مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثالثة عشرة - العدد الثاني (من منتصف فبراير سنة 1968 إلى آخر سبتمبر سنة 1968) - صـ 832

(111)
جلسة 27 من إبريل سنة 1968

برئاسة السيد الأستاذ الدكتور أحمد موسى وكيل مجلس الدولة وعضوية السادة الأساتذة عادل عزيز زخاري وعبد الستار عبد الباقي آدم ومحمد صلاح الدين السعيد ومحمد بهجت عتيبة المستشارين.

القضية رقم 138 لسنة 11 القضائية

عقد إداري "انعقاده". يعتبر العقد منعقداً بين جهة الإدارة ومقدم العطاء بمجرد إخطاره بقبول عطائه - التراخي في تكملة التأخير النهائي لا يؤثر في صحة انعقاد العقد من تاريخ الإخطار - التجاوز عن التأمين في الوفاء بقيمة التأمين النهائي وقبوله يقطعان بأن جهة الإدارة قد أبقت على العقد.
لا شبهة في انعقاد العقد بين البلدية والمدعي بمجرد إخطاره في 14 من يونيه سنة 1959 بقبول عطائه.. أما واقعة تراخي المدعي في تكملة التأمين النهائي حتى 14 من سبتمبر سنة 1959 فلا تؤثر على صحة انعقاد العقد من تاريخ الإخطار المشار إليه.. لذلك أنه - وإن كان عدم إيداع هذا التأمين في الميعاد المحدد، وهو عشرة أيام من تاريخ الإخطار، يجيز للبلدية طبقاً لشروط العقد، وطبقاً لنص المادة 53 من لائحة المناقصات والمزايدات، سحب قبول العطاء ومصادرة التأمين المؤقت كما يجيز لها أن تشتري على حسابه كل أو بعض الكمية التي رست عليه وأن تسترد منه التعويضات والخسائر التي لحقتها وأن تخصم ذلك من أية مبالغ تكون مستحقة له - إلا أن المادة 71 من تلك اللائحة قد أجازت لرئيس المصلحة قبول التأمين النهائي إذا تأخر المتعهد عن إيداعه مدة خمسة أيام كما أجازت للسيد وكيل الوزارة إطالة المدة فترة أخرى... والثابت من الأوراق أن البلدية لم تر استعمال حقها في إلغاء العقد ومصادرة التأمين بسبب تأخير المدعي في إيداع التأمين النهائي حتى 14 من سبتمبر سنة 1959 بل أنها قد تجاوزت عن هذا التأخير فصدر من السيد الوزير في 26 من مارس سنة 1960 قرار بالموافقة على قرار الهيئة الإدارية لبلدية القاهرة الصادر في 16 من ذات الشهر بالتجاوز عن تأخير المدعي في الوفاء بقيمة التأمين النهائي وبقبوله منه وهذا يقطع بأن البلدية قد أبقت على العقد الذي انعقد مع المدعي بإخطاره بقبول عطائه رغم تراخيه في دفع التأمين النهائي.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة تتحصل - حسبما يبين من أوراق الطعن - في أن المدعي، السيد عبد العزيز محمد حنفي، أقام الدعوى رقم 342 لسنة 15 القضائية ضد السيد وزير الشئون البلدية والقروية والسيد الممثل القانوني لبلدية القاهرة بصحيفة أودعها سكرتيرية محكمة القضاء الإداري "هيئة العقود الإدارية وطلبات التعويض" في 18 من يناير سنة 1961 طالباً الحكم بإلزام المدعى عليهما متضامنين بأن يدفعا له مبلغ 1388 جنيهاً و500 مليم والمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة ومع حفظ كافة حقوقه وخاصة في طلب فسخ العقد وما يترتب عليه من تعويضات.. وقال - شرحاً لدعواه - إنه في 14 من يونيه سنة 1959 أخطرته بلدية القاهرة بأنه قد رست عليه مناقصة توريد عدد 4500 نخلة بلدي من أنواع مختلفة في حدود مبلغ 2775 وتطالبه بدفع مبلغ 222 جنيهاً و500 مليم، باقي التأمين النهائي، إذ أنه كان قد أرفق بعطائه تأميناً ابتدائياً مقداره خمسون جنيهاً، فقام بسداد التأمين.. وأنه نظراً لأن إجراءات توقيع العقد تستغرق وقتاً ليس بالقصير ويخشى من انقضاء الوقت المناسب للزراعة فقد طلبت منه البلدية القيام بالتوريد والزراعة دون انتظار توقيع العقد.. وقد تصرفت معه البلدية بما يدل على قيام العقد فعلاً قبل توقيعه باستلامها النخيل الذي ورده بواسطة اللجان المختصة بعد مطابقته للمواصفات المنصوص عليها بشروط المناقصة وقام بزراعته في الأماكن المعينة له.. وأنه طبقاً للبند الثامن لهذه الشروط يتعين على البلدية أن تؤدي له نصف الثمن بعد التوريد ثم تدفع الربع بعد الترقيع الذي يجب أن يتم بعد 4 - 6 شهور من الزراعة. أما الربع الباقي فيدفع بعد ثلاثة شهور من التوقيع الثاني النهائي.. غير أنها رفضت أن تؤدي له أي مبلغ إلا بعد تنفيذ العقد من حيث الترقيع وبذلك قد منحت نفسها أجلاً وقيدت التزامها بما يخالف أحكام العقد.
وردت الحكومة على الدعوى بأنه قد رست على المدعي مناقصة توريد 4500 نخلة وزراعتها بالمناطق المبينة بالشروط نظير مبلغ 2775 جنيهاً.. وقد تراخى في دفع التأمين النهائي فلم يؤده إلا في 14 من سبتمبر سنة 1959 متجاوزاً المواعيد القانونية. وفي خلال ذلك قام المدعي بتوريد النخيل وزراعته تحت مسئوليته ولم تقم اللجان المختصة باستلام النخيل المورد.. وتمت موافقة السيد الوزير على التجاوز عن التأخير في دفع التأمين النهائي في 26 من مارس سنة 1960.. ووقع المدعي على العقد في 6 من إبريل سنة 1960 ثم قامت اللجان الفنية باستلام النخيل حسب شروط العقد فظهر أن نسبة النجاح فيه تتراوح بين 3%، 17.5%، أي أن أغلب النخيل لم يكن صالحاً، وبلغ ثمن النخيل الناجح 379 جنيهاً و700 مليم. كما أن المدعي لم يقم بترقيع النخيل الذي لم ينجح حسب شروط العقد ولم يزد قيمة التأمين بما يوازي ثمن هذا النخيل الميت كما أنه امتنع عن صيانة النخيل المنزرع.
وبصحيفة أودعت سكرتيرية المحكمة في 12 من نوفمبر سنة 1961 صحح المدعي شكل الدعوى بتوجيهها إلى السيد وزير الإسكان والمرافق بصفته الرئيس الأعلى لبلدية القاهرة والسيد رئيس مجلس محافظة القاهرة بصفته ممثلاً للبلدية المذكورة وطلب في هذه الصحيفة الحكم بإلزامهما متضامنين بأن يدفعا له مبلغ 1387 جنيهاً 500 مليم والفوائد القانونية من تاريخ المطالبة الرسمية حتى تمام الوفاء والمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة.
وقدمت هيئة مفوضي الدولة تقريراً بالرأي القانوني مسبباً في الطعن ساندت فيه طلبات المدعي.
قدمت الحكومة مذكرة بالتعقيب على تقرير هيئة مفوضي الدولة رددت فيها ما ذكرته في ردها على الدعوى وأضافت إليه أنه لا يجوز أن يصرف للمدعي نصف ثمن النخيل مع أن ما تورد من النخيل الناجح المطابق للمواصفات يساوي مبلغ 379 جنيهاً و700 مليم فقط إذ المفروض أن يتم التوريد مطابقاً للمواصفات وأن يؤدي الغرض الذي من أجله تم التعاقد.... وردت الحكومة على ما جاء بتقرير هيئة المفوضين - من أن الجهة الإدارية قد استلمت النخيل استلاماً فنياً بواسطة لجانها وجميعه مطابق للمواصفات - أن هذا القول مرسل لا دليل عليه لأن الإجراءات التي كانت تتخذها جهة الإدارة خلال فترة الزراعة كانت مقصورة على تحديد الأماكن التي تتم فيها الزراعة تحت مسئولية المدعي... وانتهت الحكومة إلى طلب رفض الدعوى مع إلزام رافعها بالمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة.
وبجلسة أول نوفمبر سنة 1964 قضت محكمة القضاء الإداري بإلزام المحافظة المدعى عليها بأن تدفع للمدعي مبلغ 1387 جنيهاً و500 مليم والفوائد القانونية عن هذا المبلغ بواقع 4% من تاريخ المطالبة القضائية الحاصلة في 18 من يناير سنة 1961 حتى تاريخ تمام الوفاء. وألزمت المدعى عليها بالمصروفات وثلاثة جنيهات مقابل أتعاب المحاماة وأقامت قضاءها على أن عقد المدعي مع البلدية قد انعقد اعتباراً من تاريخ إخطاره بقبول عطائه في 14 من يونيه سنة 1959 دون النظر إلى تاريخ سداد التأمين النهائي أو التوقيع على العقد لأن ذلك ما هو إلا لضمان تنفيذ هذا التعاقد. وأن هذا هو ما ردده العقد في البند التاسع والعشرين منه.. كما أن الثابت أن السيد الوزير قد اعتمد قرار اللجنة المالية بقبول التأمين المقدم من المدعي في 14 من سبتمبر سنة 1959، أي بتأخير قدره ثلاثة أشهر، وبذلك يكون التأمين قد تم سداده طبقاً لأحكام المادة 76 من لائحة المناقصات والمزايدات.. وأنه لما كانت الشروط الملحقة بالعقد قد أوضحت المواصفات التي يتعين توافرها في شجيرات النخيل الموردة ونصت على أن يقوم المتعهد بتوريدها وزراعتها بمعرفته في الأماكن التي يرشد عنها مندوب المراقبة العامة للحدائق على أن تشكل اللجنة لاستلامه عند توريده وقبل زراعته ولها الحق في قبول أو رفض النخيل إذا ما خالف الشروط وأن الزراعة تتم في مارس وإبريل أو مايو إلى أغسطس، وكذا الترقيع الذي يتم بلجنة كذلك وأن يدفع المتعهد نصف الثمن بعد التوريد وربعه بعد الترقيع الأول الذي يجب أن يتم بعد 4 - 6 شهور من الزراعة وأما الربع الباقي فيدفع بعد ثلاثة شهور من الترقيع الثاني - وهو النهائي - والذي يصير استلامه بلجنة كذلك. وأن الثابت من أوراق الملف رقم 9/ 1/ 42 - المقدم من الحكومة - أن المدعي قام فعلاً في سبتمبر سنة 1959 بتوريد النخيل المتفق على زراعته في الأماكن التي حددها رجال الجهة الإدارية وأن الزراعة تمت بعد معاينة الشجيرات الموردة بواسطة اللجان المختصة في كل منطقة مما يقطع بأنها كانت مطابقة للمواصفات المنصوص عليها في العقد وأن هذه المعاينة بمثابة استلام رسمي. وردت المحكمة على ما قررته الحكومة - من عدم تحرير محاضر رسمية وأن التسليم لا يتم إلا بهذه المحاضر - بأن العقد حرر وتم التوقيع عليه في 6 من إبريل سنة 1960 في حين أن نصوصه تلزم المدعي بالزراعة في ميعاد غايته أغسطس سنة 1959، وقد مد هذا الميعاد إلى شهر سبتمبر سنة 1959 بناء على ما أشار به أهل الزراعة وبالتالي فإن مسايرة منطق جهة الإدارة في هذا الخصوص يؤدي إلى تفويت موسم الزراعة، ومن ثم فساد الإنبات، أو التربص فترة سنة أخرى حتى يحل موسم الزراعة مرة أخرى وهو ما لا يمكن أن يكون قد قصد إليه المتعاقدان وأضافت المحكمة أن تصرفات جهة الإدارة تكشف عن إيمانها بأن التسليم قد تم فعلاً في ميعاد سابق على إتمام التوقيع على العقد. ذلك أنها بعد أن شكلت لجان المعاينة السابق الإشارة إليها أشارت على المدعي بالزراعة في أماكن معينة بعد أن هيأتها له وتعهدت ما تمت زراعته منها بالري وسمحت لرجاله بالمرور عليها لصيانتها وفقاً لنصوص العقد وعندما اعترضت بعض هذه الشجيرات مسار شارع حديث يجرى شقه شرقي تلال الدراسة، طلبت إليه حضور عملية نقلها.. هذا فضلاً عن أن محافظة القاهرة كتبت إلى إدارة قضايا الحكومة بأنها على استعداد لتنفيذ التزاماتها وسداد 50% من قيمة ما ورده المدعي وفقاً للعقد بشرط أن يقوم بتنفيذ التزامه بالترقيع واستبدال الشجيرات الميتة بشجيرات تطابق الشروط وتقبلها لجان الاستلام... وخلصت المحكمة مما تقدم إلى أحقية المدعي في طلب الحكم به بالمبلغ المطالب به.
طعنت الحكومة في هذا الحكم بصحيفة أودعتها سكرتيرية هذه المحكمة في 30 من ديسمبر سنة 1964 طالبة القضاء بقبول الطعن شكلاً وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه وبرفض دعوى المطعون ضده وإلزامه بالمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة. وبنت طعنها على أن الحكم المطعون فيه قد جاء على سند غير صحيح من القانون والواقع.. ذلك أن المشرع أحاط العقد الإداري بضمان خاص عند تخلف الراسي عليه العطاء عن دفع التأمين النهائي في الميعاد المقرر فأجاز لجهة الإدارة إلغاء العقد ومصادرة التأمين المؤقت ويكون لها الحق تبعاً لذلك في أن تخصم من أية مبالغ تكون مستحقة كل خسارة تلحقها من جراء ذلك ومن ثم فإن التأمين النهائي هو شرط من شروط صحة العقد ونفاذه وتكون الفترة فيما بين التأخير في دفعه عن الميعاد المحدد وموافقة المختصين على التجاوز عن هذا التأخير خارجة عن نطاق القبول وبالتالي لا يكون هناك عقد نافذ حتى تتم هذه الموافقة. وبالتالي لا يصح التعويل على أي إجراء اتخذ تنفيذاً للعقد في خلال تلك الفترة من جانب المتعهد أو من جانب رجال الإدارة وعلى ذلك يكون الحكم المطعون فيه قد أخطأ إذ استند على إجراء تم نفاذه خلال فترة وقف نفاذ العقد.. وأنه إذا كان الثابت من التقارير التي وضعتها اللجان الفنية عند استلام النخيل المورد من المطعون ضده، بعد سداد التأمين وإجازة العقد، أن نسبة النجاح فيه تتراوح 3%، 17.5% وأن قيمتها 379 جنيهاً و700 مليماً فإنه يحق لجهة الإدارة أن تحبس تحت يدها هذا المبلغ أو أية مبالغ أخرى تكون مستحقة للمطعون ضده وتعلق سدادها إليه إلى أن يقوم بتنفيذ كافة التزاماته المنصوص عليها في العقد وهي الالتزامات الخاصة بصيانة النخيل وترقيع ما لم ينجح منه. وقالت الحكومة إن هذا يتفق والقواعد العامة في الالتزامات العقدية عامة والتي تخول الدفع بعدم التنفيذ واستعمال الحق في الحبس المقررين بموجب المادتين 161، 246 من القانون المدني.. وأن الدفع بهما من جانب جهة الإدارة لا يتعارض مع طبيعة العقد الإداري.. وبعد أن أوردت الحكومة نص هاتين المادتين قالت إنه إذا شاء الحكم المطعون فيه أن يحكم على جهة الإدارة بالمبلغ المطعون ضده فقد كان حرياً به أن يقرن هذا الحكم بشرط هو أن يقدم هذا الأخير بتنفيذ التزاماته في الوقت ذاته إعمالاً لحق جهة الإدارة المستند إلى القانون في الدفع بعدم التنفيذ.
ومن حيث إنه يبين من الاطلاع على الأوراق وعلى ملفات الموضوع - المقدمة من الحكومة - أن المراقبة العامة للحدائق والأشجار ببلدية القاهرة قد أجرت في بداية عام 1959 مناقصة محلية لتوريد 4500 نخلة من أنواع مختلفة لزراعتها ببعض الحدائق التابعة لها، طبقاً للشروط والمواصفات التي أوضحتها المراقبة، ومن هذه الشروط أن تشكل لجنة لاستلام النخيل عند توريده وقبل زراعته ويكون لها الحق في قبول أو رفض النخيل المخالف للشروط.. ثم حددت الشروط ميعاد الزراعة وميعاد الترقيع. ونصت على أن يكون المتعهد "مسئولاً عن صيانة النخيل في أماكن زراعته أو يشرف على عمال المراقبة حسب إرشاداته". كما نصت على أن تدفع له المراقبة نصف الثمن بعد التوريد وربع الثمن عند الترقيع، الذي يجب أن يتم بعد أربعة إلى ستة شهور من الزراعة أما الربع الباقي من الثمن فيدفع بعد ثلاثة شهور من الترقيع الثاني، وهو الترقيع النهائي وأن ثمن النخيل الميت يخصم من قيمة التأمين في الموسم التالي لتاريخ الزراعة... وقد تقدم المدعي بعطائه.. وفي 14 من يونيه سنة 1959 أخطرته البلدية بقبول عطائه بما قيمته 2775 جنيهاً وطلبت منه أن يبادر إلى دفع مبلغ 222 جنيهاً قيمة باقي التأمين النهائي المستحق عليه.. فطلب المدعي السماح له بتوريد النخيل بما يوازي قيمة التأمين المطلوب إلا أن البلدية رفضت هذا الطلب وأشارت عليه بأنه يجوز توريد النخيل وزراعته في شهر سبتمبر بعد تكملة التأمين.... وفي 14 من سبتمبر سنة 1959 أكمل المدعي التأمين النهائي وفي 20 من ذات الشهر أتم توريد النخيل للحدائق حتى لا يفوت شهر سبتمبر، وهو نهاية موسم الزراعة، وقد تمت معاينة النخيل قبل زراعته بمعرفة اللجان المختصة وإن كانت لم تحرر محاضر بالاستلام بسبب عدم وصول العقد لإدارة الحدائق... وقام المدعي بزراعته في الأماكن التي حددها له رجال بالبلدية.. وفي 10 من يناير سنة 1960 طلبت الإدارة العامة للمصروفات بالبلدية الحصول على الموافقة اللازمة على قبول التأمين بعد المدة المحددة في المادة 76 من لائحة المناقصات والمزايدات فوافقت لجنة شئون المناقصات على ذلك في اليوم التالي ونصت على أن يعرض الأمر على الهيئة الإدارية للمجلس البلدي للموافقة على هذا الاستثناء.. وفي 13 من مارس سنة 1960 وافقت اللجنة المالية على هذا القرار وأقرته الهيئة الإدارية للمجلس في 16 من نفس الشهر واعتمده السيد الوزير في 26 من الشهر المذكور ثم تحرر العقد وتم التوقيع عليه في 6 من إبريل سنة 1960 وأرسلت صورة منه للمدعي في 13 من ذات الشهر.. وفي 30 من الشهر ذاته اجتمعت لجنة استلام النخيل، ولم يحضر اجتماعها المدعي أو من ينوب عنه، فتبين لها نجاح نسبة ضئيلة من النخيل تتراوح بين 3%، 17.5%.. وفي 23 من أغسطس سنة 1960 أخطرت البلدية المدعي بأنه لم يقم بأي ترقيع للنخيل الذي قام بتوريده وطلبت إليه سرعة القيام بذلك في الميعاد المحدد بالعقد لأن النتيجة سيئة جداً ونسبة النجاح ضعيفة في كافة المناطق التي زرع بها.. وفي 18 من سبتمبر سنة 1960 أنذر المدعي البلدية إنذاراً رسمياً على يد محضر مطالباً بالوفاء بنصف ثمن النخيل الذي قام بتوريده ومقداره 1387.500 جنيهاً. والثابت من الأوراق كذلك أن المدعي انقطع عن المرور على النخيل بواسطة مندوبيه من يوم 18 من يونيه سنة 1960. وعلل ذلك في كتابه الذي تلقته البلدية في 11 من ديسمبر سنة 1960 بعدم وفائها بنصف ثمن النخيل وأنه لم يقم بالترقيع بسبب عدم قيامها بتنفيذ التزاماتها.
ومن حيث إن الحكم المطعون فيه قد أصاب الحق فيما قضى به من اعتبار العقد مبرماً بين البلدية والمدعي من 14 من يونيه سنة 1959 - تاريخ إخطاره بقبول عطائه - إذ يقضي البند التاسع والعشرون منه على أنه:
"بمجرد إخطار مقدم العطاء بقبول عطائه يصبح التعاقد تاماً بينه وبين الوزارة أو المصلحة، طبقاً لهذه الشروط وأن إمضاء العقد ودفع التأمين ما هو إلا لضمان تنفيذ هذا التعاقد.. وتعتبر مدة التوريد من تاريخ اليوم التالي لإخطار المتعهد بقبول العطاء".
وعلى ذلك فإنه لا شبهة في انعقاد العقد بين البلدية والمدعي بمجرد إخطاره في 14 من يونيه سنة 1959 بقبول عطائه... أما واقعة تراخي المدعي في تكملة التأمين النهائي حتى 14 من سبتمبر سنة 1959 فلا تؤثر على صحة انعقاد العقد من تاريخ الإخطار المشار إليه... ذلك أنه - وإن كان عدم إيداع هذا التأمين في الميعاد المحدد، وهو عشرة أيام من تاريخ الإخطار، يجيز للبلدية طبقاً لشروط العقد، وطبقاً لنص المادة 53 من لائحة المناقصات والمزايدات، سحب قبول العطاء ومصادرة التأمين المؤقت كما يجيز لها أن تشتري على حسابه كل أو بعض الكمية التي رست عليه وأن تسترد منه التعويضات والخسائر التي لحقتها وأن تخصم ذلك من أية مبالغ تكون مستحقة له - إلا أن المادة 76 من تلك اللائحة قد أجازت لرئيس المصلحة قبول التأمين النهائي إذا تأخر المتعهد عن إيداعه مدة خمسة أيام كما أجازت للسيد وكيل الوزارة إطالة المدة فترة أخرى.. والثابت من الأوراق أن البلدية لم تر استعمال حقها في إلغاء العقد ومصادرة التأمين بسبب تأخير المدعي في إيداع التأمين النهائي حتى 14 من سبتمبر سنة 1959 بل أنها قد تجاوزت عن هذا التأخير فصدر من السيد الوزير في 26 من مارس سنة 1960 قرار بالموافقة على قرار الهيئة الإدارية لبلدية القاهرة الصادر في 16 من ذات الشهر بالتجاوز عن تأخير المدعي في الوفاء بقيمة التأمين النهائي وبقبوله منه وهذا يقطع بأن البلدية قد أبقت على العقد الذي انعقد مع المدعي بإخطاره بقبول عطائه رغم تراخيه في دفع التأمين النهائي.
ومن حيث إن الحكم المطعون فيه قد أصاب كذلك فيما قضى به من إلزام البلدية المدعى عليها بنصف ثمن النخيل الذي ورده المدعي، للأسباب التي استند إليها والتي تأخذ بها هذه المحكمة وتضيف إليها أنه ما كان للجان المختصة وأن تقصر عملها على معاينة النخيل الذي قام المدعي بتوريده في 10 من سبتمبر سنة 1959، دون القيام باستلامه استلاماً فعلياً وتحرير المحاضر اللازمة بذلك - بمقولة إن التسليم لا يكون إلا تنفيذاً لعقد مبرم ونافذ وأنه لم يكن هناك عقد في ذلك الحين، في عقيدتها، يجيز لها تسلم النخيل - وقد تقدم القول بأن هذه العقيدة التي كانت وراء مسلك البلدية في رفض تسلم النخيل لا أساس لها من الصحة لأن العقد قد قام شرعاً بينها وبين المدعي من تاريخ إخطاره بقبول عطائه في 14 من يونيه سنة 1959 وأن تراخي هذا الأخير في الوفاء بالتأمين النهائي، ثم التراخي تبعاً لذلك في التوقيع على العقد، لا يغير من حقيقة قيام العقد في مجال القانون والواقع صحيحاً منتجاً لآثاره اعتباراً من التاريخ المشار إليه... خاصة وأن التأخير في إجازة تراخي المدعي في الوفاء بذلك التأمين يرجع إلى البلدية وطول إجراءاتها في هذا الشأن.. إذ أن المدعي قد أودعه في 14 من سبتمبر سنة 1959 ولم تصدر الموافقة على إجازة هذا التراخي إلا في 26 من مارس سنة 1960 حسبما تقدم.
ومن حيث إنه لا حجة فيما ذهبت إليه البلدية - من أنها قد امتنعت عن الوفاء بنصف ثمن النخيل المورد بسبب عدم قيام المدعي بتنفيذ التزامه بالترقيع (أي... استبدل النخيل الميت بآخر ناجح) وبصيانة هذا النخيل أو الإشراف عليه - لا حجة في ذلك أن البند 8 من شروط المناقصة الملحقة بالبند ينص على أن: "يدفع للمتعهد نصف الثمن بعد التوريد وربع الثمن بعد الترقيع الذي يجب أن يتم بعد 4 - 6 شهور من الزراعة. وأما الربع الباقي من الثمن فيدفع بعد ثلاثة شهور من الترقيع الثاني (وهو النهائي الذي سيصير استلامه بلجنة كذلك".... وينص البند 6 على أن "المتعهد مسئول عن صيانة النخيل في أماكن زراعته - أو يشرف على عمال المراقبة حسب إرشاداته". وينص البند 9 على أن: "يصير خصم ثمن النخيل الميت من قيمة التأمين في الموسم التالي لتاريخ الزراعة".
ويبدو من هذه النصوص أن نصف الثمن يدفع بعد توريد النخيل مباشرة.. ولما كان هذا التوريد قد تم في 20 من سبتمبر سنة 1959 وقامت اللجان المختصة بمعاينته وسمحت للمدعي بزراعته في الأماكن التي حددتها لذلك فقد كان يتعين على البلدية أداء هذا المبلغ في التاريخ المذكور... أما الترقيع فإنه لا يتم إلا بعد مدة تتراوح بين أربعة وستة شهور من تاريخ زراعة النخيل.. وكذلك الصيانة أو الإشراف فإنها لا تتم إلا بعد التوريد والزراعة.. ومن ثم فإن التزام المدعي بالترقيع والصيانة أو الإشراف لم يكن قد نشأ وقت استحقاق المدعي لنصف ثمن النخيل الذي تم توريده.. وتأسيساً على ذلك فما كان يحق للبلدية أن تعلق الوفاء بهذا المبلغ الأخير على التزام لم يكن قد نشأ في ذمته وقت استحقاقه نصف هذا الثمن وتبعاً لذلك فإنه لا محل لتطبيق نص المادة 161 من القانون المدني التي تنص على أنه: "في العقود الملزمة للجانبين إذا كانت الالتزامات المتقابلة مستحقة الوفاء جاز لكل من المتعاقدين أن يمتنع عن تنفيذ التزامه إذا لم يقم المتعاقد الآخر بتنفيذ ما التزم به" ذلك لأن شرط انطباق هذه المادة أن تكون الالتزامات متقابلة ومستحقة الوفاء معاً... ونصف الثمن، حسبما سبق البيان، أصبح مستحقاً التوريد في 20 من سبتمبر سنة 1959 في حين أن التزام المدعي بالترقيع والصيانة أو الإشراف لم يكن قد نشأ حينذاك.. إذ أن الصيانة أو الإشراف لا يكون إلا بعد الزراعة أما الترقيع فإن الالتزام به ينشأ بعد مدة تتراوح بين أربعة وستة شهور من تاريخ الزراعة، حسبما تقدم، ولهذا السبب نفسه لا محل لاستناد البلدية إلى نص المادة 246 من القانون المدني التي تنص على أن: "لكل من التزم بأداء شيء أن يمتنع عن الوفاء به ما دام الدائن لم يعرض الوفاء بالتزام مترتب عليه بسبب التزام المدين ومرتبط به أو ما دام الدائن لم يقم بتقديم تأمين كاف للوفاء بالتزامه هذا" ذلك لأن التزام البلدية بدفع النصف الأول من ثمن النخيل ليس مترتباً على قيام المدعي بالترقيع أو الصيانة، بل هو مترتب فقط على قيام المدعي بتوريد النخيل، وقد ورد، بالفعل وقبلته اللجان المختصة.. يؤكد هذا ويعززه أن جزاء عدم الترقيع هو الامتناع عن الوفاء بالنصف الثاني من الثمن إذ أن ربع الثمن يدفع بعد الترقيع الأول والربع الأخير يدفع بعد الترقيع الثاني يضاف إلى ذلك أن للمدعي تأميناً يربو على المائتين من الجنيهات يحق للبلدية أن ترجع عليه فيه بما عساه تكون قد تكبدته من مصروفات في القيام بالترقيع أو الصيانة إن امتنع المدعي عن القيام بها في المواعيد المحددة لها.
ومن حيث إنه لما تقدم يكون الحكم المطعون فيه قد صدر مطابقاً لأحكام القانون ومن ثم يكون الطعن عليه على غير أساس سليم من القانون حقيقاً بالرفض مع إلزام الجهة الإدارية بالمصروفات.

"فلهذه الأسباب"

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً وبرفضه موضوعاً وألزمت الجهة الإدارية بالمصروفات.