مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثانية - العدد الثالث (من أول يونيه إلى آخر سبتمبر سنة 1957) - صـ 1335

جلسة 29 من يونيه سنة 1957
(137)

برياسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة السيد إبراهيم الديواني والإمام الإمام الخريبي وعلي إبراهيم بغدادي ومصطفى كامل إسماعيل المستشارين.

القضية رقم 161 لسنة 3 القضائية

( أ ) طعن - شمول الحكم المطعون فيه لشقين أحدهما بالإلغاء والآخر بالتعويض - الطعن في أحد الشقين فقط أمام المحكمة الإدارية العليا يثير المنازعة برمتها ما دام الطلبان مرتبطين ارتباطاً جوهرياً - كلاهما يقوم على أساس قانوني واحد هو عدم مشروعية القرار الإداري - الإلغاء هو طعن بالبطلان بطريق مباشر، والتعويض طعن بالبطلان بالطريق غير المباشر.
(ب) رقابة القضاء الإداري - القوانين والقرارات التنظيمية العامة التي تمت في عهد الثورة قبل صدور الدستور - تمتعها بحصانة تعصمها من السقوط أو من المجادلة في قوة نفاذها - القرارات التي صدرت من مجلس قيادة الثورة وما يتصل بها من قوانين وقرارات - تمتعها بنفس الحصانة - المادتان 190 و191 من الدستور - سريانهما على الدعاوى القائمة.
(جـ) دستورية القانون - اعتبار القانون غير دستوري إذا خالف نصاً دستورياً قائماً أو خرج على روحه ومقتضاه.
(د) دستورية القانون - النص في القانون رقم 600 لسنة 1953 على حرمان الموظف المفصول من رفع دعوى الإلغاء ودعوى التعويض - النعي عليه بأنه غير دستوري لا يستقيم إلا إذا كان حق الموظف في الوظيفة العامة هو من الحقوق التي يكفلها الدستور ذاته، وأن وسيلة اقتضائه عن طريق القضاء يقررها الدستور كذلك - إذا كان الحق ووسيلة اقتضائه منظمين بالقانون، فلا وجه للنعي على مثل هذا النص بعدم دستوريته.
(هـ) موظف - علاقته بالحكومة علاقة تنظيمية تحكمها القوانين واللوائح - تعيينه بالوظيفة لا يخلقها ولا يرتب له حقاً فيها على غرار حق الملكية؛ إذ هي ملك للدولة - بقاؤه في الوظيفة هو وضع شرطي منوط بصلاحيته للنهوض بأعبائها، وليس حقاً ينهض إلى مرتبة الحقوق الدستورية المنصوص عليها في الباب الثالث من الدستور - للإدارة أن تفصل من تراه أصبح غير صالح للنهوض بالوظيفة ما دام ذلك قد تم بالشروط والأوضاع التي قررها القانون وبغير إساءة استعمال السلطة.
(و) موظف - فصله - حق الحكومة في ذلك هو حق أصيل مرده إلى أمرين: أحدهما طبعي، والآخر تشريعي - دليل ذلك.
(ز) موظف - فصله بغير الطريق التأديبي - القانون رقم 600 لسنة 1953 الذي أجاز فصل الموظفين من الدرجة الثانية وما فوقها بشروط معينة - تقريره مبدأ كان مقرراً في ظل الأوضاع السابقة على صدوره - استحداثه ضمانات للموظف.
(ح) دستورية القانون - حرمان الناس كافة من الالتجاء للقضاء للانتصاف يعتبر مصادرة لحق التقاضي - وجوب التفرقة بين المصادرة المطلقة لحق التقاضي عموماً وبين تحديد دائرة اختصاص القضاء: الأولى تخالف الدستور لانطوائها على تعطيل وظيفة السلطة القضائية التي أنشأتها نصوصه، الثاني لا مخالفة فيه للدستور الذي تقضي نصوصه بأن القانون هو الذي يرتب جهات القضاء ويحدد اختصاصاتها - سرد لبعض النصوص التي تعتبر محددة لدائرة الاختصاص - المادة الثانية من القانون رقم 600 لسنة 1953 التي حرمت الموظفين المفصولين تطبيقاً لأحكامه من رفع دعوى الإلغاء أو التعويض - عدم اعتبارها من النصوص المصادرة لحق التقاضي، بل من تلك المحددة لدائرة اختصاص القضاء.
(ط) دستورية القانون - الإخلال بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء مخالف للدستور - المقصود بالمساواة عدم التمييز بين أفراد الطائفة الواحدة إذا تماثلت مراكزهم القانونية - المادة الثانية من القانون رقم 600 لسنة 1953 لا تنطوي على إخلال بمبدأ المساواة سالف الذكر.
(ى) دعوى - المادة الثانية من القانون رقم 600 لسنة 1953 - نصها على عدم جواز الطعن بإلغاء أو وقف تنفيذ القرارات الصادرة بالاستناد إليه، وعدم جواز سماع الدعاوى الخاصة بالتعويض عنها - عدم التفرقة في ذلك بين من طبق القانون في حقه تطبيقاً سليماً ومن لم يطبق هكذا في حقه؛ إذ البحث في ذلك دخول في الموضوع الذي يتعين أن يسبقه البحث في مسألة الاختصاص.
1 - إن الدعوى إذا كانت ذات شقين أحدهما بالإلغاء والآخر بالتعويض، فإن الطعن في شق منهما يثير المنازعة برمتها؛ ما دام الطلبان مرتبطين أحدهما بالآخر ارتباطاً جوهرياً باعتبارهما يقومان على أساس قانوني واحد، هو عدم مشروعية القرار الإداري، وأن الطعن بالإلغاء هو طعن فيه بالبطلان بالطريق المباشر، وطلب التعويض عنه هو طعن فيه بالبطلان بالطريق غير المباشر. وآية ذلك أنه لا يستقيم الحكم بالتعويض على أساس أن القرار غير مشروع مع عدم الحكم بالإلغاء على أساس أن القرار مشروع؛ إذ مؤدى ذلك قيام حكمين متعارضين متفرعين عن أساس قانوني واحد وهو ما لا يجوز، وما لا مندوحة عن التردي فيه إذا لم يثر الطعن في أحد الشقين المنازعة برمتها. ومن ثم يجوز للمحكمة الإدارية العليا - وهي في مقام فحص الطعن المرفوع عن شق الحكم الخاص بالتعويض - أن نتناول بالنظر والتعقيب الحكم المطعون فيه في شقه الخاص بعدم جواز سماع طلب الإلغاء الذي لم تطعن فيه هيئة المفوضين ولكن آثاره المطعون عليه.
2 - نصت المادة 190 من دستور جمهورية مصر على أن "كل ما قررته القوانين والمراسيم والأوامر واللوائح والقرارات من أحكام قبل صدور هذا الدستور يبقى نافذاً، ومع ذلك يجوز إلغاؤها أو تعديلها وفقا للقواعد والإجراءات المقررة في هذا الدستور"، كما نصت المادة 191 منه على أن "جميع القرارات التي صدرت من مجلس قيادة الثورة، وجميع القوانين والقرارات التي تتصل بها وصدرت مكملة أو منفذة لها، وكذلك كل ما صدر من الهيئات التي أمر المجلس المذكور بتشكيلها من قرارات أو أحكام، وجميع الإجراءات والأعمال والتصرفات التي صدرت من هذه الهيئات أو من أية هيئة أخرى من الهيئات التي أنشئت بقصد حماية الثورة ونظام الحكم، لا يجوز الطعن فيها أو المطالبة بإلغائها أو التعويض عنها بأي وجه من الوجوه وأمام أية هيئة كانت". ويبين من ذلك أن الدستور أراد أن يضفي حصانة دستورية على حركة التشريع السابقة عليه التي تمت في عهد الثورة، سواء أكانت بالطريق الأصلي أي بمقتضى قوانين، أم بالطريق الفرعي أي بمقتضى قرارات تنظيمية عامة - حصانة تعصمها من السقوط أو من المجادلة في قوة نفاذها؛ لحكمة تتصل بالمصالح العليا للوطن، بمراعاة أن تلك القوانين واللوائح إنما تمت في عهد ثورة تستهدف الإصلاح الشامل بشكل وفي أوضاع وظروف استثنائية لا تقاس فيها الأمور بمقياس الأوضاع العادية، فأضفى عليها تلك الحصانة الدستورية على اعتبار أنها من الأدوات التي استعملتها الثورة في سبيل أوجه الإصلاح الذي قامت من أجله. وللحكمة عينها حصن الدستور كذلك جميع القرارات التي صدرت من مجلس قيادة الثورة وجميع القوانين والقرارات التي تتصل بها وتكون مكملة أو منفذة لها؛ وذلك بمنع الطعن فيها بأي وجه من الوجوه وأمام أية هيئة كانت. وغني عن البيان أن نصي الدستور المشار إليهما يسريان على الدعاوى المنظورة باعتبار أن هذا الدستور أصبح القانون الأعلى.
3 - إن القانون لا يكون غير دستوري إلا إذا خالف نصاً دستورياً قائماً أو خرج عن روحه ومقتضاه؛ ومرد ذلك إلى أن الدستور - وهو القانون الأعلى فيما يقرره - لا يجوز أن يهدره قانون وهو أداة أدنى.
4 - إذا كان النعي بعدم دستورية المادة الثانية من القانون رقم 600 لسنة 1953 يقوم على أنها تنطوي على مصادرة لحق الموظف في تعويضه عن فصله، سواء بالطريق العيني وهو الإلغاء، أو بطريق المقابل وهو التعويض عن فصله، إذا كان القرار قد وقع مخالفاً للقانون، وعلى مصادرة لحقه في الانتصاف في هذا الشأن عن طريق القضاء، وعلى إخلال بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء - فإن هذا النعي لا يستقيم إلا إذا كان حق الموظف في الوظيفة العامة هو من الحقوق التي يكفلها الدستور ذاته، وأن وسيلة اقتضائه عن طريق القضاء هي وسيلة يقررها الدستور كذلك، وأن ثمة حقاً إخلالاً بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء في هذا الشأن، إذن لا يجوز عندئذ أن يهدر القانون ما يقرره الدستور. أما إذا كان هذا الحق هو مما ينشئه القانون أو يلغيه، وكذلك إذا كانت وسيلة اقتضائه هي مما ينظمه القانون على الوجه الذي يراه، كما إذا كان القانون لا يقوم على تمييز بين أفراد طائفة واحدة تماثلت مراكزهم القانونية، فلا يكون ثمة وجه للنعي بعدم دستوريته.
5 - إن علاقة الموظف بالحكومة هي علاقة تنظيمية تحكمها القوانين واللوائح، فمركز الموظف هو مركز قانوني عام يجوز تغييره في أي وقت، ومرد ذلك إلى أن الموظفين هم عمال المرافق العامة، وبهذه المثابة يجب أن يخضع نظامهم القانوني للتعديل والتغيير وفقاً لمقتضيات المصلحة العامة لحسن سير تلك المرافق؛ ذلك أن الوظيفة العامة هي مجموعة من الاختصاصات يتولاها الموظف لصالح المرفق العام ويعهد بها إليه ليساهم في شئونه في سبيل تحقيق الأغراض المنشودة منه للمصلحة العامة التي تقوم الدولة على رعايتها. وتقليد الوظيفة العامة هو إسناد اختصاصاتها إلى الموظف الذي يولاها، وتعيين الموظف أياً كانت أداته لا يخلق الوظيفة، ولا يرتب للموظف حق فيها، على غرار حق الملكية مثلاً؛ إذ هي ملك للدولة وإنما يقتصر أثر التعيين على وضع الموظف في مركز قانوني عام، وإخضاعه لما تقرره القوانين واللوائح الخاصة بالوظيفة من قواعد وأحكام، وإفادته من مزاياها. ولما كانت الوظيفة تكليفاً للقائم بها كأصل مسلم رددته المادة 28 من دستور جمهورية مصر، وهذا التكليف يتطلب من الموظف أن يكون صالحاً للقيام به، فإن بقاءه في الوظيفة - وهو رهين بهذا المناط - ليس حقاً ينهض إلى مرتبة الحقوق الدستورية، تلك الحقوق المنصوص عليها في الباب الثالث من الدستور المذكور، ولا يقاس على حق الملكية مثلاً الذي صانته النصوص الدستورية بما يكفل عدم نزعه إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل وفقاً للقانون، بل هو وضع شرطي منوط بصلاحيته للنهوض بأعباء الوظيفة العامة، وهو أمر يخضع لتقدير الحكومة القوامة على تسيير المرافق العامة، فتفصل من تراه أصبح غير صالح لذلك، دون الاحتجاج بأن له أصل حق في البقاء في الوظيفة، ما دام ذلك قد تم بالشروط والأوضاع التي قررها القانون وبغير إساءة استعمال السلطة.
6 - إن حق الحكومة في فصل الموظفين هو حق أصيل لا شبهة فيه مرده إلى أصلين: (الأول) أصل طبعي رددته النصوص الدستورية هو وجوب هيمنة الحكومة على تسيير المرافق العامة على الوجه الذي يحقق المصلحة العامة؛ فنصت المادة 57 من دستور سنة 1923 على أن "مجلس الوزراء هو المهيمن على مصالح الدولة"، كما نصت المادة 44 منه على أن رئيس الدولة وقتذاك يولي ويعزل الموظفين على الوجه المبين بالقوانين، ونصت المادة 140 من دستور جمهورية مصر على أن "يعين رئيس الجمهورية الموظفين المدنيين والعسكريين والممثلين السياسيين ويعزلهم على الوجه المبين في القانون". و(الثاني) أصل تشريعي يستند إلى الأوامر العالية الصادرة في 10 من إبريل سنة 1883 و24 من مايو سنة 1885 و19 من فبراير سنة 1887 والدكريتو الصادر في 24 من ديسمبر سنة 1888 والقانون رقم 5 لسنة 1909 بشأن المعاشات الملكية والمرسوم بقانون رقم 37 لسنة 1929 الخاص بالمعاشات الملكية، والمادة 107 من القانون رقم 210 لسنة 1951 بشأن نظام موظفي الدولة التي عددت أسباب انتهاء خدمة الموظفين المعينين على وظائف دائمة، وذكرت من بينها في بند (4) العزل أو الإحالة إلى المعاش بقرار تأديبي، وفي البند (6) الفصل بمرسوم أو أمر جمهوري أو بقرار خاص من مجلس الوزراء أي بغير الطريق التأديبي، وهذا الفصل بالطريق الأخير هو الذي أشارت إليه المادة الرابعة بند (5) من القانون رقم 112 لسنة 1946 الخاص بإنشاء مجلس الدولة، والمادة الثالثة بند (5) من القانون رقم 9 لسنة 1949 الخاص بمجلس الدولة، والمادة الثامنة بند خامساً من القانون رقم 165 لسنة 1955 في شأن تنظيم مجلس الدولة.
7 - إن القانون رقم 600 لسنة 1953 عندما أجاز في مادته الأولى إحالة الموظف إلى المعاش قبل بلوغ السن المقررة لترك الخدمة إذا كان من الموظفين من الدرجة الثانية فما فوقها بناء على اقتراح لجنة وزارية يشكلها مجلس الوزراء متى تبين عدم صلاحيته للوظيفة، مع ضم مدة خدمة لا تجاوز السنة وأداء الفرق بين المرتب والمعاش مشاهرة، وذلك خلال الفترة التي حددها من 3 من يناير سنة 1954 إلى 14 من يناير سنة 1954 - إن القانون المذكور لم يستحدث جديداً في شأن جواز إحالة الموظف إلى المعاش بغير الطريق التأديبي، بل ما استحدثه هو إيجاد ضمانة لم تكن مقررة له من قبل بجعل اقتراح فصله منوطاً أولاً بلجنة وزارية تفحص حالته وتبدي رأيها في صلاحيته للبقاء في الوظيفة من عدمه، كما رتب له حقوقاً مالية ما كان ليظفر بها لولا النص عليها؛ ذلك أنه إذا كانت الحكومة تملك من الأصل فصل الموظفين بغير الطريق التأديبي لعدم صلاحيتهم للبقاء في الوظيفة، وتم ذلك وفقاً للقانون، وخلا من إساءة استعمال السلطة، كان القرار سليماً مبرءاً من العيب، مما لا وجه معه لمساءلة الحكومة بتعويض عنه.
8 - إن نص المادة الثانية من القانون رقم 600 سنة 1953، وإن جاء مضيقاً لاختصاص القضاء مانعاً إياه من نظر المنازعات المشار إليها بذلك النص إلغاء أو تعويضاً، إلا أنه لا وجه للنعي عليه بعدم الدستورية بدعوى مصادرته لحق التقاضي؛ ذلك أنه تجب التفرقة بين المصادرة المطلقة لحق التقاضي عموماً وبين تحديد دائرة اختصاص القضاء. وإذا كان لا يجوز من الناحية الدستورية حرمان الناس كافة من الالتجاء إلى القضاء للانتصاف؛ لأن في ذلك مصادرة لحق التقاضي، وهو حق كفل الدستور أصله؛ إذ تكون مثل هذه المصادرة المطلقة بمثابة تعطيل وظيفة السلطة القضائية، وهي سلطة أنشأها الدستور لتمارس وظيفتها في أداء العدالة مستقلة عن السلطات الأخرى - لئن كان ذلك كذلك، إلا أنه لا يجوز الخلط بين هذا الأمر وبين تحديد دائرة اختصاص القضاء بالتوسيع أو التضييق؛ لأن النصوص الدستورية تقضي بأن القانون هو الذي يرتب جهات القضاء ويعين اختصاصاتها، وعلى هذا نصت المادة 125 من دستور سنة 1923 والمادة 176 من دستور جمهورية مصر، وينبني على ذلك أن كل ما يخرجه القانون من ولاية القضاء يصبح معزولاً عن نظره، وهذا أصل من الأصول المسلمة. وقديماً قالوا إن القضاء يتخصص بالزمان والمكان والخصومة؛ وعلى هذا الأصل الدستوري صدرت التشريعات الموسعة أو المضيقة لولاية القضاء في جميع العهود وفي شتى المناسبات، كالنصوص التشريعية المانعة من النظر في أعمال السيادة سواء بالإلغاء أو بالتعويض، وكالنصوص التي كانت تمنع القضاء من النظر في طلبات إلغاء القرارات الإدارية أو وقف تنفيذها، إلى أن أنشئ مجلس الدولة، فجعل ذلك من اختصاصه على الوجه المحدد بقانونه، وكتلك النصوص التي تمنع سماع الدعاوى في شأن تصرفات السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية بعد انتهائها إلغاء أو تعويضاً، وكالمادة 13 من المرسوم بقانون رقم 178 لسنة 1952 الخاص بالإصلاح الزراعي التي تمنع جميع جهات القضاء من النظر في طلبات إلغاء أو وقف تنفيذ قرارات الاستيلاء أو في المنازعات المتعلقة بملكية الأطيان المستولى عليها، وكالمادة السابعة من المرسوم بقانون رقم 181 لسنة 1952 الخاص بفصل الموظفين بغير الطريق التأديبي التي تمنع القضاء الإداري من نظر طلبات إلغاء قرارات الفصل أو وقف تنفيذها، وكالمادة 14 من القانون رقم 598 لسنة 1953 بشأن أموال أسرة محمد علي المصادرة التي تمنع المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها من سماع الدعاوى المتعلقة بتلك الأموال، وكالمادة 291 من القانون رقم 345 لسنة 1956 في شأن تنظيم الجامعات المصرية التي تمنع القضاء الإداري من النظر في طلبات إلغاء أو وقف تنفيذ القرارات الصادرة من الهيئات الجامعية في شئون طلابها - ولا شبهة في دستورية هذه التشريعات جميعاً؛ ما دام القانون هو الأداة التي تملك بحكم الدستور ترتيب جهات القضاء وتعيين اختصاصاتها؛ ومن ثم فله أن يضيقها أو أن يوسعها بالشروط والأوضاع التي يقررها.
9 - لا وجه للنعي على المادة الثانية من القانون رقم 600 لسنة 1953 بأنها تنطوي على إخلال بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء؛ لأن المقصود بالمساواة في هذا الشأن هو عدم التمييز بين أفراد الطائفة الواحدة إذا تماثلت مراكزهم القانونية، ولم يتضمن القانون المشار إليه أي تمييز من هذا القبيل بين الموظفين الذين تنطبق عليهم أحكامه.
10 - إن نص المادة الثانية من القانون رقم 600 لسنة 1953 جاء صريحاً قاطعاً في عدم جواز الطعن بإلغاء أو وقف تنفيذ القرارات الصادرة بالاستناد إليه، وفي عدم جواز سماع الدعاوى الخاصة بالتعويض عنها أمام جميع المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، لا فرق في ذلك بين من طبقت الإدارة القانون في حقه تطبيقاً سليماً وبين من عساها تكون قد أخطأت في تطبيقه بالنسبة إليه؛ وذلك لحكمة واضحة؛ إذ المقصود من هذا المنع هو سد باب المنازعات القضائية في هذا الشأن، استقراراً للدولاب الحكومي. وإذا كان الشارع قد نص في المادة الأولى من هذا القانون على أن الفصل يلحق من تتبين عدم صلاحيته للوظيفة من الموظفين من الدرجة الثانية فما فوقها، فليس مفاد ذلك أن الاختصاص القضائي بنظر المنازعة أو عدم اختصاصه بها - والاختصاص مسألة فرعية سابقة على نظر الموضوع - يتوقف على تبين ما إذا كان الموظف صالحاً أو غير صالح، وهي مسألة من صميم الموضوع، بل الظاهر أن هذا بعيد عن مقصود الشارع الذي أراد عزل جميع جهات القضاء عن نظر هذه المنازعات؛ سداً لهذا الباب؛ للحكمة التي ارتآها. أما الخطاب في شأن ما نصت عليه المادة الأولى فموجه إلى السلطات التنفيذية التي تصدر قرارات الفصل بالتطبيق لأحكام هذه المادة، وإذا أخطأت في هذا التطبيق فلا تكون مساءلتها عن ذلك عن طريق القضاء بعد إذ امتنع عليه النظر في هذا الشأن بنص المادة الثانية، وإنما تكون مساءلتها بغير الوسيلة القضائية، كالالتجاء إلى السلطات التي أصدرت القرار أو السلطات الأعلى.


إجراءات الطعن

في 15 من يناير سنة 1957 أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة سكرتيرية المحكمة عريضة طعن أمام هذه المحكمة قيد بجدولها تحت رقم 161 لسنة 3 القضائية في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري (الهيئة الثانية) بجلسة 21 من نوفمبر سنة 1956 في الدعوى رقم 7982 لسنة 8 القضائية المقامة من السيد/ محمد عبد المنعم محمد ضد مجلس الوزراء ووزارة الخارجية، القاضي "بعدم قبول الدعوى بالنسبة لطلب إلغاء القرار المطعون فيه، وبإلزام الحكومة بأن تدفع للمدعي على سبيل التعويض الشامل مبلغ ألف جنيه مصري والمصروفات، ومبلغ 500 قرش مقابل أتعاب المحاماة". وطلب السيد رئيس هيئة المفوضين للأسباب التي استند إليها في صحيفة طعنه "قبول هذا الطعن شكلاً، وفي الموضوع إلغاء الحكم المطعون فيه فيما قضى بإلزام الحكومة بأن تدفع للمدعي على سبيل التعويض الشامل مبلغ 1000 جنيه مصري والمصروفات ومبلغ 500 قرش مقابل أتعاب المحاماة، والقضاء برفض الدعوى في هذا الشق من طلبات المدعي، وإلزامه مصروفات الدعوى". وقد أعلن هذا الطعن إلى كل من مجلس الوزراء ووزارة الخارجية في 4 و14 من فبراير سنة 1957، وإلى المطعون عليه في 11 منه، وعين لنظره أمام هذه المحكمة جلسة 30 من مارس سنة 1957. وقد أودعت الحكومة في 19 من مارس سنة 1957 و8 من إبريل سنة 1957 مذكرتين بملاحظاتها انتهت فيهما إلى طلب "الحكم بقبول الطعن، وإلغاء الحكم المطعون فيه، والقضاء بعدم قبول دعوى الطاعن بشطريها، مع إلزامه بالمصاريف ومقابل الأتعاب". كما أودع المطعون عليه في 10 من إبريل سنة 1957 مذكرة بملاحظاته خلص فيها إلى طلب "أولاً - رفض الطعن المقدم من رئيس هيئة مفوضي الدولة. ثانياً - والحكم بقبول الدعوى، وإجابة المطعون ضده إلى طلباته الأصلية الموضحة بعريضة دعواه أمام محكمة القضاء الإداري، مع حفظ كافة الحقوق". وقد أبلغ الطرفان في 4 من مارس سنة 1957 بميعاد الجلسة التي عينت لنظر الطعن، وفيها سمعت المحكمة ما رأت سماعه من إيضاحات ذوي الشأن على الوجه المبين بمحضر الجلسة، ثم قررت إرجاء النطق بالحكم لجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
عن عدم قبول الدعوى:
من حيث إن المطعون عليه أقام الدعوى رقم 7982 لسنة 8 القضائية ضد كل من مجلس الوزراء ووزارة الخارجية أمام محكمة القضاء الإداري بعريضة أودعها سكرتيرية المحكمة في 26 من مايو سنة 1954 طلب فيها الحكم "بصفة أصلية - بإلغاء القرار الصادر بإحالته إلى المعاش وما ترتب عليه من آثار، واحتياطياً - إلزام المدعى عليهما بصفتهما بأن يدفعا للطالب مبلغ 15000 جنيه تعويضاً له عن الأضرار الأدبية والمادية التي لحقته من جراء الفصل من الخدمة تعسفياً قبل السن القانوني، وإلزام المدعى عليهما في الحالتين بالمصاريف ومقابل أتعاب المحاماة، مع حفظ كافة الحقوق الأخرى". وأسس دعواه على أنه كان يشغل بوزارة الخارجية وظيفة وزير مفوض ببراج (تشيكو سلوفاكيا) حين قرر مجلس الوزراء بجلسته المنعقدة في 7 من يناير سنة 1954 إحالته إلى المعاش اعتباراً من ذلك التاريخ تطبيقاً للقانون رقم 600 لسنة 1953، الذي أجاز للمجلس بناء على اقتراح لجنة وزارية أن يحيل إلى المعاش من يتبين عدم صلاحيته لوظيفته من الموظفين من الدرجة الثانية فما فوقها قبل بلوغ السن المقررة لترك الخدمة، على أساس ضم مدة لا تجاوز السنة مع أداء الفرق بين المرتب والمعاش مشاهرة. وأنه أبلغ بمنطوق هذا القرار في 15 من يناير سنة 1954، ثم بفحواه في 4 من فبراير سنة 1954، فتظلم منه في طريق عودته إلى مصر بكتاب أرسله في 14 من مارس سنة 1954 إلى القنصلية المصرية العامة بجنوا، التي قامت بإبلاغه إلى وزارة الخارجية في 18 منه. وقد سبق للوزارة أن تعللت بحالته الصحية، وبعثت إليه بخطاب تستطلع فيه مدى استعداده لاعتزال الخدمة بحجة احتياجه إلى الراحة والتوفر على العناية بصحته، متلمسة بذلك السبيل لتنحيته عن وظيفته، ولكنه رد عليها سلباً، وطلب في الوقت ذاته إحالة ملف خدمته إلى اللجنة الوزارية التي نص عليها القانون رقم 600 لسنة 1953، للنظر في حالته في ضوء نشاطه وإنتاجه خلال مدة خدمته التي بلغت سبعاً وعشرين سنة. فلما أسقط في يد الوزارة فيما يتعلق بتذرعها باعتلال صحته، عمدت فجأة إلى تقرير عدم صلاحيته لوظيفته محتمية بالقانون رقم 600 لسنة 1953، ظانة أنها في مأمن من طعنه على قرار إحالته إلى المعاش بالإلغاء أو رجوعه عليها بالتعويض؛ استناداً إلى ما نص عليه هذا القانون مادته الثانية من عدم جواز الطعن بالإلغاء أو بوقف تنفيذ القرارات الصادرة بالتطبيق لأحكامه، وعدم جواز سماع الدعاوى الخاصة بالتعويض عنها أمام المحاكم على اختلاف أنواعها. ولما كان من حق كل إنسان أن يلجأ إلى المحاكم ليعرض عليها شكواه، فإن القانون المذكور الذي قام على الحرمان المطلق من هذا الحق الطبعي، وهو حق التقاضي، يتسم بعدم الدستورية؛ لإنكاره لأحد المبادئ الدستورية العامة التي حرص الدستور المؤقت الصادر في 10 من فبراير سنة 1953 على توكيدها، كما أكدها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1948؛ لذا يتعين تقرير بطلان النص المانع من التقاضي وعدم إعماله وإطراحه. هذا إلى أن قرار إحالة المدعي إلى المعاش خارج عن نطاق تطبيق أحكام القانون المشار إليه، التي مناط إعمالها عدم الصلاحية؛ أي عدم كفاية الموظف أو سلوكه مسلكاً يتنافى مع واجبات الوظيفة ومقتضياتها. فإذا كانت جدارة الموظف ونزاهته واستقامته مشهوداً بها، فلا محل للقول بعدم الصلاحية، وإلا كان هذا تزييفاً للواقع وتجنياً على الحقائق، يبطل قرار الإحالة إلى المعاش، ويوجب الحكم بإلغائه، وبالتعويض عنه مادياً وأدبياً.
ومن حيث إن وزارة الخارجية دفعت بعدم اختصاص القضاء الإداري بنظر الدعوى بطلب إلغاء قرار إحالة المدعي إلى المعاش؛ واستندت في ذلك إلى أن اختصاص هذا القضاء رهين طبقاً للمادة الرابعة من قانون مجلس الدولة بأن يكون القرار المطعون فيه أحد القرارات المنصوص عليها في المادة الثالثة. ولما كانت القرارات الصادرة بفصل الموظفين طبقاً للقانون رقم 600 لسنة 1953 خارجة عن ولاية الإلغاء - طبقاً للمادة الثانية من هذا القانون التي تقضي بعدم جواز الطعن بإلغاء أو وقف تنفيذ القرارات الصادرة بالتطبيق لأحكامه، وكذا بعدم جواز سماع الدعاوى الخاصة بالتعويض عنها، وذلك أمام المحاكم على اختلاف أنواعها - فإن قرار فصل المدعي يكون خارجاً من عداد القرارات التي أشارت إليها المادة الثالثة من قانون مجلس الدولة؛ ومن ثم فلا تكون محكمة القضاء الإداري مختصة بنظر الدعوى، سواء بالنسبة إلى طلب إلغاء قرار فصل المدعي أو بالنسبة إلى طلب التعويض عن هذا القرار.
ومن حيث إنه بجلسة 21 من نوفمبر سنة 1956 قضت محكمة القضاء الإداري (الهيئة الثانية) "بعدم قبول الدعوى بالنسبة لطلب إلغاء القرار المطعون فيه، وبإلزام الحكومة بأن تدفع للمدعي على سبيل التعويض الشامل مبلغ ألف جنيه مصري والمصروفات، ومبلغ 500 قرش مقابل أتعاب المحاماة". وأقامت قضاءها فيما يتعلق بعدم قبول طلب الإلغاء وقبول طلب التعويض على أنه من المسلم أن كل مصادرة لحق التقاضي على إطلاقه تقع باطلة وغير مشروعة ومنافية للأصول الدستورية المرعية؛ إذ لا تجوز مصادرة الحقوق وحرمان أربابها في الوقت ذاته من اقتضاء تعويض عادل عنها. ولما كانت المادة الثانية من القانون رقم 600 لسنة 1953 تنص على تحريم الطعن بإلغاء أو وقف تنفيذ القرارات الصادرة بالاستناد إلى المادة الأولى منه، كما تقضي إلى جانب ذلك بعدم جواز سماع الدعوى بطلب التعويض عن هذه القرارات، فإن من الواضح أن هذين الحكمين لا يرتبطان ببعضهما ارتباطاً غير قابل للتجزئة، ولا يدوران في فلك واحد، بل يتميز كل منهما بمجال وأثر مستقل عن الآخر؛ ومن ثم يتعين النظر في مدى دستورية كل منهما منفصلاً عن الآخر. أما عن منع الطعن بإلغاء أو وقف تنفيذ القرارات الصادرة بفصل الموظفين، فإن حق الحكومة في فصل هؤلاء الموظفين بغير الطريق التأديبي هو حق ثابت لا شبهة فيه؛ لكونه مستمداً من طبيعة وظيفة الحكومة في الهيمنة على تسيير المرافق العامة على الوجه الذي تراه محققاً للصالح العام وما يستلزمه من إطلاق يدها في اختيار من ترى فيهم الصلاحية لمعاونتها في تحقيق هذا الغرض، وإقصاء من يصبح منهم غير صالح لذلك. وهذا الحق قد قررته القوانين واللوائح المتعاقبة ابتداء من الأمر العالي الصادر في 10 من إبريل سنة 1883 حتى القانون رقم 210 لسنة 1951، وكانت المحاكم العادية ممنوعة من نظر الدعاوى التي ترفع بطلب إلغاء أو وقف تنفيذ القرارات الإدارية ولو كانت مخالفة للقوانين واللوائح، وإنما أجيز الطعن بطلب إلغاء تلك القرارات منذ صدور القانون بإنشاء مجلس الدولة. وإذا كان حق الطعن هذا قد تقرر للأفراد بقانون عادي، فليس ثمة ما يمنع من تعطيل استعماله بالأداة ذاتها، ولا يكون مثل هذا الإجراء سبباً للدفع بعدم الدستورية؛ ومن ثم فإن حكم المادة الثانية من القانون رقم 600 لسنة 1953 القاضي بمنع الطعن بإلغاء أو وقف تنفيذ القرارات الصادرة بفصل الموظفين تطبيقاً لأحكامه، لا يخالف أصلاً من الأصول الدستورية المرعية ويتعين اتباعه، والقضاء بعدم قبول طلب المدعي إلغاء قرار إحالته إلى المعاش. أما ما نصت عليه المادة الثانية المذكورة من عدم جواز سماع دعاوى التعويض عن القرارات الصادرة بالتطبيق لأحكام القانون المشار إليه، فينطوي على مخالفة للقواعد الدستورية الأصيلة التي لا تجيز مصادرة الحقوق وحرمان أصحابها في الوقت ذاته من الحصول على تعويض عادل عنها، أو من اقتضاء هذا التعويض عند عدم أدائه رضاء؛ ذلك أن الأصل في التعويض عن الأعمال الضارة أن يكون عينياً بإعادة الحالة إلى ما كانت عليه، وهذا التعويض العيني يتمثل بالنسبة للقرارات الإدارية المخالفة للقانون في الإلغاء، فإذا استحال التعويض العيني لأسباب عادية أو قانونية، كان للمضرور حق في التعويض بمقابل، لا يجوز حرمانه منه متى تحققت أسبابه، وإلا كان ذلك مصادرة للحقوق بغير تعويض، وهو ما يخالف المبادئ الدستورية العامة. ومن ثم فإذا كان حظر الطعن بإلغاء القرارات الصادرة بالإحالة إلى المعاش بالتطبيق لأحكام القانون رقم 600 لسنة 1953 غير مخالف للدستور، فإن حظر سماع دعاوى التعويض عن هذه القرارات هو حظر غير دستوري، يتعين إهماله، والمضي في سماع دعوى التعويض المرفوعة من المدعي عن قرار إحالته إلى المعاش.
ومن حيث إنه بعريضة مودعة سكرتيرية هذه المحكمة في 15 من يناير سنة 1957، طعن السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة في هذا الحكم طالباً إلغاءه "فيما قضى بإلزام الحكومة بأن تدفع للمدعي على سبيل التعويض الشامل مبلغ 1000 جنيه مصري والمصروفات ومبلغ 500 قرش أتعاب المحاماة، والقضاء برفض الدعوى في هذا الشق من طلبات المدعي، وإلزامه مصروفات الدعوى". وقال في أسباب هذا الطعن إنه لا اعتراض له على ما قضى به الحكم المطعون فيه من عدم قبول طلب المدعي إلغاء القرار الصادر بإحالته إلى المعاش في 7 من يناير سنة 1954 عملاً بحكم المادة الثانية من القانون رقم 600 لسنة 1953، التي نصت على منع الطعن بإلغاء أو وقف تنفيذ القرارات الصادرة بالتطبيق لأحكامه، كما لا اعتراض له على ما قضى به الحكم من سماع دعوى التعويض، على الرغم مما نصت عليه المادة الثانية سالفة الذكر من عدم جواز سماع دعاوى التعويض عن تلك القرارات؛ ذلك أن التطهير الإداري - الذي ليس إلا عزلاً للموظف بغير الطريق التأديبي - جاء منظماً بقانون خاص، فهو إذن من صميم الأعمال الإدارية التي تدخل في نطاق السلطة الإدارية وإن اتخذت طابع القانون. وعلى ذلك فلا أثر للمادة 191 من دستور سنة 1956 التي حصنت جميع قرارات مجلس قيادة الثورة وجميع القوانين والقرارات التي تتصل بها أو التي صدرت مكملة أو منفذة لها، ومنعت الطعن فيها أو المطالبة بإلغائها أو التعويض عنها - لا أثر لذلك على القانون رقم 600 لسنة 1953 في شأن الإحالة إلى المعاش قبل بلوغ السن المقررة لترك الخدمة؛ لأن نص المادة 191 من الدستور خاص بأعمال السيادة أو أعمال الحكومة وبإجراءات الضرورة، وليس التطهير الإداري الصادر به القانون رقم 600 لسنة 1953 من أعمال السيادة أو الحكومة أو من إجراءات الضرورة الملجئة لحماية نظام الحكم، بل هو عمل يدخل في اختصاصات السلطة التنفيذية التي يتولاها مجلس الوزراء والوزراء كل فيما يخصه. وعلى ذلك فلا تضفي المادة 191 من دستور سنة 1956 حصانة على القانون رقم 600 لسنة 1953 تعصمه من نظر المحاكم لدستوريته ومن خضوعه للقضاء فيما يتعلق بهذه الدستورية عن طريق الدفع الفرعي. ولا ريب أن منع سماع دعوى التعويض المنصوص عليه في المادة الثانية من هذا القانون هو مصادرة لحق التقاضي، وهذه المصادرة تخالف مبدأ دستورياً عاماً مستمداً من نص المادة الثالثة من الدستور المؤقت، الذي صدر القانون رقم 600 المشار إليه في ظله، وهو مبدأ كفالة الحرية الشخصية في حدود القانون؛ فحق التقاضي من أهم صور الحرية الشخصية التي كفلتها الثورة من بادئ الأمر. على أن المشرع عندما أغلق باب التعويض ومنع سماع الدعوى بشأنه لم يقصد المصادرة على حق التقاضي لذاته، وإنما أراد في الواقع منع إعادة النظر في التعويض عن القرارات التي تصدر بالتطبيق لأحكام القانون رقم 600 لسنة 1953 بالذات، بعد أن لمس ما تحملته الميزانية في مدة التطهير السابقة بالمرسوم بقانون رقم 181 لسنة 1952 من أعباء مالية جسيمة غير منظورة، نتيجة لتجاوز السلطة عند التنفيذ؛ لهذا حدد المشرع بنفسه هذه المرة مقدار التعويض مشتملاً تجاوز السلطة، وذلك بطريقة جزافية، سواء كانت قرارات الفصل متفقة مع أحكام القانون، أم كانت الجهة الإدارية قد تجاوزت السلطة فيها، أي أنه ضمن هذا التعويض كافة المخاطر الناجمة عن أخطاء الجهة الإدارية على أساس ضم مدة خدمة لا تجاوز السنة مع أداء الفرق بين المرتب والمعاش مشاهرة. أما التعبير في مذكرة القانون الإيضاحية بمصلحة الدولة العليا التي أملت منع الطعن بالإلغاء أو سماع دعوى التعويض فليس إلا إشارة إلى مصلحة المرافق العامة، عن طريق إقصاء غير الصالح من عمالها وعدم عودته إليها بأي شكل، وإلى مصلحة الخزانة العامة عن طريق تحميلها أكثر من التعويض التشريعي المنصوص عليه حتى في حالة مجاوزة السلطة. بيد أن المشرع - عندما منع سماع دعوى التعويض - اصطدم بحق دستوري عام هو حق التقاضي؛ ولذا يسوغ للقاضي أن يهدر المنع ويقبل سماع الدعوى.
ومن حيث إن الحكومة أودعت مذكرتين بملاحظاتها، نعت فيهما على الحكم المطعون فيه مخالفته للقانون من عدة أوجه: (الوجه الأول) أن الحكم تعرض للقانون رقم 600 لسنة 1953 فلم ينفذ بعض أحكامه، مع أنه - بمقارنة المادة 190 من دستور سنة 1956 التي نصت على أن كل ما قررته القوانين السابقة على صدوره من أحكام يبقى نافذاً، بالمادة 167 من دستور سنة 1923 المقابلة التي اشترطت لنفاذ هذه الأحكام اتفاقها مع مبادئ الدستور - يبين أن المشرع الدستوري، إذ حذف القيد الموجب لاتفاق القوانين السابقة مع الدستور، إنما ألزم السلطتين التنفيذية والقضائية بالعمل بأحكام تلك القوانين بحالتها، ومنع القضاء من بحث دستوريتها؛ وبذلك جعلها جميعها دستورية لا تجوز المناقشة في أحكامها، مهما اختلفت هذه الأحكام مع أحكامه. ثم أتي عقب ذلك بنص المادة 191 الذي أغلق كل باب للمناقشة في كل ما سبق الدستور - وأضفى على كل ما صنعته الثورة حصانة دستورية استقراراً للأوضاع. كما ألزم القضاء بالخضوع للقانون دون سواه، ولم يمنحه سلطة تنحية القانون إعمالاً لحكم الدستور؛ لأن هذا من شأن الأمة وحدها طبقاً لمبدأ فصل السلطات. و(الوجه الثاني) أن الحكم المطعون فيه ذهب إلى أن القانون رقم 600 لسنة 1953 قد خالف أحد الأصول الدستورية المرعية، ومع أن هذا القانون لم يتضمن أية مصادرة للحقوق مع حرمان أربابها من تعويض عادل، بل قرر تعويضاً تشريعياً مقدراً منع الالتجاء في شأنه إلى القضاء، فإن صدور الحكم على هذا النحو ينطوي على إنكار للنظام القانوني الذي تقوم عليه الدولة أثناء الثورات؛ ذلك أن الثورة هي حالة ضرورة طارئة على الدولة تقوم على تغيير الأوضاع الرئيسية، فكل تشريع تصدره تحقيقاً لأهدافها أو تأميناً لها هو دستور في ذاته كاف بنفسه ولا يبحث له عن مصدر دستوري آخر، خلافاً لما عليه الأمر في الأحوال العادية، ولا سيما إذا كان ذلك في أول عهد الثورة وهي تعمل على تدعيم كيانها وإرساء قواعدها خلال فترة الانتقال قبل استقرار نظامها، وكل تشريع تصدره إنما هو لمصلحة الدولة العلياً، فإذا ما تعرض التشريع لبعض الحريات الفردية كان دستورياً مع ذلك في الظروف التي أحاطت به. وقد أكدت المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 600 لسنة 1953 أن عدم الالتجاء إلى القضاء في شأن قرار الفصل أو التعويض عنه هو "تحقيقاً لمصلحة الدولة العليا"، وذلك نتيجة عدم وصول الثورة إلى أغراضها كاملة في تشريعات التطهير السابقة. ولما كان دستور سنة 1956 قد استهدف في الحقوق مصلحة جماعية، وقرن أغلبها بكفالة تنظيم القانون لها، فإن التشريع الصادر بناء على ذلك بتقييد استعمال الحق في خصوصية معينة لحكمة تشريعية ارتآها المشرع، يكون غير مخالف لأحكام الدستور. وليس الاستثناء من الأصل الوارد في حالة معينة إنكاراً للمبدأ العام، إنما يظل المبدأ قائماً لم يمس إلا في الحالة الصادر عنها التشريع تحقيقاً لمصلحة عامة. فلا يعد الاستثناء مصادرة للحق على إطلاقه، بل هو تنظيم له في خصوصية بذاتها لحكمة اقتضتها المصلحة العامة. وما يقال عن الحق وجواز الاستثناء من مبدئه العام يصدق أيضاً على توزيع الاختصاصات بين مختلف السلطات، فليس الاستثناء من القاعدة العامة لاختصاص سلطة معينة إنكاراً لأصل القاعدة. ولما كان القضاء بنصوص الدستور هو سلطة، وكانت اختصاصاته يحددها القانون، فإنه يمتنع التحدث في شأنه عن الحقوق؛ إذ هو كسائر السلطات الأخرى لا يعمل إلا على أساس اختصاصات محددة. وإذا كان الدستور قد كفل بنفسه تحديد اختصاصات السلطتين التشريعية والتنفيذية بما لا يجوز معه الإضافة إلى هذه الاختصاصات أو الانتقاص منها، فإن الوضع على خلاف ذلك بالنسبة إلى السلطة القضائية التي ترك الدستور الأمر في تحديد اختصاصاتها للمشرع. وقد حدد المشرع هذه الاختصاصات فعلاً في كل من قانوني نظام القضاء ومجلس الدولة، وهما قانونان عاديان يجوز للمشرع نسخ بعض أحكامهما بقانون آخر لحكمة تشريعية. فإذا منع القانون القاضي من النظر في موضوع معين، كان له ذلك وفقاً لأحكام الدستور، ولم يكن في هذا المنع انتقاص للحقوق؛ إذ لا حقوق للسلطة القضائية، وإنما لها اختصاص مرهون بما يحدده لها القانون، فإذا منع القاضي من النظر في منازعة معينة كان نظره لها خروجاً على اختصاصه المحدد قانوناً، وكان مناط اختصاصه رهيناً بمشيئته هو لا بإرادة المشرع وهو ما لا يجوز. ولم يفعل القانون رقم 600 لسنة 1953 سوى سلب اختصاص السلطة القضائية في خصوصية معينة، وهو أمر مشروع درج عليه المشرع لاعتبارات الصالح العام، فأصبح قاعدة دستورية مرعية، ومثال ذلك القانون رقم 28 لسنة 1922 الخاص بتصفية أملاك الخديوي السابق، وقانون التضمينات رقم 25 لسنة 1923 الخاص بتصرفات السلطة العسكرية، والمرسوم بقانون رقم 114 لسنة 1945 بشأن عدم قبول الطعن في التدابير التي اتخذتها السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية إبان الحرب العظمى الثانية، والمرسوم بقانون رقم 148 لسنة 1944 الخاص بإلغاء الاستثناءات، ولائحة ترتيب المحاكم الشرعية بالنسبة إلى بعض دعاوى الزوجية والوصية والوقف، وقانوناً نظام القضاء ومجلس الدولة فيما يتعلق بأعمال السيادة. والأصل أن للحكومة سلطة فصل الموظف وإحالته إلى المعاش من غير الطريق التأديبي دون ذكر الأسباب ضماناً لحسن سير المرافق العامة إذا رأت أنه غير جدير بثقتها، ودون أن يكون له حق في مطالبتها بتعويض عن ذلك، ما دام لم يثبت عدم صحة القرار أو صدوره لغير الصالح العام. بيد أن المشرع رأى في القانون رقم 600 لسنة 1953 تقدير تعويض جزافي للموظف المفصول بمقتضى أحكام هذا القانون، ثم أغلق عليه باب التقاضي في شأن هذا التعويض، وبذا جرد القاضي من سلطة إعادة النظر في تقدير هذا التعويض، فإذا تدخل القاضي على الرغم من ذلك كان عمله هذا تعديلاً للتشريع فيما رآه المشرع تعويضاً عادلاً وقدره بصفة نهائية بالتوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة ولو لم يجبر الضرر فعلاً؛ إذ مؤدى تقدير المشرع للتعويض رغبته في الخروج على القواعد العامة للمسئولية، وهذا هو شأن التقدير الجزافي، وهو ما قد يتبعه المشرع في تنظيم التعويض بالنسبة إلى بعض الهيئات الخاصة، كما في قانون إصابات العمل. ففي مثل هذه الحالات لا محل لبحث خطأ المصلحة لزيادة مبلغ التعويض عن طريق تقديره وفقاً للقواعد العامة، بل تطبق نصوص القانون الخاص وحدها، سواء وقع خطأ أو لم يقع، وسواء جبر الضرر كاملاً في نظر القاضي أو لم يجبر. و(الوجه الثالث) أن الحكم المطعون فيه فرق بين عدم جواز الطعن بإلغاء أو وقف تنفيذ قرار الفصل، وبين عدم سماع دعوى التعويض، وانتهى من ذلك إلى أن الأول دستوري، وأن الثاني يقوم على مصادرة الحقوق وحرمان أصحابها من تعويض عادل عنها؛ وبذلك تعدى اختصاصه القانوني؛ بأن قطع أوصال القانون في شأن حكم قانوني خاص بواقعة قانونية واحدة؛ إذ أجاز الفصل بين دعويي الإلغاء والتعويض عن قرار إداري واحد، في حين أنهما فرعان لأصل واحد، هو عدم جواز الطعن بفرعيه في قرار الفصل. وطالما أن قصد المشرع هو حصانة القرار إلغاء وتعويضاً، فإن في التفرقة بين هذين الفرعين للقصد الواحد تغييراً لحكم القانون وتعديلاً للتشريع لا يملكه القاضي. وإذا فرض أن للمحكمة سلطة التصدي لدستورية القانون، فإن عليها إما تطبيقه بحالته أو إهداره كاملاً برمته؛ ذلك أن القانون لا يتجزأ في المسألة الواحدة، ولا سيما أن الحكم المطعون فيه قد قرر أن التعويض عن الفعل الضار له وجهان: أحدهما عيني وهو الأصل، والثاني بمقابل، فإذا منع المشرع سماع الدعوى عن الأصل فلا تثريب عليه إذا هو منعها أيضاً عن الفرع تمشياً مع القاعدة. وانتهت الحكومة من هذا إلى طلب "الحكم بقبول الطعن، وإلغاء الحكم المطعون فيه، والقضاء بعدم قبول دعوى الطاعن بشطريها، مع إلزامه بالمصاريف ومقابل الأتعاب".
ومن حيث إن المطعون عليه أودع سكرتيرية المحكمة في 10 من إبريل سنة 1957 مذكرة بملاحظاته، قال فيها إن رفع الطعن من هيئة مفوضي الدولة يتيح له الفرصة لتوكيد طلباته أمام محكمة القضاء الإداري التي لم تكن مقصورة على التعويض، بل تناولت قرار الإحالة إلى المعاش ذاته، بغية إلغائه تأسيساً على أنه ليس قراراً إدارياً باطلاً فحسب، بل معدوماً في حقه بحيث لا وجود له ولا ينتج أثراً، ولا تسري بالنسبة إليه الحصانة المستفادة من الحظر الوارد في المادة الثانية من القانون رقم 600 لسنة 1953، وتقتصر مهمة القضاء الإداري فيما يتعلق به بإثبات انعدامه؛ ذلك أن القرار المطعون فيه وإن كان قد صدر من مجلس الوزراء، وهو السلطة المختصة أصلاً بشئون الموظفين، إلا أن المجلس قد خرج في إصداره عن نطاق القانون المشار إليه الذي لم يخوله إلا فصل الموظفين غير الصالحين، لا من يثبت أن صلاحيتهم فوق متناول الشبهات. ومن ثم فإنه يعد قراراً باطلاً ويصح وصفه بأنه معدوم في نظر القانون. ولا يغير من هذا كون الصلاحية خاضعة لتقدير جهة الإدارة؛ لأن لسلطة الإدارة التقديرية في هذا حدوداً متى جاوزتها انعدم أساس قرارها. ومما يعزز وصف قرار إحالة المطعون عليه إلى المعاش بأنه معدوم لا باطل فحسب، إهمال عرض أمره كلية على اللجنة الوزارية المنصوص عليها في المادة الأولى من القانون، التي استهدف الشارع بتشكيلها إيجاد ضمانة للاطمئنان إلى سلامة قرارات الإحالة إلى المعاش الصادرة بالتطبيق لهذا القانون. وحتى إذا قيل بأن أثر العيب الذي شاب القرار يقتصر على إبطاله دون إعدامه، فإن النص في المادة الثانية من القانون على عدم جواز سماع دعوى التعويض عنه إن هو إلا مصادرة لحق الانتصاف تنطوي على مخالفة للمبادئ الدستورية، ولذا يتعين إطراحه، وهذا هو ما جرت عليه أحكام القضاء الإداري في شأن سماع دعوى التعويض عن قرارات فصل الموظفين بغير الطريق التأديبي بالتطبيق لأحكام المرسوم بقانون رقم 181 لسنة 1952، كما أن هذه الأحكام رفضت الأخذ بفكرة أن ضم مدة سنتين إلى خدمة الموظفين المفصولين تطهيراً يعتبر بمثابة تعويض جزافي يغني عن أي تعويض آخر. وقد ثار الفقه الحديث في الدول الدستورية على نظرية أعمال السيادة لما تضمنته من استثناء هذه الأعمال من الخضوع لرقابة القضاء، حتى لقد أجيز سماع دعوى التعويض عن هذه الأعمال اكتفاء بتحصينها ضد قضاء الإلغاء أو وقف التنفيذ. على أن قرار فصل المطعون عليه هو قرار إداري وليس عملاً من أعمال السيادة، فمنع المحاكم من سماع دعوى التعويض عنه فيما سببه من أضرار مادية وأدبية يخالف القواعد الدستورية العامة المتمشية مع ما نصت عليه المادتان الثامنة والعاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثالثة المنعقدة في باريس في سنة 1948. ولا يدحض ذلك ما جرى عليه العمل في قوانين التضمينات إثر إعلان الأحكام العرفية وبمناسبة رفعها من النص على عدم سماع دعاوى الأفراد أو الهيئات عن الإجراءات التي تكون اتخذتها السلطة القائمة على إجراء تلك الأحكام؛ إذ الواضح أن القصد من مثل هذه التشريعات إنما هو إعفاء الدولة ذاتها، لا شخص موظفيها وعمالها الذي كانوا ينفذون الأحكام العرفية، على الأقل متى بلغ ما هو مسند إليهم مرتبة الخطأ الجسيم. على أن هذه القوانين تصدر عادة بعد نفاذ الأحكام العرفية والعمل بها، وبعد أن يكون القضاء، بناء على ما رفع إليه من دعاوى، قد استوفى سلطانه في بسط رقابته على التدابير التي اتخذت. أما فكرة التعويض الجزافي فهي أكثر تمشياً مع مسئولية المخاطر منها مع المسئولية عن الخطأ أو التقصير التي يتعين أن يكون التعويض فيها بقدر الضرر. والأولى قد تكون نتيجة خطأ أو إهمال ولكن لا دخل للإدارة فيه، أما الثانية فقد تكون بصدد قرارات إدارية تعبر عن إرادة واعية قد يؤدي تحولها عن الهدف المقصود أصلاً إلى اختلال المعايير التي اتخذت أساساً للتعويض الجزافي. ولا وجه للمقارنة بين المرسوم بقانون رقم 181 لسنة 1952 الذي صدر لتطهير الأداة الحكومية مما شابها، والقانون رقم 600 لسنة 1953 الذي قصد به إفساح المجال للموظفين من الشباب ليحلوا محل آخرين قاربوا سن الإحالة إلى المعاش، أي تيسير خروج غير الصالحين من الموظفين، وحث المترددين منهم على المبادرة بطلب اعتزال الخدمة لكي يفيدوا من مزايا قراري مجلس الوزراء الصادرين في 4 و25 من نوفمبر سنة 1953 بتيسير خروج الموظفين، وأخص هذه المزايا ضم سنتين إلى المدة المحسوبة في معاشهم بدلاً من السنة الواحدة المنصوص عليها في المادة الأولى من القانون المشار إليه. وهذا الضم لا يفيد معنى التعويض عن ضرر بقدر ما يفيد معنى التسوية المالية بغية الترغيب في ترك الخدمة، الأمر الذي لا صلة له بما يصيب الموظف المحال إلى المعاش من ضرر مادي وأدبي نتيجة لتطبيق أحكام ذلك القانون في شأنه. ولا سيما أنه لم يرد في نصوص القانون المذكور ولا في مذكرته الإيضاحية ما يفيد أنه قصد بالتسوية المالية التي نص عليها بضم مدة سنة إلى المعاش أن تكون بمثابة تعويض جزافي يستعاض به عن التعويض الشامل، بل العكس هو الصحيح؛ فقد تحاشت المذكرة الإيضاحية ذكر لفظ التعويض، كما تناول القانون موضوع التعويض مستقلاً عن موضوع التسوية المالية. ولو صح الأخذ بفكرة التعويض الجزافي فلا أقل من قصر هذا التخريج على الحالات التي تنطوي تحت أحكام هذا القانون، دون تلك التي تقحم عليه بناء على قرارات خاطئة صادرة من جهة الإدارة. وخلص المطعون عليه من هذا إلى طلب الحكم بقبول الدعوى وإجابته إلى طلباته الأصلية الموضحة بعريضة دعواه أمام محكمة القضاء الإداري.
ومن حيث إنه يبين مما تقدم أن مثار المنازعة هو: (أولاً) ما إذا كان يجوز للمحكمة أن تتناول بالنظر والتعقيب الحكم المطعون فيه في شقه الخاص بعدم جواز سماع طلب الإلغاء الذي لم تطعن فيه هيئة المفوضين، ولكن أثاره المطعون عليه، أم أن ذلك لا يجوز (وثانياً) ما إذا كانت المادة الثانية من القانون رقم 600 لسنة 1953 - إذ قضت بأنه "استثناء من أحكام المادة 12 من قانون نظام القضاء ومن أحكام المواد 3 و4 و10 من قانون مجلس الدولة، لا يجوز الطعن بإلغاء أو وقف تنفيذ القرارات الصادرة بالتطبيق لأحكام هذا القانون. وكذلك لا يجوز سماع الدعاوى الخاصة بالتعويض عنها وذلك أمام المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها" - تتضمن حكماً غير دستوري فيمتنع على المحاكم تطبيقه، أم أن هذا النص دستوري فيجب على المحاكم أن تنزل عليه؟.
ومن حيث إنه فيما يتعلق بالنقطة الأولى، فإن هذه المحكمة سبق أن قضت بأن الطعن أمامها في الأحكام الصادرة من محكمة القضاء الإداري أو المحاكم الإدارية - طبقاً للمادة 15 من القانون رقم 165 لسنة 1955 في شأن تنظيم مجلس الدولة - يفتح الباب أمامها لتزن الحكم المطعون فيه بميزان القانون وزناً مناطه استظهار ما إذا كانت قد قامت به حالة أو أكثر من الأحوال التي تعيبه المنصوص عليها في المادة سالفة الذكر فتلغيه، ثم تنزل حكم القانون في المنازعة، أم أنه لم تقم به أية حالة من تلك الأحوال وكان صائباً في قضائه فتبقى عليه وترفض الطعن. ويتفرع عن ذلك أن للمحكمة العليا أن تنزل حكم القانون، غير مقيدة بالأوجه أو الأسباب التي تبديها هيئة المفوضين، ما دام المرد في ذلك كله هو إلى تطبيق مبدأ الشرعية نزولاً على سيادة القانون في روابط هي من روابط القانون العام التي تختلف في طبيعتها عن روابط القانون الخاص؛ ذلك أن رقابة محكمة القضاء الإداري والمحاكم الإدارية على القرارات الإدارية هي رقابة قانونية تسلطها عليها لتتعرف على مدى مشروعيتها من حيث مطابقتها أو عدم مطابقتها للقانون، وهذا بدوره ما تتناوله المحكمة الإدارية العليا في رقابتها للأحكام القضائية، كما قضت كذلك بأن الدعوى إذا كانت ذات شقين أحدهما بالإلغاء والآخر بالتعويض فإن الطعن في شق منهما يثير المنازعة برمتها، ما دام الطلبان مرتبطين أحدهما بالآخر ارتباطاً جوهرياً، باعتبارهما يقومان على أساس قانوني واحد، هو عدم مشروعية القرار الإداري، وأن الطعن بالإلغاء هو طعن فيه بالبطلان بالطريق المباشر، وطلب التعويض عنه هو طعن فيه بالبطلان بالطريق غير المباشر. وآية ذلك أنه لا يستقيم الحكم بالتعويض على أساس أن القرار غير مشروع مع الحكم بالإلغاء على أساس أن القرار مشروع؛ إذ مؤدى ذلك قيام حكمين متعارضين متفرعين عن أساس قانوني واحد، وهو ما لا يجوز وما لا مندوحة عن التردي فيه إذا لم يثر الطعن في أحد الشقين المنازعة برمتها.
ومن حيث إنه فيما يتعلق بالنقطة الثانية فإنه يجب التنبيه بادئ ذي بدء إلى أن الدفع بعدم دستورية النص المشار إليه قد أصبح غير ذي موضوع بعد صدور دستور جمهورية مصر والعمل به من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه في الاستفتاء؛ إذ قد نصت المادة 190 منه على أن "كل ما قررته القوانين والمراسيم والأوامر واللوائح والقرارات من أحكام قبل صدور هذا الدستور يبقي نافذاً، ومع ذلك يجوز إلغاؤها أو تعديلها وفقاً للقواعد والإجراءات المقررة في هذا الدستور"، كما نصت المادة 191 منه على أن "جميع القرارات التي صدرت من مجلس قيادة الثورة، وجميع القوانين والقرارات التي تتصل بها وصدرت مكملة أو منفذة لها، وكذلك كل ما صدر من الهيئات التي أمر المجلس المذكور بتشكيلها من قرارات أو أحكام، وجميع الإجراءات والأعمال والتصرفات التي صدرت من هذه الهيئات أو من أية هيئة أخرى من الهيئات التي أنشئت بقصد حماية الثورة ونظام الحكم، لا يجوز الطعن فيها أو المطالبة بإلغائها أو التعويض عنها بأي وجه من الوجوه وأمام أية هيئة كانت". ويبين من ذلك أن الدستور أراد أن يضفي حصانة دستورية على حركة التشريع السابقة عليه التي تمت في عهد الثورة؛ سواء أكانت بالطريق الأصلي، أي بمقتضى قوانين، أم بالطريق الفرعي، أي بمقتضى قرارات تنظيمية عامة - حصانة تعصمها من السقوط أو من المجادلة في قوة نفاذها؛ لحكمة تتصل بالمصالح العليا للوطن، بمراعاة أن تلك القوانين واللوائح إنما تمت في عهد ثورة تستهدف الإصلاح الشامل بشكل وفي أوضاع وظروف استثنائية. لا تقاس فيها الأمور بمقياس الأوضاع العادية، فأضفى عليها تلك الحصانة الدستورية على اعتبار أنها من الأدوات التي استعملتها الثورة في سبيل أوجه الإصلاح الذي قامت من أجله. وللحكمة عينها حصن الدستور كذلك جميع القرارات التي صدرت من مجلس قيادة الثورة، وجميع القوانين والقرارات التي تتصل بها وتكون مكملة أو منفذة لها، وذلك بمنع الطعن فيها بأي وجه من الوجوه وأمام أية هيئة كانت. وغني عن البيان أن نصي الدستور المشار إليهما يسريان على الدعاوى المنظورة باعتبار أن هذا الدستور أصبح القانون الأعلى. على أنه ينبغي، وضعاً للأمور في نصابها الدستوري الصحيح، التنبيه كذلك إلى أن الأصل المسلم هو أن القانون لا يكون غير دستوري إلا إذا خالف نصاً دستورياً قائماً أو خرج على روحه ومقتضاه؛ ومرد ذلك إلى أن الدستور - وهو القانون الأعلى فيما يقرره - لا يجوز أن يهدره قانون، وهو أداة أدنى. ويتحصل النعي بعدم دستورية المادة الثانية من القانون رقم 600 لسنة 1953، في أنها تنطوي على مصادرة لحق الموظف في تعويضه عن فصله، سواء بالطريق العيني وهو الإلغاء، أو بطريق المقابل وهو التعويض عن فصله، إذا كان القرار قد وقع مخالفاً للقانون، وعلى مصادرة لحقه في الانتصاف في هذا الشأن عن طريق القضاء، وعلى إخلال بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء. ولكن من البداهة أن هذا النعي لا يستقيم إلا إذا كان حق الموظف في الوظيفة العامة هو من الحقوق التي يكفلها الدستور ذاته، وأن وسيلة اقتضاء حقه هذا عن طريق القضاء هي وسيلة يقررها الدستور كذلك، وأن ثمة حقاً إخلالاً بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء في هذا الشأن؛ إذن لا يجوز عندئذ أن يهدر القانون ما يقرره الدستور. أما إذا كان هذا الحق هو مما ينشئه القانون أو يلغيه، وكذلك إذا كانت وسيلة اقتضائه هي مما ينظمه القانون على الوجه الذي يراه. كما إذا كان القانون لا يقوم على تمييز بين أفراد طائفة واحدة تماثلت مراكزهم القانونية، فلا يكون ثمة وجه للنعي بعدم دستوريته.
ومن حيث إن علاقة الموظف بالحكومة هي علاقة تنظيمية تحكمها القوانين واللوائح، فمركز الموظف هو مركز قانوني عام يجوز تغييره في أي وقت، ومرد ذلك إلى أن الموظفين هم عمال المرافق العامة، وبهذه المثابة يجب أن يخضع نظامهم القانوني للتعديل والتغيير وفقاً لمقتضيات المصلحة العامة لحسن سير تلك المرافق؛ ذلك أن الوظيفة العامة هي مجموعة من الاختصاصات يتولاها الموظف لصالح المرفق العام، ويعهد بها إليه ليساهم في شئونه في سبيل تحقيق الأغراض المنشودة منه للمصلحة العامة التي تقوم الدولة على رعايتها. وتقليد الوظيفة العامة هو إسناد اختصاصاتها إلى الموظف الذي يولاها، وتعيين الموظف أياً كانت أداته، لا يخلق الوظيفة، ولا يرتب للموظف حقاً فيها على غرار حق الملكية مثلاً؛ إذ هي ملك للدولة، وإنما يقتصر أثر التعيين على وضع الموظف في مركز قانوني عام، وإخضاعه لما تقرره القوانين واللوائح الخاصة بالوظيفة من قواعد وأحكام وإفادته من مزاياها. ولما كانت الوظيفة تكليفاً للقائم بها كأصل مسلم رددته المادة 28 من دستور جمهورية مصر، وهذا التكليف يتطلب من الموظف أن يكون صالحاً للقيام به، فإن بقاءه في الوظيفة، وهو رهين بهذا المناط، ليس حقاً ينهض إلى مرتبة الحقوق الدستورية، تلك الحقوق المنصوص عليها في الباب الثالث من الدستور المذكور، ولا يقاس على حق الملكية مثلاً الذي صانته النصوص الدستورية بما يكفل عدم نزعه إلا للمنفعة العامة، ومقابل تعويض عادل وفقاً للقانون، بل هو وضع شرطي منوط بصلاحيته للنهوض بأعباء الوظيفة العامة، وهو أمر يخضع لتقدير الحكومة القوامة على تسيير المرافق العامة؛ فتفصل من تراه أصبح غير صالح لذلك دون الاحتجاج بأن له أصل حق في البقاء في الوظيفة، ما دام ذلك قد تم بالشروط والأوضاع التي قررها القانون وبغير إساءة استعمال السلطة.
ومن حيث إن حق الحكومة في فصل الموظفين هو حق أصيل لا شبهة فيه مرده إلى أصلين: (الأول) أصل طبعي رددته النصوص الدستورية هو وجوب هيمنة الحكومة على تسيير المرافق العامة على الوجه الذي يحقق المصلحة العامة؛ فنصت المادة 57 من دستور سنة 1923 على أن "مجلس الوزراء هو المهيمن على مصالح الدولة"، كما نصت المادة 44 منه على أن رئيس الدولة وقتذاك يولي ويعزل الموظفين على الوجه المبين بالقوانين، ونصت المادة 140 من دستور جمهورية مصر على أن "يعين رئيس الجمهورية الموظفين المدنيين والعسكريين والممثلين السياسيين ويعزلهم على الوجه المبين في القانون". و(الثاني) أصل تشريعي يستند إلى الأوامر العالية الصادرة في 10 من إبريل سنة 1883 و24 من مايو سنة 1885 و19 من فبراير سنة 1887، والدكريتو الصادر في 24 من ديسمبر سنة 1888، والقانون رقم 5 لسنة 1909 بشأن المعاشات الملكية، والمرسوم بقانون رقم 37 لسنة 1929 الخاص بالمعاشات الملكية، والمادة 107 من القانون رقم 210 لسنة 1951 بشأن نظام موظفي الدولة التي عددت أسباب انتهاء خدمة الموظفين المعينين على وظائف دائمة، وذكرت من بينها في بند "4" العزل أو الإحالة إلى المعاش بقرار تأديبي، وفي البند "6" الفصل بمرسوم أو أمر جمهوري أو بقرار خاص من مجلس الوزراء أي بغير الطريق التأديبي؛ وهذا الفصل بالطريق الأخير هو الذي أشارت إليه المادة الرابعة بند "5" من القانون رقم 112 لسنة 1946 الخاص بإنشاء مجلس الدولة، والمادة الثالثة بند "5" من القانون رقم 9 لسنة 1949 الخاص بمجلس الدولة، والمادة الثامنة بند "خامساً" من القانون رقم 165 لسنة 1955 في شأن تنظيم مجلس الدولة. ويبين من هذا كله أن القانون رقم 600 لسنة 1953، عندما أجاز في مادته الأولى إحالة الموظف إلى المعاش قبل بلوغ السن المقررة لترك الخدمة إذا كان من الموظفين من الدرجة الثانية فما فوقها بناء على اقتراح لجنة وزارية يشكلها مجلس الوزراء متى تبين عدم صلاحيته للوظيفة، مع ضم مدة خدمة لا تجاوز السنة وأداء الفرق بين المرتب والمعاش مشاهرة، وذلك خلال الفترة التي حددها من 3 من يناير سنة 1954 إلى 14 من يناير سنة 1954 - إن القانون المذكور لم يستحدث جديداً في شأن جواز إحالة الموظف إلى المعاش بغير الطريق التأديبي، بل ما استحدثه هو إيجاد ضمانة لم تكن مقررة له من قبل؛ بجعل اقتراح فصله منوطاً أولاً بلجنة وزارية تفحص حالته وتبدي رأيها في صلاحيته للبقاء في الوظيفة من عدمه، كما رتب له حقوقاً مالية ما كان ليظفر بها لولا النص عليها؛ ذلك أنه إذا كانت الحكومة تملك من الأصل فصل الموظفين بغير الطريق التأديبي لعدم صلاحيتهم للبقاء في الوظيفة، وتم ذلك وفقاً للقانون وخلا من إساءة استعمال السلطة، كان القرار سليماً مبرءاً من العيب مما لا وجه معه لمساءلة الحكومة بتعويض عنه؛ لأن أساس المسئولية - كما سبق أن قضت هذه المحكمة بذلك - هو وقوع خطأ من جانب الحكومة؛ بأن يكون القرار غير مشروع، أي يشوبه عيب أو أكثر من العيوب المنصوص عليها في المادة الثالثة من القانون رقم 9 لسنة 1949 الخاص بمجلس الدولة، وفي المادة الثامنة من القانون رقم 165 لسنة 1955 في شأن تنظيم مجلس الدولة، وهي عدم الاختصاص ووجود عيب في الشكل أو مخالفة القوانين واللوائح أو الخطأ في تطبيقها وتأويلها أو إساءة استعمال السلطة، وأن يترتب على القرار ضرر، وأن تقوم علاقة السببية بين الخطأ والضرر، فإذا كان القرار مشروعاً؛ بأن صدر سليماً مطابقاً للقانون، فلا تسأل الحكومة عن الضرر الذي ينجم عنه؛ إذ لا مندوحة من أن يتحمل الأفراد نتائج النشاط الإداري المشروع أي المطابق للقانون، ولا يمكن ترتيب مسئولية الدولة على أساس تبعة المخاطر - كأصل عام - إلا إذا وجد نص تشريعي خاص يقضي بذلك، والواقع من الأمر أن المنحة المالية التي قررتها المادة الأولى من القانون رقم 600 لسنة 1953 هي من هذا القبيل.
ومن حيث إن نص المادة الثانية من القانون المذكور، وإن جاء مضيقاً لاختصاص القضاء مانعاً إياه من نظر هذه المنازعات إلغاء أو تعويضاً، إلا أنه لا وجه للنعي عليه بعدم الدستورية، بدعوى مصادرته لحق التقاضي أو إخلاله بمبدأ المساواة أمام القانون؛ ذلك أنه تجب التفرقة بين المصادرة المطلقة لحق التقاضي عموماً وبين تحديد دائرة اختصاص القضاء. وإذا كان لا يجوز من الناحية الدستورية حرمان الناس كافة من الالتجاء إلى القضاء للانتصاف؛ لأن في ذلك مصادرة لحق التقاضي وهو حق كفل الدستور أصله، إذ تكون مثل هذه المصادرة المطلقة بمثابة تعطيل وظيفة السلطة القضائية" وهي سلطة أنشأها الدستور لتمارس وظيفتها في أداء العدالة مستقلة عن السلطات الأخرى - لئن كان ذلك كذلك، إلا أنه لا يجوز الخلط بين هذا الأمر وبين تحديد دائرة اختصاص القضاء بالتوسيع أو التضييق؛ لأن النصوص الدستورية تقضي بأن القانون هو الذي يرتب جهات القضاء ويعين اختصاصاتها، وبهذا نصت المادة 125 من دستور سنة 1923 والمادة 176 من دستور جمهورية مصر، وينبني على ذلك أن كل ما يخرجه القانون من ولاية القضاء يصبح معزولاً عن نظره، وهذا أصل من الأصول المسلمة. وقديماً قالوا إن القضاء يتخصص بالزمان والمكان والخصومة، وعلى هذا الأصل الدستوري صدرت التشريعات الموسعة أو المضيقة لولاية القضاء في جميع العهود وفي شتى المناسبات، كالنصوص التشريعية المانعة من النظر في أعمال السيادة سواء بالإلغاء أو بالتعويض، وكالنصوص التي كانت تمنع القضاء من النظر في طلبات إلغاء القرارات الإدارية أو وقف تنفيذها، إلى أن أنشئ مجلس الدولة فجعل ذلك من اختصاصه على الوجه المحدد بقانونه، وكتلك النصوص التي تمنع سماع الدعاوى في شأن تصرفات السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية بعد انتهائها إلغاء أو تعويضاً، وكالمادة 13 من المرسوم بقانون رقم 178 لسنة 1952 الخاص بالإصلاح الزراعي التي تمنع جميع جهات القضاء من النظر في طلبات إلغاء أو وقف تنفيذ قرارات الاستيلاء أو في المنازعات المتعلقة بملكية الأطيان المستولى عليها، وكالمادة السابعة من المرسوم بقانون رقم 181 لسنة 1952 الخاص بفصل الموظفين بغير الطريق التأديبي التي تمنع القضاء الإداري من نظر طلبات إلغاء قرارات الفصل أو وقف تنفيذها، وكالمادة 14 من القانون رقم 598 لسنة 1953 بشأن أموال أسرة محمد على المصادرة التي تمنع المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها من سماع الدعاوى المتعلقة بتلك الأموال، وكالمادة 291 من القانون رقم 345 لسنة 1956 في شأن تنظيم الجامعات المصرية التي تمنع القضاء الإداري من النظر في طلبات إلغاء أو وقف تنفيذ القرارات الصادرة من الهيئات الجامعية في شئون طلابها - ولا شبهة في دستورية هذه التشريعات جميعاً، ما دام القانون هو الأداة التي تملك بحكم الدستور ترتيب جهات القضاء وتعيين اختصاصاتها؛ ومن ثم فله أن يضيقها أو أن يوسعها بالشروط والأوضاع التي يقررها.
ومن حيث إنه لا وجه للنعي على تلك المادة بأنها تنطوي على إخلال بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء؛ لأن المقصود بالمساواة في هذا الشأن هو عدم التمييز بين أفراد الطائفة الواحدة إذا تماثلت مراكزهم القانونية، ولم يتضمن القانون المشار إليه أي تمييز من هذا القبيل بين الموظفين الذين تنطبق عليهم أحكامه.
ومن حيث إن نص المادة الثانية من القانون السالف الذكر جاء صريحاً قاطعاً في عدم جواز الطعن بإلغاء أو وقف تنفيذ القرارات الصادرة بالاستناد إليه، وفي عدم جواز سماع الدعاوى الخاصة بالتعويض عنها أمام جميع المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، لا فرق في ذلك بين من طبقت الإدارة القانون في حقه تطبيقاً سليماً وبين من عساها تكون قد أخطأت في تطبيقه بالنسبة إليه؛ وذلك لحكمة واضحة إذ المقصود من هذا المنع هو سد باب المنازعات القضائية في هذا الشأن، استقراراً للدولاب الحكومي. وإذا كان الشارع قد نص في المادة الأولى من هذا القانون على أن الفصل يلحق من تتبين عدم صلاحيته للوظيفة من الموظفين من الدرجة الثانية فما فوقها، فليس مفاد ذلك أن الاختصاص القضائي بنظر المنازعة أو عدم اختصاصه بها - والاختصاص مسألة فرعية سابقة على نظر الموضوع - يتوقف على تبين ما إذا كان الموظف صالح، أو غير صالح، وهي مسألة من صميم الموضوع، بل الظاهر أن هذا بعيد عن مقصود الشارع الذي أراد عزل جميع جهات القضاء عن نظر هذه المنازعات سداً لهذا الباب للحكمة التي ارتآها، أما الخطاب في شأن ما نصت عليه المادة الأولى فموجه إلى السلطات التنفيذية التي تصدر قرارات الفصل بالتطبيق لأحكام هذه المادة، وإذا أخطأت في هذا التطبيق فلا تكون مساءلتها عن ذلك عن طريق القضاء بعد إذ امتنع عليه النظر في هذا الشأن بنص المادة الثانية، وإنما تكون مساءلتها بغير الوسيلة القضائية؛ كالالتجاء إلى السلطات التي أصدرت القرار أو السلطات الأعلى.
ومن حيث إنه لكل ما تقدم يتعين إلغاء الحكم المطعون فيه في شقه الخاص بطلب التعويض، والقضاء بعدم جواز سماعه، وتأييد الحكم فيما عدا ذلك.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبعدم جواز سماع دعوى التعويض، وبتأييده فيما عدا ذلك، وألزمت المدعي بالمصروفات.