مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثانية - العدد الثاني (من أول فبراير إلى آخر مايو سنة 1957) - صـ 526

(60)
جلسة 16 من فبراير سنة 1957

برياسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة السيد إبراهيم الديواني والإمام الإمام الخريبي وعلي إبراهيم بغدادي ومصطفى كامل إسماعيل المستشارين.

القضية رقم 1656 لسنة 2 القضائية

( أ ) قرار تأديبي - وجوب قيامه على سبب كالشأن في أي قرار إداري آخر - ينعدم السبب إذا لم تتوافر حالة واقعية أو قانونية تسوغ تدخل الإدارة - رقابة القضاء الإداري لصحة قيام الوقائع وصحة تكييفها القانوني تجد حدها الطبعي في التحقق مما إذا كانت نتيجة القرار مستفادة من أصول موجودة أم معدومة، ومستخلصة استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها مادياً أو قانوناً أم لا - ليس له أن يستأنف النظر بالموازنة والترجيح فيما يقدم لسلطات التأديب من دلائل وقرائن إثباتاً ونفياً في خصوص قيام أو عدم قيام الحالة الواقعية أو القانونية لتي تكون ركن السبب.
(ب) مجلس التأديب - القضاء الإداري ليس درجة أعلى للمجالس التأديبية في مدارج هذا النظام، بل هو أداة رقابة قانونية تجرى في حدودها.
1 - إن القرار التأديبي - شأنه شأن أي قرار إداري آخر - يجب أن يقوم على سبب يسوغ تدخل الإدارة لإحداث أثر قانوني في حق الموظف هو توقيع الجزاء للغاية التي استهدفها القانون وهي الحرص على حسن سير العمل. ولا يكون ثمة سبب للقرار إلا إذا قامت حالة واقعية أو قانونية تسوغ التدخل. وللقضاء الإداري - في حدود رقابته القانونية - أن يراقب صحة قيام هذه الوقائع وصحة تكييفها القانوني. وهذه الرقابة القانونية لا تعني أن يحل القضاء الإداري نفسه محل السلطات التأديبية المختصة فيما هو متروك لتقديرها ووزنها فيستأنف النظر بالموازنة والترجيح فيما يقدم لدى السلطات التأديبية المختصة من دلائل وبيانات وقرائن أحوال إثباتاً أو نفياً في خصوص قيام أو عدم قيام الحالة الواقعية أو القانونية التي تكون ركن السبب، بل إن هذه السلطات حرة في تقدير تلك الدلائل والبيانات وقرائن الأحوال تأخذها دليلاً إذا اقتنعت بها، وتطرحها إذا تطرق الشك إلى وجدانها. وإنما الرقابة التي للقضاء الإداري في ذلك تجد حدها الطبعي - كرقابة قانونية - في التحقق مما إذا كانت النتيجة التي انتهى إليها القرار التأديبي في هذا الخصوص مستفادة من أصول موجودة أو أثبتتها السلطات المذكورة وليس لها وجود، وما إذا كانت النتيجة مستخلصة استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها مادياً أو قانوناً. فإذا كانت منتزعة من غير أصول موجودة أو كانت مستخلصة من أصول لا تنتجها أو كان تكييف الوقائع على فرض وجودها مادياً لا ينتج النتيجة التي يتطلبها القانون، كان القرار فاقداً لركن من أركانه وهو ركن السبب ووقع مخالفاً للقانون. أما إذا كانت النتيجة مستخلصة استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها مادياً أو قانوناً، فقد قام القرار على سببه وكان مطابقاً للقانون.
2 - إذا كان الثابت أن محكمة القضاء الإداري قد قضت بإلغاء قرار مجلس التأديب بناء على أسباب لا تعدو أن تكون استئنافاً للنظر بالموازنة والترجيح فيما قام لدى مجلس التأديب من دلائل وبيانات وقرائن سواء في الإثبات أو النفي، فإن الحكم المذكور - والحالة هذه - يكون قد جاوز حد الرقابة القانونية، وأحل نفسه محل مجلس التأديب فيما هو متروك لفهمه أو وزنه أو تقديره. وغني عن البيان أن القضاء الإداري ليس درجة أعلى للمجالس التأديبية في مدارج هذا النظام، وإنما القضاء الإداري هو أداة رقابة قانونية لا تعقب على قرارات تلك المجالس إلا في حدود الرقابة القانونية.


إجراءات الطعن

في 5 من يوليه سنة 1956 أودع رئيس هيئة المفوضين طعناً في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري (الهيئة الثانية) بجلسة 9 من مايو سنة 1956 في الدعوى رقم 1068 لسنة 9 ق المرفوعة من عبد المنعم محمود فهمي ضد وزارة الخارجية، القاضي: "بإلغاء القرار الصادر من مجلس التأديب بوزارة الخارجية في 27 من ديسمبر سنة 1954، والمبلغ إلى المدعي في 6 من يناير سنة 1955، والقاضي بعزله من الوظيفة وحرمانه من مكافأته المستحقة له قانوناً بما يعادل 300 ج استرليني، وألزمت الحكومة بالمصروفات...". وطلب رئيس هيئة المفوضين، للأسباب التي استند إليها في صحيفة الطعن، الحكم "بقبول هذا الطعن شكلاً وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه، ورفض الدعوى، وإلزام المدعي بالمصروفات". وقد أعلن الطعن للحكومة في 11 من أغسطس سنة 1956، وللخصم في 14 من أغسطس سنة 1956، وعين لنظره جلسة 29 من ديسمبر سنة 1956، وفيها سمعت المحكمة ما رأت سماعه من إيضاحات على النحو الوارد بمحضر الجلسة، ثم أرجأت النطق بالحكم لجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة، حسبما يبين من الأوراق، تتحصل في أن المدعي أقام الدعوى رقم 1068 لسنة 9 ق أمام محكمة القضاء الإداري بصحيفة أودعت سكرتارية المحكمة في 25 من يناير سنة 1955 طالباً الحكم بإلغاء قرار مجلس تأديب وزارة الخارجية الصادر في 27 من ديسمبر سنة 1954، والمبلغ إلى المدعي في 6 من يناير سنة 1955، والقاضي بعزله من الوظيفة وحرمانه من مكافأته المستحقة له قانوناً بما يعادل 300 ج استرليني، واعتبار هذا القرار كأن لم يكن، وما يترتب على ذلك من آثار، مع إلزام الحكومة بالمصروفات. وقال في بيان ذلك إنه حصل على بكالوريوس التجارة من جامعة القاهرة سنة 1940، والتحق بعد ذلك بخدمة وزارة الخارجية، وقد نسب إليه أنه في 3 من يناير سنة 1951 إبان اشتغاله بالقنصلية المصرية بلندن بدد مبلغ 300 ج استرليني سلمها إليه البحار بكر بغدادي سليمان على سبيل الوكالة لحفظه لحسابه في البنك فاختلسها لنفسه، فقدم إلى مجلس التأديب بوزارة الخارجية الذي قضى بعزله من الوظيفة وحرمانه من مكافأته المستحقة له قانوناً بما يعادل مبلغ 300 ج استرليني. وينعى المدعي على القرار سالف الذكر الخطأ في الاستدلال والإسناد والتناقض والقصور في الأسباب على الوجه الذي فصله بصحيفة الدعوى. وبجلسة 9 من مايو سنة 1956 قضت المحكمة "بإلغاء القرار الصادر من مجلس التأديب بوزارة الخارجية في 27 من ديسمبر سنة 1954 والمبلغ إلى المدعي في 6 من يناير سنة 1955 والقاضي بعزله من الوظيفة وحرمانه من مكافأته المستحقة له قانوناً بما يعادل مبلغ 300 ج استرليني، وإلزام الحكومة بالمصروفات"؛ وأقامت المحكمة قضاءها على أن واقعة تسلم المدعي 300 ج من البحار على سبيل الوكالة لإيداعه على ذمته بحساب القنصلية لم تستخلص استخلاصاً سليماً من أوراق الدعوى، بل هي مليئة بما يشكك في سلامة الواقعة؛ ذلك أن البحار بكر بغدادي سليمان قدم دليلاً على تسلم المدعي منه مبلغ 300 ج إيصالاً محرراً على الآلة الكاتبة مؤرخ 3 من يناير سنة 1950 غير موقع عليه من أحد وعليه خاتم القنصلية ذو التاريخ وتاريخه 3 من يناير سنة 1951، كما استدل على صحة هذه الواقعة بأقوال عبده حسين حاجب السفارة المصرية بلندن وأقوال الآنسة دوريس التي قررت أن المدعي هو الذي كلفها بكتابة ذلك الإيصال، وترى المحكمة "أنه يتعين القول بداءة ذي بدء أنه لا محل أصلاً للتعويل على الورقة المؤرخة 3 من يناير سنة 1950... (أولاً) لأنه ليس عليها أي توقيع للمدعي فلا حجية لها عليه، هذا مع التسليم بأنها حررت بتكليف من المدعي؛ ذلك لأن الثابت من أقوال الشاهد عبده حسين التي تطابق أقوال البحار أن المدعي استدعى الكاتبة دوريس وكلفها بتحرير الإيصال فانصرفت لتحريره ولم يكن المبلغ قد دفع؛ ومن ثم لا يمكن الاستدلال من مجرد كتابة الورقة المذكورة على أن المبلغ الوارد بها قد دفع، وأنه دفع للمدعي بالذات طالما أن الورقة خالية من توقيعه (ثانياً) ولا يضيف إلى قيمة تلك الورقة شيئاً، فيما يتعلق بمسئولية المدعي، أن عليها بصمة ختم القنصلية؛ لأن هذا الختم - على ما ظهر من التحقيقات - ليس في عهده المدعي، بل في عهدة أمين المحفوظات وأنه يترك على مكتب هذا الأخير ومكاتب غيره من الموظفين في متناول مختلف الأيدي مما لا يؤمن معه وقوع التلاعب به، هذا كله بقطع النظر عن التناقض في مختلف أقوال الشهود بشأن تحرير الورقة المذكورة"، وأنه "متى استبعدت تلك الورقة والقرائن المستمدة من وجودها بيد البحار من أوجه الاستدلال على واقعة تسيلم هذا الأخير مبلغ 300 ج للمدعي، فإنه لا يبقى من هذه الأوجه سوى قول البحار المذكور بشأن هذه الواقعة، فإن أحداً ممن سمع في التحقيق سواء لم يقل برؤيته دفع البحار المبلغ للمدعي...، وأن "أقوال البحار بشأن تسليمه المبلغ للمدعي، مع عدم قيام ما يعززها، لا يصح التعويل عليها لكثرة ما ورد فيها من تناقض، فهو قد أصر في عريضته المؤرخة 23 من يناير سنة 1953 وفي أقواله في 30 من يوليه سنة 1953 على أنه سلم المدعي المبلغ في 3 من يناير سنة 1950، ثم رجع يؤكد في 30 من إبريل سنة 1954 أنه يذكر جيداً أن الإيداع حصل في 3 من يناير سنة 1951، وحين قرر في عريضته السالف ذكرها أن المبلغ الذي أودعه في أكتوبر سنة 1951 تسلم إلى الأستاذ سامي عبد الهادي، مع أن الثابت من الأوراق ومن أقوال المدعي أن هذا الأخير هو الذي تسلم المبلغ المذكور، وهذا التناقض في أقوال البحار، أياً كان سببه، يجعل من غير المستساغ التعويل عليها كدليل - هو الوحيد - على واقعة تسليم المبلغ للمدعي"، وأنه "كذلك لا يصح التعويل - في معرض التدليل على صحة واقعة الإيداع - على القرينة المستنبطة من اتفاق مرور البحار بلندن في 3 من يناير سنة 1951، وهو التاريخ الذي استقر بعد تردده على أنه تاريخ إيداع الثلاثمائة جنيه؛ لأن تواجد البحار بلندن ومعه مبلغ يعادل المبلغ المدعى بإيداعه لا يستفاد منه أن هذا المبلغ قد أودع القنصلية فضلاً عن تسليمه للمدعي بالذات".
ومن حيث إن الطعن يقوم على أن الحكم المطعون فيه قد أغفل أن الكاتبة دوريس ماي قد قررت في أول الأمر أن المبلغ لا بد وأن يكون قد دفع في 3 من يناير سنة 1951 وليس في 3 من يناير سنة 1950؛ إذ تذكرت تغييرها تاريخ ختم القنصلية بمناسبة حلول السنة الجديدة، وأنه يحدث في كثير من الأحيان في أوائل السنة الجديدة الخطأ في كتابة السنة فتكتب السنة القديمة بدلاً من السنة الجديدة، وأنها قد تكون أخطأت عند كتابة تاريخ الإيصال على الآلة الكاتبة فجعلته 3 من يناير سنة 1950 بدلاً من 3 من يناير سنة 1951. وأغفل الحكم أيضاً أن عبده حسين أقر في الطلب الذي تقدم به أن الواقعة حدثت في 3 من يناير سنة 1951، وكذلك أغفل أن القنصل العام قد أثبت أن عبده حسين قد قرر أمامه في يونيه سنة 1952 أن الإيداع كان في سنة 1951. فإذا كان قار مجلس التأديب المطعون فيه قد بني على أن واقعة تسيلم المبلغ قد تمت في 3 من يناير سنة 1951 أخذاً بهذه الأقوال، وبالأقوال الأخيرة للبحار الشاكي وللشاهد عبده حسين التي تأيدت بإجابة الشركة صاحبة السفينة وقبطانها من عدم وجودها في لندن في سنة 1950 ووجودها بها في سنة 1951، واستلام البحار من القبطان مبلغ 315 ج في 2 من يناير سنة 1951 تغييباً للوقائع المادية سالفة البيان، كما أخذ بما تواتر عليه الشهود في التحقيق من عدم ذكر شخص آخر غير المدعي وإلى أنه بإقراره وإقرار القنصل العام كان المكلف باستلام أمانات البحارة - إذا كان ذلك فإن النتيجة التي انتهى إليها القرار المطعون فيه تكون قد استخلصت استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها؛ ومن ثم فإن القرار المطعون فيه مطابق للقانون. وإذ ذهب الحكم المطعون فيه غير هذا المذهب، فإنه يكون قد وقع مخالفاً للقانون.
ومن حيث إن ما نسب إلى المدعي يتحصل في أنه في أوائل سنة 1953 تقدم البحار المصري بكر بغدادي سليمان إلى القنصلية المصرية بلندن طالباً استرداد ثلاثة مبالغ سبق أن أودعها كأمانة لدى القنصلية في تواريخ مختلفة بمقتضى إيصالات ثلاثة، الأول: بمبلغ 300 ج مؤرخ 3 من يناير سنة 1950 عليه خاتم القنصلية ولا يوجد عليه أي توقيع من الموظف المختص، والثاني: بمبلغ 160 ج مؤرخ 10 من نوفمبر سنة 1951 عليه خاتم القنصلية وتوقيع القنصل العام وأمين المحفوظات، والثالث: بمبلغ 155 ج مؤرخ 25 من أغسطس سنة 1952 عليه خاتم القنصلية وتوقيع القنصل العام وأمين المحفوظات. وبالبحث تبين ألا أثر للمبلغ الأول في حسابات القنصية، كما لم يودع في حساب التأمينات بالبنك، فلما أن أخطر البحار بذلك قرر أنه سلم المبلغ المذكور إلى الأستاذ عبد المنعم محمود فهمي سكرتير القنصلية في 3 من يناير سنة 1950، وأنه أعطاه الإيصال المشار إليه كما قرر أنه كان وقتذاك بصحبة قريبه عبده حسين رئيس خدم السفارة. وقد سئل عبده حسين المذكور عن معلوماته، فقرر أنه كان مع قريبه البحار يوم أن حضر إلى القنصية في 3 من يناير سنة 1950 وسلم المبلغ إلى المدعي. وبسؤال المدعي عما نسب إليه قرر أنه لم يتسلم عمله رسمياً في القنصلية إلا حوالي 15 من يناير سنة 1950، وأنه سبق أن أودع مبالغ لبعض البحارة إلا أنه لم يتسلم المبلغ الذي يدعي البحار أنه سلمه إليه. كما قرر أنه لاحظ أثناء الاطلاع على الإيصال الذي يقول البحار إنه أخذه من القنصلية أنه مؤرخ 3 من يناير سنة 1950، وأن خاتم القنصلية تاريخه 3 من يناير سنة 1951، وأنه لا يدري كيف يتأتى مثل هذا الخلاف، أما قول عبده حسين إنه حضر مع البحار إلى مكتب المدعي فهو أمر محتمل؛ إذ كان يقوم وقتذاك بأعمال القنصية جميعاً، ويحتمل أيضاً أن يكون قد حضر إليه وأفهمهما بأن يحتفظا بهذا المبلغ أو بأنه غير مسئول عن إيداعه إلا أنه لا يذكر تماماً ما حدث. وقد أيدت الآنسة دوريس ماي - التي كانت تعمل على الآلة الكاتبة بالقنصلية في ذلك الحين - أقوال البحار وقريبه، وأضافت أنها تذكر أنه على إثر مقابلة البحار للمدعي طلب إليها الأخير أن تحرر إيصالاً على الآلة الكاتبة بمبلغ 300 ج باسم البحار، ثم قالت إنها تذكر أن المبلغ لا بد وأن يكون قد دفع في 3 من يناير سنة 1951 وليس في 3 من يناير سنة 1950؛ لأنها تذكر تغييرها تاريخ خاتم القنصلية بمناسبة حلول السنة الجديدة، وإنما عند كتابة الإيصال أخطأت - كما يحدث كثيراً في أوائل السنة الجديدة - فجعلت تاريخه 3 من يناير سنة 1950 بدلاً من 3 من يناير سنة 1951. ونظراً للخلاف القائم بين تاريخ خاتم القنصلية (وهو 3 من يناير سنة 1951) والتاريخ المكتوب بالآلة الكاتبة (وهو 3 من يناير سنة 1950) أعيد سؤال البحار وعبده حسين فقررا أن إيداع المبلغ كان في 3 من يناير سنة 1950. وقد طب المدعي الاستفهام من الشركة البحرية التي يعمل بها البحار المذكور عن موعد حضور السفينة التي يعمل بها البحار، فأجابت الشركة أنه لا يمكن أنه يكون البحار موجوداً في لندن في 3 من يناير سنة 1950؛ إذ أن السفينة كانت وقتذاك في "ستتن" وأن السفينة حضرت إلى التيمز في أول يناير سنة 1951 وبقيت إلى 19 من يناير سنة 1951، فمن الجائز أن يكون المدعي في لندن في 3 من يناير سنة 1951، كما قررت الشركة أن البحار قبض في 2 من يناير سنة 1951 مبلغ 315 ج. وقد عدل بعد ذلك البحار وعبده حسين عما سبق أن قرراه من أن حضورهما إلى القنصلية كان في 3 من يناير سنة 1950، وقررا أن ذلك كان في 3 من يناير سنة 1951، وذكر بالبحار أنه ما أن تسلم من قبطان السفينة مبلغ 315 ج حتى ذهب في اليوم الثاني إلى القنصلية لإيداع مبلغ الـ 300 ج. أما الكاتبة دوريس فقد ترددت ولم تقطع برأي في حقيقة تاريخ تحرير الإيصال. وقد لاحظت الوزارة أخيراً أن المدعي يقرر في رده الأول أنه لاحظ وجود خلاف بين تاريخ خاتم القنصلية وهو 3 من يناير سنة 1951 وتاريخ الإيصال وهو 3 من يناير سنة 1950، مع أن صورة الإيصال التي عرضت على المدعي لإبداء رأيه فيها لم يبين عليها أي التاريخين، بل إن الوزارة لم تعلم بوجود ختم على الإيصال إلا بعد التحقيق الذي باشرته القنصلية، فمن أين للمدعي أن يعلم بوجود تاريخين مختلفين بالإيصال ولم يعرض عليه الإيصال ذاته بل صورة منه، ولم يطلع على الإيصال سوى القنصل عندما تقدم إليه البحار طالباً استرداد نقوده، ثم استرده البحار لأنه سنده في المطالبة بذلك المبلغ. وقد سئل المدعي في ذلك فقال "إنني عندما عرض عليّ كتاب القنصلية المصرية العامة بلندن والمبلغ إليّ رسمياً بتاريخ 9 من مارس سنة 1953 في إدارة المستخدمين، كان الإيصال الذي اطلعت عليه هو الإيصال الذي يحمل الأختام، وقد رأى معي السيد الموظف المختص الأستاذ فوزي الشاذلي والذي تولى عملية إبلاغي الخطاب رسمياً بمكتبه هذه الملاحظة أيضاً. أما عن الشطر الثاني من السؤال فإنني أتشكك في أن تكون الوزارة والقنصلية العامة بلندن قد اطلعت على الإيصال الرسمي الذي يحتفظ به الشاكي لأول مرة في أغسطس أو سبتمبر سنة 1953، وأغلب الظن عندي أن القنصلية العامة بلندن قد تسلمت من الشاكي الإيصال المختوم وأرسلته إلى الوزارة بكتابها الأول المؤرخ فبراير سنة 1953، وأن الوزارة قد أعادت هذا الإيصال المختوم - والذي اطلعت عليه بكل تأكيد - إلى القنصلية العامة بلندن. فليس من المعقول أن أبدي ملاحظة رسمية كهذه دون أن يكون ذلك مستمداً من المستند الذي اطلعت عليه، بل كان الواجب القانوني يحتم على الوزارة أن تحتفظ بهذا الإيصال المختوم، لا سيما وأن أختامه هي موضوع التشكك من جانبي، بل كان يجب على الوزارة أن تأخذ صورة فوتوغرافية له أو على الأقل أن تحقق هذه الواقعة قبل إعادة هذا المستند الذي أبديت ملاحظتي عليه في حينه، فأرجو التكرم بالتنبيه إلى الاتصال بالسيد فوزي الموظف المختص بإدارة المستخدمين في هذا الصدد، فهو لا شك يذكر ذلك، والتحقيق في مصير هذا المستند". وقد سئل الأستاذ فوزي الشاذلي فقرر أن الصورة التي اطلع عليها المدعي كانت خالية من الأختام؛ وبناء على ذلك قرر وكيل وزارة الخارجية في 18 من أغسطس سنة 1954 إحالة المدعي إلى مجلس التأديب لمحاكمته عن التهمة الآتية: "لأنه في 3 من يناير سنة 1951 بمدينة لندن بصفته موظفاً عمومياً وقت أن كان يشغل وظيفة سكرتير قنصلية لندن أخل إخلالاً خطيراً بواجبات وظيفته بأن لم يرع واجب الأمانة في عمله؛ ذلك بأن بدد مبلغ 300 ج استرليني سلمه إليه مالكه بكر بغدادي سليمان على سبيل الوكالة لحفظه لحسابه في البنك فاختلسه لنفسه إضراراً بمالكه". وفي أثناء المحاكمة التأديبية قدم المدعي دليلاً على صحة ما قرره من أن خطاب قنصلية لندن المرسل إلى الوزارة كان مرفقاً به إيصال هو صورة طبق الأصل من الإيصال المسلم من البحار بما فيه تاريخ تحريره وتاريخ ختم القنصلية، وهو خطاب صادر إليه من الأستاذ سامي عبد الهادي خورشيد الموظف بالقنصلية المصرية بلندن، وقد ورد بذلك الخطاب ما يأتي: "طلب مني القنصل الجديد الاتصال بك أو مراسلتك في أمر لم يمكننا فهمه أو حله، وهو أن أحد البحارة المصريين.. تقدم إلينا ومعه إيصالين موقعين مني بمبلغ 315 ج... كذلك قدم إيصالاً آخر وهو موضع الإشكال وهو بمبلغ 300 ج. والعجيب في الإيصال أنه غير موقع عليه منك أولاً، وثانياً التاريخ مكتوب بالآلة الكاتبة 3 يناير سنة 1950 بينما الختم بتاريخ 3 يناير سنة 1951. وبعد بحث طويل جداً وجد أن المبلغ لم يورد في حساب القنصلية... وقد أخبرنا البحار المذكور ومعه عبده الساعي بالسفارة أنك استلمت منهم هذا المبلغ بتاريخ 3 يناير سنة 1950 وببحثي في كشوف البنك من سنة 1948 إلى الآن لم أتمكن من الاستدلال على هذا المبلغ... هذا وقد طلب مني القنصل الاستفسار منك أولاً عن هذه المسألة قبل أن يكتب رسمياً في هذا الموضوع للوزارة...". وقد سئل المدعي عن عدم رده على ذلك الخطاب فقرر أنه كان مفاجأة له وكان يستعد للسفر لجنوا، وهذا الخطاب قد يدل على سابقة علم المدعي بوجود تاريخين على الإيصال، ولكن لا يستفاد منه أن خطاب القنصلية الذي اطلع عليه المدعي يحمل التاريخين المذكورين. وقد حكم مجلس التأديب بجلسته المنعقدة في 27 من ديسمبر سنة 1954 بمعاقبة المدعي بالعزل من وظيفته وحرمانه من مكافآته المستحقة له قانوناً بما يعادل مبلغ 300 ج استرليني؛ وقد أقام مجلس التأديب حكمه على أن "الوقائع المادية تستبعد وجود البحار في لندن سنة 1950، ولا يرى المجلس إلا تغليب الوقائع المادية على ما عداها من الأقوال التي تضاربت فيما يتعلق بتحديد السنة وهل هي سنة 1950 أم سنة 1951، ويرى المجلس أن أقوال الشهود بالسنة لسنة 1951 هي الأرجح؛ إذ كانت في الأصل متماسكة، فقالت بها الآنسة ماي، وقال بها عبده حسين، وقال بها نقلاً عن عبده حسين السيد عثمان توفيق، وانتهوا بالإصرار عليها، إلى أن عدلوا عنها في أقوالهم في محضر التحقيق المؤرخ 30 من يوليه سنة 1953 و7 من أغسطس سنة 1953 بالنسبة للآنسة ماي التي رجحت - ولم تقطع - بأنها سنة 1950 وليست سنة 1951. ومهما يكن من أمر اختلاف السنة فالثابت من الصورة الفوتوغرافية أن عليها ختم 3 يناير سنة 1951 كما عليها تاريخ 3 يناير سنة 1950 بالآلة الكاتبة، ويرى المجلس الأخذ بتبرير الآنسة ماي من أنها أخطأت في ذكر السنة على الآلة الكاتبة خصوصاً أن القرائن جميعها تؤيد هذا النظر، فمن قول الشركة من عدم وجود الباخرة بلندن في سنة 1950 ووجودها بلندن سنة 1951، واستلامه مبلغ 315 ج في 2 من يناير سنة 1951، ومن إقرار السيد القنصل أن العملية في سنة 1951 كانت موكلة إلى السيد عبد المنعم، ومن شهادة الشهود بادئ الأمر أنها في سنة 1951، ومن إقرار صريح بيد الآنسة ماي بأنها أمرت من السيد عبد المنعم في سنة 1951 بإعداد إيصال باسم البحار المذكور، ومن عدم التحول أو التشكك في شخص السيد عبد المنعم فهمي من أنه استلم هذا المبلغ" وأن "المجلس يدخل في الاعتبار الأول ثقة الجمهور في رجال القنصلية، تلك الثقة إلى تغني من كان في مثل حالة البحار العطشجي وسنه وعدم إلمامه بالقراءة والكتابة عن أن يطالب بمراجعة ما يعطى له من جهة مفروض فيها البعد عن سوء مظنة من يتعامل معها".
ومن حيث إن هذه المحكمة سبق أن قضت [(1)] بأن القرار التأديبي - شأنه شأن أي قرار إداري آخر - يجب أن يقوم على سبب يسوغ تدخل الإدارة لإحداث أثر قانوني في حق الموظف هو توقيع الجزاء للغاية التي استهدفها القانون، وهي الحرص على حسن سير العمل، ولا يكون ثمة سبب للقرار إلا إذا قامت حالة واقعية أو قانونية تسوغ التدخل، وللقضاء الإداري في حدود رقابته القانونية أن يراقب صحة قيام هذه الوقائع وصحة تكييفها القانوني. وهذه الرقابة القانونية لا تعني أن يحل القضاء الإداري نفسه محل السلطات التأديبية المختصة فيما هو متروك لتقديرها ووزنها فيستأنف النظر بالموازنة والترجيح فيما يقوم لدى السلطات التأديبية المختصة من دلائل وبيانات وقرائن أحوال إثباتاً أو نفياً في خصوص قيام أو عدم قيام الحالة الواقعية أو القانونية التي تكون ركن السبب، بل إن هذه السلطات حرة في تقدير تلك الدلائل والبيانات وقرائن الأحوال، تأخذها دليلاً إذا اقتنعت بها، وتطرحها إذا تطرق الشك إلى وجدانها وإنما الرقابة التي للقضاء الإداري في ذلك تجد حدها الطبعي - كرقابة قانونية - في التحقق مما إذا كانت النتيجة التي انتهى إليها القرار التأديبي في هذا الخصوص مستفادة من أصول موجودة أو أثبتتها السلطات المذكورة وليس لها وجود، وما إذا كانت النتيجة مستخلصة استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها مادياً أو قانوناً. فإذا كانت منتزعة من غير أصول موجودة أو كانت مستخلصة من أصول لا تنتجها أو كان تكييف الوقائع على فرض وجودها مادياً لا ينتج النتيجة التي يتطلبها القانون، كان القرار فاقداً لركن من أركانه وهو ركن السبب ووقع مخالفاً للقانون. أما إذا كانت النتيجة مستخلصة استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها مادياً أو قانوناً فقد قام القرار على سببه، وكان مطابقاً للقانون وسبب القرار التأديبي بوجه عام، كما سبق لهذه المحكمة أن قضت [(2)] به، هو إخلال الموظف بواجبات وظيفته، أو إتيانه عملاً من الأعمال المحرمة عليه، فكل موظف يخالف الواجبات التي تنص عليها القوانين أو القواعد التنظيمية العامة أو أوامر الرؤساء في حدود القانون، أو يخرج على مقتضى الواجب في أعمال وظيفته، تلك التي يجب أن يقوم بها بنفسه إذا كان ذلك منوطاً به وأن يؤديها بدقة وأمانة - إن هذا الموظف إنما يرتكب ذنباً إدارياً هو سبب القرار يسوغ تأديبه، فتتجه إرادة الإدارة لإنشاء أثر قانوني في حقه، هو توقيع جزاء عليه بحسب الشكل والأوضاع المقررة قانوناً، وفي حدود النصاب المقرر.
ومن حيث إن الذنب المنسوب للمطعون عليه أنه في 3 من يناير سنة 1951 إبان اشتغاله بالقنصلية المصرية بلندن بدد مبلغ 300 ج استرليني سلمها إليه البحار بكر بغدادي سليمان على سبيل الوكالة لحفظه لحسابه في البنك فاختلسها، فقدم لمجلس التأديب لمحاكمته بعد التحقيق معه، فقضى المجلس بمعاقبته بالعزل من وظيفته وحرمانه من مكافأته المستحقة له قانوناً بما يعادل مبلغ 300 ج استرليني، وقد استخلص المجلس هذه النتيجة - حسبما جاء بأسباب قراره السالف ذكرها - استخلاصاً سائغاً مقبولاً من أصول ثابتة في الأوراق تنتجها مادياً وقانوناً؛ يؤيد هذا الاستخلاص السائغ ما ظهر من الأوراق من أن واقعة حضور البحار بكر بغدادي سليمان إلى مكتب المدعي لإيداع مبلغ الثلاثمائة جنيه كأمانة لدى القنصلية ثابتة من أقوال البحار والساعي عبده حسين والآنسة دوريس ماي التي قررت في التحقيق أن المدعي كفلها كتابة إيصال بمبلغ 300 ج لاسم البحار المذكور، وأنها حررته فعلاً وسلمته إلى المدعي، ولم يتعرض هذا الأخير في كافة مراحل التحقيق لدحض أو أقوال تلك الكاتبة. كما أنه لا ينبغي أن يقام وزن كبير للخلاف الواقع بن تاريخ كتابة الإيصال وتاريخ خاتم القنصلية، إذ عللته الآنسة دوريس تعليلاً مقبولاً، وهو أنه نتيجة خطأ مادي؛ لأن تحرير الإيصال كان في أول سنة 1951 الجديدة ويحصل السهو عادة عند التحرير فيقع الخطأ المادي في التحرير بين السنة القديمة والسنة الجديدة، كما ثبت مما قررته شركة الملاحة التابع لها البحار أن السفينة التي يعمل عليها كانت في ميناء ستتن في يناير سنة 1950، وأنها حضرت التيمز في أول يناير سنة 1951، وأن البحار تسلم في 2 من يناير سنة 1951 مبلغ 315 ج. كما ثبت من الأوراق أن المدعي كان منوطاً به أعمال المصريين جميعاً بالقنصلية في الفترة المذكورة، وأنه كان يتسلم الأمانات من البحارة لإيداعها بالقنصلية لحسابهم. وكل هذه الدلائل والقرائن ترشح للاعتقاد بأن ما استخلصه القرار المطعون فيه من النتيجة التي انتهى إليها في إدانة المدعي هو استخلاص من أصول موجودة بطريقة سائغة، فيكون الحكم المطعون فيه إذ قضى بإلغاء قرار مجلس التأديب بناء على أسباب لا تعدو أن تكون استئنافاً للنظر بالموازنة والترجيح فيما قام لدى المجلس المذكور من دلائل وبيانات وقرائن، سواء في الإثبات أو النفي - إن الحكم المذكور - والحالة هذه - يكون قد جاوز حد الرقابة القانونية، وأحل نفسه محل مجلس التأديب فيما هو متروك لفهمه أو وزنه أو تقديره. وغني عن البيان أن القضاء الإداري ليس درجة أعلى للمجالس التأديبية في مدارج هذا النظام، وإنما القضاء الإداري هو أداة رقابة قانونية لا تعقب على قرارات تلك المجالس إلا في حدود الرقابة القانونية التي تجد حدها الطبعي فيما سبق إيضاحه وتحديده آنفاً؛ ومن ثم يكون الحكم المطعون فيه إذ ذهب غير هذا المذهب قد خالف القانون ويتعين إلغاؤه والقضاء برفض الدعوي.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه وبرفض الدعوى، وألزمت المدعي بالمصروفات.


[(1)] السنة الأولى من هذه المجموعة بند 7 صفحة 43.
[(2)] السنة الأولى في هذه المجموعة صفحة 44.