مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثانية - العدد الثاني (من أول فبراير إلى آخر مايو سنة 1957) - صـ 591

(66)
جلسة 2 من مارس سنة 1957

برياسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة السيد إبراهيم الديواني والإمام الإمام الخريبي وعلي إبراهيم بغدادي ومصطفى كامل إسماعيل المستشارين.

القضية رقم 1831 لسنة 2 القضائية

( أ ) مسئولية - مناط مسئولية الإدارة عن القرارات الإدارية توافر الخطأ والضرر وعلاقة السببية - يتوافر الخطأ إذا كان القرار الإداري غير مشروع لإصابته بعيب أو أكثر من العيوب المنصوص عليها بالمادة 8 من قانون مجلس الدولة رقم 165 لسنة 1955.
(ب) سبب القرار الإداري - قرار بحجز مصاب بمرض عقلي تطبيقاً للمادة 4 من القانون رقم 141 لسنة 1944 - وجوب قيامه على ركنين: إصابة المحجوز بمرض عقلي، وخطورة مرضه بما من شأنه الإخلال بالأمن أو النظام أو سلامة المريض أو الغير - صدور قرار بالحجز رغم انعدام أحد الركنين - فقدانه لركن السبب - إلغاؤه - التعويض عن الضرر الناشئ عنه.
(جـ) مسئولية - التزام الطبيب هو التزام ببذل عناية - مسئوليته عن كل خطأ يقع منه جسيماً كان أو يسيراً - دليل ذلك.
1 - إن مناط مسئولية الإدارة عن القرارات الإدارية التي تصدرها في تسييرها للمرافق العامة هو قيام خطأ من جانبها، بأن يكون القرار الإداري غير مشروع لعيب أو أكثر شابه من العيوب المنصوص عليها في المادة الثالثة من القانون رقم 9 لسنة 1949 الخاص بمجلس الدولة وفي المادة الثامنة من القانون رقم 165 لسنة 1955 بشأن إعادة تنظيمه، وأن يلحق صاحب الشأن ضرر، وأن تقوم علاقة السببية بين الخطأ والضرر بأن يترتب الضرر على القرار غير المشروع.
2 - إن المادة الرابعة من القانون رقم 141 لسنة 1944 بشأن حجز المصابين بأمراض عقلية تنص على أنه "لا يجوز حجز مصاب بمرض في قواه العقلية إلا إذا كان من شأن هذا المرض أن يخل بالأمن أو النظام العام أو يخشى منه على سلامة المريض أو سلامة الغير وذلك طبقاً لأحكام هذا القانون..."، ويظهر من ذلك أن القرار الذي تصدره الإدارة بالحجز يجب - لكي يكون مطابقاً للقانون - أن يقوم على ركنين هما: إصابة الشخص المحجوز فعلاً بمرض عقلي، ثم خطورة مرضه بأن يكون من شأنه الإخلال بالأمن أو النظام العام أو كان يخشى منه على سلامة المريض أو سلامة الغير. وبغير توافر ذلك يكون حجزه غير جائز قانوناً، ويجب إلغاء القرار بحجزه لانعدام سببه المبرر له، كما يكون له الحق في مطالبة الإدارة بتعويضه عما أصابه من ضرر بسبب هذا القرار إن كان لذلك وجه.
3 - إن التزام الطبيب هو التزام ببذل عناية، فيسأل عن كل خطأ يقع منه جسيماً كان أو يسيراً، طبقاً للأصل العام الذي رددته المادة 163 من القانون المدني، وهو أن يسأل الشخص عن خطئه أياً كانت درجته دون تفرقة بين درجة هذا الخطأ. وإنما المعيار في تقدير خطأ الطبيب وتعيين مدى واجباته يكون إما بمقارنة مسلك طبيب عادي إذا وجد في مثل ظروفه الظاهرة، أو بمقارنة مسلك طبيب أخصائي مثله إذا وجد في مثل هذه الظروف؛ لأن الأخصائي محل ثقة خاصة لها وزنها عند تقدير معيار الخطأ نظراً لتخصصه، كما أنه إذا كانت الحكمة تتطلب من القاضي ألا يوغل بنفسه في فحص النظريات العلمية المختلف عليها ومناقشتها، وأن يوازن هو بينها ويرجح إحداها على الأخرى ترجيحاً ينبني عليه حكمه في خطأ الطبيب ومساءلته عن هذا الخطأ، إلا أنه ليس معنى هذا أن القاضي ممنوع عن تقدير الخطأ بمعياره القانوني الواجب، أو أن الطبيب لا يسأل عن خطئه الثابت ولو كان يسيراً، بل المقصود من ذلك أن القاضي يجب أن يستخلص الخطأ بمعياره المحدد آنفاً من وقائع واضحة ثبت منها أن مسلك الطبيب - عادياً كان أو أخصائياً بحسب الأحوال - كان مسلكاً يتنافى مع الأصول الثابتة المقررة في المهنة، والتي لا يحتاج القاضي في التثبت منها إلى الخوض في مناقشة نظريات علمية أو أساليب مختلف عليها. فإذا ما ثبت خطأ الطبيب على هذا النحو، وجبت مساءلته عنه، أياً كانت درجته جسيماً كان أو يسيراً.


إجراءات الطعن

في 16 من سبتمبر سنة 1956 أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة سكرتيرية المحكمة عريضة طعن أمام هذه المحكمة قيد بجدولها تحت رقم 1831 لسنة 2 القضائية في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري (الهيئة الخامسة) بجلسة 22 من يوليه سنة 1956 في الدعوى رقم 2577 لسنة 9 القضائية المقامة من الدكتور علي عبد السلام ضد وزارة الصحة العمومية، القاضي: "بإلزام الحكومة بأن تدفع للمدعي تعويضاً قدره خمسة آلاف جنيه والمصروفات المناسبة، ومبلغ عشرين جنيهاً مقابل أتعاب المحاماة". وطلب السيد رئيس هيئة المفوضين، للأسباب التي استند إليها في صحيفة طعنه، "قبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع إلغاء الحكم المطعون فيه، والقضاء برفض الدعوى، وإلزام المدعي بالمصروفات". وقد أعلن هذا الطعن إلى وزارة الصحة في 24 من سبتمبر سنة 1956، وإلى المطعون عليه في 27 منه، وعين لنظره أمام هذه المحكمة جلسة 29 من ديسمبر سنة 1956. وقد انقضت المواعيد القانونية دون أن يقدم أي من الطرفين مذكرة بملاحظاته. وفي 13 من نوفمبر سنة 1956 أبلغ الطرفان بميعاد الجلسة، وفيها سمعت المحكمة ما رأت سماعه من إيضاحات ذوي الشأن على الوجه المبين بمحضر الجلسة، ثم قررت إرجاء النطق بالحكم إلى جلسة اليوم مع الترخيص في تقديم مذكرات. وقد أودعت الحكومة سكرتيرية المحكمة في 12 من يناير سنة 1957 مذكرة بملاحظاتها انتهت فيها إلى طلب "الحكم بقبول الطعن، وإلغاء الحكم المطعون فيه، والقضاء برفض دعوى المدعي. ومن باب الاحتياط الكلي سقوط حقه في التعويض عن المدة السابقة على رفع دعواه بثلاث سنوات، مع إلزامه بالمصاريف ومقابل أتعاب المحاماة".


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة تتحصل، حسبما يبين من أوراق الطعن، في أن المطعون عليه أقام الدعوى رقم 2577 لسنة 9 القضائية أمام محكمة القضاء الإداري ضد وزارة الصحة العمومية بعريضة أودعها سكرتيرية المحكمة في 21 من مايو سنة 1955، ذكر فيها أن الحكومة كانت قد حجزته بغير وجه حق بمستشفى الأمراض العقلية منذ 7 من نوفمبر سنة 1942، إلى أن قضى مجلس الدولة في الدعوى رقم 452 لسنة 9 القضائية بجلسة 14 من إبريل سنة 1953 بإلغاء قرار حجزه. وأنه على إثر صدور هذا الحكم أقام الدعوى رقم 4900 لسنة 1953 أمام محكمة القاهرة الابتدائية مطالباً الحكومة فيها بتعويض عن سلبه حريته زهاء عشر سنوات ونصف. ثم قرر فيها بترك المرافعة بعد إذ دفعت الحكومة بعدم اختصاص المحاكم العادية بنظر هذا الطلب، وأقام دعواه أمام محكمة القضاء الإداري طالباً الحكم بإلزام وزارة الصحة بأن تدفع له مبلغ خمسين ألف جنيه على سبيل التعويض عما لحقه من أضرار مادية وأدبية مع المصروفات ومقابل أتعاب المحاماة. وأورد شرحاً لدعواه أنه تخرج في كلية الطب في مايو سنة 1938، وعين طبيباً بوزارة الصحة بقسم الأمراض المتوطنة في نوفمبر من العام ذاته، ثم نقل في نوفمبر سنة 1930 معيداً كل الوقت بقسم البكتريولوجيا بكلية الطب بعد أن عانى ضروباً من الاضطهاد، بيد أن هذا الاضطهاد ظل يلاحقه بعد نقله، إذ حرم من البعثات إلى الخارج التي كان من حقه أو يوفد فيها وفاز بها من كانوا يكيدون له وأتباعهم، وقد حصل على دبلوم الصحة العامة في سنة 1933، وعلي دبلوم طب المناطق الحارة في سنة 1933، وعلى بكالوريوس الطب والجراحة في سنة 1934، وفصل من الخدمة بكلية الطب في 24 من فبراير سنة 1934 بغير مبرر بدعوى انقطاعه عن العمل، فالتحق بالكلية بصفة تلميذ أبحاث إلى أن أعيد تعيينه بها في 10 من يونيه سنة 1935، حيث اعترفت بأن فصله كان بسبب عدم وفاقه مع الأستاذ المساعد، ثم رقي لوظيفة مساعد مدرس بقسم البكتريولوجيا في أكتوبر سنة 1936، وطلبت له الترقية إلى الدرجة الخامسة وتعديل مرتبه إلى 20 جنيهاً شهرياً اعتباراً من أول أكتوبر سنة 1936، ثم أوفدته الجامعة في بعثة لكلية الطب للتخصص في البكتريولوجيا في سنة 1936, فالتحق بجامعة كامبردج وحصل منها على الدكتوراة في سنة 1939، وعاد إلى وطنه ليعمل في وظيفة من الدرجة الخامسة، وقبل أن تنقضي أسابيع على عودته تقرر فصله بحجة انقطاعه عن العمل بغير تحقيق، ولم يكن فصله هذا إلا لإفساح الطريق أمام زميله الذي يليه وهو الدكتور صلاح الدين الخولي. وقد كان لهذا التصرف في نفسه أثر بالغ حفزه إلى التقدم بعدة شكاوى إلى المسئولين ومن بينهم وزير المعارف الذي أرسل إليه كتاباً ظنه الوزير تهديداً، ولما وقف الوزير على حقيقة ظلامته - بعد تحقيق أجرته النيابة العامة - أمر بإنصافه، فأعيد تعيينه بكلية الطب في 2 من إبريل سنة 1940 مدرساً بقسم الأبحاث. غير أن الدسائس نشطت من جديد فطلب إليه الانتقال من وظيفته التي عين فيها إلى وظيفة أخرى، فلما عارض في هذا النقل المخالف لتخصصه منع من العمل ووقف مرتبه اعتباراً من شهر يوليه سنة 1940، وطفق خصومه يشنون عليه حملة تشهير ويرمونه بالجنون بسبب حرصه على كرامته وعلى الصالح العام وعلى ممارسة العمل الذي تخصص فيه. وانتهى الأمر بأن أحالته الكلية في سبتمبر سنة 1940 إلى القومسيون الطبي لفحص قواه العقلية، فلما تجد هذه المحاولة لدى القومسيون الطبي استصدر وكيل الكلية مرة أخرى قراراً من الجامعة في 15 من ديسمبر سنة 1940 بفصله من الخدمة لانقطاعه عن العمل مع إرجاع تاريخ الانقطاع والفصل إلى شهر يوليه سنة 1940. وإذ رأى نفسه يفصل ويشرد للمرة الثالثة دون جريرة عاد يشكو إلى وزير المعارف وغيره من المسئولين. فلما لم يجد مصغياً وذهبت شكواه أدراج الرياح ولم يعمل التحقيق الذي طالب به أقام الدعوى رقم 160 لسنة 1942 أمام محكمة القاهرة الابتدائية مطالباً بتعويض، ولكن الكلية عرقلت سير العدالة بأن أخرت تقديم ملف الموضوع للمحكمة أكثر من سنة، الأمر الذي حمله على العودة إلى طريقته السابقة، فأرسل إلى رئيس مجلس الوزراء وقتذاك عدة شكاوى عقب عليها بخطاب صاغه على نسق الكتاب الذي سبق أن بعث به إلى وزير المعارف، فإذا بهذا الخطاب يحول لا إلى النيابة، بل إلى البوليس السياسي الذي اقتاده إلى كبير الأطباء الشرعيين للكشف على قواه العقلية، ولكن هذا الأخير أبى عليه ضميره أن يرمي المدعي بالجنون، فلما آنس البوليس السياسي منه هذا الموقف وأدرك تردده في توقيع استمارة إحالة المذكور إلى مستشفى الأمراض العقلية تحول عنه إلى طبيب المحافظة، الذي وقع في الحال وثيقة إدخاله مستشفى الأمراض العقلية حيث حجز به من 7 من نوفمبر سنة 1942. وهناك تلقفه الدكتور كامل الخولي مدير مصلحة الأمراض العقلية وكتب عنه تقارير غير صحيحة مدعياً بأنه مصاب بالمرض العقلي المسمى "بارانويا"، وقد تخير هذا المرض بالذات لأنه غير قابل للشفاء حتى يضمن حجزه مدى الحياة من أجل إفساح الطريق أمام ابن عمه الدكتور صلاح الدين الخولي. وقد ذهبت كافة شكاوى المدعي العديدة للجهات المسئولة من هذا الحجز الجائز سدى أمام تقارير الدكتور الخولي المتكررة بأنه مصاب "بالبارانويا"، مما ألجأه إلى رفع دعوى أمام القضاء العادي يطلب فيها الإفراج عنه، إلا أن هذه الدعوى قضي فيها بعدم الاختصاص وتأيد هذا الحكم استئنافياً. وبعد ذلك رفع الدعوى رقم 452 لسنة 4 القضائية أمام محكمة القضاء الإداري التي أصدرت حكمها فيها لصالحه بجلسة 14 من إبريل سنة 1953. وقد كشف هذا الحكم عن صحة تقارير الدكاترة عبد الحكيم المرصفاوي ومحمد كمال قاسم وفلاك الذين اتفقوا في الرأي على أنه ليس مصاباً بمرض عقلي خلافاً لما أثبته الدكتور الخولي وأعوانه بتقاريرهم. وانتهى إلى أن حكم المادة الرابعة من القانون رقم 141 لسنة 1944 بشأن حجز المصابين بأمراض عقلية غير منطبق على حالته؛ ومن ثم قضي بإلغاء قرار امتناع الحكومة عن إخراجه من مستشفى الأمراض العقلية دون قيد، وإلغاء ما ترتب على ذلك من وضعه تحت الرقابة، وبذا سجل هذا الحكم مدى تجني الحكومة على المدعي وقسوة المسئولين فيها؛ إذ زجوا به في مستشفى الأمراض العقلية تقرباً لرئيس الحكومة بعد سلسة طويلة متتابعة من الاضطهادات، ووصفوه بأنه من الخطرين بسبب مرضه العقلي على سلامة الغير وسلامة نفسه. وقد حاق به نتيجة هذا ضرر بالغ لا يكفي أي مبلغ لتعويضه؛ إذ حشر، وهو العالم المثقف، بين مرضى العقل سنين طويلة، ولم يقتصر الأمر على اعتقاله والعبث بحريته بل عرضه للإرهاق العصبي، إذ فرض عليه بغياً أن يعاشر هؤلاء التعساء وأن يعامل معاملتهم، وبذا تحطمت قواه المادية والمعنوية كما قضي على مستقبله، بحيث لم يعد قادراً على ممارسة مهنته بعد ما ألم به من إفناء لشبابه وإهدار لآدميته وتكبيل لحريته، مما أضحى معه خائر النفس محطم القلب كليم الفؤاد. ولا سيما أن الفرع الذي تخصص فيه هو من العلوم العملية لا النظرية، وأنه يستلزم ممارسة مستمرة للاحتفاظ فيه بالتفوق والمستوى المنشود. فضلاً عن أن هذا التخصص قد حدا به إلى ترك جميع فروع الطب الأخرى بما لا يسمح له الآن بالعمل في الطب العلاجي أو غيره من الفروع التي يتخصص فيها، ومنها التحاليل الطبية التي تمارس في معامل التحليل.
ومن حيث إن الدفاع الذي أبدته الحكومة رداً على موضوع هذه الدعوى يتحصل في إنكارها عليه أنها زجت به في مستشفى الأمراض العقلية، واحتجزته فيه بدافع الشهوة والانتقام، أو رغبة في التقرب إلى رئيس وزارة سابق، أو حباً في إفساح المجال بعد الخلاص منه لترقية بعض أقارب رؤسائه الأطباء بكلية الطب كما يزعم، إذ لم يقم أي دليل على شيء من ذلك، كما أن المدعي لم يثبت ما ينعاه من عيوب على القرارات الإدارية التي أدت إلى إدخاله المستشفى واحتجازه فيه، وبذلك يتعين استبعاد تلك العيوب من مجال مناقشة أسباب التعويض الذي يطالب به ومقداره. أما الحكم الصادر لصالحه من محكمة القضاء الإداري في الدعوى رقم 452 لسنة 4 القضائية بإلغاء قرار امتناع الحكومة عن إخراجه من المستشفى فقد حاز قوة الشيء المحكوم فيه بالنسبة إلى الشطر منه الذي تناول العيوب التي سبق أن طرحها المذكور على المحكمة ولم تر الأخذ بها؛ ومن ثم فلا يجوز إعادة البحث في هذه العيوب، بل يتعين حصر مناقشة موضوع الدعوى فيما اعتبر عنواناً للحقيقة في الحكم المشار إليه وما عسى أن يرتبه من مسئولية على الحكومة. ويبين من استعراض أسباب هذا الحكم أن الأطباء الحكوميين قد أجمعوا على إصابة المدعي بمرض عقلي، وأن الدكتور "فلاك" المنتدب مع غيره من الأطباء لفحص حالة المذكور قرر بالاشتراك معهم أن الفحص الأول الذي أجري غير كاف، ولذا اتفقوا على إعادة الفحص، إلا أن الظروف حالت دون ذلك، فانفرد الدكتور "فلاك" بتقديم تقرير نظري انتهى فيه إلى عدم إصابة المدعي بمرض عقلي. وقد رأت المحكمة إزاء تناقض هذه التقارير ندب ثلاثة أطباء باتفاق الطرفين للقيام بالفحص، فقرر أحد الثلاثة أن المدعي مصاب بمرض عقلي، وقرر الآخران عكس ذلك. بيد أن أحدهما أضاف أن للمذكور "شخصية هذائية". وكان أن رأت المحكمة ترجيح الرأي القائل بعدم إصابة المدعي بمرض عقلي أخذاً بتقرير هذين الطبيبين والدكتور "فلاك". وبناء على ذلك قضت بإلغاء القرار المطعون فيه، ولم تقل المحكمة إن تقارير الأطباء الحكوميين بنيت على الغرض والانتقام، كما أنها لم تنسب إلى التقارير العديدة التي بدأت منذ نوفمبر سنة 1942 أنها قامت على خطأ في التشخيص أو غلط فيه، وشتان بين الخطأ والغلط، بل اقتصر بحثها على معرفة ما إذا كان المدعي مريضاً في سنة 1953 ويتعين احتجازه بالمستشفى أم أنه ليس كذلك. ولم تتعرض لحالته في المدة السابقة على تاريخ الحكم، ولا للتقارير العديدة التي قدمت في هذه المدة، ولا لقرار إدخاله المستشفى في سنة 1942. وليس بمستبعد أن يكون مريضاً حقاً في ذلك التاريخ ثم تحسنت حالته نسبياً على مر السنين، الأمر الذي لم يحقق إطلاقاً، ولا يمكن لطبيب في سنة 1953 أن يجزم بأن المدعي لم يكن مريضاً في سنة 1942. وقد كان آخر تشخيص للأطباء الحكوميين في سنة 1950 ثم تحسنت حالته المذكور قليلاً، فإذا فرض في تشخيصهم وقتذاك غلط فإن الغلط الواقع في التشخيص في سنة 1950 لا يدل بذاته على استمرار الخطأ أو الغلط من عدة أطباء ابتداء من سنة 1942، ولا يمكن أن يجرى في هذا بحث أمام محكمة الإلغاء لعدم الطعن في القرارات الصادرة بناء على ذلك في حينها. وإذ كان موضوع الدعوى الحالية هو مطالبة بتعويض عن واقعة بدأت في سنة 1942 فإنها تظل غير صالحة للحكم فيها حتى يقوم الدليل على أن المدعي لم يكن مريضاً منذ سنة 1942 حتى تاريخ صدور الحكم في دعوى الإلغاء، وعلى أن الأطباء الحكوميين وقعوا في خطأ في تشخيص حالته لا في غلط. أما عن المدة التالية لصدور تقارير الأطباء الذين اعتمدت محكمة الإلغاء رأيهم فإن الأمر فيها لا يعدو أن يكون إما خطأً مهنياً في التشخيص تحتمل معه المسئولية، وإما غلطاً لا تقوم معه أية مسئولية. ذلك أن إلغاء القرار لا يعتبر في ذاته سنداً للمسئولية؛ إذ أن المحكمة تلغي القرار سواء بني على خطأ أو على خطأ في التشخيص، وإنما تترتب المسئولية فقط إذا ما ثبت أن التشخيص ينطوي على خطأ مهني. والثابت من الأوراق أن المدعي إنما أدخل مستشفى الأمراض العقلية في 7 من نوفمبر سنة 1942 بعد إذ تبين من تقصي حياته الوظيفية شذوذه العقلي الذي تبدى فيما حفل به مسلكه من مشاغبات وغرائب وتهديدات متكررة لوزير المعارف ولرئيس مجلس الوزراء وقتذاك بالقتل. وقد كان إدخاله مستشفى الأمراض العقلية بناء على شهادة طبية محررة من طبيب أول محافظة القاهرة، بعد سبق الكشف عليه من نائب الطبيب الشرعي بقسم مصر الذي نصح بإدخاله المستشفى لوضعه تحت الملاحظة، ثم حرر تقرير عن حالته من مدير عام مصلحة الأمراض العقلية انتهى إلى أنه مصاب بمرض "البارانويا" وإلى أن حالته تقتضي احتجازه بالمستشفى. وقد عرض أمره مراراً على مجلس مراقبة الأمراض العقلية طبقاً لأحكام القانون رقم 141 لسنة 1944 فكان المجلس في كل مرة يندب طبيباً أو أكثر لإعادة فحصه ثم لا يسعه بناء على التقارير التي تقدم إليه إلا أن يأمر باستمرار حجزه، وبلغ عدد من قدموا عنه تقارير اثني عشر طبيباً جلهم من المتخصصين في الأمراض العقلية وبعضهم أساتذة في الجامعة المصرية، وقد أجمعوا على إصابته بمرض عقلي وعلى أن حالته تستدعي حجزه بالمستشفى، كما بلغ عدد التقارير المقدمة منهم أربعة عشر تقريراً. والقاعدة أن التزام الطبيب ليس التزاماً بغاية، بل هو التزام ببذل عناية للوصول إلى غرض لا يضمن تحقق نتيجته، والعناية المتطلبة هي تلك التي يبذلها الشخص العادي بحسب أصول المهنة، أي من كان من أوسط رجال الفن علماً وكفاية ويقظة، وهو الذي لا يغتفر خطؤه فيما استقرت عليه أصول فنه التي لم تعد محلاً للمناقشة بين رجال هذا الفن. أما المسائل العلمية التي لم يستقر عليها إجماع أهل الفن فليس للقاضي أن يتدخل فيها برأي شخصي، ولا يرتكب الطبيب أي خطأ في الأخذ برأي دون آخر، ولا سيما في مجال الأمراض العقلية التي لا تزال بعد في طورها العلمي الأول؛ إذ يعالج الطبيب مرضاً غير محسوس ولا ملموس مستعيناً في تشخيصه بعناصر غير ثابتة. فإذا وقع منه غلط في هذه الحالة في التشخيص فإنه لا يكون غلطاً من الطبيب بل من علم الطب ذاته، وليس أدل على ذلك من توافر أربعة عشر تقريراً من اثني عشر طبيباً متخصصاً أجمعوا متفرقين على تشخيص واحد. ومتى كانت الدعوى مبنية على غلط في التشخيص، إن صح وقوعه، ولم يكن هذا الغلط نتيجة جهل أكيد بالأصول الطبية الثابتة أو خطأ واضح، فلا مسئولية ولا تعويض. وخلصت الحكومة من هذا إلى طلب "رفض الدعوى، مع إلزام المدعي بالمصاريف ومقابل الأتعاب". وبجلسة 22 من يوليه سنة 1956 قضت محكمة القضاء الإداري (الهيئة الخامسة) "بإلزام الحكومة بأن تدفع للمدعي تعويضاً قدره خمسة آلاف جنيه، والمصروفات المناسبة ومبلغ عشرين جنيهاً مقابل أتعاب المحاماة". وأقامت قضاءها على أن الخطأ في هذه الدعوى متحقق بناء على حكم محكمة القضاء الإداري الصادر بجلسة 14 من إبريل سنة 1953 في الدعوى رقم 452 لسنة 4 القضائية، الذي أثبت مخالفة القرار الذي قضى بإلغائه للمادة الرابعة من القانون رقم 141 لسنة 1944، وقد حازت أسباب هذا الحكم، المتصلة اتصالاً وثيقاً بمنطوقه، قوة الشيء المقضى به طبقاً للمبادئ العامة ولحكم المادة 17 من القانون رقم 165 لسنة 1955 بشأن تنظيم مجلس الدولة؛ ومن ثم فلا تملك المحكمة في صدد دعوى التعويض أن تعيد بحث أو مناقشة هذا الخطأ وجوداً أو عدماً أو أن تعدل في تكييفه على أساس آخر. أما الضرر فواقع نتيجة احتجاز المدعي في مستشفى الأمراض العقلية المدة التي قضاها بالمستشفى. وقد أنتج الخطأ هذا الضرر بطريق مباشر، وبذا تكون قد قامت علاقة السببية. وقد جاء بأسباب حكم الإلغاء المشار إليه أن التقارير الطبية التي قدمت عن المدعي متضمنة أنه لا يزال مصاباً بمرض "البارانويا" منقوضة من أساسها بما ورد في تقرير الدكتور الكولونيل "فلاك" المؤرخ 4 من ديسمبر سنة 1951، وكذا في تقارير الأطباء الثلاثة الذين ندبتهم المحكمة لفحص حالة المدعي العقلية، والذين اتفقوا جميعاً في الرأي على أن المذكور ليس مصاباً بمرض عقلي مستندين في ذلك إلى أسباب علمية وإلى ما تقصوه من أقوال ووقائع. وتأسيساً على هذا فإن قرار حجز المدعي في مستشفى الأمراض العقلية يكون قد قام على تقارير طبية خاطئة في التشخيص. وإذا كان لا محل لمناقشة هذا الخطأ من حيث وجوده بعد أن ثبت بحكم حاز قوة الشيء المقضى فيه، فإن ذلك لا يحول دون البحث في مداه في مجال تقدير التعويض. ومن المقرر أن خطأ التشخيص الواقع من طبيب الحكومة في تقرير رسمي لا يعتبر خطأً شخصياً وإنما هو خطأ مصلحي لتعلقه بعمل الوظيفة، وأن رجل الفن مسئول عن خطئه المهني المتعلق بالأصول العلمية المستقرة سواء أكان جسيماً أم يسيراً مسئولية مدنية؛ إذ يعد الخروج على هذه الأصول خطأً مهنياً يستوجب المسئولية المدنية. وقد بني القرار الإداري المقضى بإلغائه والمطالب بالتعويض عنه على خطأ مهني في التشخيص من أطباء أخصائيين في الأمراض العقلية، كما أنه أضر بالمدعي أضراراً مادية وأدبية جسيمة؛ إذ وصمه بالمرض العقلي بين ذويه وأهل وطنه وهو منه براء، وأثر في صحته وبنيته، ومنعه زهاء عشرة سنوات من العمل وطلب الرزق سواء في المجال الحكومي أو في الميدان الحر، وهو الطبيب الحاصل على مؤهلات علمية عالية، كما حرمه من التدرج والتقدم وهو الرجل القمين بالتفوق. وقد قدرت المحكمة للمدعي تعويضاً عن ذلك مبلغ خمسة آلاف جنيه مراعية في هذا التقدير العناصر والاعتبارات التي ساقتها مضافاً إليها من الناحية الأخرى الصالح العام الذي يتمثل في مصلحة خزانة الدولة ومبررات إدارة المرفق وفي أن حكم الإلغاء قد رد إلى المدعي بعض اعتباره.
ومن حيث إن السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة طعن في هذا الحكم بعريضة أودعها سكرتيرية المحكمة في 16 من سبتمبر سنة 1956 واستند في أسباب طعنه إلى أوجه ثلاثة:
(الوجه الأول) أن الحكم المطعون فيه أقام الخطأ في حجز المدعي بالمستشفى كقرينة قانونية قاطعة لحجية الإلغاء في الدعوى رقم 452 لسنة 4 القضائية، مع أن من المسلم أن الحجية إنما تثبت لمنطوق الحكم وللحيثيات التي ارتبطت به ارتباطاً وثيقاً بحيث لا يقوم المنطوق إلا بها وبحيث إذا عزل عنها صار مبهماً وناقصاً. وعلى ذلك تثبت الحجية لمنطوق الحكم القاضي بإلغاء امتناع الحكومة عن إخراج المدعي من المستشفى، وكذلك للحيثيات التي كشفت عن عيب عدم المشروعية الذي أصاب هذا القرار فاقتضى إلغاءه. أما رد الخطأ إلى تاريخ حجز المدعي في المستشفى منذ 7 من نوفمبر سنة 1942 على أساس أنه لم يكن مريضاً وقت هذا الحجز فهو تحميل للحيثيات بما لا حاجة إليه في دعوى الإلغاء؛ ومن ثم فإن الخطأ في تصرف الجهة الإدارية، الذي عنته حيثيات حكم الإلغاء والذي تثبت له الحجية قبل الكافة، هو الخطأ في إبقاء المدعي بالمستشفى والامتناع عن إخراجه منها لا الخطأ في حجزه؛ ذلك أن حجية الحيثية لا ترد إلا في حدود المنازعة المعروضة وهي منازعة إدارية خاصة بعدم شرعية امتناع الحكومة عن إخراج المدعي من المستشفى، أما الخطأ في حجزه فهو ركن السبب في قرار آخر هو قرار حجزه الذي يخرج عن هذه الخصومة، والذي لم يكن محل منازعة فيها، ولا يجوز قضاء الإلغاء بالنسبة إليه أية حجية. هذا إلى أن قاضي الإلغاء لا يقوم بنفسه عند مراقبة تجاوز السلطة بفحص أسباب القرار المطعون فيه بعدم المشروعية، إذا ما تعلقت هذه الأسباب بتقدير هيئة فنية بحتة. وقد تحدد الخطأ الذي كشف عنه قاضي الإلغاء بالتاريخ الذي اعتبر فيه امتناع الحكومة عن الإفراج غير مشروع، وهو التاريخ الذي بدأت فيه الموازنة بين آراء الفنيين منذ أن وضع الدكتور "فلاك" تقريره في 4 من ديسمبر سنة 1951، وعلى ذلك يكون حكم التعويض إذ سحب حجية حكم الإلغاء على الخطأ في قرار الحجز قد قام على غير أساس سليم.
(الوجه الثاني) أن حكم التعويض أقام الخطأ في حجز المدعي المبرر لمساءلة الجهة الإدارية على قواعد مدنية خاصة بأخطاء الفنيين في مزاولة المهنة، ولم يأخذ بمعيار الخطأ العادي المرتب للمسئولية الإدارية وهو العيب الذي يرد على مشروعية القرار، ومع ذلك لم يبين كيف استخلص أن الخطأ في الحالة المعروضة هو خطأ مهني؛ إذ اقتصر في هذه المسألة الفنية على الاعتماد على تقديره الخاص للقول بأن القرار الإداري - المقضى بإلغائه والمطالب بالتعويض عنه - قد بني على خطأ مهني في التشخيص من أطباء أخصائيين في الأمراض العقلية؛ وبهذا يكون قد أخطأ في الوصف القانوني للفعل وهو الخطأ المهني المبرر للمسئولية الإدارية.
(الوجه الثالث) أن حيثيات الحكم المطعون فيه أغفلت تطبيق القواعد الإدارية التي تحكم مسئولية الإدارة وطبقت قواعد المسئولية المدنية، وهذه المخالفة في تطبيق قواعد مستقلة قائمة بذاتها هي مخالفة قانونية تهدم الأساس الذي قام عليه الحكم؛ إذ يتعين استبعاد القواعد المدنية في النزاع المعروض استبعاداً تاماً وتطبيق قواعد أخرى تتنوع وفقاً لحاجات المرافق العامة وضرورة التوفيق بين المصالح المتعارضة قدر الاستطاعة، وهي المبادئ الإدارية المرنة التي لا تضع معياراً مجرداً لقياس الخطأ، بل تشترط أن يكون الخطأ على درجة ملموسة من الجسامة في كل حالة على حدة، وتقدر درجة الخطأ باختلاف العمل المنسوب إلى الإدارة وما إذا كان قانونياً أم مادياً. ولما كان قرار الحجز من بين القرارات التي يحتاج تنفيذها إلى أعمال مادية فإنه يتعين الرجوع إلى الحلول والمبادئ الإدارية الخاصة بالمسئولية عن الأعمال الإدارية، وهذه الحلول تختلف باختلاف ظروف الزمان والمكان وطبيعة نشاط المرافق العامة. ففيما يتعلق بمرفق البوليس والصحة يلزم التشدد في درجة جسامة الخطأ الموجب لمسئولية الإدارة بحيث لا تتحقق هذه المسئولية إلا في حالة أقصى درجات الجسامة. ولما كان الثابت أنه لم يقم من جانب الإدارة أي خطأ في حجز المدعي بمستشفى الأمراض العقلية في 7 من نوفمبر سنة 1942، وأن الخطأ في عدم الإفراج عنه اعتباراً من 4 من ديسمبر سنة 1951 لم يبلغ حد الجسامة الموجبة للتعويض لتعلقه بإجراء بوليسي صحي مبني على تقدير جهة فنية، فإن طلب المدعي تعويض الأضرار التي لحقته من جراء إدخاله مستشفى الأمراض العقلية وحجزه بها من 7 من نوفمبر سنة 1942 حتى 14 من إبريل سنة 1953 لا يقوم على أساس سليم من القانون ويتعين رفضه. وإذ ذهب الحكم المطعون فيه غير هذا المذهب فإنه يكون قد أخطأ في تأويل القانون وتطبيقه وقامت به حالة من حالات الطعن في الأحكام أمام المحكمة الإدارية العليا. وانتهى السيد رئيس هيئة المفوضين من هذا إلى طلب "قبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع إلغاء الحكم المطعون فيه، والقضاء برفض الدعوى، وإلزام المدعي بالمصروفات".
ومن حيث إن الحكومة أودعت سكرتيرية المحكمة في 12 من يناير سنة 1957 مذكرة بملاحظاتها رددت فيها دفاعها السابق، وأضافت إليه أن حجية الحكم الصادر في الدعوى رقم 452 لسنة 4 القضائية تقتصر على خطأ القرار الصادر في 17 من مايو سنة 1950 باستمرار حجز المدعي بالمستشفى، أما مدى مسئولية الحكومة عن الخطأ المهني الذي نتج عنه هذا القرار فقد كان خارجاً عن النزاع، وكذلك كل قرار سابق على القرار الملغي. فلم تكن الدعوى السابقة هي واقعة الحجز في ذاتها؛ ولذا فإن محور النزاع الحالي يدور حول ما إذا كان المدعي قد حجز بحق أو بغير حق، وهو ما كان خارجاً عن موضوع النزاع الأول. والنزاع الحالي لا يتعلق بمبدأ الحرية الشخصية وعدم جواز الحجز عليها فينظر في مدى المسئولية المترتبة على ذلك، بل يقوم على رأي فني من طبيب أدى إلى تطبيق القانون رقم 141 لسنة 1944 وكان من شأنه حجز المدعي بالمستشفى. فالحجز في ذاته صحيح قانوناً، ومتى كان كذلك فلا تسأل الدولة عنه، أما كون هذا الحجز نتيجة لرأي فني خاطئ - لو صح هذا - فينقل مجال البحث إلى مدى مسئولية الطبيب عن رأيه. ولا شك أن الطبيب في هذا الخصوص هو كوكيل النيابة والقاضي لا يسأل إلا عن الخطأ المهني الجسيم. والغلط الذي يقع منه في التشخيص هو غلط فني في مادته يتعين على القاضي أن يكون أجنبياً عنها ولا يكفي لمسئولية الطبيب. ومع ذلك فقد انفرد الحكم المطعون فيه بالرأي الفني أخذاً بزعم المدعي فقضي له بتعويض عن مدة عشر سنوات لمجرد أن الحكم الصادر في دعوى الإلغاء قد استعمل سلطته التقديرية فرجح رأياً صادراً في سنة 1953 على خلاف كل رأي عكسي سابق. على أنه لما كان المدعي يطالب بتعويض عن عمل ضار ابتداء من سنة 1942 مبناه المسئولية التقصيرية، في حين أنه لم يرفع دعواه بهذا التعويض إلا في سنة 1955، فإن حقه فيه يكون قد سقط عن المدة السابقة على رفع الدعوى بثلاث سنوات وفقاً لحكم الفقرة الأولى من المادة 172 من القانون المدني. ولا محل للقول بتعلق الدعوى بالحجز على الحرية الفردية؛ إذ لم يحصل الحجز لذاته بالمستشفى، بل كان تنفيذاً للقانون نتيجة لرأي فني صادر من عدة أطباء بمناسبة ممارستهم لسلطة وظيفتهم. ومن المقرر أن الحرية الشخصية ليست ملكاً خالصاً لصاحبها وإنما يحدها ضمان توافرها لباقي الأفراد وعدم الإضرار بهم، بحيث إذا تعدت هذه الحدود كان على الدولة التزام الحجز عليها. فأساس الحق التضامن الاجتماعي حيث يعيش الفرد وسط المجتمع فلا يجوز له الإضرار به، وهو ما يناط بالدولة المحافظة عليه، وتقصيرها في ذلك يرتب مسئوليتها. وخلصت الحكومة من هذا إلى طلب "الحكم بقبول الطعن، وإلغاء الحكم المطعون فيه، والقضاء برفض دعوى المدعي. ومن باب الاحتياط الكلي سقوط حقه في التعويض عن المدة السابقة على رفع دعواه بثلاث سنوات، مع إلزامه بالمصاريف ومقابل أتعاب المحاماة".
ومن حيث إن مناط مسئولية الإدارة عن القرارات الإدارية التي تصدرها في تسييرها للمرافق العامة هو قيام خطأ من جانبها؛ بأن يكون القرار الإداري غير مشروع لعيب أو أكثر شابه من العيوب المنصوص عليها في المادة الثالثة من القانون رقم 9 لسنة 1949 الخاص بمجلس الدولة وفي المادة الثامنة من القانون رقم 165 لسنة 1955 بشأن إعادة تنظيمه، وأن يلحق صاحب الشأن ضرر، وأن تقوم علاقة السببية بين الخطأ والضرر، بأن يترتب الضرر على القرار غير المشروع.
ومن حيث إنه فيما يتعلق بركن الخطأ فإن المادة الرابعة من القانون رقم 141 لسنة 1944 بشأن حجز المصابين بأمراض عقلية تنص على أنه "لا يجوز حجز مصاب بمرض في قواه العقلية إلا إذا كان من شأن هذا المرض أن يخل بالأمن أو النظام العام أو يخشى منه على سلامة المريض أو سلامة الغير وذلك طبقاً لأحكام هذا القانون...". ويظهر من ذلك أن القرار الذي تصدره الإدارة بالحجز يجب - لكي يكون مطابقاً للقانون - أن يقوم على ركنين هما: إصابة الشخص المحجوز فعلاً بمرض عقلي، ثم خطورة مرضه بأن يكون من شأنه الإخلال بالأمن أو النظام العام أو كان يخشى منه على سلامة المريض أو سلامة الغير. وبغير توافر ذلك يكون حجزه غير جائز قانوناً، ويجب إلغاء القرار بحجزه لانعدام سببه المبرر له، كما يكون له الحق في مطالبة الإدارة بتعويضه عما أصابه من ضرر بسبب هذا القرار إن كان لذلك وجه.
ومن حيث إن محكمة القضاء الإداري بحكمها الصادر في 14 من إبريل سنة 1953 في الدعوى رقم 452 لسنة 4 القضائية، التي أقامها المدعي على وزارة الصحة قضت "بإلغاء قرار امتناع الحكومة عن إخراج الدكتور علي عبد السلام من مستشفى الأمراض العقلية دون قيد، وبإلغاء ما ترتب على ذلك من وضعه تحت المراقبة". وأقامت قضاءها - حسبما يتضح من آخر حيثيات الحكم - على ما استخلصته من عدم انطباق حكم المادة الرابعة من القانون رقم 141 لسنة 1944 على حالته، لانعدام السبب المسوغ للقرار، لعدم إصابته فعلاً بمرض عقلي، ولأنه أياً كانت حالة المدعي فلا يخشى منها على الوجه الذي حددته تلك المادة، ومهدت لذلك في أسباب حكمها بأن استعرضت تقارير الأطباء الأخصائيين الذين ندبتهم لفحص حالة المدعي بناء على اتفاق الطرفين وبموافقة مجلس المراقبة للأمراض العقلية، وهم الدكتور محمد كمال قاسم من قبل المدعي، والدكتور محمد عبد القادر حلمي من قبل الحكومة، والدكتور البكباشي عبد الحكيم المرصفاوي أخصائي الأمراض العقلية والعصبية بالمستشفى العسكري العام الذي اختاره الأولان، وبعد استعراض تقرير الدكتور الكولونيل فلاك الذي كان قد سبق ندبه قبل هؤلاء. ثم قالت "ومن حيث إن الدكاترة عبد الحكيم المرصفاوي ومحمد كمال قاسم وفلاك قد اتفقوا في الرأي على أن الدكتور علي عبد السلام ليس مصاباً بمرض عقلي استناداً إلى ما أبدوه من أسباب علمية واستشهدوا به من أقوال ووقائع، وهذا هو الرأي الذي يتعين الأخذ به لا سيما أن الدكتور محمد عبد القادر حلمي المنتدب من الحكومة وإن كان قد اختلف معهم في التشخيص إلا أنه قرر أن الإفراج عن الدكتور علي عبد السلام لا يتوقع من ورائه خطر جدي..". وقالت في موضوع آخر "ومن حيث إنه بالرجوع إلى محاضر الأطباء الذين فحصوا حالته يبين بوضوح أنه ليس مصاباً بمرض عقلي، ولقد كانت إجاباته في تلك المحاضر تدل على ذاكرة واعية ومنطق سليم وقد أرجع أقواله إلى مصادرها واعتمد فيها على أسباب سردها ووقائع عينها وتواريخ حددها، وهي لذلك ليست وليدة الوهم الخاطئ وليست من نسج الخيال، بل إن لها أساساً من الوقائع مما يتنافى مع الأعراض الرئيسية لمرض البارانويا...".
ومن حيث إنه يبين من ذلك أن الحكم المشار إليه، وهو حائز لحجية الشيء المحكوم فيه، قد أدان قرار حجز المدعي بمستشفى الأمراض العقلية بعدم المشروعية لانعدام سببه المبرر له قانوناً، وعلى هذا الأساس أقام قضاءه بإلغاء القرار، وهذا الأساس مرتبط بمنطوق الحكم ارتباط العلة بالمعلول، وبهذه المثابة يجوز السبب الذي قامت عليه نتيجة الحكم قوة الشيء المحكوم فيه كالمنطوق ذاته، فلا وجه - والحالة هذه - لما تثيره الحكومة من أن حجية الحكم تنحصر فيما قضى به من إلغاء قرار الامتناع عن إخراج المدعي من المستشفي دون قرار حجزه ابتداء بالمستشفى، إذ أن قرار حجز المصاب بمرض عقلي بالمستشفى هو بطبيعته من القرارات المستمرة التي يقتضي تنفيذها مدة تطول أو تقصر بحسب حالة المرض والشفاء منه إن كان مما يقبل الشفاء. فإذا ثبت أن المحجوز كان مصاباً فعلاً وقت حجزه بمرض عقلي ثم شفي منه، كان ثمة محل للتفرقة بين حجزه ابتداء الذي يكون وقتذاك قائماً على سببه المبرر له، وبين استمرار حجزه بعد شفائه الذي لم يعد له مبرر بعد هذا الشفاء، والحال ليس كذلك في شأن المدعي؛ لأن مرض "البارانويا" هو على ما أجمع عليه الأطباء غير قابل للشفاء، ولم يقل أحد، حتى ولا أطباء مجلس المراقبة، أن هذا المرض قابل للشفاء أو أن المدعي كان مريضاً به أولاً ثم تحسنت حالته بعد ذلك، بل دار بحث الأطباء جميعاً حول ما إذا كان مصاباً بهذا المرض أو غير مصاب به أصلاً، وقد انتهى الحكم المذكور إلى أنه ليس مصاباً به بناء على تقارير الأطباء التي أخذ بها. كما لا وجه كذلك لما تثيره الحكومة من أنه ما دام سبب القرار، وهو إصابة المحجوز بمرض عقلي، يقوم في ذاته على تشخيص طبي، فلا محل للمساءلة إلا إذا كان الخطأ الفني في التشخيص الطبي جسيماً، وأنه يتعين على القضاء عدم الخوض في أمور فنية هي محل الجدل بين أهل الفن أنفسهم - لا وجه لذلك؛ لأن التزام الطبيب هو التزام ببذل عناية، فيسأل عن كل خطأ يقع منه جسيماً كان أو يسيراً، طبقاً للأصل العام الذي رددته المادة 163 من القانون المدني وهو أن يسأل الشخص عن خطئه أياً كانت درجته دون تفرقة بين درجة هذا الخطأ. وإنما المعيار في تقدير خطأ الطبيب وتعيين مدى واجباته يكون إما بمقارنة مسلك طبيب عادي إذا وجد في مثل ظروفه الظاهرة، أو بمقارنة مسلك طبيب أخصائي مثله إذا وجد في مثل هذه الظروف؛ لأن الأخصائي محل ثقة خاصة لها وزنها عند تقدير معيار الخطأ نظراً لتخصصه. كما أنه إذا كانت الحكمة تتطلب من القاضي ألا يوغل بنفسه في فحص النظريات العلمية المختلف عليها ومناقشتها وأن يوازن هو بينها ويرجح إحداها على الأخرى ترجيحاً ينبني على حكمه في خطأ الطبيب ومساءلته عن هذا الخطأ، إلا أنه ليس معنى هذا أن القاضي ممنوع عن تقدير الخطأ بمعياره القانوني الواجب، أو أن الطبيب لا يسأل عن خطئه الثابت ولو كان يسيراً، بل المقصود من ذلك أن القاضي يجب أن يستخلص الخطأ بمعياره المحدد آنفاً من وقائع واضحة يثبت منها أن مسلك الطبيب - عادياً كان أو أخصائياً بحسب الأحوال - كان مسلكاً يتنافى مع الأصول الثابتة المقررة في المهنة، والتي لا يحتاج القاضي في التثبت منها إلى الخوض في مناقشة نظريات علمية أو أساليب مختلف عليها، فإذا ما ثبت خطأ الطبيب على هذا النحو وجبت مساءلته عنه، أياً كانت درجته جسيماً كان أو يسيراً. وحكم محكمة القضاء الإداري آنف الذكر، لم يقم قضاءه فيما انتهى إليه من عدم مشروعية حجز المدعي على الموازنة بين نظريات علمية في تشخيص أعراض مرض "البارانويا" أو في قابليته أو عدم قابليته للشفاء، كما أن أحداً لم يقل بأن ثمة خلافاً في الأصول المقررة علمياً في هذا الشأن، وإنما انحصر الخلاف في تشخيص هذا المرض على حالة المدعي ومدى انطباقه عليها طبقاً للأصول الفنية المقررة، أي هل هو مريض به أو غير مريض بحسب الأعراض المتفق عليها فنياً، وليس من شك في أنه عند تقدير ركن الخطأ يجب أن يوزن مسلك أطباء مجلس المراقبة الذين قرروا حجز المدعي بمسلك الطبيب الأخصائي، وأن تتثبت المحكمة من ذلك لإنزال حكم القانون على مقتضى ما يثبت؛ ومن أجل ذلك ندبت المحكمة من ندبتهم من الأطباء الأخصائيين بموافقة الطرفين، وبنت قضاءها على ما ثبت لها من تقاريرهم الفنية التي ثبت منها انعدام السبب المبرر قانوناً للحجز على أية صورة، سواء لعدم إصابة المدعي بهذا المرض أصلاً كما ذهبت إلى ذلك جمهرتهم، أو لأنه على فرض وجوده فهو على كل حال لا يخشى منه كما سلم بذلك طبيب الحكومة نفسه.
ومن حيث إن القرار المذكور قد أضر بالمدعي أضراراً مادية وأدبية جسيمة، إذ ترتب عليه تقييد حريته الشخصية بحجزه في مستشفى الأمراض العقلية زهاء عشر سنوات، فأثر ذلك في صحته وأقعده عن التكسب في زهرة حياته ودمر مستقبله مادياً وأدبياً.
ومن حيث إنه لما تقدم، وللأسباب الأخرى التي استند إليها الحكم المطعون فيه، يكون الطعن غير قائم على أساس سليم من القانون متعيناً رفضه.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وبرفضه موضوعاً.