مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثانية - العدد الثالث (من أول يونيه إلى آخر سبتمبر سنة 1957) - صـ 1128

جلسة 8 من يونيه سنة 1957
(118)

برياسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة السيد إبراهيم الديواني والإمام الإمام الخريبي وعلي إبراهيم بغدادي ومصطفى كامل إسماعيل المستشارين.

القضية رقم 1828 لسنة 2 القضائية

جنسية مصرية - منحها بحكم الفقرة الخامسة من المادة الأولى من القانون رقم 160 لسنة 1950 للرعايا العثمانيين الذين كانوا يقيمون عادة بالأراضي المصرية في 5/ 11/ 1914 وحافظوا على تلك الإقامة حتى 10/ 3/ 1929 - المقصود بالإقامة في حكم هذه الفقرة - عدم سريانها على الإقامة بالسودان.
إن الفقرة الخامسة من المادة الأولى من القانون رقم 160 لسنة 1950 الخاص بالجنسية المصرية تنص على ما يأتي: "المصريون هم..... (5) الرعايا العثمانيون الذين كانوا يقيمون عادة في الأراضي المصرية في 5 من نوفمبر سنة 1914 وحافظوا على تلك الإقامة حتى تاريخ 10 من مارس سنة 1929 سواء أكانوا بالغين أم قصر". والمشرع، إذ فرض الجنسية المصرية بحكم القانون - بالفقرة سالفة الذكر - على أساس مجرد الإقامة وحدها في البلاد المصرية، إنما فرضها على اعتبار أن من نص عليهم في الفقرة المذكورة، وقد أقاموا بالبلاد منذ 5 من نوفمبر سنة 1914 وحافظوا على تلك الإقامة حتى 10 من مارس سنة 1929، قد اتجهت نيتهم فعلاً إلى التوطن فيها بصفة نهائية، ورتبوا معيشتهم ومصالحهم على هذا الأساس، وأنهم بذلك قد اندمجوا في المجتمع المصري وأحسوا بأحاسيس أهله وشاركوا المصريين مشاعرهم وأمانيهم بحكم تأثرهم بوسط البلاد التي استقروا فيها، وأصبح لهم ما للمصريين وعليهم ما عليهم، يخضعون للقوانين المصرية ويتمتعون بما يتمتع به المصريون من حقوق بلا تمييز أو فارق بينهم. والإقامة في السودان - أياً كانت الروابط والصلات الوثيقة التي تربط البلدين - لا تتوافر فيها كل هذه الاعتبارات التي كانت في الواقع من الأمر هي المناط في فرض الجنسية بقوة القانون على أساس الإقامة وحدها بالبلاد المصرية طوال الفترة التي حددها، فكان يلزم كي تعتبر الإقامة في السودان كالإقامة في مصر قانوناً سواء بسواء - من حيث اكتساب الجنسية المصرية فرضاً - أن يقرر ذلك نص قانوني صريح، ولا يغني عنه العبارة التي وردت في ختام المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 160 لسنة 1950 من أن "تعبير المملكة المصرية يشمل أيضاً الأراضي السودانية دون حاجة لإثبات نص خاص بذلك في القانون ذاته....."؛ ذلك أنه يتضح بجلاء من تقصي المراحل التشريعية لهذا القانون، وتتبع المناقشات البرلمانية في شأنه، أن هذه العبارة إنما كانت للتعبير عما كان يجيش في الصدور وقتذاك، من أنه لا يقبل التفريق بين المصري والسوداني، وعما كان يتمناه الجميع من أن تنبسط الجنسية المصرية على السوداني كأخيه المصري سواء بسواء، ولكن لم يغب عن الأذهان عندئذ أن ثمة من الموانع ما يحول دون جعل تلك الأمنية حقيقة قانونية نافذة ملزمة، فتحاشى المشرع المصري النص على ذلك في القانون ذاته، تفادياً لما يترتب عليه من إشكالات، وهذا واضح بوجه خاص من تطور المناقشات بمجلس الشيوخ، ثم تغيرت الظروف والأوضاع بعد ذلك واستقل السودان، فكان من الطبعي ألا يتعرض القانون رقم 391 لسنة 1956 الخاص بالجنسية المصرية لهذا الأمر، لا في مواده ولا في مذكرته الإيضاحية.


إجراءات الطعن

في 11 من سبتمبر سنة 1956 أودع رئيس هيئة المفوضين طعناً في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري (الهيئة الأولى) بجلسة 24 من يوليه سنة 1956 في الدعوى رقم 3963 لسنة 9 القضائية المرفوعة من يوسف أسعد ناتال ضد وزارة الداخلية، القاضي "بإلغاء القرار الصادر من وزارة الداخلية في 7 من فبراير سنة 1955 بتكليف المدعي بمغادرة البلاد، وإلزام الحكومة بالمصروفات". وطلب - للأسباب التي استند إليها في عريضة الطعن - الحكم "بقبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه، ورفض دعوى المدعي، مع إلزامه بالمصروفات". وقد أعلن الطعن للحكومة في 18 من سبتمبر سنة 1956 وإلى المدعي في 29 من سبتمبر سنة 1956 وعين لنظره جلسة 30 من مارس سنة 1957، وفيما سمعت المحكمة ما رأت سماعه من الإيضاحات، ثم أرجأت النطق بالحكم لجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة، حسبما يبين من الأوراق، تتحصل في أن المدعي أقام الدعوى رقم 3963 لسنة 9 القضائية أمام محكمة القضاء الإداري بصحيفة أودعت سكرتيرية المحكمة في 5 من سبتمبر سنة 1955، قال فيها إنه ولد في حلب سنة 1895؛ ومن ثم فهو من الرعايا العثمانيين، وقد وفد إلى مصر سنة 1909 وحافظ على إقامته فيها إلى سنة 1926، وقد تزوج في سنة 1925 من سيدة مصرية، وفي سنة 1926 سافر إلى السودان وأنشأ شركة تجارية كبيرة، وفي نهاية سنة 1934 أصيب بمرض خطير فحضر إلى مصر للعلاج والاستشفاء، ولما شفى من مرضه عاد إلى السودان لاستئناف نشاطه التجاري. وفي سنة 1947 عاوده المرض فحضر إلى مصر مرة أخرى للاستشفاء، ولما لم تمكنه صحته من الرجوع إلى السودان رتب حياته على الإقامة في مصر على أن يباشر فيها شئونه التجارية في السودان. وقد تسلم المدعي إخطاراً من وزارة الداخلية بمغادرة البلاد في أول سبتمبر سنة 1955. ولما كان المدعي يعتبر مصرياً؛ إذ أنه من الرعايا العثمانيين وقد أقام في مصر منذ سنة 1909 إلى سنة 1955 وتعتبر إقامته في السودان إقامة في مصر، فضلاً عن أن له أخوين حصل كلاهما على الجنسية المصرية، ولما كانت صحته لا تسمح بالعودة إلى السودان، فقد أقام المدعي هذه الدعوى طالباً الحكم أولاً: بوقف تنفيذ قرار الإبعاد الصادر من وزير الداخلية، وثانياً: الحكم بإلغاء القرار المذكور واعتبار المدعي مصرياً وأحقيته في الحصول على شهادة مثبتة لجنسيته المصرية. واحتياطياً منحه إقامة عشر سنوات في مصر حتى يتم شفاؤه. وقد ردت الحكومة على الدعوى بأن المدعي غير معين الجنسية وقد ولد بحلب سنة 1896، وفي 7 من يناير سنة 1954 تقدمت ضده شكوى بأنه يقيم في البلاد بطريقة غير قانونية وأنه لم يجدد إقامته منذ حضوره سنة 1947، وقد تحرر محضر بأقوال المدعي ذكر فيه أنه حضر إلى مصر سنة 1909 هو وعائلته بدون جواز سفر، وأقام بها حتى سنة 1916، ثم سافر إلى السودان وأقام بها حتى سنة 1925؛ حيث حضر إلى مصر وتزوج من سيدة يدعي أنها مصرية وعاد بها إلى السودان، واستخرج سنة 1930 جواز سفر سوداني وأصبح سوداني الجنسية، ثم حضر إلى مصر مرة أخرى سنة 1946، وقرر بالمحضر أنه لا يتذكر إذا كان قد حصل على تأشيرة دخول أم لا. وبالاطلاع على جواز سفره تبين أنه جواز سفر سوداني رقم 9269 صادر من الخرطوم في 14 من فبراير سنة 1948، وليس به أية تأشيرات تفيد حصوله على إقامة بمصر أو على تأشيرة دخول قانونية. وبناء على ذلك نبهت عليه الإدارة بمغادرة البلاد تطبيقاً لنص المادة 9 من المرسوم بقانون رقم 74 لسنة1952؛ حيث لا حق له في الإقامة بالبلاد، وقد غادر البلاد فعلاً في 30 من أغسطس سنة 1954: إلا أنه عاد في أول يناير سنة 1955 وقدم طلباً للحصول على إقامة خاصة له ولزوجته. ولما بحث طلبه تبين أنه لا يستحق الإقامة بالبلاد، فنبه عليه بمغادرة البلاد في 7 من فبراير سنة 1955، فتقدم بعدة تظلمات رفضت جميعها، فطلب إمهاله بحجة أنه مريض فأحيل إلى القومسيون الطبي، فقرر أن حالته لا تمنعه من مغادرة البلاد. وبجلسة أول نوفمبر سنة 1955 قضت المحكمة بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه، ثم بجلسة 24 من يوليه سنة 1956 قضت المحكمة "بإلغاء القرار الصادر من وزارة الداخلية في 7 من فبراير سنة 1955 بتكليف المدعي بمغادرة البلاد، وألزمت الحكومة بالمصروفات". وأقامت المحكمة قضاءها على "أن القانون رقم 160 لسنة 1950 الخاص بالجنسية المصرية قضى في مادته الأولى أن المصريين هم..... (5) الرعايا العثمانيون الذين كانوا يقيمون عادة في الأراضي المصرية في 5 من نوفمبر سنة 1914 وحافظوا على تلك الإقامة حتى تاريخ 10 من مارس سنة 1929 سواء أكانوا بالغين أم قصر. وبتطبيق هذا النص على حالة المدعي على ضوء ما تقدم يتعين اعتباره مصرياً؛ فهو من أصل عثماني دخل البلاد منذ سنة 1909 وحافظ على الإقامة فيها حتى 10 من مارس سنة 1929، ولا يؤثر في ذلك أنه أقام بعض الوقت في السودان؛ لأن الوضع السياسي في هذا التاريخ وحتى صدور القانون رقم 160 لسنة 1950 كان يسمح باعتبار السودان جزءاً من مصر، ليس له كيان مستقل عنها سياسياً، ولم يكن لأهله جنسية خاصة، ومن ثم كانت الإقامة فيه فيما يتعلق باكتساب الجنسية المصرية في حكم الإقامة في مصر سواء بسواء؛ ويؤيد ذلك أن المشرع حرص على إبراز هذا المعنى في المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 160 لسنة 1950...."، وأنه "متى ثبت أن المدعي مصري الجنسية فإن القرار الصادر بإبعاده وتكليفه بمغادرة البلاد في أول سبتمبر سنة 1955 استناداً إلى المرسوم بقانون رقم 74 لسنة 1952 الخاص بإقامة الأجانب يكون مخالفاً للقانون حقيقاً بالإلغاء".
ومن حيث إن الطعن يقوم على أنه "ولئن كانت وجهة النظر المصرية تعتبر السودان جزءاً من مصر، إلا أن هذا الحق الطبعي كانت تنازع الدولة المصرية فيه دولة أجنبية اغتصبت السلطة على هذا الإقليم، وكانت من نتيجة هذه المنازعة أن سيادة القوانين المصرية تعطلت، فلم تكن تمتد إلى إقليم السودان، ولذلك كيف علماء القانون الدولي بحق الحالة في السودان بأنها حالة إقليم متنازع عليه، وقالوا إنه لا يدخل في ملكية الدولتين أو إحداهما، وإنما هو إقليم متنازع عليه منفصل عن إقليم الدولتين تفرد له إدارة خاصة تتولاها هيئة تشترك فيها حكومتا الدولتين اللتين تقومان بالحكم. ومؤدى هذا أن جنسية إحدى الدولتين لا تكون لرعايا هذا الإقليم"، وأنه "لم يرد نص صريح في قوانين الجنسية المصرية يخرج على هذا الأصل المقرر في القانون الدولي، وأن ما جاء في المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 160 لسنة 1950 ليس له قوة التشريع، والأصل أن المذكرة الإيضاحية عمل فردي غير صادر من المشرع فليس من شأنها أن تخلق قاعدة لم يقررها المشرع أو تقيم حكماً خاصاً أو تطلق نصاً مقيداً، وعلى هذا الأساس انحصرت سيادة التشريع المصري على الإقليم المصري بمعناه الضيق واضطرت الحكومة المصرية في 17 من مايو سنة 1902 أن تعقد مع حكومة السودان معاهدة خاصة بتسليم المجرمين. وغني عن البيان أن السيادة المصرية مظهرها حق الدولة في أن تنظم المهاجرة من إقليمها، وأن تستبقى في جنسيتها أفراد رعايا المهاجرين، وأن تكلفهم بدفع الضرائب التي تفرضها عليهم، وأن تطلبهم للخدمة العسكرية، وأن تجندهم للدفاع عنها، وحقها في أن تسن التشريعات اللازمة لها، وأن تخضع لها جميع الأشخاص المقيمين على الإقليم سواء في ذلك الرعايا والأجانب، وكل هذه المظاهر معطلة الأثر بالنسبة لإقليم السودان"، وأنه "لما كانت التشريعات مرتبطاً تطبيقها بتطبيق قانون الجنسية، فإن الإقامة المعتبرة قانوناً هي تلك الإقامة على الإقليم الذي تكون سيادة الدولة عليه كاملة بحيث تملك مراقبة الدخول إليه والإبعاد عنه". وإذ ذهب الحكم المطعون فيه غير هذا المذهب فإنه يكون قد خالف القانون.
ومن حيث إنه يبين من الأوراق أنه في 7 من يناير سنة 1954 قدمت شكوى لإدارة الجوازات والجنسية بأن المدعي حضر إلى مصر من السودان بتأشيرة صالحة لمدة أربعة أشهر، وأنه استمر في الإقامة في البلاد دون ترخيص بذلك من الجهات المختصة، وقد جرى البحث عن محل إقامة المدعي إلى أن عثر عليه، وفي محضر محرر في 20 من مارس سنة 1954 سئل عما ورد بالشكوى فقرر ما يأتي "أنا حضرت سنة 1909 من سوريا مع عائلتي بدون جواز سفر واستمرت إقامتي بمصر إلى سنة 1916، ثم سافرت إلى السودان وأقمت به حتى سنة 1925 كنت أزور خلال هذه الفترة مصر، ثم تزوجت من مصرية وأخذتها وعدت إلى السودان واستخرجت جواز سفر سوداني سنة 1930 بناء على إقامتي الطويلة بالسودان وأصبحت سوداني الجنسية، ثم استمرت إقامتي حتى سنة 1946 بالسودان، وحضرت بجواز سفر سوداني إلى مصر ولا أتذكر إذا كنت حصلت على تأشيرة بالدخول أم لا، والمهم أنى أنا حضرت إلى مصر سنة 1946 ومكثت بها إلى الآن. وكان جواز سفري الأول قد انتهى فأرسلته بالبريد إلى الخرطوم لأحد أصدقائي وقام باستخراج جواز سفر جديد باسمي سنة 1948 وأرسله إليَّ بالبريد". ثم سئل عن مهنته ومم يتعيش فقال "أنا ليس لي عمل بمصر وأما بالسودان فلي محل تجارة مني فاتورة ببلدة النهود، ولي شريك هناك موجود بالمحل". وقد وجد معه جواز سفر سوداني رقم 9269 صادر بالخرطوم في 14 من فبراير سنة 1948 باسمه وليس على الجواز أية تأشيرة تفيد حصوله على إقامة بالبلاد أو دخوله بطريقة قانونية، وقد أخلى سبيله بالضمان المالي، وكلف بالسفر خلال أسبوعين، ونظراً لانتهاء صلاحية جواز سفره فقد طلب المدعي من وكالة حكومة السودان بالقاهرة تجديد جواز سفره فردت عليه في 27 من مارس سنة 1954 بأنها تأسف لعدم تجديده لأنه لم يتحصل على الجنسية السودانية، وأنه يمكنه الاتصال مباشرة بوزارة الداخلية السودانية. وفي 24 من إبريل سنة 1954 قدم المدعي طلب امتداد إقامة لمدة ستة أشهر للعلاج، وذكر في الطلب أنه سوداني مسيحي ومهنته تاجر بالنهود وأنه ليس له أي عمل في مصر سوى أملاكه بالسودان وأنه حضر إلى مصر سنة 1947 عن طريق الشلال. وفي 4 من أغسطس سنة 1954 طلب منحه تذكرة مرور مصرية ليتمكن من السفر إلى السودان لتسوية موضوع حصوله على جواز سفر سوداني حيث كان يقيم منذ سنة 1916 إلى أن حضر إلى مصر سنة 1947، فرخص له وغادر الشلال في 30 من أغسطس سنة 1954. وفي أول يناير سنة 1955 عاد المدعي إلى مصر، وتقدم بطلب للحصول على إقامة خاصة له ولزوجته، ولما كانت التعليمات تقضي بعدم الترخيص لمن كلف بالسفر بالدخول خلال سنة من مغادرته البلاد فقد كلف المدعي في 7 من فبراير سنة 1955 بمغادرة البلاد خلال أسبوعين وقد تعهد بتنفيذ ذلك في المهلة المحددة له. وفي 19 من مارس سنة 1955 تقدم المدعي بطلب إقامة لمدة عشر سنوات، وكرر في طلبه ما سبق أن ذكره من حضوره إلى مصر سنة 1909 وإقامته فيها إلى سنة 1926 - وقد سبق أن قرر أنه أقام فيها إلى سنة 1916 - ثم سفره إلى السودان ثم حضوره إلى مصر سنة 1947، وأيد أقواله بشهادة صادرة من بطريركية الأرمن الكاثوليك في 16 من فبراير سنة 1955 بأنه قدم مع والديه إلى مصر سنة 1909 وأنه كان مقيماً بالقاهرة مع والدته طول المدة التي كانت فيها الجمعية الخيرية تتولى إعانة هذه العائلة، أي من سنة 1909 إلى يونيه سنة 1926، وأن المدعي منذ زواجه في سنة 1925 حتى تاريخ تحرير الشهادة كان مقيماً بالقاهرة، إلا أنه كان يتردد بين حين وآخر على السودان لمباشرة أعماله. كما قدم شهادة من كنيسة الأرمن الكاثوليك بحلب تفيد أنه ولد في حلب سنة 1896، وقد رأت الإدارة إمهاله شهراً إلى أن تبحث حالته، ثم انتهت بعد بحث حالته إلى أن إقامته المنقطعة بمصر لا تشفع له في الإقامة فكلف بمغادرة البلاد.
ومن حيث إنه يبين من استظهار حالة المدعي، على النحو السابق تفصيله، أنه ولد في حلب سنة 1896، وحضر إلى مصر مع والديه سنة 1909، وأنه سافر إلى السودان في سنة 1916 بنية التوطن نهائياً فيه؛ وآية ذلك أنه أقام في السودان إقامة مستمرة منذ سنة 1916 إلى سنة 1947 دون أن يحضر إلى مصر، وأنه اشترك خلال هذه المدة في تأسيس شركة تجارية، واتسع نشاطه التجاري في تلك البلاد - على ما يبين من الشهادات المقدمة لبعض التجار بمصر والسودان - ونمى ثروته، ولم يحضر إلى مصر في سنة 1947 إلا بقصد العلاج، كما حصل على جواز سفر سوداني، وتمسك في جميع مراحل النزاع بينه وبين إدارة الجوازات والجنسية بأنه سوداني الجنسية، بل إنه في طلبه الأخير الذي قدمه للإدارة في 19 من مارس سنة 1955 التمس منحه إقامة لمدة عشر سنوات، وهذه الإقامة لا يطلبها إلا الأجنبي.
ومن حيث إن الفقرة الخامسة من المادة الأولى من القانون رقم 160 لسنة 1950 الخاص بالجنسية المصرية تنص على ما يأتي: "المصريون هم.... (5) الرعايا العثمانيون الذين كانوا يقيمون عادة في الأراضي المصرية في 5 من نوفمبر سنة 1914 وحافظوا على تلك الإقامة حتى تاريخ 10 من مارس سنة 1929 سواء أكانوا بالغين أم قصر".
ومن حيث إن مثار هذه المنازعة هو ما إذا كانت إقامة المدعي بالسودان في الفترة من سنة 1916 إلى سنة 1947 تعتبر إقامة في البلاد المصرية؛ ومن ثم يكون المدعي قد توافرت في حقه شروط الفقرة الخامسة من المادة الأولى سالفة الذكر، وهي الإقامة في البلاد من 5 من نوفمبر سنة 1914 إلى 10 من مارس سنة 1929، أم أنها لا تعتبر كذلك.
ومن حيث إن المشرع، إذ فرض الجنسية المصرية بحكم القانون - بالفقرة سالفة الذكر - على أساس مجرد الإقامة وحدها في البلاد المصرية، إنما فرضها على اعتبار أن من نص عليهم في الفقرة المذكورة، وقد أقاموا بالبلاد منذ 5 من نوفمبر سنة 1914 وحافظوا على تلك الإقامة حتى 10 من مارس سنة 1929، قد اتجهت نيتهم فعلاً إلى التوطن فيها بصفة نهائية ورتبوا معيشتهم ومصالحهم على هذا الأساس، وأنهم بذلك قد اندمجوا في المجتمع المصري وأحسوا بأحاسيس أهله وشاركوا المصريين مشاعرهم وأمانيهم بحكم تأثرهم بوسط البلاد التي استقروا فيها وأصبح لهم ما للمصريين وعليهم ما عليهم، يخضعون للقوانين المصرية ويتمتعون بما يتمتع به المصريون من حقوق بلا تمييز أو فارق بينهم. والإقامة في السودان - أياً كانت الروابط والصلات الوثيقة التي تربط البلدين - لا تتوافر فيها كل هذه الاعتبارات التي كانت في الواقع من الأمر هي المناط في فرض الجنسية بقوة القانون، على أساس الإقامة وحدها بالبلاد المصرية طوال الفترة التي حددها فكان يلزم كي تعتبر الإقامة في السودان كالإقامة في مصر قانوناً سواء بسواء - من حيث اكتساب الجنسية المصرية فرضاً - أن يقرر ذلك نص قانوني صريح، ولا يغني عنه العبارة التي وردت في ختام المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 160 لسنة 1950 من أن "تعبير المملكة المصرية يشمل أيضاً الأراضي السودانية دون حاجة لإثبات نص خاص بذلك في القانون ذاته...."؛ ذلك أنه يتضح بجلاء من تقصي المراحل التشريعية لهذا القانون وتتبع المناقشات البرلمانية في شأنه، أن هذه العبارة إنما كانت للتعبير عما كان يجيش في الصدور وقتذاك؛ من أنه لا يقبل التفريق بين المصري والسوداني، وعما كان يتمناه الجميع من أن تنبسط الجنسية المصرية على السوداني كأخيه المصري سواء بسواء، ولكن لم يغب عن الأذهان عندئذ أن ثمة من الموانع ما يحول دون جعل تلك الأمنية حقيقة قانونية نافذة ملزمة، فتحاشى المشرع المصري النص على ذلك في القانون ذاته؛ تفادياً لما يترتب عليه من إشكالات. وهذا واضح بوجه خاص من تطور المناقشات بمجلس الشيوخ بجلسة 9 من مايو سنة 1950؛ إذ بعد أن تمسك أحد الشيوخ بوجوب النص على ذلك في القانون ذاته حتى تكون له قوته الملزمة النافذة أصر المقرر على الرأي العكسي، وحسم الموقف شيخ آخر عندما بصر المجلس بالنتائج بقوله "لأن هذه مسألة لها ذيولها فحكومة السودان لم تهتد حتى الآن إلى تعريف لكلمة سوداني وكثيراً ما حدث أن دخل السودان من البلاد المجاورة عدد من أهاليها وأقاموا به فهل يعتبر هؤلاء... سودانيين أو غير سودانيين... لذلك أرى أن لا داعي للنص على هذا في مشروع القانون؛ لأنه يوقعناً في إشكالات عديدة في المستقبل..."، وإزاء ذلك لم يسع الشيخ الذي كان متمسكاً بوجوب النص في صلب القانون إلا أن يعدل عن موقفه، وإن كان على مضض على حسب تعبيره، واكتفى بإثبات تلك العبارة المعبرة وقتذاك عما كان يجيش في الصدور في محاضر اللجنة البرلمانية وعلى لسان مقررها، وبترديدها في المذكرة الإيضاحية، لا على أنها حقيقة قانونية لها قوتها الملزمة النافذة، ولكن كأمنية كان يتمناها الجميع، كما كانوا يتمنون وقتذاك أن تزول الظروف المانعة من تحقيقها. وقد تغيرت الظروف والأوضاع بعد ذلك واستقل السودان الشقيق، فكان من الطبعي ألا يتعرض القانون رقم 391 لسنة 1956 الخاص بالجنسية المصرية لهذا الأمر، لا في مواده ولا في مذكرته الإيضاحية.
ومن حيث إنه يخلص من كل ما تقدم أن ادعاء المدعي، وهو سوري الأصل، اكتسابه الجنسية المصرية على أساس اعتبار إقامته في السودان كإقامته في مصر سواء بسواء في هذا الشأن، لا يقوم على سند أصيل من القانون، ويكون الحكم - والحالة هذه - قد وقع مخالفاً للقانون فيتعين إلغاؤه، والقضاء برفض الدعوى.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبرفض الدعوى، وألزمت المدعي بالمصروفات.