آخر ديسمبر سنة 1958 - وقدمت هيئة مفوضي الدولة لدى محكمة القضاء الإداري تقريراً بالرأي انتهت فيه إلى ما تراه من إلزام المدعى عليه بأن يدفع للوزارة مبلغ 81 جنيهاً و375 مليماً مع الفوائد عن مبلغ 28 جنيهاً و875 مليماً والمصروفات. وعين لنظر الدعوى جلسة 5 من نوفمبر سنة 1961 ثم جلسة 7 من يناير سنة 1962 لإخطار المدعى عليه ثم لجلسة 12 من مارس سنة 1962 لتتحرى الوزارة عن عنوان المدعى عليه وقد تم إعلانه في مواجهة النيابة لعدم الجدوى.
وبجلسة 22 من إبريل سنة 1962 حكمت محكمة القضاء الإداري - هيئة العقود الإدارية والتعويضات - (برفض الدعوى وألزمت المدعية المصروفات). وأقامت المحكمة قضاءها هذا على أن مصلحة المساحة، بعد أن فسخت العقد وصادرت التأمين وأخطرت المتعاقد معها بذلك عدلت عن موقفها واعتبرت العقد قائماً وطالبت المدعى عليه بمقابل الاستغلال عن المدة من 17/ 10/ 1957 حتى 31/ 12/ 1957 وهي المدة التي ظل فيها المقصف خالياً - بعد خصم قيمة التأمين من هذا المقابل - ثم أضافت المصلحة إلى مطالبتها بمقابل الاستغلال عن المدة المذكورة، مطالبة المدعى عليه أيضاً بالفرق بين مقابل الاستغلال المتعاقد عليه معه وبين مقابل الاستغلال الجديد الذي تم التعاقد عليه مع عبد العزيز عبد الهادي، وذلك عن المدة من أول يناير إلى 16 من أغسطس سنة 1958 وهي المدة الباقية من مدة السنة المحددة في العقد المبرم مع المدعى عليه. واستطرد الحكم المطعون فيه يقول بأنه لا يجوز للمصلحة المدعية أن تطالب عن ذات التقصير بتعويض يجاوز قيمة التأمين المصادر، ذلك أن مصادرة التأمين في حالة فسخ العقد هو جزاء منصوص عليه في العقد ولا يخرج عن كونه تعويضاً جزافياً، حدد عند التعاقد ليجبر ما قد يلحق جهة الإدارة نتيجة لفسخ العقد بسبب تقصير المدعى عليه من أضرار، - فليس في العقد ما يخول مصلحة المساحة الجمع بين المطلبين. وإذ اختارت المصلحة فسخ العقد ومصادرة التأمين فإن حقوقها قبل المدعى عليه تكون قد تحددت على هذا الأساس بحكم البند (18) من الشروط فيقتصر حقها على مصادرة التأمين، ومن ثم تكون مطالبة الوزارة بالمبلغ موضوع هذه الدعوى - مقابل الاستغلال عن المدة التي ظل فيها المقصف خالياً والفرق بين المقابل المتعاقد عليه مع المدعى عليه، وذلك المقابل الذي تم التعاقد عليه أخيراً مع عبد العزيز، هي مطالبة لا تقوم على سند من القانون ويتعين لذلك رفض الدعوى.
ومن حيث إن طعن الحكومة يقوم على أن محكمة القضاء الإداري قد أخطأت في تطبيق القانون، وفي تفهم طبيعة العقد الإداري - فالغرض من العقود الإدارية هو كفالة حسن سير المرفق والخدمات العامة بانتظام واطراد، ومن هنا نشأت للعقود الإدارية أحكام تتميز بها، من شأنها تقوية جهة الإدارة. وبديهي أن الجزاءات التي تتضمنها العقود الإدارية، والتي هي من خصائصها كنوع من الشروط الاستثنائية، لا تعني إلغاء أحكام النظرية العامة للعقود المدنية وإلا أدى ذلك إلى نتيجة غريبة هي حرمان الإدارة من حق مقرر لكل متعاقد في مجال القانون الخاص. فمن البديهي وبصرف النظر عن أية جزاءات أخرى ينص عليها في العقد الإداري، أن يكون لجهة الإدارة حق الرجوع على المتعاقد معها بكل الأضرار التي تنشأ عن إخلاله بالعقد. وفي الطعن الراهن ثابت أن المدعى عليه تسبب بتقصيره في عدم تمكين جهة الإدارة من استغلال المقصف المدة الباقية التي أغلق فيها، وأنها قد تحملت خسارة فعلاً بتأجير المقصف المدة الباقية في العقد بإيجار يقل عما كانت هي متعاقدة عليه مع المطعون عليه، ويكون من حقها الرجوع عليه بكل ذلك. ويكون الحكم المطعون فيه قد أخطأ في القول بأن جهة الإدارة لا يجوز لها أن تعدل عن فسخ العقد ومصادرة التأمين، وتطالب المدعى عليه بتعويض يزيد على قيمة هذا التأمين أو أن تجمع بين الفسخ والمصادرة وبين المطالبة بالتعويض. وهذا قول يتنافى حتى مع القواعد العامة للعقود، وواضح من أوراق الدعوى أن جهة الإدارة لم تجمع بين مصادرة التأمين، والتنفيذ على حساب المتعاقد المقصر، وإنما قامت الإدارة بخصم التأمين من المبلغ المستحق على المطعون عليه فليس ثمة جمع بين جزاءين، فالأمر لا يعدو المؤاخذة بجزء واحد. وانتهى تقرير طعن الحكومة إلى طلب القضاء بإلغاء الحكم المطعون فيه وبإلزام المطعون عليه بأن يدفع للطاعن المبلغ المذكور في ختام صحيفة الدعوى.
ومن حيث إنه يبين من استقراء أوراق هذا الطعن وما أرفق بها من كراسة الشروط العامة لعطاءات تأجير (الكانتين) الموجود بإدارة مصلحة المساحة الكائن بالدور الأرضي من المبنى الذي تقيم فيه، أن المصلحة المذكورة قامت بإجراء مزايدة عن استغلال ذلك المقصف في 29 من يوليه سنة 1957 وتضمنت شروط المزايدة النص على أن هذه الإيجارة لمدة سنة واحدة قابلة للتجديد تبتدئ من 17 أغسطس سنة 1957 وتنتهي في 16 من أغسطس سنة 1958 (البند 16). وجاء في البند (18). "أن قيمة الأجرة التي يتفق عليها تدفع مقدماً في اليوم الأول من كل شهر وإذا تأخر المتعهد في دفع الإيجار في الميعاد المحدد، للمصلحة الحق في فسخ العقد، ومصادرة التأمين". ونص البند (21) على أن للمصلحة الحق في الاستغناء عن الكانتين في أي وقت خلال مدة العقد إذا دعت لذلك أية أسباب مصلحية كما وأن للمصلحة أيضاً الحق في فسخ هذا العقد لأي داع تراه، أو في حالة إخلال المستأجر بأي شرط من هذه الشروط أو بأي شرط آخر يتفق عليه كتابياً فيما بعد، وتحتفظ المصلحة بحقها في الاستغناء عن الكانتين أو فسخ عقد الإيجار بدون أن تكون ملزمة في أية حالة من الأحوال بأي تعويض ما للمستأجر، وللمصلحة أن تستعمل حقها في الاستغناء عن الكانتين أو فسخ إجارته بغير أن تكون ملزمة بالحصول على حكم قضائي أو بإعلان المستأجر بالاستغناء أو الفسخ على يد محضر بل يكفي في حالتي الاستغناء أو الفسخ أن ترسل المصلحة إلى المستأجر خطاباً عن طريق البريد المسجل تخطره فيه بما قررته في هذا الصدد من غير أن تكون ملزمة بإبداء الأسباب التي دعتها إلى ذلك. وبينت المادة (22) من شروط العطاء كيفية التصرف في أدوات المتعهد عند استغناء المصلحة عن الكانتين أو في حالة فسخ الإيجارة فجرى آخر نص هذه المادة بالآتي "... يكون للمصلحة الحق في بيعها الأدوات - بالطريقة التي تراها - وحفظ الثمن تحت طلب المستأجر بعد خصم ما يكون مستحقاً عليه من إيجار أو ثمن أصناف تالفة أو فاقدة أو خلافه وذلك في حالة ما إذا لم يكف التأمين المودع من المستأجر بسداد جميع ما هو مستحق عليه، وتقوم المصلحة بجميع هذه الإجراءات بدون حاجة إلى إنذار..." وقد تقدم المطعون عليه بعطاء في هذه المزايدة قبل بمقتضاه أداء مقابل شهري قدره (19 جنيهاً و250 مليماً) وفي 5 من أغسطس سنة 1957 أخطرته المصلحة بقبول عطائه وفي 12 من أغسطس سنة 1957 تم إبرام العقد معه، وتضمن هذا العقد النص على أن الشروط المرافقة له - الشروط العامة للعطاء - الموقع عليها من الطرفين تعتبر جزءاً لا يتجزأ من شروطه، وعلى أن مدة العقد سنة تبتدئ من 17/ 8/ 1957 لغاية 16/ 8/ 1958 وعلى أن التأمين النهائي المودع من المطعون عليه، وقدره (19 جنيهاً و250 مليماً) يرد إليه بعد انتهاء مدة العقد وإقرار المصلحة بأن المتعهد قام بتنفيذه خير قيام، ثم حدث في 27 من أكتوبر سنة 1957 أن أرسلت المصلحة إلى المطعون عليه الكتاب الآتي نصه: (أنه نظراً لأنكم لم تقوموا إلى الآن بسداد إيجار الكانتين عن الشهر الذي يبتدئ من 17/ 10/ 1957 رغم إمهالكم لغاية (21) منه فقد تقرر فسخ العقد المبرم معكم، ومصادرة التأمين النهائي المودع منكم تطبيقاً لأحكام البند الثامن عشر من شروط المزايدة مع تحملكم بكافة ما يترتب على ذلك من أضرار ومصاريف). ثم في 8 من سبتمبر سنة 1958 أرسلت المصلحة إلى المطعون عليه كتاباً برقم (1/ 2/ 10 جـ 22) تقول فيه "إيماء إلى العقد المبرم معكم عن استئجار كانتين هذه المصلحة في المدة من 17/ 8/ 1957 لغاية 16/ 8/ 1958 نفيدكم بأنه قد ترتب على فسخ العقد المشار إليه مديونيتكم لهذه المصلحة بمبلغ 28.875 جنيهاً عبارة عن مبلغ 48 جنيهاً و125 مليماً متأخرات عليكم عن المدة من 17/ 10/ 1957 لغاية 31/ 12/ 1957 حيث إن الكانتين لم يؤجر في هذه المدة بفعلكم ويطرح من هذا المبلغ قيمة التأمين المودع منكم والمصادر لصالح المصلحة وقدره 19 جنيهاً و250 مليماً، وتوصي المصلحة بسرعة تسديد هذا المبلغ لخزينة المصلحة وإلا اضطرت لخصمه من أية مبالغ مستحقة لكم في مصالح الحكومة أو مطالبتكم بالسداد بالطرق القانونية" ثم في 29 من نوفمبر سنة 1958 أرسلت المصلحة إلى المطعون عليه كتاباً آخر ذكرت فيه أنه استحق عليه أيضاً مبلغ 52 جنيهاً و500 مليماً قيمة فروق الإيجار عن المدة الباقية من العقد من أول يناير حتى 16 من أغسطس سنة 1958 وذلك بالإضافة إلى مبلغ 28 جنيهاً و935 مليماً - السالف إخطاركم بها - والثابت أن المصلحة كانت قد أجرت مزايدة جديدة حددت لها 18 من نوفمبر سنة 1957 عن استغلال المقصف ذاته لمدة سنة من آخر ديسمبر سنة 1957 وقد أسفرت هذه المزايدة عن التعاقد مع المتعهد الجديد (عبد العزيز عبد الهادي) على استغلال هذا المقصف لمدة سنة تبدأ من أول يناير سنة 1958 في مقابل شهري قدره 12 جنيهاً و250 مليماً.
ومن حيث إن الثابت مما تقدم أن المطعون عليه قد أخل بشروط العقد بعد إذ بدأ في تنفيذه - فعجز بعد الشهرين الأولين عن الاستمرار في إدارة المقصف، وتوقف عن دفع الجعل مقابل الاستغلال المستحق للمصلحة عن الشهر الذي بدأ من 17 من أكتوبر سنة 1957 وكان يتعين عليه أن يقوم بسداده مقدماً في اليوم الأول من ذلك الشهر إلى خزانة المصلحة وفقاً لحكم البند الثامن عشر من الشروط العامة لعطاء تأجير المقصف وهي الشروط التي يعتبرها العقد جزءاً لا يتجزأ من شروطه فقامت المصلحة بفسخ العقد ومصادرة التأمين، وطرحت العطاء من جديد في مزايدة حددت لها 18 من نوفمبر سنة 1957 فأسفرت هذه المزايدة الجديدة عن التعاقد مع متعهد آخر يقوم باستغلال هذا المقصف لمدة سنة تبدأ من أول يناير سنة 1958 ورسى عليه المزاد بجعل يقل سبع جنيهات شهرياً عن الجعل السابق إذ أصبح مقابل الاستغلال 12 جنيهاً و250 مليماً فطالبت المصلحة المطعون عليه بأن يدفع لها مقابل الاستغلال على أساس الجعل المبرم معه وقدره 19 جنيهاً و250 مليماً شهرياً عن المدة التي ظل فيها المقصف خالياً بفعل المطعون عليه، وهي المدة من 17 أكتوبر حتى 21 من ديسمبر سنة 1957، وقررت المصلحة خصم مبلغ التأمين النهائي المودع لديها من قبل المطعون عليه، وأجرت الخصم من المبلغ المستحق عليه والذي تطالبه بسداده - كما طالبته المصلحة بالفرق بين الجعل الجديد, والجعل القديم الأكبر، وذلك عن المدة الباقية في العقد الأول من أول يناير سنة 1958 إلى 16 من أغسطس سنة 1958.
ومن حيث إنه، لئن وصف العقد المبرم في 12 من أغسطس سنة 1957 بين مصلحة المساحة والمطعون عليه، بأنه عقد إيجار الكانتين، إلا أنه لا جدال في أنه عقد تقديم خدمات لمرفق من المرافق العامة هو مرفق مصلحة المساحة، وقد أجر الطرف الأول بمقتضاه للطرف الثاني كانتين المصلحة الكائن بالدور الأرضي من مبنى المصلحة المخصص له بالإدارة العامة، وذلك بالشروط المرفقة بالعقد وبموجبها يلتزم المطعون عليه بتهيئة المقصف المذكور بمصاريف من طرفه، بجميع أدوات الاستعمال من صواني وأطباق وثلاجات ووابورات الغاز وأكواب الماء والشوك والملاعق والسكاكين والفناجين والفوط والمفارش بالمقادير الكافية لموظفي ومستخدمي المصلحة من المأكولات والمشروبات الموضحة بالقائمة الملحقة بتلك الشروط العامة، وأن يبيعها بالأثمان المحددة أمام كل صنف منها. ويكون المتعهد مرتبطاً بالأسعار الواردة بالقائمة، ويجب أن يكون لدى المتعهد عدد من العمال كاف لإجابة طلبات الموظفين والمستخدمين لكي يتيسر لهم أخذ ما يلزمهم في الفترات القصيرة المعينة لهم، ويجب أن يكون أولئك العمال حسني الأخلاق، وأن يرتدوا ملابس بيضاء نظيفة ما داموا في المصلحة. وعلى المتعهد أن يبذل أقصى العناية بنظافة المقصف وما يعرض فيه للبيع الذي يجب أن يكون من الأنواع الجيدة الطازجة، ولتحقيق هذا الغرض سيصير التفتيش على المقصف وما به، من وقت لآخر بمعرفة طبيب المصلحة وكل ما يوجد معروضاً للبيع بحالة غير مقبولة يصادر ويعدم في الحال دون أن يكون للمتعهد حق في المطالبة بثمنه، وكذلك نص في العقد وفي الشروط العامة على حق المصلحة في فسخ العقد والإخلاء ومصادرة التأمين دون حاجة إلى تنبيه أو إنذار، وكل أولئك شروط غير مألوفة في عقود القانون الخاص المماثلة, فهو عقد اتسم بالطابع المميز للعقود الإدارية من حيث اتصاله بمرفق عام وأخذه بأسلوب القانون العام فيما تضمنه من شروط غير مألوفة في مجال القانون الخاص.
ومن حيث إن من المسلم أن روابط القانون الخاص تختلف في طبيعتها عن روابط القانون العام، وأن قواعد القانون المدني قد وضعت لتحكم روابط القانون الخاص - ولا تطبق وجوباً على روابط القانون العام إلا إذا وجد نص خاص يقضي بذلك، فإن لم يوجد فلا يلتزم القضاء الإداري بتطبيق القواعد المدنية حتماً، وكما هي، وإنما تكون له حريته واستقلاله في ابتداع الحلول المناسبة للروابط القانونية التي تنشأ في مجال القانون العام بين الإدارة في قيامها على المرافق العامة، وبين الأفراد، فله أن يطبق من القواعد المدنية ما يتلاءم معها، وله أن يطرحها إن كانت غير ملائمة معها، وله أن يطورها بما يحقق هذا التلاؤم. ومن هذا يفترق القانون الإداري عن القانون المدني في أنه غير مقنن حتى يكون متطوراً غير جامد. ويتميز القضاء الإداري عن القضاء المدني، في أنه ليس مجرد قضاء تطبيقي مهمته تطبيق نصوص مقننة مقدماً بل هو على الأغلب قضاء إنشائي قائم بذاته ينبثق من طبيعة روابط القانون العام واحتياجات المرافق ومقتضيات حسن سيرها. وعلى ضوء ذلك يكون نظام اشتراط إيداع التأمين في العقود الإدارية Le de pôt ďun contionnemnt هو نظام خاص رددت أحكامه لوائح المناقصات والمزايدات، سواء تلك الصادرة من مجلس الوزراء في 6 من يونيه سنة 1948 أم ذلك المشروع الذي أعقب صدور القانون رقم (236) لسنة 1954 بتنظيم المناقصات والمزايدات الصادر في 22 من إبريل سنة 1954، أم تلك اللائحة التي صدرت ونشرت بالجريدة الرسمية في 23 من مارس سنة 1958 لتكمل ما لم ينظمه قانون المناقصات والمزايدات من أحكام وإجراءات. ومقتضى نظام إيداع التأمين في مجالات العقود الإدارية أن المتعاقد مع الإدارة يجب عليه أن يقدم مبلغاً من المال بنسبة معينة من قيمة العقد أو خطاب كفالة صادر من أحد البنوك المعتمدة بهذه النسبة ضماناً لتنفيذ شروط العقد. (البند 28 من لائحة المخازن والمشتريات - يجب على صاحب العطاء المقبول أن يوقع على العقد بعد أن يودع تأميناً يوازي 10% من مجموع عطائه في مدة لا تتجاوز عشرة أيام من تاريخ اليوم الثاني لإخطاره بخطاب موصى عليه بقبول عطائه، وذلك ضماناً لتنفيذ شروط العقد.) - وجاء في البند التاسع والعشرين من المشروع الملحق بالقانون رقم 236 لسنة 1954 بتنظيم المناقصات والمزايدات ما يأتي: (بمجرد إخطار مقدم العطاء بقبول عطائه يصبح التعاقد تاماً بينه وبين الوزارة أو المصلحة طبقاً لهذه الشروط، وأما دفع التأمين النهائي، وتوقيع العقد، فما هما إلا لضمان تنفيذ هذا التعاقد.) وفي المادة (51) من اللائحة الصادرة والمنشورة في 3 مارس سنة 1958 جرى حكمها بما يأتي: (يجب على صاحب العطاء المقبول أن يودع في مدة لا تتجاوز عشرة أيام تبدأ من تاريخ اليوم التالي لإخطاره بقبول عطائه تأميناً يوازي عشرة في المائة أو أن يكمل التأمين المؤقت إلى ما يوازي عشرة في المائة من مجموع قيمة الأصناف أو العملية التي رست عليه، وذلك لضمان تنفيذ العقد.) ومفاد ذلك كله أن التأمين النهائي يقصد به أن يكون ضماناً لجهة الإدارة يؤمنها الأخطاء التي قد تصدر من المتعاقد معها حين يباشر تنفيذ شروط العقد الإداري. كما يضمن ملاءة المتعاقد معها عند مواجهة المسئوليات التي قد يتعرض لها من جراء إخلاله بتنفيذ أحكام العقد الإداري. فلا يمكن لجهة الإدارة أن تتجاوز عن التأمين حرصاً على مصلحة المرفق العام وانتظام سيره. ومن هذا الضمان تحصل الإدارة غرامات التأخير، والتعويضات والمبالغ المستحقة على المتعاقد نتيجة لتقصيره أو إخلاله بتنفيذ التزامات العقد. وإذا كان التأمين في حقيقته هو ضمان لتنفيذ العقد الإداري على النحو المذكور، فلا يمكن تصور قيام هذا الضمان، ما لم يكن للإدارة حق مصادرة التأمين أي اقتضاء قيمته بطريق التنفيذ المباشر، ودون حاجة إلى الالتجاء إلى القضاء، في حالة عدم التنفيذ، سواء نص أم لم ينص في الشروط على هذا الحق، وإلا لما كان هناك محل أصلاً لاشتراط إيداع التأمين مع العطاء. وإذا كان التأمين ضماناً لجهة الإدارة شرع لمصلحتها، وسن لحمايتها، فلا يتصور منطقاً أن يكون التأمين قيداً عليها، أو ضاراً بحقوقها، أو معوقاً لجبرها ومانعاً لها من المطالبة بالتعويضات المقابلة للأضرار الأخرى التي تكون قد لحقتها من جراء إخلال المتعاقد بتنفيذ شروط العقد الإداري. خاصة إذا كان التأمين المودع لا يكفي لجبر كافة الأضرار تعويضاً شاملاً وافياً، والقول بغير هذا النظر يؤدي إلى شذوذ في تطبيق أحكام العقد الإداري؛ إذ من المسلم أن لجهة الإدارة الحق في توقيع غرامات تأخير على المتعهد الذي يتأخر في تنفيذ التزاماته في المواعيد، ومن المسلم أيضاً أن لها الحق في مصادرة التأمين عند وقوع الإخلال، وذلك دون حاجة لإثبات ركن الضرر، لا لأن هذا الركن غير مشترط أصلاً، وإنما لأنه ركن يفترض في كل عقد إداري بفرض غير قابل لإثبات العكس - فلا يجوز للمتعاقد مع جهة الإدارة أن يثبت أن الضرر الذي لحق الإدارة يقل عن التأمين - ومن ثم لا يتصور، والأمر كذلك، أن لا يكون للإدارة الحق في الرجوع على المتعهد المقصر، بالتعويض الذي يعادل قيمة الأضرار في الحالة التي تجاوز فيها هذه القيمة مبلغ التأمين المودع. بل يحق لجهة الإدارة بغير شك أن تطالب المتعاقد معها بتكملة ما يزيد على مبلغ التأمين الذي لا يفي بالتعويضات اللازمة عما أصاب جهة الإدارة من أضرار حقيقية وفعلية. ذلك أن التأمين قد يمثل الحد الأدنى للتعويض الذي يحق للإدارة اقتضاؤه، ولكنه يقيناً، لا يمثل الحد الأقصى لما قد يطلب من تعويض, يؤيد هذا الفهم الصحيح لطبيعة العقود الإدارية وموضع التأمين منها ما جرت به أحكام الفقرة (ب) من البند الثالث والخمسين من لائحة المخازن والمشتريات المصدق عليها من مجلس الوزراء في 6/ 6/ 1948، وقد رددت أحكامها الفقرة الثانية من المادة (105) من لائحة المناقصات والمزايدات الصادرة والمنشورة في 3/ 3/ 1958 حين أشارت تلك الأحكام إلى شراء الأصناف التي لم يقم المتعهد بتوريدها شرائها من غيره على حساب المتعهد وأن يخصم التأمين المودع من المتعهد المقصر من قيمة الزيادة في الثمن مضافاً إليها مصروفات إدارية بواقع نسبة مئوية من قيمة الأصناف المشتراة على حسابه، وما يستحق من غرامة عن مدة التأخير في التوريد - أما إذا كان سعر شراء أي صنف يقل عن سعر المتعهد، فلا يحق لهذا المقصر أن يطالب بالفرق. وهذا لا يمنع من تحصيل قيمة غرامة التأخير المستحقة والمصروفات الإدارية. ومفاد هذا الاتجاه اللائحي أنه على الرغم من أن الشراء على حساب المتعهد المقصر وهو نوع من النيابة عنه، لأن الشراء إنما يتم على حسابه بنفس الشروط والمواصفات المتعاقد عليها، إلا أن اللائحة تمنعه من المطالبة بالفرق إذا كان سعر الشراء يقل عن سعره (سعر المتعهد المقصر) إذ لا يجوز أن يستفيد هذا المتقاعس من تقصيره. والحال كذلك بالنسبة لمصادرة التأمين، فجهة الإدارة من حقها بل وعليها أن تصادر التأمين بأكمله عند توقيع الفسخ إثر الإخلال بالالتزام، ولا يقبل من المتعاقد المقصر أن يثبت أن الضرر يقل عن مبلغ التأمين. وفي نفس الوقت يجوز للإدارة أن ترجع عليه بالتعويضات الأخرى إن كان لها وجه لأن قيمة التأمين لا تفي وحدها بمجموع التعويضات. ورجوع الإدارة بالتعويضات الأخرى، على المتعاقد معها المقصر في حقها عند مصادرة التأمين الذي يقل عن مستوى التعويض الكامل لا يستند إلى اعتبار العقد قائماً ومنفذاً على حساب المتعاقد، مع أنه سبق فسخه - على نحو ما اتجه إليه الحكم المطعون فيه - وإنما يستند ذلك الرجوع، إلى أحكام القواعد العامة في أي عقد كان، وتلك الأحكام تقضي بأن كل خطأ ترتب عليه ضرر يلزم من ارتكبه بالتعويض، وبقدر قيمة الضرر، وهذه الأحكام لا تتعارض البتة مع فكرة التأمين في العقود الإدارية بوجه عام. ولا غرو أن فروق الأسعار، ونزول جعول المقاصف، وما يضيع على جهة الإدارة من كسب محقق، كل أولئك تمثل في حقيقتها أضراراً فعلية وقيماً معلومة لحقت الإدارة وتعاقبت عليها من جراء إخلال المتعاقد معها بتنفيذ ما التزم به قبلها.
ومن حيث إنه على هدي ما تقدم، لا يستساغ القول بأن حقوق مصلحة المساحة قد تحددت بمصادرة التأمين فحسب منذ إذ لجأت إلى فسخ العقد، أو بأن الطرفين المتعاقدين قد انصرفت نيتهما إلى أن يكون قدر التعويض الواجب اقتضاؤه داخل حدود مبلغ التأمين النهائي لا يتعداه. فالفهم الصحيح لبنود قائمة العطاء في جو المبادئ العامة للعقد الإداري، وما جرت به عبارات البند (18) من ذلك العطاء، لا تعدو أن تكون توكيداً لحق الإدارة في اقتضاء قيمة التأمين بطريق التنفيذ المباشر، استيفاء لحقوقها، وعلى أساس أن التأمين يمثل ضماناً للتنفيذ دون أن يخل فهم ذلك الضمان بما هو مسلم لجهة الإدارة من حق الرجوع على المتعهد المقصر بكافة التعويضات الأخرى عما عساه يكون قد لحق الإدارة من أضرار لا يفي مبلغ التأمين وحده بالتعويض عنها. وتأسيساً على ذلك تكون وزارة الأشغال - مصلحة المساحة - على حق فيما تقدمت بطلبه في صحيفة الدعوى وفي تقرير هذا الطعن من طلب إلزام المطعون عليه بأن يدفع لها مبلغ (81 جنيهاً و375 مليماً) والفوائد القانونية بواقع 4% عن مبلغ (28 جنيهاً و875 مليماً) من تاريخ المطالبة الرسمية الحاصلة في 26 من أكتوبر سنة 1959 حتى تمام السداد وتفصيل ذلك أن مبلغ 48 جنيهاً و125 مليماً هو قيمة متأخر الجعل عن المدة الباقية في عام 1957 ثم يضاف إليه مبلغ 52 جنيهاً و500 مليم هو فرق الجعل الجديد عن الجعل القديم ثم يخصم من مجموعها مبلغ 19 جنيهاً و250 مليماً قيمة التأمين... والفوائد القانونية من مبلغ 28 جنيهاً و875 مليماً قيمة المتأخر من الجعل. وذلك على النحو السالف تفصيله فما تقدم من أسباب.
وإذ ذهب الحكم المطعون فيه مذهباً مغايراً - فيكون الطعن فيه قد قام على سند سليم من القانون.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً, وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه وبإلزام المطعون عليه بأن يدفع للوزارة المدعية مبلغ 81 جنيهاً و375 مليماً والفوائد القانونية عن مبلغ 28 جنيهاً و875 مليماً بواقع 4% من تاريخ المطالبة القضائية الحاصلة في 26 من أكتوبر سنة 1959 حتى تمام السداد وألزمته بالمصروفات.