مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثانية - العدد الثاني (من أول فبراير إلى آخر مايو سنة 1957) - صـ 886

(93)
جلسة 13 من إبريل سنة 1957

برياسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة السيد إبراهيم الديواني والإمام الإمام الخريبي وعلي إبراهيم بغدادي ومصطفى كامل إسماعيل المستشارين.

القضية رقم 1517 لسنة 2 القضائية

( أ ) قرار إداري - تعريفه - القرار الصادر من الإدارة بالقبض على شخص لاعتبارات تتعلق بالأمن العام هو قرار إداري - اختصاص القضاء الإداري بنظر دعوى التعويض عنه.
(ب) أحكام عرفية - سلطة الحاكم العسكري التقديرية لمواجهة الحالات الاستثنائية - وجوب ألا تتجاوز الحدود الدستورية، وألا تخل بالتزاماته القانونية، وألا تتغول على الحريات العامة بدون مبرر - مخالفة ذلك تصم التصرف بعدم المشروعية - رقابة القضاء الإداري لذلك إلغاءً وتعويضاً.
(جـ) أحكام عرفية - قرار الحاكم العسكري العام - وجوب توافره على ركن السبب - حدود رقابة القضاء الإداري لهذا الركن.
(د) قرار إداري - السلطة التقديرية للإدارة في حالة الظروف الاستثنائية - لا يطلب منها ما يتطلب في الظروف العادية من الحيطة والحذر.
(هـ) مسئولية - مسئولية الإدارة عن قراراتها - شروطها بالنسبة للقرارات التي تصدر في ظروف عادية - شروطها بالنسبة للقرارات التي تصدر في ظروف استثنائية.
(و) أحكام عرفية - القانون رقم 50 لسنة 1950 - القصد منه - إعفاء القائمين على الأحكام العرفية مما يكونون قد اتخذوه من إجراءات أثناء قيام هذه الأحكام - مناط ذلك أن يكون رائدهم من تلك الإجراءات المصلحة العامة.
1 - إذا ثبت أن القبض على المدعي كان تدبيراً من التدابير التي اتخذتها الإدارة لاعتبارات تتعلق بالأمن العام بناء على حالة واقعية كانت قائمة، هي السبب الذي دعا الإدارة إلى اتخاذ هذه التدابير، فأفصحت عن إرادتها بالقبض عليه هو وغيره, فإن هذا التصرف له كل مقومات القرار الإداري، كتصرف إرادي متجه إلى إحداث أثر قانوني، هو القبض على الأشخاص، بغاية من المصلحة العامة هي وقاية الأمن والنظام لسبب هو الحالة الواقعية التي كانت قائمة عندئذ؛ وبهذه المثابة يختص القضاء الإداري بطلب التعويض عنه.
2 - لئن كان القانون يخول للحاكم العسكري في ظل الأحكام العرفية سلطة تقديرية واسعة يواجه به ما تقتضيه الحالات الاستثنائية التي تعرض له من اتخاذ تدابير سريعة حاسمة، إلا أنه ينبغي ألا تتجاوز سلطته التقديرية الحدود الدستورية المرسومة، وألا تخل بالتزاماته القانونية، وألا تتغول بوجه خاص على الحريات العامة بدون مبرر قانوني، وإلا شاب تصرفاته عدم المشروعية، وانبسطت عليها رقابة القضاء الإداري إلغاءً وتعويضاً.
3 - إن قرار الحاكم العسكري العام ينبغي أن يكون له سبب، بأن تقوم حالة واقعية أو قانونية تدعو إلى التدخل، وإلا فقد القرار علة وجوده ومبرر إصداره، وفقد بالتالي أساسه القانوني، كما يجب أن يكون هذا السبب حقيقياً لا وهمياً ولا صورياً، وصحيحاً مستخلصاً استخلاصاً سائغاً من أصول ثابتة تنتجه، وقانونياً تتحقق فيه الشرائط والصفات الواجب توافرها فيه قانوناً، وإنه ولئن كانت الإدارة في الأصل تملك حرية وزن مناسبات العمل وتقدير أهمية النتائج التي تترتب على الوقائع الثابت قيامها، إلا أنه حيثما تختلط مناسبة العمل الإداري بمشروعيته، ومتى كانت هذه المشروعية تتوقف على حسن تقدير الأمور خصوصاً فيما يتعلق بالحريات العامة، وجب أن يكون تدخل الإدارة لأسباب جدية تبرره. فالمناط، والحالة هذه، في مشروعية القرار الذي تتخذه الإدارة هو أن يكون التصرف لازماً لمواجهة حالات معينة من دفع خطر جسيم يهدد الأمن والنظام، باعتبار هذا الإجراء الوسيلة الوحيدة لمنع هذا الضرر، وللقضاء الإداري حق الرقابة على قيام هذا المسوغ أو عدم قيامه، فإذا ثبتت جدية الأسباب التي تبرر هذا التدخل كان القرار بمنجاة من أي طعن, أما إذا اتضح أن الأسباب لم تكن جدية، ولم يكن فيها من الأهمية الحقيقية ما يسوغ التدخل لتقييد الحريات كان القرار باطلاً.
4 - للحكومة عند قيام حالة استثنائية تمس الأمن والطمأنينة سلطة تقديرية واسعة لتتخذ من التدابير السريعة الحاسمة ما تواجه به الموقف الخطير، إذ يقدر الخطر الذي يهدد الأمن والطمأنينة بقدر ما تطلق حريتها في تقدير ما يجب اتخاذه من إجراءات وتدابير لصون الأمن والنظام، وليس يتطلب من الإدارة في مثل هذه الظروف الخطرة ما يتطلب منها في الظروف العادية من الحيطة والدقة والحذر، حتى لا يفلت الزمام من يدها.
5 - يتعين التفرقة في مسئولية الدولة بين ما يصدر من السلطة العامة من تدابير وتصرفات وهي تعمل في ظروف عادية تتاح لها فيها الفرصة الكافية للفحص والتبصر والروية، وبين ما تضطر إلى اتخاذه من قرارات وإجراءات عاجلة تمليها عليها ظروف طارئة ملحة غير عادية لا تمهل للتدبير ولا تحتمل التردد كالحرب والفتنة والوباء والكوارث، ففي الحالة الأولى تقوم مسئوليتها متى وقع ثمة خطأ من جانبها ترتب عليه ضرر للغير وقامت بين الخطأ والضرر رابطة السببية، وتتراوح هذه المسئولية تبعاً لجسامة الخطأ والضرر. أما في الحالة الثانية فالأمر جد مختلف، إذ يوزن الخطأ بميزان مغاير، وتقدر المسئولية على هذا الأساس، فما يعد خطأ في الأوقات العادية قد يكون إجراءً مباحاً في أحوال الضرورة الاستثنائية، وتتدرج المسئولية على هذا الأساس، فلا تقوم كاملة إلا إذا ارتكبت الإدارة خطأً استثنائياً جسيماً يرقى إلى مرتبة العسف المتعمد المصطحب بسوء القصد، وتتخفف هذه المسئولية في حالة الخطأ الظاهر غير المألوف الذي يجاوز الخطأ ولا يرتكن على مبرر يسوغه، وتنعدم كلية في حالة الخطأ العادي المتجرد عن التعسف في استعمال السلطة الذي تحمل الإدارة على الوقوع فيه ظروف غير عادية تبتغي به مصلحة عامة تعلو على المصالح الفردية، ذلك أن المصالح الفردية لا تتوازي مع المصلحة العامة توازي مصلحة الفرد مع الفرد، وليس يسوغ أن تقوم الخشية من المسئولية عائقاً للسلطة العامة على القيام بواجبها الأسمى في إقرار الأمن والمحافظة على كيان المجتمع وسلامة البلاد.
6 - نصت المادة الثانية من القانون رقم 50 لسنة 1950 على أنه "لا تسمع أمام أية جهة قضائية أية دعوى أو طلب أو دفع يكون الغرض منه الطعن في أي إعلان أو تصرف أو أمر أو تدبير أو قرار، وبوجه عام أي عمل أمرت به أو تولته السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية أو مندوبوها أو وزير المالية أو أحد الحراس العامون أو مندوبوهم عملاً بالسلطة المخولة لهم بمقتضى نظام الأحكام العرفية، وذلك سواء أكان هذا الطعن مباشرة من طريق المطالبة بإبطال شيء مما ذكر أو بسحبه أو بتعديله، أم كان الطعن غير مباشر من طريق المطالبة بتعويض، أو بحصول مقاصة أو إبراء من تكليف أو التزام أو برد مال أو باسترجاعه أو باسترداده أو باستحقاقه أو بأي طريق آخر. ولا تسري هذه الأحكام على الدعاوى المدنية أو الجنائية التي ترفع بناء على طلب وزير المالية عن تصرفات الحراس في شئون وظائفهم". وقد قصد بإصدار هذا القانون - على ما يبين من المناقشات التي دارت بمجلس الشيوخ - إعفاء القائمين على الأحكام العرفية مما يكونون قد اتخذوه أثناء قيام الأحكام العرفية من إجراءات تجاوزوا بها حدود القانون، باعتبار أنهم إنما فعلوا ما تقضي به المصلحة العامة، وما يمليه واجب الدفاع عن البلاد أو واجب الحيطة والطمأنينة، والمناط في ذلك كله أن يكون الحاكم العسكري وهو يتخذ هذا الإجراء إنما يدفع به خطراً أو غائلة، وبعبارة أخرى أن يكون رائده في ذلك المصلحة العامة.


إجراءات الطعن

في 24 من مايو سنة 1956 أودع رئيس هيئة المفوضين طعناً في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري (الهيئة الخامسة) بجلسة 25 من مارس سنة 1956 في الدعوى رقم 3127 لسنة 7 القضائية المرفوعة من عبد المنعم عبد العزيز رسلان وآخر ضد مجلس الوزراء وآخرين، القاضي - أولاً بعدم اختصاصها بنظر الدعوى فيما يتعلق بطلب التعويض المقدم من عبد العزيز رسلان مع إلزامه بمصروفات هذا الطلب وبمبلغ 500 قرش مقابل أتعاب المحاماة. ثانياً - بالنسبة لطلب التعويض المقدم من عبد المنعم عبد العزيز رسلان. بإلزام الحكومة بأن تدفع له مبلغ مائة جنيه والمصروفات المناسبة...." وطلب رئيس هيئة المفوضين، للأسباب التي استند إليها في صحيفة الطعن، الحكم: "بقبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء الشق (أولاً) من الحكم والقضاء باختصاص محكمة القضاء الإداري به، وإعادة القضية إلى هذه المحكمة للفصل فيها، وبإلغاء الشق (ثانياً) من الحكم، والقضاء برفض طلب التعويض المقدم من عبد المنعم عبد العزيز رسلان، وإلزامه بمصروفات هذا الطلب". وقد أعلن الطعن للحكومة في 12 من يوليه سنة 1956، وللخصم في 30 من يوليه سنة 1956، وعين لنظره جلسة 23 من فبراير سنة 1957، وفيها سمعت المحكمة ما رأت سماعه من ملاحظات, ثم أرجأت النطق بالحكم لجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة تتحصل، حسبما يبين من الأوراق، في أن المدعيين أقاما الدعوى رقم 3127 لسنة 7 القضائية أمام محكمة القضاء الإداري بصحيفة أودعت سكرتيرية المحكمة في 30 من يوليه سنة 1953، طالبين الحكم على المدعى عليهم بإلزامهم متضامنين بدفع مبلغ عشرة آلاف جنيه تعويضاً للمدعي الأول وبمبلغ خمسين جنيه للمدعي الثاني، وقالا - بياناً لذلك - إن المدعي الأول كان طالباً في السنة النهائية بمعهد التربية العالي للمعلمين في السنة الدراسية 1948/ 1949 وقد أعتقل في 16 من فبراير سنة 1949 دون أن يصدر أمر بذلك، وقد حرمه المعهد من امتحان الدور الأول إذ لم يخطره بميعاد الامتحان، أما بالنسبة للدور الثاني، فقد طلب المدعي تأدية الامتحان فرفض طلبه لعدم تأدية الامتحان العملي ولعدم حصوله على 75% من نسبة الحضور، في حين أنه كانت هناك قوة قاهرة تمنعه من الحضور، وقد ترتب على ذلك أن تأخر سنة دراسية كاملة حرم خلالها من مرتبه فضلاً عن تأخير أقدميته سنة كاملة عن زملائه. أما المدعي الثاني فقد قبض عليه دون أمر اعتقال، ولما عثر على المدعي الأول أفرج عنه. وقد ردت جامعة عين شمس على الدعوى بأن المدعي الأول انتظم في الدراسة بمعهد التربية قسم الآداب في العام الدراسي 1948/ 1949 حتى يوم 16 من فبراير سنة 1949، وفي يوم 17 من فبراير سنة 1949 قبض عليه خارج المعهد وظل معتقلاً حتى يوم 24 من سبتمبر سنة 1949. وقد قدم والد المدعي التماسات ثلاثة للمساح لنجله بأداء الامتحان، إلا أنه بالرغم من مساعي المعهد المتكررة لم يسمح له بأداء الامتحان، ثم أضافت الجامعة بأن حرمان المدعي الأول من الامتحان كان بسبب اعتقاله لا عدم حصوله على نسبة الحضور، أو لعدم أدائه التمرين المتصل في التربية العملية. وقدمت وزارة الداخلية مذكرة بالظروف التي أدت إلى اعتقال المدعي وصورة من الأمر الصادر باعتقاله. وفي 25 من مارس سنة 1956 حكمت المحكمة: (أولاً) بعدم اختصاصها بنظر الدعوى فيما يتعلق بطلب التعويض المقدم من عبد العزيز رسلان مع إلزامه بمصروفات هذا الطلب. (ثانياً) بالنسبة لطلب التعويض المقدم من المنعم عبد العزيز رسلان بإلزام الحكومة بأن تدفع له مبلغ مائة جنيه والمصروفات المناسبة. وأقامت المحكمة قضاءها على أنه "يبين من الأوراق أن حكمدارية بوليس القاهرة قبضت على المدعي الأول في 17 من فبراير سنة 1949 لأن التحريات دلت على أنه من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين المنحلة بالمعادي، وله نشاط خطر على الأمن العام. وقد أرسلت حكمدارية بوليس القاهرة كتاباً بذلك في 17 من فبراير سنة 1949 برقم 947 سري سياسي إلى مدير الأمن العام طالبة استصدار الأمر اللازم باعتقاله، فأصدر الحاكم العسكري أمراً في 21 من فبراير سنة 1949 باعتقال المدعي وآخرين مستنداً في ذلك إلى المرسوم الصادر في 14 من مايو سنة 1948 بإعلان الأحكام العرفية في البلاد المصرية والمرسوم الصادر في 30 من ديسمبر سنة 1948 وكتاب حكمدارية بوليس القاهرة السابق الإشارة إليه؛ وقد رحل المدعي إلى معتقل الطور وبقى معتقلاً إلى أن أفرج عنه في 24 من سبتمبر سنة 1949"، وأن "القبض على المدعي الأول وحبسه من يوم 17 من فبراير سنة 1949 إلى أن صدر أمر الحاكم العسكري العام في 21 من فبراير سنة 1949 باعتقاله قد وقع من رجال البوليس بصفتهم من رجال الضبظية الإدارية، والقرار الصادر في هذا الشأن من حكمدارية بوليس القاهرة أو من يمثله يعتبر قراراً إدارياً يخضع لرقابة محكمة القضاء الإداري من حيث طلب إلغائه أو التعويض عنه"، وأن "القرار سالف الذكر صدر بغير سند من القانون يخول اتخاذ هذا الإجراء المقيد للحرية وفي غير الحالات المبينة على سبيل الحصر في المادة 15 من قانون تحقيق الجنايات والفقرة السابعة من المادة الثالثة من القانون رقم 15 لسنة 1923 بنظام الأحكام العرفية التي لا تجيز الأمر بالقبض إلا على المتشردين والمشتبه فيهم وليس المدعي من هؤلاء؛ ومن ثم فإن القرار المذكور جاء مخالفاً للقانون. أما بالنسبة لاعتقال المدعي بالقرار الصادر من الحاكم العسكري في 21 من فبراير سنة 1949 فإن هذا القرار - كأي قرار إداري آخر - ينبغي أن يكون له سبب, وهذا السبب هو أن تقوم حالة واقعية أو قانونية تدعو الإدارة إلى التدخل وإلا فقد القرار علة وجوده ومبرر إصداره وفقد بالتالي أساسه القانوني الذي يجب أن يقوم عليه، كما يجب أن يكون هذا السبب حقيقياً، لا وهمياً ولا صورياً، وصحيحاً مستخلصاً استخلاصاً سائغاً من أصول ثابتة تنتجه، وقانونياً تتحقق فيه الشرائط والصفات الواجب توافرها فيه قانوناً. والقرار فيما تقدم جميعه يخضع لرقابة محكمة القضاء الإداري، كما أنه ولئن كانت جهة الإدارة في الأصل تملك حرية وزن مناسبات العمل وتقدير أهمية النتائج التي تترتب على الوقائع الثابت قيامها والتي من أجلها تتدخل لإصدار قرارها، إلا أنه حيثما تختلط مناسبة العمل الإداري بشرعيته، ومتى كانت الشرعية تتوقف على حسن تقدير الأمور خصوصاً فيما يتصل بالحريات العامة، وجب أن يكون تدخل الإدارة لأسباب جدية تبرره، فلا يكون العمل الإداري عندئذ مشروعاً إلا إذا كان لازماً، وهو في ذلك أيضاً يخضع لرقابة محكمة القضاء الإداري، فإذا ثبتت جدية الأسباب التي بررت هذا التدخل كان القرار بمنجاة من أي طعن، أما إذا اتضح أن هذه الأسباب لم تكن جدية ولم يكن فيها من الأهمية الحقيقية ما يسوغ التدخل لتقييد الحريات العامة كان القرار باطلاً، وإذا كان القانون - نظراً إلى طبيعة الأحكام العرفية والظروف الدقيقة التي تلابسها عادة - يخول الحاكم العسكري سلطة تقديرية واسعة يواجه بها ما تقتضيه الحالات الاستثنائية التي تعرض له من اتخاذ تدابير حاسمة، بحيث إن المحكمة وهي تعقب على تصرفاته تفعل ذلك بكثير من الحيطة والحذر حتى لا تكون سبباً في تعطيله عن أداء مهمته الخطيرة، إلا أنه ينبغي ألا تجاوز سلطته التقديرية الحدود الدستورية المرسومة، وألا تتغول بوجه خاص على الحريات بدون مبرر قانوني، وإلا شابها عدم المشروعية وانبسطت عليها رقابة هذه المحكمة إلغاءً وتعويضاً". وأن "الأسباب التي تبرزها الحكومة في قرارها باعتقال المدعي الأول هي أسباب غير جدية؛ ذلك لأنها تقوم على خطورة المدعي المذكور على الأمن العام وانتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين المنحلة. وخطورة الشخص على الأمن العام - لكي يكون سبباً جدياً يبرر اعتقاله، وهو إجراء مقيد للحرية - يجب أن تستمد من وقائع حقيقية منتجة في الدلالة على هذا المعنى، وأن تكون هذه الوقائع أفعالاً معينة يثبت ارتكاب الشخص لها ومرتبطة ارتباطاً مباشراً بما يراد الاستدلال عليه بها، وأن مجرد انتماء المدعي الأول - لو صح - إلى جماعة ذات مبادئ متطرفة أو منحرفة عن النظام الاجتماعي لا يعني حتماً وبذاته اعتباره من الخطرين على الأمن بالمعنى المقصود من هذا اللفظ على مقتضى قانون الأحكام العرفية، ما دام لم يرتكب فعلاً وشخصياً أموراً من شأنها أن تصفه حقاً بهذا الوصف، وقد كان المدعي عند القبض عليه طالباً بالسنة النهائية بمعهد التربية العالي للمعلمين، وكان منتظماً ومواظباً على دراسته كما شهدت بذلك إدارة المعهد، الأمر الذي ينفي عنه ابتداء شبهة خطورته على الأمن العام، ويؤيد عدم جدية هذا السبب لتبرير إجراء خطير كتقييد حريته الشخصية واعتقاله", وأنه "متى تبين أن القرار الصادر باعتقال المدعي الأول كان باطلاً لمخالفته للقانون وترتب على تنفيذه أن لحق الضرر بالمدعي بسبب تقييد حريته الشخصية طوال مدة اعتقاله التي تنفذ فيها هذا القرار، وحرمانه من أداء الامتحان بالمعهد الذي يعمل فيه، فإن الدعوى من حيث مبدأ التعويض بالنسبة للمدعي المذكور تكون قائمة على أساس سليم من القانون". وأنه "بالنسبة للمدعي الثاني فإنه فضلاً عن أن الأوراق خلت مما يثبت صحة واقعة القبض عليه، فإن هذه الواقعة على فرض صحتها لا تعدو أن تكون بطبيعتها عملاً مادياً يخرج عن اختصاص هذه المحكمة الحكم بالتعويض عنها.
ومن حيث إن الطعن يقوم, بالنسبة للمدعي الأول, على أن القبض عليه في الفترة من 17 فبراير سنة 1949 إلى 21 من فبراير سنة 1949 كان وقائياً بقصد المحافظة على الأمن العام في الظروف الاستثنائية التي صدر فيها القرار, وقد يكون هناك وجه لما ذهب إليه الحكم المطعون فيه في الظروف العادية، على اعتبار أن القبض على المدعي جاء مجحفاً بالحرية الفردية التي ارتأى الحكم أنها أولى بالرعاية على الرغم من انتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين المنحلة، بل هو سكرتير هذه الجماعة بالمعادي، إلا أن الأمر لا بد وأن يكون له وجه آخر يختلف في الظروف الاستثنائية عنه في الظروف العادية، حيث تتمتع سلطات البوليس الإداري بسلطات واسعة تضاف إلى سلطاتها العادية، ويصير كل إجراء تتخذه الجهات الإدارية في مثل هذه الظروف أو الحرب أو الأزمات أو الأوقات العصبية من شأنه تأمين سير المرافق العامة أو حماية النظام العام - ولو كان هذا الإجراء باطلاً لتجاوز الاختصاص أو مخالفة القوانين - سليماً ما دام هو ضروري لهذا التأمين أو تلك الحماية، وليس ذلك تطبيقاً لحالة الضرورة، وإنما تأسيساً على واجبات السلطات الإدارية، فإذا تبين للجهة الإدارية أن المشروعية تحول بينها وبين اتخاذ قرار يفرضه تأمين المرافق العامة أو حماية النظام العام، تحررت منه بالقدر الذي يمكنها من أداء واجباتها الملقاة على عاقتها. وبناء على ذلك، فإن القبض على المدعي الأول - في الظروف التي تم فيها - توطئه لاستصدار أمر من الحاكم العسكري باعتقاله كان له ما يبرره. أما عن الفترة من 21 من فبراير سنة 1949 تاريخ صدور الأمر باعتقاله حتى تاريخ الإفراج عنه في 2 من سبتمبر سنة 1949؛ فإن ما قيل عن القبض على المدعي الأول يصدق على الأمر الصادر باعتقاله، مع مراعاة أن الأحكام العرفية تضيف في حد ذاتها في الظروف الاستثنائية الصادرة فيها توسعاً في اختصاص البوليس الإداري يخرج به كثيراً - وفقاً لنصوص القوانين المنظمة لها - عن نطاق البوليس الإداري في الأوقات العادية، وذلك على حساب الحريات الفردية. وإذا كان القرار الصادر من الحاكم العسكري في 21 من فبراير سنة 1949 باعتقال المدعي الأول سليماً فإنه لا تترتب عليه أية مسئولية. وبالنسبة للمدعي الثاني فقد ذهب الحكم المطعون فيه، إلى أن واقعة القبض عليه - على فرض صحتها - لا تعدو أن تكون بطبيعتها عملاً مادياً يخرج عن اختصاص هذه المحكمة الحكم بتعويض عنه، والواقع أن عملية القبض عمل مادي لا يعدو في الأغلبية الكبرى من تصرفات الإدارة إلا أن يكون تنفيذاً لقرار إداري سابق. وبالرجوع إلى وقائع الدعوى يبين أن القبض المزعوم على المدعي الثاني لم يكن إلا تنفيذاً لقرار حكمدار بوليس القاهرة في 17 من فبراير سنة 1949 بإلقاء القبض على أعضاء جماعة الإخوان المسلمين؛ ومن ثم تكون محكمة القضاء الإداري مختصة به. وعلى هذا يتعين إعادة الدعوى إلى محكمة القضاء الإداري للفصل في هذا الشق من الدعوى بعد استكمال عناصر واقعة القبض المزعوم التي إن صحت فلا تعدو أن تكون تنفيذاً للقرار الإداري المشار إليه.
ومن حيث إنه يبين من الأوراق أنه في 17 من فبراير سنة 1949 أرسل حكمدار بوليس مصر إلى مدير الأمن العام الكتاب رقم 947 يذكر فيه أنه "إلحاقاً لكتاب الحكمدارية رقم ح/ 297 سري بتاريخ 6 من فبراير الجاري بشأن التحري عن أعضاء جماعة الإخوان المسلمين المنحلة بالمعادي، وبالنسبة لكتاب عزتكم رقم مخصوص 2884/ 49 سري سياسي بتاريخ 8 من فبراير سنة 1949 بشأن طلب الإفادة عما إذا كان ضمن أعضاء الجماعة المذكورة بالمعادي من له نشاط خطر على الأمن العام، وقد صار ضبطهم وحجزهم بقسم المعادي. هذا لعزتكم للإحاطة، ونرجو التفضل باستصدار الأمر اللازم باعتقالهم". وقد تضمن الخطاب اسم أحد عشر شخصاً من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين المنحلة بالمعادي أولهم المدعي الأول. وفي 21 من فبراير سنة 1949 أصدر الحاكم العسكري العام - بعد اطلاعه على المرسوم الصادر بتاريخ 14 من مايو سنة 1948 بإعلان الأحكام العرفية في البلاد المصرية، وبمقتضى السلطة المخولة له، بالمرسوم الصادر في 30 من ديسمبر سنة 1948، وبعد اطلاعه على كتاب حكمدارية بوليس مصر المؤرخ 17 من فبراير 1949 رقم 947 سري سياسي - أصدر قراراً باعتقال من وردت أسماؤهم بكتاب حكمدارية بوليس مصر السالف الذكر. كما قدمت وزارة الداخلية مذكرة مؤرخة في 18 من أكتوبر سنة 1955 في شأن عدم تأدية المدعي الأول للامتحان ورد بها ما يأتي: "كان المدعي خلال العام الدراسي 1948/ 1949 طالباً بالنسبة النهائية بمعهد التربية العالي للمعلمين وكان من أعضاء جماعة الإخوان المنحلة العاملين ذوي النشاط الخطر وسكرتير شعبة المعادي، فصدر الأمر باعتقاله في 20 من فبراير سنة 1949 بناء على طلب حكمدارية بوليس القاهرة وترحل لمعتقل الطور. وفي 26 من مارس سنة 1949 تقدم بطلب للسيد قائد معتقل الطور يلتمس فيه التصريح له بدخول امتحان التربية العملية، وحفظ هذا الطلب لصدور أمر بمنع المعتقلين من تأدية الامتحانات في ذلك الوقت. وبتاريخ 11 من سبتمبر سنة 1949 أخطرت المراقبة العامة للامتحانات بوزارة المعارف لتمكين بعض المعتقلين، ومن بينهم المذكور من تأدية امتحان الدور الثاني بمعتقل هاكستب، فأفادت بكتابها رقم 10192 في 14 من سبتمبر سنة 1949 بأن المعهد أفاد بعدم أحقيته في دخول امتحان الدور الثاني لعدم حضوره دروس التربية العملية، وعدم استيفائه نسبة حضور المحاضرات وهي 75% من مجموع المحاضرات ولذلك تقرر بقاؤه للإعادة......"
( أ ) عن الدفع بعدم اختصاص القضاء الإداري بطلب التعويض المقدم من المدعي الثاني:
ومن حيث إنه يبين مما تقدم أن القبض على السيد/ عبد العزيز رسلان كان تدبيراً من التدابير التي اتخذتها لاعتبارات تتعلق بالأمن العام، بناء على حالة واقعية كانت قائمة، هي السبب الذي دعا الإدارة إلى اتخاذ هذه التدابير، فأفصحت عن إرادتها بالقبض على المدعي المذكور هو وغيره، وهذا التصرف له كل مقومات القرار الإداري كتصرف إرادي متجه إلى إحداث أثر قانوني، هو القبض على الأشخاص، بغاية من المصلحة العامة هي وقاية الأمن والنظام، لسبب هو الحالة الواقعية التي كانت قائمة عندئذ، وبهذه المثابة يختص القضاء الإداري بطلب التعويض عنه، أما كونه وقع مخالفاً للقانون أو غير مخالف له، وهل ثمة محل للتعويض فهذا هو بحث الموضوع.
(ب) عن الموضوع:
ومن حيث إن الحكم المطعون فيه، وإن أصاب الحق في المبادئ القانونية التي رددها من أنه ولئن كان القانون يخول للحاكم العسكري في ظل الأحكام العرفية سلطة تقديرية واسعة يواجه بها ما تقضيه الحالات الاستثنائية التي تعرض له من اتخاذ تدابير سريعة حاسمة، إلا أنه ينبغي ألا تتجاوز سلطته التقديرية الحدود الدستورية المرسومة، وألا تخل بالتزاماته القانونية، وألا تتغول بوجه خاص على الحريات العامة بدون مبرر قانوني، وإلا شاب تصرفاته عدم المشروعية وانبسطت عليها رقابة القضاء الإداري إلغاءً وتعويضاً، كما أن قرار الحاكم العسكري العام ينبغي أن يكون له سبب، بأن تقوم حالة واقعية أو قانونية تدعو إلى التدخل، وإلا فقد القرار علة وجوده ومبرر إصداره، وفقد بالتالي أساسه القانوني. كما يجب أن يكون هذا السبب حقيقياً، لا وهمياً ولا صورياً، وصحيحاً مستخلصاً سائغاً من أصول ثابتة تنتجه، وقانونياً تتحقق فيه الشرائط والصفات الواجب توافرها فيه قانوناً؛ وإنه ولئن كانت الإدارة في الأصل تملك حرية وزن مناسبات العمل وتقدير أهمية النتائج التي تترتب على الوقائع الثابت قيامها، إلا أنه حيثما تختلط مناسبة العمل الإداري بمشروعيته، ومتى كانت هذه المشروعية تتوقف على حسن تقدير الأمور خصوصاً فيما يتعلق بالحريات العامة، وجب أن يكون تدخل الإدارة لأسباب جدية تبرره. فالمناط والحالة هذه في مشروعية القرار الذي تتخذه الإدارة هو أن يكون التصرف لازماً لمواجهة حالات معينة من دفع خطر جسيم يهدد الأمن والنظام، باعتبار هذا الإجراء الوسيلة الوحيدة لمنع هذا الضرر، وللقضاء الإداري حق الرقابة على قيام هذا المسوغ أو عدم قيامه، فإذا ثبتت جدية الأسباب التي تبرر هذا التدخل كان القرار بمنجاة من أي طعن، أما إذا اتضح أن الأسباب لم تكن جدية ولم يكن فيها من الأهمية الحقيقية ما يسوغ التدخل لتقييد الحريات كان القرار باطلاً - لئن كان الحكم المطعون فيه أصاب الحق فيما ردده من هذه المبادئ إلا أن مثار المنازعة هو في مدى انطباق هذه المبادئ على خصوصيتها، وهل كان ثمة سبب يبرر اعتقال المدعيين أم لا.
ومن حيث إنه على أثر قيام نفر من جماعة الإخوان المسلمين المنحلة في أواخر سنة 1948 باغتيال رئيس الحكومة القائمة وقتذاك، وما لابس هذه الجريمة من وقوع حوادث معينة قام بها أفراد هذه الجماعة، رأت الحكومة أن مسئوليتها عن حفظ الأمن وسلامة البلاد وصيانة الأرواح تقتضيها - في سبيل القيام بهذا الواجب - القبض على كل من توسمت أن له نشاطاً خطراً من أفراد هذه الجماعة درءاً لما عساه أن يكون قد بيتته طائفة من أفرادها، وكان هذا الإجراء أمراً لا بد منه حفظاً للأمن ومنعاً لوقوع الجرائم، تسوغه ظروف الحال وملابساته وقتذاك. وليس من شك في أن للحكومة في مثل هذه الحالة الاستثنائية سلطة تقديرية واسعة لتتخذ من التدابير السريعة الحاسمة ما تواجه به الموقف الخطير، إذ يقدر الخطر الذي يهدد الأمن والطمأنينة بقدر ما نطلق حريتها في تقدير ما يجب اتخاذه من إجراءات وتدابير لصون الأمن والنظام، وليس يتطلب من الإدارة في مثل هذه الظروف الخطرة ما يتطلب منها في الظروف العادية من الحيطة والدقة والحذر، حتى لا يفلت الزمام من يدها. ولا جدال في أن ما اتخذ من تدابير في هذا الصدد كانت تقتضيه ظروف الحال، فليس أشد استهتاراً بالأمن، ولا أقوى دلالة على خطر مرتكبي هذه الجريمة ودقة تدبيرهم، ولا أدعي إلى اضطراب الأمور من اغتيال رئيس الحكومة في مقر وظيفته وتحت سمع حراسه وبصرهم وبالرغم من الاحتياطات الشديدة التي اتخذت للمحافظة عليه، ومن قتل وكيل محكمة استئناف مصر مما روع القضاة في محراب العدالة، وغير ذلك من الحوادث الإرهابية، كل ذلك في وقت كانت البلاد فيه في حالة حرب وجيوشها خارج البلاد مما لا يؤمن معه، في مثل هذه الظروف، أن تستغل هذه الفرصة لإضعاف الروح المعنوية في البلاد، وفي وقت هي أشد ما تكون حاجة إلى رفع معنوياتها، فإذا رؤي في هذه الظروف اعتقال الخطرين من أفراد هذه الجماعة أو من يتوسم أن لهم اتصالاً بها وذلك إلى أن تستتب الأمور وينجلي التحقيق؛ فإنه يكون قد قام المسوغ لهذه التدابير؛ إذ ليس أبقى لدواعي تطمين النفوس، وأمكن لاقتلاع منابت القلق في البلاد من توقي الشر، والتحوط من الفوضى، والحزم في معالجة الأمور بالقدر الذي تقتضيه.
ومن حيث إنه يتعين التفرقة في مسئولية الدولة بين ما يصدر من السلطة العامة من تدابير وتصرفات وهي تعمل في ظروف عادية تتاح لها فيها الفرصة الكافية للفحص والتبصر والروية، وبين ما تضطر إلى اتخاذه من قرارات وإجراءات عاجلة تمليها عليها ظروف طارئة ملحة غير عادية لا تمهل للتدبير ولا تحتمل التردد كالحرب والفتنة والوباء والكوارث، ففي الحالة الأولى تقوم مسئوليتها متى وقع ثمة خطأ من جانبها ترتب عليه ضرر للغير وقامت بين الخطأ والضرر رابطة السببية، وتتراوح هذه المسئولية تبعاً لجسامة الخطأ والضرر. أما في الحالة الثانية فالأمر جد مختلف؛ إذ يوزن الخطأ بميزان مغاير، وتقدر المسئولية على هذا الأساس، فما يعد خطأ في الأوقات العادية قد يكون إجراءً مباحاً في أحوال الضرورة الاستثنائية، وتتدرج المسئولية على هذا الأساس، فلا تقوم كاملة إلا إذا ارتكبت الإدارة خطأً استثنائياً جسيماً يرقى إلى مرتبة العسف المتعمد المصطحب بسوء القصد، وتتخفف هذه المسئولية في حالة الخطأ الظاهر غير المألوف الذي يجاوز الخطأ ولا يرتكن على مبرر يسوغه، وتنعدم كلية في حالة الخطأ العادي المتجرد عن التعسف في استعمال السلطة الذي تحمل الإدارة على الوقوع فيه ظروف غير عادية تبتغي به مصلحة عامة تعلو على المصالح الفردية، ذلك أن المصالح الفردية لا تتوازي مع المصلحة العامة توازي مصلحة الفرد مع الفرد، وليس يسوغ أن تقوم الخشية من المسئولية عاتقاً للسلطة العامة عن القيام بواجبها الأسمى في إقرار الأمن والمحافظة على كيان المجتمع وسلامة البلاد.
ومن حيث إنه فضلاً عن أنه ظاهر من كل ما سبق بيانه، أنه قد قام المسوغ الشرعي لما اتخذ من تدابير في شأن اعتقال المدعي الأول الذي كان من جماعة الإخوان المنحلة، مما لا وجه معه لمساءلة الحكومة عن التعويض الذي يطالب به؛ فإنه في 28 من إبريل سنة 1950 صدر القانون رقم 50 لسنة 1950 ناصاً في مادته الثانية على أنه: "لا تسمع أمام أية جهة قضائية أية دعوى أو طلب أو دفع يكون الغرض منه الطعن في أي إعلان أو تصرف أو أمر أو تدبير أو قرار، وبوجه عام أي عمل أمرت به أو تولته السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية أو مندوبوها أو وزير المالية أو أحد الحراس العامون أو مندوبوهم عملاً بالسلطة المخولة لهم بمقتضى نظام الأحكام العرفية، وذلك سواء أكان هذا الطعن مباشر من طريق المطالبة بإبطال شيء مما ذكر أو بسحبه أو بتعديله، أم كان الطعن غير مباشر من طريق المطالبة بتعويض أو بحصول مقاصة أو إبراء من تكليف أو التزام أو برد مال أو باسترجاعه أو باسترداده أو باستحقاقه أو بأي طريق آخر. ولا تسري هذه الأحكام على الدعاوى، المدنية أن الجنائية التي ترفع بناء على طلب وزير المالية عن تصرفات الحراس في شئون وظائفهم". وقد قصد بإصدار هذا القانون - على ما يبين من المناقشات التي دارت بمجلس الشيوخ - إعفاء القائمين على الأحكام العرفية مما يكونون قد اتخذوه أثناء قيام هذه الأحكام من إجراءات تجاوزوا بها حدود القانون، باعتبار أنهم إنما فعلوا ما تقضي به المصلحة العامة، وما يمليه واجب الدفاع عن البلاد أو واجب الحيطة والطمأنينة، والمناط في ذلك كله أن يكون الحاكم العسكري وهو يتخذ هذا الإجراء إنما يدفع به خطراً أو غائلة، وبعبارة أخرى أن يكون رائدة في ذلك المصلحة العامة, وليس من شك في أن الحاكم العسكري عندما صدر أمره باعتقال الخطرين من جماعة الإخوان إنما كان يستهدف مصلحة عامة.
ومن حيث إنه بالنسبة للمدعي الثاني، فإن ما يصدق على المدعي الأول يصدق على حالته؛ إذ اعتقاله قد صدر في الظروف نفسها، وللأسباب ذاتها التي صدر فيها القرار بالنسبة للمدعي الأول، وتحت تأثير الاعتقاد بأن له اتصالاً بتلك الجماعة، ولم يستغرق اعتقاله إلا أياماً معدودات، بالقدر الذي استلزم التحقق من أمره في هذا الخصوص؛ ومن ثم فلا وجه لمساءلة الحكومة بتعويض عن ذلك.
ومن حيث إنه لذلك يكون الحكم المطعون فيه قد وقع مخالفاً للقانون، ويتعين إلغاؤه، والقضاء برفض الدعوى بشقيها.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه، وباختصاص القضاء الإداري بنظر طلب التعويض المقدم من المدعي الثاني، وبرفض الدعوى بشقيها موضوعاً، وألزمت المدعيين بالمصروفات.