مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الأولى - العدد الأول (من أكتوبر سنة 1955 إلى آخر يناير سنة 1956) - صـ 41

جلسة 5 من نوفمبر سنة 1955

برئاسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وبحضور السادة بدوي إبراهيم حمودة والإمام الإمام الخريبي وحسن جلال وعلي إبراهيم بغدادي المستشارين.

(7)
القضية رقم 159 لسنة 1 القضائية

( أ ) طعن - القانون رقم 165 لسنة 1955 - إنشاؤه للمحكمة الإدارية العليا - يعتبر استحداثاً لطريق جديد من طرق الطعن لا مجرد تغيير في قواعد الاختصاص - سريانه على الطعون في الأحكام الصادرة بعد العمل به - تطبيق الفقرة 3 من المادة الأولى من قانون المرافعات.
(ب) محكمة إدارية عليا - الطعن أمامها - المقابلة بينه وبين الطعن بالنقض - عدم التطابق التام بين النظامين - أساس ذلك.
(ج) سبب جديد - جواز إبدائه أمام المحكمة الإدارية العليا ولو لم يتعلق بالنظام العام - لا وجه للقياس على الطعن بالنقض - مرد ذلك.
(د) دعوى الإلغاء - سلطة محكمة القضاء الإداري أو المحاكم الإدارية في فهم الواقع أو الموضوع - ليست نهائية - خضوعها لرقابة المحكمة الإدارية العليا - لا وجه للقياس على الطعن بالنقض - علة ذلك.
(هـ) قرار إداري - رقابة القضاء الإداري له - وقوفها عند حد المشروعية - عدم امتدادها إلى نطاق الملاءمة التقديرية - الحد الفاصل بين نطاق الرقابة القانونية ونطاق الملاءمة التقديرية - يخضع لرقابة المحكمة الإدارية العليا.
(و) قرار تأديبي - ركن السبب فيه - مدى رقابة القضاء الإداري له - سبب القرار التأديبي بوجه عام هو إخلال الموظف بواجبات وظيفته أو إتيانه عملاً محرماً.
(ز) موظف - إحالته إلى المعاش أو عزله - الجهات المختصة بذلك - حدود اختصاصها.
(ح) موظف - عزله بالتطبيق للمادة 107/ 4 و6 من قانون نظام موظفي الدولة - لا إلزام على الإدارة بإيراد أسباب لقرارها - قيامها بتسبيبه - خضوع الأسباب لرقابة القضاء الإداري.
(ط) تعليمات - تعد بمثابة اللائحة أو القاعدة القانونية الواجبة الاتباع - ليس للرئيس الذي أصدرها أن يخالفها عند التطبيق على الحالات الفردية.
(ى) موظف - إخلاله بواجبات وظيفته والخروج على مقتضاها - حرية الإدارة في تقدير الخطورة الناجمة عن ذلك وتقدير ما يناسبها من جزاء تأديبي في حدود نصاب القانون.
1 - أنشأ المشرع المحكمة الإدارية العليا بالقانون رقم 165 سنة 1955، وجعل مهمتها التعقيب النهائي على جميع الأحكام الصادرة من محكمة القضاء الإداري أو المحاكم الإدارية في الأحوال التي نص عليها وهي مخالفة القانون أو الخطأ في تطبيقه أو تأويله أو وقوع بطلان في الحكم أو في الإجراءات أثر في الحكم أو صدور حكم خلافاً لحكم سابق حاز قوة الشيء المحكوم به، فاستحدث طريقاً جديداً للطعن في الأحكام لم يكن مقرراً من قبل أمام هيئة جديدة أعلى. ولما كان مفاد الفقرة الثالثة من المادة الأولى من قانون المرافعات المدنية والتجارية أن القوانين الملغية أو المنشئة لطريق من طرق الطعن في الأحكام لا تسري بالنسبة لما صدر من الأحكام قبل تاريخ العمل بها، وتسري بالنسبة لما صدر بعد هذا التاريخ، وكان الحكم المطعون فيه قد صدر في 12 من يونيه سنة 1955 أي بعد نفاذ القانون رقم 165 لسنة 1955 في 29 من مارس سنة 1955، فإن هذا الحكم يسري عليه القانون الجديد فيما استحدث من طريق للطعن أمام هذه المحكمة.
2 - لا وجه لافتراض قيام التطابق التام بين نظام الطعن بطريق النقض المدني ونظام الطعن الإداري، سواء في شكل الإجراءات أو كيفية سيرها أو في مدى سلطة المحكمة العليا بالنسبة للأحكام موضوع الطعن أو في كيفية الحكم فيه، بل مرد ذلك إلى النصوص القانونية التي تحكم النقض المدني، وتلك التي تحكم الطعن الإداري، وقد تتفقان في ناحية وتختلفان في ناحية أخرى، فالتطابق قائم بين النظامين من حيث تبيان الحالات التي تجيز الطعن في الأحكام، وهي التي بينتها المادتان 425، 426 من قانون المرافعات المدنية والتجارية ورددتها المادة 15 من القانون رقم 165 لسنة 1955 بشأن تنظيم مجلس الدولة، ولكنه غير قائم سواء بالنسبة إلى ميعاد الطعن أو شكله أو إجراءاته أو كيفية الحكم فيه؛ إذ لكل من النظامين قواعده الخاصة في هذا الشأن مما قد يمتنع معه إجراء القياس لوجود الفارق، إما من النص أو من اختلاف طبيعة الطعنين اختلافاً مرده أساساً إلى التباين بين طبيعة الروابط التي تنشأ بين الإدارة والأفراد في مجالات القانون العام، وتلك التي تنشأ فيما بين الأفراد في مجالات القانون الخاص.
3 - إن عدم جواز إبداء أسباب جديدة للطعن غير التي ذكرت في التقرير إلا ما كان متعلقاً منها بالنظام العام مرده في النقض المدني إلى الفقرة الثانية من المادة 429 من قانون المرافعات. وهذا الحظر لم يردده القانون رقم 165 لسنة 1955 في الطعن الإداري، فوجب أن يخضع في هذا الخصوص للأحكام الواردة في الفصل الثالث من الباب الأول من هذا القانون الخاص بالإجراءات أمام القسم القضائي، والمحكمة الإدارية العليا من بين فروعه، وهي تسمح بذلك في المواعيد المقررة لحين إحالة القضية إلى الجلسة، وقد تسمح به المحكمة حتى بعد الإحالة على حسب المبين بالمادة 30 من القانون المشار إليه.
4 - ليس لمحكمة القضاء الإداري أو للمحاكم الإدارية، في دعوى الإلغاء، سلطة قطعية في فهم "الواقع" أو "الموضوع" تقصر عنها سلطة المحكمة الإدارية العليا، والقياس في هذا الشأن على نظام النقض المدني هو قياس مع الفارق؛ ذلك أن رقابة محكمة القضاء الإداري والمحاكم الإدارية على القرارات الإدارية هي رقابة قانونية تسلطها عليها لتتعرف مدى مشروعيتها من حيث مطابقتها أو عدم مطابقتها للقانون، وهذا بدوره هو عين "الموضوع" الذي ستتناوله المحكمة الإدارية العليا عند رقابتها القانونية لأحكام القضاء الإداري. فالنشاطان وإن اختلفا في المرتبة إلا أنهما متماثلان في الطبيعة؛ إذ مردهما في النهاية إلى مبدأ المشروعية، تلك تسلطه على القرارات الإدارية، وهذه تسلطه على هذه القرارات ثم على الأحكام.
5 - إن نشاط القضاء الإداري في وزنه للقرارات الإدارية ينبغي أن يقف عند حد المشروعية أو عدمها في نطاق الرقابة القانونية، فلا يجاوزها إلى وزن مناسبات القرار وغير ذلك مما يدخل في نطاق الملاءمة التقديرية التي تملكها الإدارة بغير معقب عليها فيها. وتعيين الحد الفاصل بين النطاقين مما يخضع لرقابة هذه المحكمة.
6 - إنه وإن كان القرار التأديبي، كأي قرار إداري آخر، يجب أن يقوم على سبب يبرره، فلا تتدخل الإدارة لتوقيع الجزاء إلا إذا قامت حالة واقعية أو قانونية تسوغ تدخلها، وللقضاء الإداري أن يراقب صحة قيام هذه الوقائع وصحة تكييفها القانوني، إلا أن للإدارة حرية تقدير أهمية هذه الحالة والخطورة الناجمة عنها، وتقدير الجزاء الذي تراه مناسباً في حدود النصاب القانوني المقرر. ورقابة القضاء الإداري لصحة الحالة الواقعية أو القانونية التي تكون ركن السبب تجد حدها الطبعي في التحقق مما إذا كانت النتيجة التي انتهى إليها القرار في هذا الشأن مستخلصة استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها مادياً أو قانونياً. فإذا كانت منتزعة من غير أصول موجودة، أو كانت مستخلصة من أصول لا تنتجها، أو كان تكييف الوقائع - على فرض وجودها مادياً - لا ينتج النتيجة التي يتطلبها القانون، كان القرار فاقداً لركن من أركانه هو ركن السبب ووقع مخالفاً للقانون، أما إذا كانت النتيجة مستخلصة استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها مادياً وقانونياً فقد قام القرار على سببه وكان مطابقاً للقانون.
وسبب القرار التأديبي بوجه عام هو إخلال الموظف بواجبات وظيفته أو إتيانه عملاً من الأعمال المحرمة عليه. فكل موظف يخالف الواجبات التي تنص عليها القوانين أو القواعد التنظيمية العامة أو أوامر الرؤساء في حدود القانون، أو يخرج على مقتضى الواجب في أعمال وظيفته التي يجب أن يقوم بها بنفسه إذا كان ذلك منوطاً به وأن يؤديها بدقة وأمانة، إنما يرتكب ذنباً إدارياً يسوغ تأديبه، فتتجه إرادة الإدارة لتوقيع جزاء عليه بحسب الأشكال والأوضاع المقررة قانوناً وفي حدود النصاب المقرر.
7 - إن الجزاء التأديبي قد يبلغ حد الإحالة إلى المعاش، أو حد العزل مع الحرمان من كل أو بعض المعاش أو المكافأة، ويتخذ في هذا أو ذاك شكل قرار من مجلس تأديب، وهنا يجب أن يكون مسبباً بعد تحقيق ومحاكمة تأديبية وفقاً للأوضاع المقررة في الفصل السابع من الباب الأول من القانون رقم 210 لسنة 1951 بشأن نظام موظفي الدولة، ولا يكون الحرمان من كل أو بعض المعاش أو المكافأة إلا بمثل هذا القرار طبقاً للمادة 57 من المرسوم بقانون رقم 37 لسنة 1929 الخاص بالمعاشات الملكية. وقد تتخذ الإحالة إلى المعاش أو العزل التأديبي شكل قرار يصدر من السلطة الرئاسية المختصة من غير محاكمة تأديبية وذلك بالتطبيق للفقرة الرابعة من المادة 107 من القانون المشار إليه، وهنا لا يلزم اتباع إجراءات التحقيق والمحاكمة المرسومة في الفصل السابع سالف الذكر، كما لا يجب أن يكون مسبباً، وخدمة الموظف قد لا تنتهي بجزاء تأديبي صادر بقرار من مجلس تأديب، أو بقرار تأديبي صادر من السلطة الرئاسية المختصة في الصور الموضحة آنفاً، وإنما قد تنتهي بالفصل بمرسوم أو أمر جمهوري أو بقرار خاص من مجلس الوزراء وذلك بالتطبيق للفقرة السادسة من المادة 107 من القانون سالف الذكر. ومرد ذلك إلى أصل طبعي هو وجوب هيمنة الإدارة على تسيير المرافق العامة على وجه يحقق الصالح العام - ولما كان الموظفون هم عمال هذه المرافق فلزم أن تكون للحكومة الحرية في اختيار من ترى فيهم الصلاحية لهذا الغرض وفصل من تراه منهم أصبح غير صالح لذلك. وهذا من الملاءمات المتروكة لتقديرها بلا معقب عليها ما دام قرارها قد خلا من عيب إساءة استعمال السلطة فلم تستهدف سوى المصلحة العامة.
8 - لئن كانت الإدارة غير ملزمة بتسبيب قرارها بالإحالة إلى المعاش أو بالعزل بالتطبيق للفقرة الرابعة من المادة 107 من القانون رقم 210 لسنة 1951 أو بالفصل بالتطبيق للفقرة السادسة من هذه المادة، إلا أنها إذا ما ذكرت أسباباً لقرارها فإنها تكون خاضعة لرقابة القضاء الإداري للتحقق من مدى مطابقتها أو عدم مطابقتها للقانون، وأثر ذلك في النتيجة التي انتهى إليها القرار.
9 - إن القواعد التنظيمية العامة التي تصدر ممن يملكها، كالمدير العام للمصلحة، متسمة بطابع العمومية والتجريد، تكون بمثابة اللائحة أو القاعدة القانونية الواجبة الاتباع في صدد ما صدرت بشأنه. فيلتزم بمراعاتها لا المرءوسون وحدهم، بل الرئيس هو نفسه كذلك في التطبيق على الحالات الفردية، طالما لم يصدر منه تعديل أو إلغاء لها بنفس الأداة، أي بقرار تنظيمي عام مماثل، لا في تطبيق فردي قصراً عليه.
10 - ما دامت الإدارة قد استخلصت النتيجة التي انتهت إليها في قرارها المطعون فيه استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها بدلائل من عيون الأوراق وقرائن الأحوال تبرر هذا الفهم، فانتهت إلى أن مسلك المطعون عليه كان معيباً، والعمل الذي ارتكبه غير سليم ومخالفاً للتعليمات الواجب اتباعها في هذا الشأن، فإن القرار بإحالته إلى المعاش يكون قائماً على سببه، وهو إخلال الموظف بواجبات وظيفته والخروج على مقتضاها، وكان لها حرية تقدير الخطورة الناجمة عن ذلك وتقدير ما يناسبها من جزاء تأديبي في حدود النصاب القانوني إلى حد الإحالة إلى المعاش أو العزل التأديبي بالتطبيق للفقرة الرابعة من المادة 107 من قانون موظفي الدولة أو حد الإعفاء من الخدمة بالتطبيق للفقرة السادسة من هذه المادة.


إجراءات الطعن

بناء على مذكرة مقدمة من إدارة قضايا الحكومة في 28 من يوليه سنة 1955 أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة سكرتيرية المحكمة في 11 من أغسطس سنة 1955 عريضة طعن أمام هذه المحكمة في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري (الهيئة الخامسة) بجلسة 12 من يونيه سنة 1955 في الدعوى رقم 4499 لسنة 8 القضائية المقامة من السيد/ علي حسن الدرس ضد مجلس الوزراء ووزارة الأشغال العمومية، الذي قضى بإلغاء القرار الصادر من مجلس الوزراء في 30 من ديسمبر سنة 1953 والقرار الوزاري المنفذ له في 25 من يناير سنة 1954 والصادر من السيد الوكيل الدائم لوزارة الأشغال العمومية بإحالة المدعي إلى المعاش وما ترتب على ذلك من آثار، وبإلزام الحكومة بأن تدفع للمدعي مبلغ ثلاثمائة جنيه على سبيل التعويض والمصروفات المناسبة ومبلغ ألف قرش مقابل أتعاب المحاماة. وطلب السيد رئيس هيئة المفوضين للأسباب التي استند إليها الحكم بقبول الطعن شكلاً وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه والقضاء برفض الدعوى وبإلزام المدعي بالمصروفات. وفي 22 من أغسطس سنة 1955 أعلن المطعون ضده بعريضة الطعن فأودع سكرتيرية المحكمة في 20 من سبتمبر سنة 1955 مذكرة بدفاعه انتهى فيها إلى طلب الحكم أصلياً بعدم قبول الطعن شكلاً، واحتياطياً برفضه مع إلزام الحكومة بالمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة. وفي 28 من سبتمبر سنة 1955 أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة سكرتيرية المحكمة طلباً بوقف تنفيذ الحكم المطعون فيه استناداً إلى الفقرة الثالثة من المادة 15 من قانون مجلس الدولة رقم 165 لسنة 1955 وإلى أن من شأن تنفيذ هذا الحكم إثارة الاضطراب في الجهاز الإداري بما تترتب عليه نتائج يتعذر تداركها. وقد عين لنظر هذا الطلب ونظر موضوع الطعن جلسة 15 من أكتوبر سنة 1955، وأعلن كل من المطعون عليه والحكومة بتاريخ الجلسة في 3، 4 من أكتوبر سنة 1955 على التوالي وبجلسة 15 من أكتوبر سنة 1955 سمعت المحكمة ما رأت سماعه من إيضاحات على النحو المبين تفصيلاً بمحضر الجلسة وقدم المطعون عليه مذكرة تكميلية بملاحظاته. ثم أمرت في تلك الجلسة بوقف تنفيذ الحكم المطعون فيه، وأرجأت النطق بالحكم في موضوع الطعن إلى جلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع إيضاحات ذوي الشأن وبعد المداولة.
أ - عن الدفع بعدم قبول الطعن شكلاً:
من حيث إن مبنى هذا الدفع أن المشرع جعل من محكمة القضاء الإداري بالوضع المبين بالقانونين رقم 112 لسنة 1946 ورقم 9 لسنة 1949 محكمة عليا للقضاء الإداري كمحكمة النقض للقضاء العادي، فسوى بينهما من حيث التشكيل وعدم جواز الطعن في أحكامهما ومرتبات مستشاريهما. وأن المحكمة الإدارية العليا التي أنشأها القانون رقم 165 لسنة 1955 من خمسة مستشارين برئاسة رئيس المجلس لا تعدو أن تكون بحسب تشكيلها هيئة من الهيئات التي كانت تتكون منها محكمة القضاء الإداري بنظامها السابق، وإنما تعدل اختصاصها إلى النظر في الطعون التي ترفع إليها في الأحكام الصادرة من محكمة القضاء الإداري بنظامها الجديد أو من المحاكم الإدارية. وإذا كانت محكمة القضاء الإداري قد أصبحت بمقتضى هذا القانون هيئة جديدة يرأسها وكيل المجلس للقسم القضائي وتصدر أحكامها من دوائر تشكل كل منها من ثلاثة مستشارين، وأصبح من اختصاصها النظر في بعض ما كان من اختصاص المحكمة بنظامها السابق، إلا أن مقتضى هذه المقابلة هو أن القانون رقم 165 لسنة 1955 لا يسري إلا على ما لم يكن قد قفل فيه باب المرافعة من الدعاوى. وقد أقفل باب المرافعة في الدعوى محل الطعن قبل العمل بالقانون الجديد، فلا يسري عليها؛ لأنه ليس من القوانين المنظمة لطرق الطعن، بل هو قانون صدر بإعادة تنظيم مجلس الدولة وتوزيع الاختصاص بين هيئاته الجديدة.
ومن حيث إن هذا الدفع يقوم على حجة داحضة؛ ذلك أن القانونين رقم 112 لسنة 1946 ورقم 9 لسنة 1949 كانا ينصان على أن لا يقبل الطعن في الأحكام الصادرة من محكمة القضاء الإداري إلا بطريق التماس إعادة النظر في الأحوال المنصوص عليها في قانون المرافعات في المواد المدنية والتجارية، وأن تجرى في شأن هذه الأحكام القواعد الخاصة بقوة الشيء المقضى به، فلم يكن ثمة طريق طعن متاح أمام هيئة أعلى في أحكام محكمة القضاء الإداري التي كانت ولاية القضاء الإداري مقصورة عليها كدرجة وحيدة ونهائية، إلى أن أنشئت المحاكم الإدارية بالقانون رقم 147 لسنة 1954 فخولت اختصاصاً محدوداً للفصل في منازعات معينة، على أن تكون أحكامها انتهائية إذا لم تجاوز قيمة الدعوى مائتين وخمسين جنيهاً، أما إذا جاوزت هذا النصاب أو كانت مجهولة القيمة جاز استئناف أحكامها أمام محكمة القضاء الإداري. ثم صدر القانون رقم 165 لسنة 1955 فوزع الولاية ذاتها بين محكمة القضاء الإداري وبين المحاكم الإدارية على أساس أهمية النزاع، مع إعادة تشكيل الأولى بحيث تصدر أحكامها من دوائر تشكل كل منها من ثلاثة مستشارين سواء كان موضوع الطلب إلغاء قرار إداري أو منازعة من نوع آخر. ورغبة في إصلاح أخطاء الأحكام التي تصدر في المنازعات الإدارية وفي تنسيق مبادئ القانون الإداري وتأصيل أحكامه تأصيلاً يربط بين شتاتها ربطاً محكماً يمنع التناقض والتعارض بين أحكام القضاء الإداري ويتجه بها نحو الاتساق والاستقرار، أنشأ المشرع المحكمة الإدارية العليا وجعل مهمتها التعقيب النهائي على جميع الأحكام الصادرة من محكمة القضاء الإداري أو المحاكم الإدارية في الأحوال التي نص عليها، وهي مخالفة القانون أو الخطأ في تطبيقه أو تأويله أو وقوع بطلان في الحكم أو في الإجراءات أثر في الحكم أو صدور حكم خلافاً لحكم سابق حاز قوة الشيء المحكوم به، فاستحدث طريقاً جديداً للطعن في الأحكام لم يكن مقرراً من قبل أمام هيئة جديدة أعلى. ولما كان مفاد الفقرة الثالثة من المادة الأولى من قانون المرافعات المدنية والتجارية أن القوانين الملغية أو المنشئة لطريق من طرق الطعن في الأحكام لا تسري بالنسبة لما صدر من الأحكام قبل تاريخ العمل بها، وتسري بالنسبة لما صدر بعد هذا التاريخ، وكان الحكم المطعون فيه قد صدر في 12 من يونيه سنة 1955 أي بعد نفاذ القانون رقم 165 لسنة 1955 في 29 من مارس سنة 1955، فإن هذا الحكم يسري عليه القانون الجديد فيما استحدثه من طريق للطعن أمام هذه المحكمة.
ومن حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ب - عن موضوع الطعن:
من حيث إن عناصر هذه المنازعة تتحصل في أن السيد وزير الأشغال العمومية طلب إلى مجلس الوزراء إحالة المهندس علي حسن الدرس إلى المعاش بدون التمتع بمزايا قرار مجلس الوزراء الصادر في 4 من نوفمبر سنة 1953، وذلك بمذكرة مقدمة للمجلس في 30 من ديسمبر سنة 1953 جاء بها:
"إنه يبين من أوراق تحقيق موضوع الأرض وقف حسين مدكور المنظر عليها المهندس محمد عبد الخالق الطوبي والتي طلبت مؤسسة أبنية التعليم نزع ملكيتها لزوم إقامة مدرسة ابتدائية عليها بدرب الأغوات بشارع السروجية قسم الدرب الأحمر مشروع رقم 12121 - 39 مدارس الذي أحلناه على مجلس الدولة (شعبة الأشغال العامة) لإبداء رأيه فيما نسب إلى موظفين بمصلحة المساحة من بينهم المهندس علي الدرس وكيل هذه المصلحة، أن سيادته قد نسب إليه أنه تدخل لصالح السيد عبد الخالق الطوبي ناظر الوقف باستعجال إنهاء الموضوع، وبإقحام نفسه في تقدير الثمن، دون أن يكون قد اشترك في معاينة الأرض على الطبيعة، ودون أن يقيد نفسه كتابة بإبداء رأيه في التقدير باعتباره السلطة العليا للمصلحة في اعتماد الأثمان، بل أوحى لعضوي اللجنة للتثمين بوضع سعر مرتفع لا تساويه الأرض في نظرهما بحجة أنه يعرف صقع المنطقة وأسعارها، في حين أن هذه اللجنة كانت قد تقدمت بتقدير معين يتفق مع تقدير اللجنة الأولى للتثمين، كما أنه قد اعتمد على معلوماته الخاصة في التقدير الذي أوحى به إلى اللجنة الثانية دون أن يتأكد من صحتها. هذا إلى أنه قد اتصل تليفونياً بالسيد عبد الخالق الطوبي بحضور لجنة التثمين الثانية بعرض سعر للمتر من الأرض المذكورة رفضه، ثم تمارس معه على سعر أعلى مخالفاً بذلك التعليمات الخاصة بأعمال التثمين بالمصلحة. مما يدل دلالة لا شك فيها على مسلكه المعيب والإجراء الغير سليم الذي اتبعه في هذا الموضوع".
فصدر بناء على ذلك مرسوم 30 من ديسمبر سنة 1952 بإحالته إلى المعاش، فأقام الدعوى رقم 4499 لسنة 8 القضائية بعريضة أودعها سكرتارية محكمة القضاء الإداري في 24 من فبراير سنة 1954 بطلب إلغاء هذا المرسوم وما ترتب عليه من آثار، وإلزام الحكومة بأن تدفع له تعويضاً قدره عشرون ألفاً من الجنيهات مع المصروفات ومقابل أتعاب المحاماة، ناعياً عليه مخالفته للقانون، بمقولة إن الأسباب التي قام عليها غير صحيحة، وكذا انطواءه على إساءة استعمال السلطة؛ يزعم أنه صدر ببواعث لا تمت للمصلحة العامة بصلة، وأنه قد أصيب من جراء ذلك بصدمة عنيفة أثرت في حياته مادياً وأدبياً يستحق معها التعويض المطلوب. وقد قضت محكمة القضاء الإداري في حكمها المطعون فيه بإلغاء المرسوم المشار إليه وما ترتب عليه من آثار، مع إلزام الحكومة بأن تدفع له مبلغ ثلاثمائة جنيه على سبيل التعويض والمصروفات المناسبة ومبلغ ألف قرش مقابل أتعاب المحاماة، بانية قضاءها على أن ما نسب إلى المدعي من استعجاله إنهاء موضوع التثمين لا يعتبر مخالفة إدارية تستوجب المؤاخذة؛ لأن الإسراع في إنجاز الأعمال محمود، ولأن ما نسب إليه من إقحام نفسه في تقدير الثمن لا يكون معيباً إلا إذا كان هذا التدخل منبت الصلة بأعمال وظيفته بينما هو يدخل في صميمها باعتباره كان قائماً بأعمال مدير عام مصلحة المساحة، ولأنه لا وجه لمؤاخذته بأنه لم يشترك في معاينة الأرض قبل تقدير ثمنها النهائي؛ لأن لتقدير الثمن عناصر أخرى غير المعاينة، ولأنه لا إلزام على مدير عام المصلحة أو من يقوم مقامه بالاشتراك في معاينة جميع المشروعات لتعذر ذلك مادياً، ولأنه لا وجه لمؤاخذته بأنه لم يقيد نفسه كتابة برأيه الذي أبداه في التقدير؛ لأن اعتماده لتقدير لجنة الجشنى يتضمن موافقته على التقدير، ولأن ما نسب إليه من أنه أوحى لعضوي اللجنة الثانية للتثمين بوضع ثمن مرتفع لا تساويه الأرض في نظرهما مردود بأن تقديرهما كان بمحض اقتناعهما بعد أن ظهر لهما وقوع خطأ مادي في تقدير سعر المتر في الأراضي المجاورة، ولأنه لا وجه لمؤاخذته على اتصاله تليفونياً بناظر الوقف والممارسة معه على ثمن أعلى مخالفاً بذلك تعليمات المصلحة؛ لأن هذه التعليمات صدرت من مدير المساحة التفصيلية، وهو سلطة أدنى منه فلا تقيده، هذا إلى أن الظاهر من الأوراق أن هذه التعليمات لم تراع من جانب موظفي المصلحة الذين هم أقل منه درجة بل من واضع التعليمات، فمخالفتها تكون بالنسبة له من باب أولى ما دام لم يجانب القانون نصاً أو روحاً، وأن الممارسة مع ناظر الوقف كانت بعيدة عن المحاباة، وأن الثمن الذي انتهت إليه لم يكن خبط عشواء بل بني على اعتبارات عادلة معقولة مستفادة من عيون الأوراق، بينما كان التقدير الأول منطوياً على تحيف ظاهر بعيد عن الإنصاف. وخلصت المحكمة من ذلك إلى أن المرسوم المشار إليه، وقد قام على الأسباب التي تضمنتها مذكرة السيد وزير الأشغال، "يكون قد استند إلى أسباب غير صحيحة واقعياً ومستخلصة استخلاصاً غير سائغ مما يجعله معيباً ومنطوياً على مخالفة القانون حقيقاً بالإلغاء". فطعن السيد رئيس هيئة المفوضين في هذا الحكم للأسباب التي فصلها في عريضة الطعن، وتتحصل في أن التعليمات المنظمة لعمليات التثمين قد اعتمدها المدير العام لمصلحة المساحة وأمر بتنفيذها بكتابه المؤرخ 12 من أكتوبر سنة 1938، وصدر منشور في 31 من أكتوبر سنة 1938 نص على أن تطبق اعتباراً من أول نوفمبر سنة 1938. وقد عدلت المادة 12 من الباب الثالث الخاص بتشكل لجان التثمين بالكتاب الصادر في 16 من مايو سنة 1945 كما عدلت المادتان 34 و35 من الباب السادس الخاص باعتماد التثمين، وبذلك ينهار دفاع المطعون عليه من أنه غير ملزم باتباعها بدعوى أنها صادرة من سلطة أدنى من سلطة المدير العام فلا تقيده، بل هي في الواقع من الأمر قرار تنظيمي عام صدر ممن يملكه تلزم مراعاته في التطبيق على الحالات الفردية، حتى من جانب المدير العام نفسه، ما دام لم يصدر منه تعديل لها بقرار تنظيمي عام مماثل؛ وبذلك يكون الحكم المطعون فيه قد خالف القانون عندما قرر أن تلك التعليمات لا ينبغي على المدعي مراعاتها، باعتباره الرئيس الأعلى، وأن مخالفتها أمر مقبول وسائغ ما دامت واقعة المخالفة المزعومة لا تكون بذاتها خطأ جسيماً أو مخالفة خطيرة أو إجراء شاذاً قصد به المحاباة على حساب المصلحة العامة. كما خالف الحكم القانون كذلك إذ استند في النتيجة التي انتهى إليها إلى "تفاهة" بعض الأسباب الواردة في مذكرة السيد وزير الأشغال بطلب إحالة المطعون عليه إلى المعاش. وهو تدخل في تقدير الملاءمة عند إصدار القرار الإداري الذي تملكه الإدارة بغير معقب عليها، فتكون المحكمة قد جاوزت حدود الرقابة القانونية لمشروعية القرار الإداري. فرد المطعون عليه بأن الحكومة في دفاعها أمام محكمة القضاء الإداري لم تشر إلى الكتاب الصادر في 12 من أكتوبر سنة 1938 ولا إلى الكتاب الصادر في 16 من مايو سنة 1945 من المدير العام للمصلحة، بل أثارته هيئة المفوضين لأول مرة في عريضة الطعن، فلا يجوز أن يبدى فيه طلبات أو أوجه دفاع جديدة؛ لأن الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا ليس امتداداً موضوعياً للخصومة الأولى، وإنما هو وسيلة الرقابة القانونية التي تسلطها هذه المحكمة على الأحكام من حيث إنزال حكم القانون الصحيح أو عدم إنزاله على مقتضى الواقع حسبما فهمه الحكم بسلطة موضوعية لا معقب عليها، كما أن الخطأ في القانون الذي قد يرد في الأسباب الناقلة أو الاحتياطية أو التكميلية لا يعيبه، متى كان الحكم محمولاً على أسباب كافية صحيحة ومنتجة، وأن الطعن قد أغفل لب النزاع واقتصر على مناقشة ما ورد في تلك الأسباب التكميلية من زاوية واحدة هي مخالفة التعليمات، بينما المطعون عليه بحكم قيامه بوظيفة المدير العام للمصلحة يملك تعديلها أو إلغاءها غير مقيد في ذلك إلا بما يراه متفقاً والمصلحة العامة. كما أضاف أنه ما كان يجوز فصل المدعي قبل إجراء تحقيق يسمع فيه دفاعه، وإغفال ذلك هو إغفال لضمانة جوهرية مما يبطل المرسوم الصادر بإحالته إلى المعاش.
ومن حيث إنه يجب التنبيه بادئ الرأي إلى أنه لا وجه لافتراض قيام التطابق التام بين نظام الطعن بطريق النقض المدني ونظام الطعن الإداري، سواء في شكل الإجراءات أو كيفية سيرها أو في مدى سلطة المحكمة العليا بالنسبة للأحكام موضوع الطعن أو في كيفية الحكم فيه، بل مرد ذلك إلى النصوص القانونية التي تحكم النقض المدني، وتلك التي تحكم الطعن الإداري، وقد تتفقان في ناحية وتختلفان في ناحية أخرى. فالتطابق قائم بين النظامين من حيث تبيان الحالات التي تجيز الطعن في الأحكام، وهي التي بينتها المادتان 425 و426 من قانون المرافعات المدنية والتجارية ورددتها المادة 15 من القانون رقم 165 لسنة 1955 بشأن تنظيم مجلس الدولة، ولكنه غير قائم، سواء بالنسبة إلى ميعاد الطعن أو شكله أو إجراءاته أو كيفية الحكم فيه؛ إذ لكل من النظامين قواعده الخاصة في هذا الشأن مما قد يمتنع معه إجراء القياس لوجود الفارق، إما من النص أو من اختلاف طبيعة الطعنين اختلافاً مرده أساساً إلى التباين بين طبيعة الروابط التي تنشأ بين الإدارة والأفراد في مجالات القانون العام، وتلك التي تنشأ فيما بين الأفراد في مجالات القانون الخاص.
ومن حيث إن عدم جواز إبداء أسباب جديدة للطعن غير التي ذكرت في التقدير إلا ما كان متعلقاً منها بالنظام العام مرده في النقض المدني إلى الفقرة الثانية من المادة 429 من قانون المرافعات. وهذا الحظر لم يرده القانون رقم 165 لسنة 1955 في الطعن الإداري، فوجب أن يخضع في هذا الخصوص للأحكام الواردة في الفصل الثالث من الباب الأول من هذا القانون الخاص بالإجراءات أمام القسم القضائي، والمحكمة الإدارية العليا من بين فروعه، وهي تسمح بذلك في المواعيد المقررة لحين إحالة القضية إلى الجلسة، وقد تسمح به المحكمة حتى بعد الإحالة على حسب المبين بالمادة 30 من القانون المشار إليه.
ومن حيث إنه ليس لمحكمة القضاء الإداري أو للمحاكم الإدارية، في دعوى الإلغاء، سلطة قطعية في فهم "الواقع" أو "الموضوع" تقصر عنها سلطة المحكمة الإدارية العليا، والقياس في هذا الشأن على نظام النقض المدني هو قياس مع الفارق؛ ذلك أن رقابة محكمة القضاء الإداري والمحاكم الإدارية على القرارات الإدارية هي رقابة قانونية تسلطها عليها لتتعرف مدى مشروعيتها من حيث مطابقتها أو عدم مطابقتها للقانون، وهذا بدوره هو عين "الموضوع" الذي ستتناوله المحكمة الإدارية العليا عند رقابتها القانونية لأحكام القضاء الإداري، فالنشاطان وإن اختلفا في المرتبة إلا أنهما متماثلان في الطبيعة؛ إذ مردهما في النهاية إلى مبدأ المشروعية، تلك تسلطه على القرارات الإدارية، وهذه تسلطه على هذه القرارات ثم على الأحكام.
ومن حيث إن نشاط القضاء الإداري، في وزنه للقرارات الإدارية، ينبغي أن يقف عند حد المشروعية أو عدمها في نطاق الرقابة القانونية، فلا يجاوزها إلى وزن مناسبات القرار وغير ذلك مما يدخل في نطاق الملاءمة التقديرية التي تملكها الإدارة بغير معقب عليها فيها، وتعيين الحد الفاصل بين النطاقين مما يخضع لرقابة هذه المحكمة.
ومن حيث إنه وإن كان القرار التأديبي، كأي قرار إداري آخر، يجب أن يقوم على سبب يبرره، فلا تتدخل الإدارة لتوقيع الجزاء إلا إذا قامت حالة واقعية أو قانونية تسوغ تدخله، وللقضاء الإداري أن يراقب صحة قيام هذه الوقائع، وصحة تكييفها القانوني، إلا أن للإدارة حرية تقدير أهمية هذه الحالة والخطورة الناجمة عنها، وتقدير الجزاء الذي تراه مناسباً في حدود النصاب القانوني المقرر.
ومن حيث إن رقابة القضاء الإداري لصحة الحالة الواقعية أو القانونية التي تكون ركن السبب تجد حدها الطبعي في التحقق مما إذا كانت النتيجة التي انتهى إليها القرار في هذا الشأن مستخلصة استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها مادياً أو قانونياً. فإذا كانت منتزعة من غير أصول موجودة، أو كانت مستخلصة من أصول لا تنتجها، أو كان تكييف الوقائع - على فرض وجودها مادياً - لا ينتج النتيجة التي يتطلبها القانون، كان القرار فاقداً لركن من أركانه هو ركن السبب ووقع مخالفاً للقانون. أما إذا كانت النتيجة مستخلصة استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها مادياً وقانونياً، فقد قام القرار على سببه وكان مطابقاً للقانون.
ومن حيث إن سبب القرار التأديبي بوجه عام هو إخلال الموظف بواجبات وظيفته، أو إتيانه عملاً من الأعمال المحرمة عليه، فكل موظف يخالف الواجبات التي تنص عليها القوانين أو القواعد التنظيمية العامة أو أوامر الرؤساء في حدود القانون، أو يخرج على مقتضى الواجب في أعمال وظيفته التي يجب أن يقوم بها بنفسه إذا كان ذلك منوطاً به وأن يؤديها بدقة وأمانة، إنما يرتكب ذنباً إدارياً يسوغ تأديبه، فتتجه إرادة الإدارة لتوقيع جزاء عليه بحسب الأشكال والأوضاع المقررة قانوناً وفي حدود النصاب المقرر.
ومن حيث إن الجزاء التأديبي قد يبلغ حد الإحالة إلى المعاش، أو حد العزل مع الحرمان من كل أو بعض المعاش أو المكافأة، ويتخذ في هذا أو ذاك شكل قرار من مجلس تأديب، وهنا يجب أن يكون مسبباً بعد تحقيق ومحاكمة تأديبية وفقاً للأوضاع المقررة في الفصل السابع من الباب الأول من القانون رقم 210 لسنة 1951 بشأن نظام موظفي الدولة، ولا يكون الحرمان من كل أو بعض المعاش أو المكافأة إلا بمثل هذا القرار طبقاً للمادة 57 من المرسوم بقانون رقم 37 لسنة 1929 الخاص بالمعاشات الملكية. وقد تتخذ الإحالة إلى المعاش أو العزل التأديبي شكل قرار يصدر من السلطة الرئاسية المختصة من غير محاكمة تأديبية وذلك بالتطبيق للفقرة الرابعة من المادة 107 من القانون المشار إليه، وهنا لا يلزم اتباع إجراءات التحقيق والمحاكمة المرسومة في الفصل السابع سالف الذكر، كما لا يجب أن يكون مسبباً.
ومن حيث إن خدمة الموظف قد لا تنتهي بجزاء تأديبي صادر بقرار من مجلس تأديب، أو بقرار تأديبي صادر من السلطة الرئاسية المختصة في الصور الموضحة آنفاً، وإنما قد تنتهي بالفصل بمرسوم أو أمر جمهوري أو بقرار خاص من مجلس الوزراء وذلك بالتطبيق للفقرة السادسة من المادة 107 من القانون سالف الذكر. ومرد ذلك إلى أصل طبعي هو وجوب هيمنة الإدارة على تسيير المرافق العامة على وجه يحقق الصالح العام - ولما كان الموظفون هم عمال هذه المرافق فلزم أن تكون للحكومة الحرية في اختيار من ترى فيهم الصلاحية لهذا الغرض، وفصل من تراه منهم أصبح غير صالح لذلك، وهذا من الملاءمات المتروكة لتقديرها بلا معقب عليها ما دام خلا من عيب إساءة استعمال السلطة فلم تستهدف سوى المصلحة العامة.
ومن حيث إنه ولئن كانت الإدارة غير ملزمة بتسبيب قرارها بالإحالة إلى المعاش أو بالعزل بالتطبيق للفقرة الرابعة من المادة 107 من ذلك القانون أو بالفصل بالتطبيق للفقرة السادسة من هذه المادة، إلا أنها إذا ما ذكرت أسباباً لقرارها فإنها تكون خاضعة لرقابة القضاء الإداري للتحقق من مدى مطابقتها أو عدم مطابقتها للقانون، وأثر ذلك في النتيجة التي انتهى إليها القرار.
ومن حيث إنه على هدي ما تقدم، ولما كان القرار المطعون فيه لم يصدر من مجلس تأديب، فإنه لا يلزم أن يسبقه تحقيق تسمع فيه أقوال المطعون عليه وبذلك تسقط حجته في هذا الشأن، كما أنه ولئن كان هذا القرار لا يلزم تسبيبه إلا أنه ما دام قد بني على الأسباب التي ذكرتها المذكرة المقدمة من السيد وزير الأشغال، فإن هذه الأسباب تخضع لرقابة القضاء الإداري.
ومن حيث إنه سواء أكان القرار المطعون فيه إحالة إلى المعاش أو عزلاً تأديبياً لذنب إداري بالتطبيق للفقرة الرابعة من المادة 107، أم كان فصلاً من الخدمة بناء على تقدير الإدارة لعدم صلاحية المطعون عليه للبقاء فيها بالتطبيق للفقرة السادسة من هذه المادة، فإن القرار، مستنداً إلى الوقائع المبينة في المذكرة سالفة الذكر، قد قام في الحالين على سببه المبرر قانوناً للنتيجة التي انتهى إليها؛ ذلك أن ما نسب إليه في تلك المذكرة، وإن تعددت عناصره وتباينت أوصافها، تدور جميعها في فلك واحد مسلك المدعي في تثمين قطعة الأرض، وحول محور واحد هو إدانة هذا المسلك، لتنتهي المذكرة من ذلك إلى أنه مسلك عجيب وإجراء غير سليم ومخالفة للتعليمات الواجب اتباعها في هذا الشأن. وليس من شك في أن هذه النتيجة، لو صح استخلاصها من أصول تنتجها، لكانت إخلالاً بواجبات الوظيفة وخروجاً على مقتضاها، تبرر توقيع الجزاء عليه، إن كيف بأنه عزل تأديبي بالتطبيق للفقرة الرابعة من المادة 107، وتسوغ فصله، إن كيف بأنه إعفاء من الخدمة على ما تقدره الإدارة من وجه المصلحة العامة، وذلك بالتطبيق للفقرة السادسة من هذه المادة.
ومن حيث إن تثمين الأعيان التي تنزع ملكيتها للمنفعة العامة قد نظم بمقتضى قواعد تنظيمية عامة اقترحها مدير المساحة التفصيلية واعتمدها المدير العام لمصلحة المساحة بكتابه رقم 20/ 1/ 4 جـ 4 الصادر في 12 من أكتوبر سنة 1938 وأمر بتنفيذها اعتباراً من أول نوفمبر سنة 1938 بكتاب المنشور رقم 42610 في 31 من أكتوبر سنة 1938، ثم عدلت بعض نصوصها باعتماد اقتراح مدير المساحة التفصيلية بكتابه رقم 1063/ د المؤرخ 24 من إبريل سنة 1945 بكتاب المدير العام لمصلحة المساحة رقم 20/ 1/ 4 في 29 من إبريل سنة 1945، وقد رسمت هذه القواعد الخطوات المتعاقبة الواجب السير فيها، والإجراءات الواجب السير عليها في عمليات التثمين، ونظمت تشكيل اللجان التي تتولى ذلك حتى يتم التثمين النهائي، وبينت العناصر والاعتبارات التي تراعى في التثمين وكيفية تسوية الخلافات مع الملاك، وغير ذلك من القواعد والإجراءات التي تستهدف ضمان دقة التثمين على أساس عادل سليم، ينأى به عن شبهة التحيف أو الهوى، ويبعده عن مظنة المحاباة أو الإيثار، وهذا التنظيم يقوم أساساً على أن يناط بموظفين معينين بالذات أعمال معينة لما لهم من خبرة التخصص والدربة فيها، وعلى ترتيب مراحل متعددة قصد بها تمحيص وجوه الرأي المختلفة، وعلى توزيع الاختصاص بين الموظفين في تعاقب وتدرج إداري رئاسي، لا يبدأ الاختصاص في درجة إلا بعد تمام الخطوات المرسومة للدرجة التي تسبقها، وعلى تيسير الانتقال والمعاينة وتمكين المرءوس من إبداء رأيه في التقدير بحرية مع استشعاره المسئولية أمام رئيسه، وعلى تمكين الرئيس من مراجعة المرءوس ورقابته والإشراف عليه.
ومن حيث إن هذه القواعد التنظيمية العامة، وقد صدرت ممن يملكها، وهو المدير العام للمصلحة، متسمة بطابع العمومية والتجريد، فإنها تكون بمثابة اللائحة أو القاعدة القانونية الواجبة الاتباع في شأن أعمال التثمين، فيلتزم بمراعاتها، لا المرءوسون وحدهم، بل الرئيس هو نفسه كذلك، في التطبيق على الحالات الفردية طالما لم يصدر منه تعديل أو إلغاء لها، بنفس الأداة، أي بقرار تنظيمي عام مماثل، لا في تطبيق فردي قصراً عليه.
ومن حيث إنه على مقتضى تلك القواعد، لا يجوز للرئيس أن يتنكب سير عمليات التثمين مسارها الطبعي في مراحلها المتعاقبة بواسطة اللجان المختصة في تسلسلها المنظم وتدرجها الإداري المقرر، على حسب الإجراءات المرسومة لسير العمل فيها، ولا أن يتغول بنفسه على اختصاص هذه اللجان أو بعضها فيباشره بنفسه، أو يقتحمه بغير الطريق المرسوم، فإن فعل ذلك كان مسلكه معيباً في أداء واجبات وظيفته؛ لمخالفته لتلك القواعد نصاً وروحاً، وهي بمثابة اللائحة الواجبة الاتباع.
ومن حيث إن مذكرة السيد وزير الأشغال المؤرخة 30 من ديسمبر سنة 1953 التي بنى عليها القرار المطعون فيه، إذا انتهت إلى مسلك المدعي، في تثمين الأرض التابعة لوقف حسين مدكور، كان معيباً غير سليم ومخالفاً للتعليمات، قد استخلصت هذه النتيجة استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها بدلائل من عيون الأوراق وقرائن الأحوال تبرر هذا الفهم؛ ذلك أنه يبين من الأوراق أنه في 8 من يوليه سنة 1953 عاينت لجنة مشكلة من السيد/ وديع ميخائيل مفتش التثمين والسيد/ عبد الحليم مهندس التثمين قطعة الأرض المشار إليها البالغ مسطحها 2457.5 متراً رقم 19 بجهة السروجية والمغربلين قسم الدرب الأحمر وقدرت ثمناً للمتر المسطح من الأرض مبلغ 1.500 مجـ، بناء على ما اتضح لها أنها من حيث الموقع والصقع "تقع في المنطقة الفاصلة بين السروجية والمغربلين وهي من المناطق القديمة بمدينة القاهرة التي تعتبر من المناطق التجارية القديمة المتوسطة، ولكن الموقع المطلوب تفصله بعض العقارات عن شارع المغربلين التجاري؛ ولذا فليس للموقع قيمة من الناحية التجارية، وإنما يصلح لسكنى أهالي الحي، ويوجد حق ركوب بالبناء للعقار رقم 4 شارع الداودية على جزء من أرض العقار". وأنها من حيث الشكل وواجباتها "مستطيلة تقريباً مع جملة انكسارات الحد البحري بعضه شارع الداودية وبعضه جار بجملة انكسارات، والشرقي جار بجملة انكسارات، والقبلي درب الأغوات بطول 65 متراً تقريباً، والغربي جار" وأن المبيعات المتجاورة "بين 1 جنيه و2 جنيه للمتر المسطح من الأرض". فتكون اللجنة قد راعت في تقديرها جميع الاعتبارات الجوهرية التي أشارت إليها الفقرة ب من المادة 15 من التعليمات التي تنص على أنه "بالنسبة للعقارات أو أراضي البناء يلزم مراعاة الموقع ووسائل المواصلات وعدد السكان ودرجة الثراء عندهم وصقع المنطقة والتحسينات التي أدخلت عليها والإيجارات المتداولة" ولم يفتها الاستئناس بأثمان المبيعات المتجاورة طبقاً لما نصت عليه المادة 16 من أنه "يمكن الاسترشاد على سبيل الاستئناس فقط بالأثمان المتداولة بين الأهالي بموجب العقود المسجلة في السنوات الخمس السابقة لتاريخ المعاينة - بعد التثبت من أن تلك الأثمان لم ترفعها غاية خاصة كمنع الشفعة - أو يبخسها غرض ظاهر كالهرب من زيادة رسوم التسجيل" - وقد كان المسار الطبعي للعملية بعد ذلك أن يعرض تثمين اللجنة على كبير مفتشي التثمين للنظر في اعتماده طبقاً للمادة 34 معدلة بقرار المدير العام لمصلحة المساحة بكتابه المؤرخ 29 من إبريل سنة 1945، بعد عمل الجشنى طبقاً للمادة 33، ثم ترسل صورة من مذكرة التثمين، بعد اعتماده، إلى تفتيش المساحة المختص الذي يحدد موعداً للملاك لعرض الأثمان عليهم بوساطة المختصين الذين عينتهم تلك التعليمات، فإذا اعترض المالك على التثمين وجبت محاولة إقناعه بوساطة المختصين الذين عينتهم كذلك، فإذا أخفقت المحاولة وجب اتباع ما جاء بكتاب المدير العام لمصلحة المساحة المؤرخ 12 من أكتوبر سنة 1938 الذي أبلغ به مدير المساحة التفصيلية اعتماده التعليمات، ويقضي بأنه إذا كانت ثمة مبررات تستوجب إعادة النظر في التثمين ويرى أن صالح العمل يقضي بذلك، أمكن النظر في هذا الأمر بوساطة لجنة متجمعة يرأسها مدير المساحة التفصيلية والتسجيل أو من ينوب عنه وكبير مفتشي التثمين ومفتش التثمين المختص، الذي تكون مهمته حسبما جاء في الكتاب المذكور "فحص أسباب إعادة النظر في التثمين ومبررات الزيادة" - كما يدخل في تشكيل اللجنة عضو من قسم العقود تكون مهمته "بيان حالة العقود التي تم التعاقد عليها، وعدد الرافضين، والتحقق من عدم وجود قضايا مرفوعة عن الأثمان" - فإذا ما اقتنعت هذه اللجنة بأن زيادة السعر هي في صالح المصلحة، أمكن أن ترفعه في حدود 10% عن الأسعار السابق اعتمادها، مع موافاة المدير العام للمصلحة ببيان عن كل حالة من هذا القبيل وبيان المبررات لها، أما إذا رأت اللجنة زيادة الأسعار بنسبة تتجاوز ذلك وجب عرض الأمر على المدير العام أولاً بالتفصيلات الوافية للنظر فيه قبل البت في الموضوع، ويبلغ المدير العام ما يراه في هذا الشأن إلى مدير المساحة التفصيلية - ولكن الذي حصل في التثمين مثار هذه المنازعة أنه بعد أن أتمت لجنة التثمين برئاسة السيد/ وديع ميخائيل تقديرها بناء على الاعتبارات التي ذكرتها، احتجزت لجنة الجشنى موضوع تثمين هذه الأرض من ضمن ما احتجزته لإجراء الجشنى، وقبل أن تتم عمليتها هذه وتسير الإجراءات في الطريق الذي رسمته التعليمات، تدخل المطعون عليه في الأمر، بناء على ما ادعاه ناظر الوقف في بخس التثمين، وما كان للمطعون عليه أن يتدخل في عملية التثمين ويشترك فيها بنفسه قبل أن تتم العملية جميع مراحلها المتعاقبة، ولم يقف عند هذا الحد بل استعجل الأمر، عن طريق مدير المساحة التفصيلية ووكيليها المهندسين أحمد صالح سلامة وعبد الحكيم عسكر، وعن طريق كبير مفتشي التثمين نفسه، وجاوز ذلك إلى إبلاغ المهندس أحمد صالح سلامة أن لهذه الأرض بالذات خريطة تقسيم معتمدة من المحكمة الشرعية للاستبدال بموجبها بأسعار تتراوح بين سبعة جنيهات وستة جنيهات ونصف للمتر المسطح الواحد، فطلب الموظفون المختصون إحضار هذه الخريطة فأحضرها سكرتير ناظر الوقف فتبين أنه لم يكن مذكوراً بها أي تقدير، كل ذلك مستفاد من مذكرة مفتش التثمين السيد أحمد شوقي المؤرخة 16 من ديسمبر سنة 1953. فلما قامت لجنة الجشنى بمهمتها في يوم 22 من سبتمبر سنة 1953 وأجرت عملية الجشنى على المواقع التي احتجزتها لهذا الغرض وأعادت معاينة الأرض المملوكة لوقف حسين مدكور وانتهت إلى تأييد تثمين اللجنة الأولى، بعد أن استظهرت لجنة الجشنى، حسبما جاء في مذكرة كبير مفتشي التثمين في مذكرته المشار إليها "بحث المبيعات المتداولة بهذه المنطقة ومراعاة صقعها وازدحامها بالسكان وخريطة التقسيم" كان يتعين طبقاً للتعليمات أن يعرض الثمن على الملاك، ومن بينهم جهة الوقف، عن طريق تفتيش المساحة المختص بوساطة الموظفين المختصين لمحاولة إقناع الملاك بعدالة التقدير، فإن لم يقتنعوا، وكان ثمة موجب لزيادة التقدير لصالح المصلحة، أن يحال الأمر إلى اللجنة المجتمعة بالتشكيل المبين آنفاً يكون من بين أعضائها مفتش التثمين المختص، وهو في الحالة مثار النزاع السيد/ وديع ميخائيل، الذي تكون مهمته طبقاً لتلك التعليمات فحص أسباب إعادة النظر في التثمين ومبررات الزيادة، ولا تملك اللجنة أن تزيد التقدير عن 10% من التقدير السابق اعتماده. ولكن الإجراءات في عملية التثمين هذه سارت في غير هذا المسار الطبعي بسبب تدخل المطعون عليه واستعجاله غير المألوف؛ إذ توجه إليه في مكتبه كل من مدير المساحة التفصيلية وكبير مفتشي التثمين في نفس اليوم الذي أتما فيه عملية الجشنى وعاينا الأرض واعتمد تقدير اللجنة الأولى، وتدخل بنفسه في عملية التثمين فكان أن انتهى تثمينه إلى اعتبار مبلغ 4 جنيه على حد قول كبير مفتشي التثمين و4.5 جنيه على حد قول مدير المساحة التفصيلية أساساً للعرض على ناظر الوقف، بناء على اقتراح المطعون عليه نفسه لمعرفته الشخصية بصقع الجهة وأسعارها، فوافقاه على ذلك، وكان مما دخل في اعتبارهم ما لوحظ أثناء العرض على المطعون عليه من أن الخانة الموضح بها رقم المنطقة تجاور الخانة المدرج بها أسعار المبيعات المتداولة بين الأهالي ويحتمل اعتبار رقم اللوحة جزءاً من السعر، واستناداً إلى أن الصفقة الخاصة بالعقد رقم 866/ 1949 للأرض الفضاء المجاورة لأرض الوقف من الجهة القبلية الشرقية كانت بواقع 6.500 مجـ للمتر المربع، وهي أحدث تعامل بالمنطقة، كما سمح المطعون عليه لنفسه بعد ذلك أن يتصل عقب ذلك، وفي نفس الاجتماع، بناظر الوقف ليتمارس معه على الثمن، فعرض عليه أولاً أن يكون السعر أربعة جنيهات فرفض الناظر، فرفعه إلى خمسة جنيهات فطلب منه الناظر إرجاء موافقته لحين عرض السعر على المستحقين في الوقف، ثم طلب المطعون عليه منهما تحرير مذكرة التثمين بسعر 5 جنيه للمتر، فوافقاه على ذلك، وفي اليوم التالي أخبر المطعون عليه كبير مفتشي التثمين بموافقة ناظر الوقف على هذا السعر وطلب إرسال مذكرة التثمين لاعتمادها مع تجهيز صيغة القبول الموقع عليها ناظر الوقف احتياطاً لعدم رفض التقدير مستقبلاً، كل ذلك ثابت من عيون الأوراق، وبوجه خاص من مذكرة كل من مفتش التثمين السيد/ أحمد شوقي المؤرخة 16 من ديسمبر سنة 1953 ومن مذكرة مدير المساحة التفصيلية السيد/ إبراهيم سامي عزام المؤرخة في ذات اليوم. وليس من شك في أن مسلك المطعون عليه في هذا كله هو مسلك المتعجل لإنهاء موضوع التثمين تعجلاً غير مألوف، المتدخل فيه تدخلاً يجعله يسير في مسار غير مساره الطبعي المرسوم في التعليمات، المقتحم لاختصاص هيئات أخرى كان ينبغي أن تباشر اختصاصها في تلك المراحل المتعاقبة، وبالتدرج الإداري المقرر على حسب الإجراءات المرسومة في التعليمات المذكورة، ضماناً لدقة التثمين على أساس عادل سليم، الموجه بمعلوماته الشخصية وبما تلقاه من ناظر الوقف من معلومات أخرى ثبت عدم صحتها، حتى انتهى التثمين إلى ما انتهى إليه من فارق صارخ بين هذا التثمين وتثمين اللجنة الأولى دون أن يتأكد من صحة هذه المعلومات أو دقتها، أو أن يستدعى أعضاء اللجنة الأولى أو رئيسها لتبيان الاعتبارات التي أقامت عليها تقديرها، المتسرع لإتمام هذا الموضوع على هذه الوجهة المعينة التي وجهها، فمارس ناظر الوقف في الاجتماع، وتعجل في اليوم التالي إرسال مذكرة التثمين الأخيرة لاعتمادها حسبما سلف إيضاحه.
ومن حيث إنه ما دامت الإدارة قد استخلصت تلك النتيجة استخلاصاً سائغاً من تلك الأصول المشار إليها، فانتهت إلى أن مسلك المطعون عليه كان معيباً وإجراء غير سليم ومخالفاً للتعليمات الواجب اتباعها في هذا الشأن، فإن القرار بإحالته إلى المعاش يكون قائماً على سببه، وهو إخلال الموظف بواجبات وظيفته والخروج على مقتضاها، وكان لها حرية تقدير الخطورة الناجمة عن ذلك، وتقدير ما يناسبه من جزاء تأديبي في حدود النصاب القانوني إلى حد الإحالة إلى المعاش أو العزل التأديبي بالتطبيق للفقرة الرابعة من المادة 107 من قانون موظفي الدولة أو حد الإعفاء من الخدمة بالتطبيق للفقرة السادسة من هذه المادة.
ومن حيث إن الحكم المطعون فيه لم يسلط على القرار المذكور الرقابة القانونية في حدودها الطبيعية كما سلف تبيانه، وإنما أطرح ذلك؛ لما وقر في فهمه من أن المطعون عليه غير ملزم بتلك التعليمات، بينما هي كما سبق القول وقد صدرت ممن يملكها، في شكل قواعد تنظيمية عامة متسمة بطابع العمومية والتجريد، فإنها تكون بمثابة اللائحة أو القاعدة القانونية الواجبة الاتباع في شأن أعمال التثمين، فيلتزم بمراعاتها، لا المرؤوسون وحدهم، بل الرئيس نفسه كذلك، في التطبيق على الحالات الفردية طالما لم يصدر منه تعديل أو إلغاء لها، بنفس الأداة، أي بتنظيم عام مماثل، لا في تطبيق فردي قصراً عليه، أطرح الحكم ذلك، وهو مناط رقابته القانونية، وراح يناقش السعرين، وهل المتر المسطح من أرض الوقف يساوي جنيهاً ونصف أم يساوي خمسة جنيهات، وأخذ يوازن بين الاعتبارات الفنية والموضوعية التي قام عليها كل من التقديرين، لينتهي من هذه الموازنة إلى أن التقدير الأخير هو الأصح، بناء على القياس على أثمان المبيعات المتجاورة متخذاً في قياسه بوجه خاص العقد 866/ 1949 المسجل في 27 من يناير سنة 1949 ببيع 80 و113 متراً بثمن قدره 750 جنيهاً، وما ظنه من أن اللجنة الأولى وقعت في خطأ مادي عند تحديد أثمان المبيعات المجاورة بسبب وضع خانة اللوحة بدلاً من خانة الثمن في الكشف المخصص لذلك مما أنتج في العملية الحسابية ثمناً أقل للمتر المسطح، ومع أن القياس على أثمان المبيعات ليس من الاعتبارات الجوهرية التي يقوم عليها التقدير وإنما يرجع إليه من قبيل الاستئناس فقط طبقاً للمادة 16 من التعليمات، كما أن السيد/ وديع ميخائيل رئيس اللجنة الأولى أوضع في مذكرته المؤرخة 16 من ديسمبر سنة 1953 أنه لم يفتها استظهار أثمان المبيعات المتجاورة في العقود رقم 1886/ 1948، 2514/ 1946، 1660/ 1950، 1941/ 1947، 866/ 1949، 7498/ 1944 وبين عن العقد 866/ 1949 أن القطعة المبيعة "مسطحها صغير علاوة على أنها عند تنفيذ خط التنظيم بالمنطقة بشارع السروجية ستصبح واقعة على الشارع بعد ضم زوائد التنظيم إليها، هذا إلى أنه في مثل هذه الحالات قد يرفع الثمن خوفاً من الأخذ بالشفعة، كما أن على الأرض موضوع النزاع حق ركوب للغير على مسطح 200 متر تقريباً، وأن كبر المساحة له تأثير في التقدير وأن حدها البحري غير منتظم وبه عدة انكسارات" كما أشار على أن درب الأغوات الذي يحد الملك من الناحية القبلية ليست له أية قيمة تجارية، أما شارع الداودية، فلئن كانت به عدة دكاكين، إلا أن الأرض موضوع التثمين ليست لها واجهة كبيرة عليه إذ تبلغ حوالي 15.5 متراً فقط وهي ضئيلة بالنسبة إلى مسطح العقار - كما أن السيد أحمد شوقي مفتش التثمين لم يقل بأنه وقع فعلاً خطأ مادي في وضع رقم اللوحة محل ثمن العقار في الخانات المخصصة لذلك وإنه كان لذلك أثره في تصور ثمن المبيعات على غير الحقيقة، وإنما قال إنه شطب رقم اللوحة إذ "يحتمل اعتبار رقم اللوحة جزءاً من السعر" - كما قد بان من مراجعة خانات الكشف المشار إليه أنه لم يقع أي خطأ في وضع كل بيان في المكان المعد له - مع هذا كله، مما يدل على خطأ الحكم فيما انتهى إليه في هذا الشأن، فإنه ظاهر أن ما تصدت له المحكمة، وأقامت قضاءها أساساً عليه، هو من المسائل الموضوعية والفنية والملاءمات التقديرية التي تخرج عن حدود رقابتها القانونية، ويدخل في صميم عمل الإدارة بلا معقب عليها فيه من جهات القضاء الإداري.
ومن حيث إنه لكل ما تقدم، يكون الحكم المطعون فيه إذا قضى بإلغاء القرار المشار إليه وبالتعويض للمطعون عليه قد وقع مخالفاً للقانون حقيقاً بالإلغاء.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبرفض الدعوى، وبإلزام المدعي بالمصروفات.