أحكام النقض - المكتب الفني - جنائي
السنة 31 - صـ 218

جلسة 11 من فبراير سنة 1980

برياسة السيد المستشار/ عادل برهان نور نائب رئيس المحكمة؛ وعضوية السادة المستشارين: مصطفى جميل موسى، وفوزي المملوك، وفوزي أسعد؛ وهاشم قراعة.

(44)
الطعن رقم 2225 لسنة 49 ق

(1) موانع العقاب "الجنون والعاهة العقلية". مسئولية جنائية. قتل عمد. إثبات "بوجه عام" "خبرة". حكم "تسبيبه. تسبيب غير معيب". نقض "أسباب الطعن. ما لا يقبل منها".
المرض العقلي الذي تنعدم به المسئولية قانوناً وفق المادة 62 عقوبات هو الذي من شأنه أن يعدم الشعور والإدراك. سائر الأحوال النفسية التي لا تفقد الشخص شعوره وإدراكه لا تعد سبباً لانعدام المسئولية.
المحكمة غير ملزمة بندب خبير فني في الدعوى تحديداً لمدى تأثير مرض الطاعن على مسئوليته الجنائية بعد أن وضحت لها الدعوى.
تقدير حالة المتهم العقلية من الأمور الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بالفصل فيها ما دامت تقيم تقريرها على أسباب سائغة.
المحكمة لا تلتزم بالالتجاء إلى أهل الخبرة إلا فيما يتعلق بالمسائل الفنية البحتة التي يتعذر عليها أن تشق طريقها فيها.
(2) قتل عمد. إثبات "بوجه عام" "خبرة". حكم "تسبيبه. تسبيب غير معيب". نقض "أسباب الطعن. ما لا يقبل منها".
تطابق أقوال الشهود مع مضمون الدليل الفني. غير لازم. كفاية أن يكون جماع الدليل القولي، كما أخذت به المحكمة، غير متناقض مع الدليل الفني تناقضاً يستعصى على الملاءمة والتوفيق.
(3) إثبات "بوجه عام" "خبرة". دفاع "الإخلال بحق الدفاع، ما لا يوفره" نقض "أسباب الطعن. ما لا يقبل منها".
تقدير آراء الخبراء والفصل فيما يوجه إلى تقاريرهم من مطاعن. مرجعه محكمة الموضوع.
(4) إثبات "بوجه عام" "خبرة". دفاع "الإخلال بحق الدفاع. ما لا يوفره". نقض "أسباب الطعن. ما لا يقبل منها". حكم "تسبيبه. تسبيب غير معيب".
النعي على المحكمة عدم إعادة مناقشة الطبيب الشرعي في التقرير المقدم منه،
لا محل له ما دام الطاعن أو المدافع عنه لم يطلبا ذلك.
(5) نيابة عامة. نقض "ميعاده". إعدام.
قبول عرض النيابة قضايا الإعدام. ولو تجاوزت الميعاد المقرر لذلك.
(6) قتل عمد. قصد جنائي. سبق إصرار. إثبات "بوجه عام" "قرائن".
قصد القتل، أمر داخلي، يتعلق بالإرادة، تقدير توافره من عدمه، موضوعي. استنتاج توافر سبق الإصرار من ظروف الدعوى وملابساتها. ما دام ذلك سائغاً.
(7) حكم "تسبيبه. تسبيب غير معيب". قتل عمد. إعدام.
الحكم الصادر بالإعدام، ما يلزم من تسبيب لإقراره.
1 - لما كان من المقرر أن المرض العقلي الذي وصف بأنه جنون أو عاهة عقلية وتنعدم به المسئولية الجنائية قانوناً على ما تقضي به المادة 62 من قانون العقوبات هو ذلك المرض الذي من شأنه أن يعدم الشعور والإدراك، أما سائر الأحوال النفسية التي لا تفقد الشخص شعوره وإدراكه فلا تعد سبباً لانعدام المسئولية، فإن ما انتهى إليه الحكم المطعون فيه من أن مرض الطاعن النفسي المشار إليه - بفرض صحته - لا يؤثر على سلامة عقله وصحة إدراكه وتتوافر معه مسئوليته الجنائية عن الفعل الذي وقع منه يكون صحيحاً في القانون.
2 - الأصل أنه ليس بلازم أن تطابق أقوال الشهود مضمون الدليل الفني بل يكفي أن يكون جماع الدليل القولي - كما أخذت به المحكمة - غير متناقض مع الدليل الفني تناقضاً يستعصى على الملاءمة والتوفيق.
3 - إذ كان من المقرر أن تقدير آراء الخبراء والفصل فيما يوجه إلى تقاريرهم من مطاعن مرجعه إلى محكمة الموضوع التي لها كامل الحرية في تقدير القوة التدليلية لتقرير الخبير شأنه في ذلك شأن سائر الأدلة، وهي غير ملزمة من بعد بإجابة طلب مناقشة الطبيب الشرعي ما دام أن الواقعة قد وضحت لديها ولم تر هي من جانبها حاجة إلى اتخاذها هذا الإجراء، وكانت المحكمة قد أقامت قضاءها على ما اقتنعت به مما حواه تقرير الصفة التشريحية فإنه لا يجوز مصادرتها في عقيدتها ويكون ما ينعاه الطاعن في هذا الصدد مجرد جدل في تقدير الدليل مما لا يجوز الخوض فيه أمام محكمة النقض.
4 - إذ كان البين من الرجوع إلى محاضر جلسات المحاكمة أن الطاعن أو المدافعين عنه لم يطلب أيهم من المحكمة استدعاء الطبيب الشرعي لمناقشته في التقرير المقدم منه فليس للطاعن من بعد أن ينعى عليها قعودها عن إجراء لم يطلبه منها ولم تر هي من جانبها حاجة لاتخاذه.
5 - من المقرر أن النيابة العامة ولئن كانت قد عرضت هذه القضية على محكمة النقض مشفوعة بمذكرة برأيها في الحكم، عملاً بنص المادة 46 من قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض الصادر بالقانون رقم 57 لسنة 1959، بعد ميعاد الأربعين يوماً المبين بالمادة 34 من ذلك القانون وطلبت إقرار الحكم، إلا أن تجاوز هذا الميعاد - وعلى ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة - لا يترتب عليه عدم قبول عرض النيابة العامة، بل إن محكمة النقض تتصل بالدعوى - ما دام الحكم صادراً فيها حضورياً بالإعدام - بمجرد عرضها عليها وتفصل فيها لتستبين - من تلقاء نفسها - ما عسى أن يكون قد شاب الحكم من أخطاء أو عيوب - يستوي في ذلك أن يكون عرض النيابة العامة في الميعاد المحدد أو بعد فواته ومن ثم يتعين قبول عرض النيابة العامة لهذه القضية.
6 - قصد القتل أمر خفي لا يدرك بالحس الظاهر وإنما يدرك بالظروف المحيطة بالدعوى والأمارات والمظاهر الخارجية التي يأتيها الجاني وتنم عما يضمره في نفسه، واستخلاص هذا القصد من عناصر الدعوى، موكول إلى قاضي الموضوع في حدود سلطته التقديرية، كما أنه من المقرر أن البحث في توافر ظرفي سبق الإصرار والترصد من إطلاقات قاضي الموضوع يستنتجه من ظروف الدعوى وعناصرها، ما دام موجب تلك الظروف وهذه العناصر لا يتنافر عقلاً مع ذلك الاستنتاج.
7 - لما كانت إجراءات المحاكمة، قد تمت طبقاً للقانون وصدر الحكم وفقاً لما تقضي به الفقرة الثانية من المادة 381 من قانون الإجراءات الجنائية المعدل بالقانون رقم 107 لسنة 1962 من صدور الحكم بالإعدام بإجماع آراء أعضاء المحكمة وبعد استطلاع رأي مفتي الجمهورية قبل إصدار الحكم، وقد جاء الحكم خلواً من عيب مخالفة القانون أو الخطأ في تطبيقه أو في تأويله، وصدر من محكمة مشكلة وفقاً للقانون ولها ولاية الفصل في الدعوى ولم يصدر بعده قانون يسري على واقعة الدعوى يصح أن يستفيد منه المحكوم عليه على نحو ما نصت عليه المادة الخامسة من قانون العقوبات. فإنه يتعين مع قبول عرض النيابة العامة إقرار الحكم الصادر بإعدام المحكوم عليه.


الوقائع

اتهمت النيابة العامة الطاعن بأنه: أولاً - قتل...... عمداً ومع سبق الإصرار والترصد بأن بيت النية وعقد العزم المصمم على قتلها وأعد لهذا الغرض سلاحاً نارياً (مسدس) وترصدها في الطريق الذي أيقن مرورها فيه وما أن ظفر بها حتى أطلق عليها عيارين ناريين قاصداً من ذلك قتلها فأحدث بها الإصابات الموصوفة بتقرير الصفة التشريحية والتي أودت بحياتها. ثانياً: أحرز سلاحاً نارياً مششخناً (مسدس) بغير ترخيص من وزير الداخلية. ثالثاً: أحرز ذخائر (طلقات) مما تستعمل في السلاح الناري آنف البيان دون أن يكون مرخصاً له بحمله وإحرازه. وطلبت إلى مستشار الإحالة إحالته إلى محكمة الجنايات لمعاقبته طبقاً للقيد والوصف الواردين بأمر الإحالة، فقرر ذلك. ومحكمة جنايات الفيوم قضت حضورياً بإجماع الآراء وعملاً بالمواد 230، 231، 232، 32، 17 من قانون العقوبات والمواد 1/ 1، 6، 26/ 2 و5 من القانون رقم 394 لسنة 1954 المعدل بالقوانين 546 لسنة 1954، 75 لسنة 1958، 26 لسنة 1978 والبند أ من القسم الأول من الجدول رقم 3 الملحق بالقانون الأول بمعاقبة المتهم بالإعدام شنقاً عما أسند إليه. فطعن المحكوم عليه في هذا الحكم بطريق النقض...... إلخ.


المحكمة

وحيث إن مبنى الطعن هو أن الحكم المطعون فيه إذ دان الطاعن بجريمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد وقضى بإعدامه، فقد انطوى على مخالفة للقانون وإخلال بحق الدفاع كما شابه قصور وتناقض في التسبيب وفساد في الاستدلال. ذلك بأن الدفاع عن الطاعن قام على أساس أن الطاعن يعتريه مرض نفسي يؤثر على قواه العقلية مما يفقده في كثير من الأحيان شعوره واختياره فيما يأتيه من أعمال الأمر الذي تنتفي معه مسئوليته عن الجريمة المسندة إليه، وقدم تأييداً لذلك شهادة طبية صادرة من طبيبه المعالج طالباً ندب أحد الخبراء المختصين لإبداء الرأي في حالة الطاعن ومدى تأثيرها في إدراكه وتمييزه وقت الحادث. بيد أن المحكمة أطرحت هذا الدفاع برد غير سديد إذ استدلت على سلامة عقل الطاعن بما أدلى به من أقوال خلال التحقيق والمحاكمة وهما أمران تاليان على وقت ارتكاب الحادث الذي أثير دفاع الطاعن بشأنه كما ذهبت المحكمة - في أسباب قضائها - إلى أن المرض النفسي الذي قال به الدفاع لا يؤثر في سلامة عقل الطاعن وصحة إدراكه ولا يرتب انعدام مسئوليته الجنائية عن الفعل الذي وقع منه في حين أن هذا الذي قررته المحكمة يخالف مدلول عبارة "عاهة في العقل" التي نص عليها الشارع في المادة 62 من قانون العقوبات - بعد كلمة جنون - بياناً لحالات الإعفاء من المسئولية ولمواجهة ما قد يكشف عنه العلم من الأمراض النفسية والعصبية والعقلية التي تؤثر على الشعور والاختيار، فضلاً عن أن المرجع في تقدير كل ذلك إلى ذوي الخبرة مما كان لا يجوز معه للمحكمة أن تقحم ذاتها في مجال علمي لا تملك مقوماته الفنية ولا تسعف فيه مجرد الدراية العامة كما أن المحكمة عولت - فيما عولت عليه - على أقوال شهود الإثبات من أن الطاعن أطلق العيار الناري الذي أودى بحياة المجني عليها وهي مسجاة على الأرض منكفئة على وجهها وكان هو يقف خلفها على مسافة قدرها متران أو ثلاثة ومفاد هذا التصوير أن يكون مسار العيار بميل من أعلا إلى أسفل في حين أن تقرير الصفة التشريحية أثبت أن مسار العيار كان مع ميل من أسفل إلى أعلا مما كان يستلزم من المحكمة الرجوع إلى مقدم التقرير استجلاء لها التعارض إلا أنها استندت في إدانة الطاعن إلى الدليلين القولي والفني معاً بمقولة أن الوصف الذي أورده تقرير الصفة التشريحية عن مسار العيار كان مبناه الوضع الطبيعي للجسم قائماً - في حين أن المجني عليها كانت منكفئة على وجهها وهي ملقاة على الأرض - وإلى أن التقرير انتهى إلى إمكان حدوث الإصابة وفقاً لتصوير شهود الواقعة؛ وهو ما لا يصلح رداً على دفاع الطاعن لقصوره عن المواءمة بين الدليلين القولي والفني، كل ذلك مما يعيب الحكم ويستوجب نقضه.
وحيث إن الحكم المطعون فيه بعد أن بين واقعة الدعوى بما تتوافر به كافة العناصر القانونية لجريمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد التي دان الطاعن بها وأورد على ثبوتها في حقه أدلة مستمدة من أقوال شهود الإثبات وما قرره الطاعن ومما تبين من معاينة النيابة العامة لمكان الحادث وما ثبت من تقرير الصفة التشريحية - وهي أدلة سائغة من شأنها أن تؤدي إلى ما رتب عليها - عرض الحكم لما أثاره الدفاع عن الطاعن من فقدانه الشهور والاختيار وقت ارتكاب جريمته بسبب مرضه النفسي ورد عليه بقوله: "وحيث إن...... أنكر قتل...... المجني عليها بجلسة محاكمته وقال الدفاع الحاضر معه أنه مريض بمرض نفسي مزمن مصحوب باكتئاب وقلق بما يؤثر على قواه العقلية وأن الصورة التي قارف بها جريمته تجعله غير مسئول عن علمه إعمالاً لما تقضي به المادة 62 من قانون العقوبات وطلب ندب خبير فني لتقدير حالة المتهم العقلية، وقدم تأييداً لذلك شهادة صادرة من الطبيب....... أثبت فيها أنه يعاني من اكتئاب نفسي وقلق مزمن من أكثر من عام وما زال تحت إشرافه الطبي والعلاج حتى 25/ 3/ 1979" واستطرد - الحكم إلى القول: "أمام أنه في شأن حالة المتهم العقلية فإنه من المقرر أن تقدير حالة المتهم العقلية مما تستقل به المحكمة باعتباره من صميم الواقع المعروض عليها في الدعوى، وإذ كان يبين للمحكمة من ظروف الحال وملابسات فعل القتل المنسوب إليه ومواقفه فيه وتصرفاته بصدده أنه قصد مقر علمه صباح يوم الحادث وسجل حضوره بالدفتر المعد لذلك وانصرف من مقر عمله دون أن يسجله بهذا الدفتر لحصوله قبل الميعاد الرسمي لذلك وتربص للمجني عليها في الطريق الذي أيقن مرورها فيه عائدة من مدرستها إلى دارها ولما جرت هاربة منه تعقبها حتى تمكن منها وقتلها في وضح النهار وبمكان مكتظ بالسكان من كل جوانبه وما كان لدوي الرصاص من صوت مميز مسموع وأثره في تجمع هؤلاء السكان وهو ما استطاع خلاله أن يفر هارباً منه مستعيناً في ذلك بمسدسه الذي كان يحمله بيده، وإذ أصبح حراً طليقاً بمنأى عن المكان ومن فيه والقتيلة التي تركها جثة هامدة وتخلص معه من المسدس الذي استعمله في قتلها لم يقنع ولجأ إلى ترك الفيوم والسفر إلى القاهرة ومنها إلى طنطا، ثم لما قبض عليه وتولت سلطة التحقيق المختصة استجوابه ثبت إجابته لكافة الأسئلة التي وجهت إليه في هدوء واتزان العقل وإدراك كامل لما يجري ولما انطوت عليه أوراقها من أدلة وبراهين أو أقوال الشهود ولم ينف معرفته لغالبية شهود الإثبات فيما ومعرفتهم به وقال إن..... و....... (شاهدتي الإثبات الأولى والثانية) تقطنان ببيت...... بدار الرماد (محل الحادث) وعلل قول الصغيرة...... (الشاهدة الثالثة) بسبق خطبته إياها وانفصامه عنه، وتلمس في القول بخطبة أخرى قال إنها تدعى..... ويعمل أبيها بكلية...... ملاذاً ينجيه من المساءلة مثلما تلمس في القول بأنه لم يغادر مقر عمله بمدرسة...... إلا بعد الثانية عشرة بنصف ساعة وأشهد على صدق ذلك آخرين من زملائه بالمدرسة، وردد بجلسة محاكمته إنكاره قتل..... ونسب إلى أخيها...... حقده عليه ووقوفه عقبة في سبيل إتمام زواجهما بعد أن كتب والده...... (والد المجني عليها) داره الجديدة باسمه، والذي أقر أنهما ألغياه وأن...... حرر على نفسه إيصال أمانة بثلاثمائة جنيه يدفعها إليه إن لم يتم هذا الزواج وخلال مناقشة المحكمة...... بجلسة محاكمته ثبت أنه أجاب وسرد وتحدث بالكثير عن اسمه ووظيفته وماهية العمل الذي يباشره والمدرسة التي يعمل فيها ومؤهلة العلمي وزمن تحصله عليه - والدرجات التي حصلها في الامتحان الذي اجتازه وحصل فيه على هذا المؤهل ثم مسقط رأسه وأفراد أسرته وأخوته الذكور وماهية عمل كل منهم". ثم خلص الحكم إلى القول بأنه "يستقر معه في يقين هذه المحكمة سلامة عقله (أي الطاعن) وتمتعه بكامل الشعور والإدراك ومسئوليته عن الجرم الذي قارفته يداه..... وغني عن الذكر أن المرض العقلي الذي يصدق معه وصف الجنون أو عاهة عقلية وتنعدم به المسئولية قانوناً هو ذلك المرض الذي من شأنه أن يجعل الجاني فاقد الشعور والاختيار في علمه وقت ارتكاب الجريمة وفقاً لنص المادة 62 من قانون العقوبات، وقد استقر قضاء النقض على أن المرض العقلي الذي بوصف بأنه جنون أو عاهة في العقل وتنعدم به المسئولية الجنائية قانوناً هو ذلك المرض الذي من شأنه أن يعدم الشعور والإدراك أما سائر الأمراض والأحوال النفسية التي لا تفقد الشخص شعوره وإدراكه فلا تعد سبباً لانعدام المسئولية، فإذا كان ذلك وكان نوع المرض الذي ركن إليه الدفاع - على فرض صحته - لا يؤثر في سلامة عقله وصحته وإدراكه وتتوافر معه مسئوليته الجنائية عن الفعل الذي وقع منه....." لما كان ذلك، وكانت المحكمة قد أثبت - في حدود سلطتها التقديرية - تمتع الطاعن بملكة الوعي والتمييز والقدرة على حسن الإدراك وسلامة التدبير العقلي وقت ارتكابه الجريمة وذلك من واقع ما استدلت به من مسلك الطاعن وأفعاله وأقواله سواء ما كان سابقاً على وقوع الجريمة أو أثناء ارتكابه لها أو من بعد مقارفته إياها - وليس فقط من مجرد أقواله خلال مرحلتي التحقيق والمحاكمة كما زعم الطاعن واستدلت المحكمة من كل ذلك على سلامة قواه العقلية وقت وقوع الحادث وهو استدلال سليم لا غبار عليه إذ اتخذت من تصرفاته وأقواله السابقة والتالية على الحادث قرائن تعزز ما انتهت إليه من أنه كان حافظاً لشعوره واختياره وقت الحادث، فإن ما أورده الحكم فيما تقدم كاف وسائغ في الرد على ما يثيره الطاعن في هذا الصدد. لما كان ذلك، وكان يبين من محضر جلسة المحاكمة أن ما طلبه الدفاع عن الطاعن من ندب أحد الخبراء المختصين لفحص حالة الطاعن كان مبناه انعدام مسئوليته بسبب إصابته بمرض نفسي قوامه المعاناة من "اكتئاب نفسي وقلق مزمن" - حسبما جاء في الشهادة الطبية التي قدمها تدليلاً على ذلك - وكان من المقرر أن المرض العقلي الذي يوصف بأنه جنون أو عاهة عقلية وتنعدم به المسئولية الجنائية قانوناً - على ما تقضي به المادة 62 من قانون العقوبات - هو ذلك المرض الذي من شأنه أن يعدم الشعور والإدراك، أما سائر الأحوال النفسية التي لا تفقد الشخص شعوره وإدراكه فلا تعد سبباً لانعدام المسئولية، فإن ما انتهى إليه الحكم المطعون فيه من أن مرض الطاعن النفسي المشار إليه - بفرض صحته - لا يؤثر على سلامة عقله وصحة إدراكه وتتوافر معه مسئوليته الجنائية عن الفعل الذي وقع منه يكون صحيحاً في القانون. لما كان ذلك وكانت المحكمة غير ملزمة بندب خبير فني في الدعوى تحديداً لمدى تأثير مرض الطاعن على مسئوليته الجنائية بعد أن وضحت لها الدعوى على ما تقدم لأن الأصل أن تقدير حالة المتهم العقلية من الأمور الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بالفصل فيها ما دامت تقييم تقديرها على أسباب سائغة وهي لا تلتزم بالالتجاء إلى أهل الخبرة إلا فيما يتعلق بالمسائل الفنية البحتة التي يتعذر عليها أن تشق طريقها فيها، ومن ثم فإن ما ينعاه الطاعن على الحكم في هذا الخصوص من دعوى مخالفة القانون والإخلال بحق الدفاع لا يكون له محل. لما كان ذلك، وكان قضاء هذه المحكمة قد استقر على أن الأصل أنه ليس بلازم أن تطابق أقوال الشهود مضمون الدليل الفني بل يكفي أن يكون جماع الدليل القولي - كما أخذت به المحكمة - غير متناقض مع الدليل الفني تناقضاً يستعصى على الملاءمة والتوفيق، وكان الحكم المطعون فيه قد تناول دفاع الطاعن بشأن الادعاء بوجود تعارض بين الدليلين القولي والفني ورد عليه في قوله: "أما عن القول بقيام ثمة تعارض بين الدليل الفني وأقوال الشهود فمردود بما أوراه التشريح من أن إصابات المجني عليها بأعلا يسار خلفية الظهر وأعلا يمين مقدم الصدر حدثت من عيار ناري واحد معمر بمقذوف مفرد أطلق عليها من سلاح ناري مما يطلق مثله ومن مسافة جاوزت حد الإطلاق القريب وأن شكل الإصابة وموضعها من جسد القتيل وما أوراه فحص الملابس التي كانت ترتديها وقت أن صرعها الجاني برصاصة وهي مسجاة على وجهها أرضاً تشير إلى أنه من الجائز حصولها وفق تصوير الشهود في التحقيقات ومن مثل مقذوف الطلقة الفارغة المضبوطة بمكان الحادث وينفي بذاته الادعاء بثمة تعارض، فإذا أضيف إليه أن التشريح لما حدد مسار المقذوف الناري الذي أصاب القتيل بأنه اتخذ اتجاهاً أساسياً من الحلف واليسار إلى الأمام واليمين مع ميلي أسفل إلى أعلا فقد أفصح في غير خفاء إلى أن مسار المقذوف على النحو سالف الذكر إنما هو في الوضع الطبيعي القائم للجسم، ولا يخفى أن الوضع الطبيعي القائم للجسم - هذا الذي عناه الطبيب الشرعي - إنما هو في انتصاب قامة الإنسان فوق قدميه مولياً ظهره للضارب وفي مثل مستواه، فإذا كان ذلك وكانت أقوال شهود الإثبات - التي اطمأنت المحكمة وارتاحت إليها - اتفقت على حصول إصابة القتيل...... برصاصة القاتل أثناء إن كانت منكفئة فوق وجهها ومسجاة على الأرض بينما كان الضارب يقف خلفها على الأرض مصوباً مسدسه نحو جسدها الممدد على الأرض في مستوى دون مستوى الضارب ويقطع بيقين في حصول فعل القتل على التصوير الذي تحدث به الشهود". وهذا الذي رد به الحكم على قالة التناقض بين الدليلين القولي والفني سائغ ويستند إلى أدلة مقبولة في العقل والمنطق لها معينها الصحيح من أوراق الدعوى التي اطمأنت إليها عقيدة المحكمة، ومن ثم فإن منعى الطاعن بالتناقض وفساد الاستدلال يكون غير سديد. لما كان ذلك، وإذ كان من المقرر أن تقدير آراء الخبراء والفصل فيما يوجه إلى تقاريرهم من مطاعن مرجعه إلى محكمة الموضوع التي لها كامل الحرية في تقدير القوة التدليلية لتقرير الخبير شأنه في ذلك شأن سائر الأدلة، وهي غير ملزمة من بعد بإجابة طلب مناقشة الطبيب الشرعي ما دام أن الواقعة قد وضحت لديها ولم تر هي من جانبها حاجة إلى اتخاذها هذا الإجراء، وكانت المحكمة قد أقامت قضاءها على ما اقتنعت به مما حواه تقرير الصفة التشريحية فإنه لا يجوز مصادرتها في عقيدتها ويكون ما ينعاه الطاعن في هذا الصدد مجرد جدل في تقدير الدليل مما لا يجوز الخوض فيه أمام محكمة النقض، هذا فضلاً عن أن البين من الرجوع إلى محاضر جلسات المحاكمة أن الطاعن أو المدافعين عنه لم يطلب أيهم من المحكمة استدعاء الطبيب الشرعي لمناقشته في التقرير المقدم منه فليس للطاعن من بعد أن يعنى عليها قعودها عن إجراء لم يطلبه منها ولم تر هي من جانبها حاجة لاتخاذه. لما كان ما تقدم، فإن الطعن برمته يكون على غير أساس متعيناً رفضه موضوعاً.
ثانياً: عن مذكرة عرض النيابة العامة للحكم الصادر بعقوبة الإعدام:
حيث إن النيابة العامة ولئن كانت قد عرضت هذه القضية على محكمة النقض مشفوعة بمذكرة برأيها في الحكم، عملاً بنص المادة 46 من قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض الصادر بالقانون رقم 57 لسنة 1959، بعد ميعاد الأربعين يوماً المبين بالمادة 34 من ذلك القانون وطلبت إقرار الحكم، إلا أن تجاوز هذا الميعاد - وعلى ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة - لا يترتب عليه عدم قبول عرض النيابة العامة، بل إن محكمة النقض تتصل بالدعوى - ما دام الحكم صادراً فيها حضورياً بالإعدام - بمجرد عرضها عليها وتفصل فيها لتستبين - من تلقاء نفسها - ما عسى أن يكون قد شاب الحكم من أخطاء أو عيوب يستوي في ذلك أن يكون عرض النيابة العامة في الميعاد المحدد أو بعد فواته، ومن ثم يتعين قبول عرض النيابة العامة لهذه القضية. لما كان ذلك، وكان يبين من الاطلاع على أوراق القضية أن الحكم المعروض قد بين واقعة الدعوى بما تتوافر به كافة العناصر القانونية للجريمة التي دان بها المحكوم عليه بعقوبة الإعدام، وأورد على ثبوتها في حقه أدلة سائغة لها معينها الصحيح من الأوراق ومن شأنها أن تؤدي إلى ما رتبه عليها. وقد استظهر نية القتل في حق المحكوم عليه وتوافر ظرفي سبق الإصرار والترصد قبله في قوله: "وحيث إنه عن نية القتل فهي قائمة في حق الجاني من توافر الدافع على ارتكابه انتقاماً من المجني عليها وأهلها الذين فسخوا خطبتها إليه ورفضوا محاولاته إعادتها وعقد قرانه عليها منذ حوالي شهر سابق على الحادث ثبت أنه فكر وتدبر خلاله وانتوى قتلها وصمم عليه وأعد لذلك سلاحاً نارياً قاتلاً بطبيعته "مسدساً" معبأ بالطلقات حمله بين طيات ملابسه يوم الحادث وترصدها في الطريق الذي أيقن مرورها فيه عائدة من مدرستها إلى دارها وما أن ظفر بها وحاولت الإفلات منه حتى جرى خلفها شاهراً بيده مسدسه حتى بلغت شارع العمدة وبمدخل بيت...... أطلق عليها النار من مسدسه فتعثرت وانطرحت على الأرض منكفئة على وجهها فأطلق عليها عياراً نارياً آخر أصابها بخلفية الكتف الأيسر واخترقته ومزق رئتيها وصرعها في الحال بعد أن أصاب منها مقتلاً ويقطع بذاته في ارتكاب الجاني لفعل الإطلاق المؤثم بنية إزهاق روح المجني عليها" وفي قوله: وحيث إنه عن الإصرار السابق والترصد فإنهما قائمان في حق الجاني من توافر الباعث إلى القتل انتقاماً من مخطوبته السابقة وأهلها الذين فسخوا خطبتها إليه ورفضوا محاولاته إصلاح ذات البين بينهما ولم يأبهوا لتهديداته وتوعداته لهم بالقتل أو الإيذاء إن لم يرضخوا لرغبته أن يزوجوها إياه، منذ حوالي شهر سابق على الحادث فكر وتدبر خلاله وانتوى قتلها وصمم عليه وأعد لذلك سلاحاً نارياً قاتلاً بطبيعته "مسدساً" معبأ بالطلقات وسجل حضوره بجهة عمله في الدفتر المعد لذلك صباح يوم الحادث وانصرف قبل الحادث بوقت مناسب وترصدها في الطريق الذي أيقن مرورها فيه عائدة من مدرستها إلى دارها وما أن ظفر بها وحاولت الإفلات منه حتى جرى خلفها شاهراً بيده مسدسه وإذ بلغت شارع العمدة وبمدخل بيت..... أطلق عليها رصاص مسدسه فتعثرت وانطرحت على الأرض منكفئة على وجهها رماها بعيار ناري آخر أصابها بخلفية كتفها الأيسر وتوفيت في الحال ولاذ هو هارباً من المكان". ولما كان قصد القتل أمر خفياً لا يدرك بالحس الظاهر وإنما يدرك بالظروف المحيطة بالدعوى والأمارات والمظاهر الخارجية التي يأتيها الجاني وتنم عما يضمره في نفسه، واستخلاص هذا القصد من عناصر الدعوى، موكول إلى قاضي الموضوع في حدود سلطته التقديرية، كما أنه من المقرر أن للبحث في توافر ظرفي سبق الإصرار والترصد من إطلاقات قاضي الموضوع يستنتجه من ظروف الدعوى وعناصرها، ما دام موجب تلك الظروف وهذه العناصر لا يتنافر عقلاً مع ذلك الاستنتاج. وكان ما أورده الحكم فيما سلف يكفي في استظهاره نية القتل لدى المحكوم عليه، وفي الكشف عن توافر ظرفي سبق الإصرار والترصد في حق المحكوم عليه وقد ساق لإثباتهما قبله من الأدلة والقرائن ما يكفي لتحققهما طبقاً للقانون. لما كان ذلك، وكان الحكم قد خلص مما تقدم على نحو سليم إلى إدانة المحكوم عليه "......." بوصف أنه في 2 إبريل سنة 1979 قد قتل...... وشهرتها...... عمداً ومع سبق الإصرار والترصد وأحرز سلاحاً نارياً مششخناً "مسدساً" بغير ترخيص من السلطة المختصة وأحرز ذخيرة مما تستعمل في هذا السلاح وهي الجرائم المنصوص عليها في المواد 230 و231 و232 من قانون العقوبات والمواد 1/ 1 و6 و26/ 2، من القانون رقم 394 لسنة 1954 المعدل بالقوانين أرقام 546 لسنة 1954 و75 لسنة 1958 و26 لسنة 1978 والبند ( أ ) من القسم الأول من الجدول رقم 3 الملحق بالقانون الأول، وأنزل عليه بعد إعمال نص المادة 32 من قانون العقوبات عقوبة الإعدام وهي مقررة في القانون لجريمة القتل التي دانه بها. ولما كانت إجراءات المحاكمة قد تمت طبقاً للقانون وصدر الحكم وفقاً لما تقضي به الفقرة الثانية من المادة 381 من قانون الإجراءات الجنائية المعدل بالقانون رقم 107 لسنة 1962 من صدور الحكم بالإعدام بإجماع آراء أعضاء المحكمة وبعد استطلاع رأي مفتي الجمهورية قبل إصدار الحكم، وقد جاء الحكم خلواً من عيب مخالفة القانون أو الخطأ في تطبيقه أو في تأويله، وصدر من محكمة مشكلة وفقاً للقانون ولها ولاية الفصل في الدعوى، ولم يصدر بعده قانون يسري على واقعة الدعوى يصح أن يستفيد منه المحكوم عليه على نحو ما نصت عليه المادة الخامسة من قانون العقوبات، لما كان ما تقدم، فإنه يتعين مع قبول عرض النيابة العامة إقرار الحكم الصادر بإعدام المحكوم عليه.