مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثالثة - العدد الأول (من أول أكتوبر سنة 1957 إلى آخر يناير سنة 1958) صـ 52

(6)
جلسة 9 من نوفمبر سنة 1957

برياسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة السيد علي الدمراوي والسيد إبراهيم الديواني ومصطفى كامل إسماعيل والدكتور ضياء الدين صالح المستشارين.

القضية رقم 904 لسنة 3 القضائية

( أ ) إساءة استعمال السلطة - عيب الانحراف هو من العيوب القصدية في السلوك الإداري قوامه أن يكون لدى الإدارة قصد إساءة استعمال السلطة - عرض الاستقالة على موظف وتبصيره بأحكام القانون رقم 600 لسنة 1953 - اعتقاد الإدارة وقتئذٍ أنه غير صالح - مشروعية هذا المسلك.
(ب) استقالة - قرار مجلس الوزراء في 4/ 11/ 1953 - القول بأن سلطة الإدارة في تنفيذه تقف عند حد إذاعته على الموظفين دون التدخل بتحذيرهم من مغبة احتمال تطبيقه أو تطبيق القانون رقم 600 لسنة 1953 عليهم - غير صحيح قانوناً - حجة ذلك.
1 - القول بأن الإدارة إذا عرضت على الموظف اعتزال الخدمة ولوحت بتطبيق القانون رقم 600 لسنة 1953 في شأنه يكون مسلكها مشروعاً إذا تبين للمحكمة فيما بعد أن الموظف غير صالح، ويكون غير مشروع إذا تبين لها أنه صالح - هذا القول لا يستقيم إلا إذا كانت الإدارة حين سلكت هذا المسلك توقن بأن الموظف صالح ومع ذلك حملته على اعتزال الخدمة بالتهديد بتطبيق القانون عليه؛ إذ يكون مسلكها عندئذٍ معيباً بإساءة استعمال السلطة وبالانحراف بها؛ باستعمال أداة قانونية في غير ما شرعت له، أما إذا كانت تعتقد وقتئذٍ أنه غير صالح فلا يكون مسلكها معيباً بمثل هذا العيب الخاص؛ إذ غني عن البيان أن إساءة استعمال السلطة أو الانحراف بها هو من العيوب القصدية في السلوك الإداري قوامه أن يكون لدى الإدارة قصد إساءة استعمال السلطة أو الانحراف بها.
2 - القول بأن سلطة جهات الإدارة في تنفيذ قرار مجلس الوزراء الصادر في 4 من نوفمبر سنة 1953 تقف عند حد إذاعته على الموظفين دون التدخل بعد ذلك في شيء، ليس صحيحاً؛ لأن الباعث على إصدار القرار هو إصلاح الأداة الحكومية ورفع مستواها عن طريق التخلص من الموظفين غير الصالحين من الدرجة الثانية فما فوقها، في قطاع هو مركز الصدارة، وفي منطقة هي جبهة القيادة من تلك الأداة، ولم يقصد القرار أبداً التخلص ممن توقن الإدارة بصلاحيتهم. ومن أجل هذا جعل الزمام بيد مجلس الوزراء، فلا يجيز الاعتزال إلا لمن يرى أنه غير صالح، كما أن القانون رقم 600 لسنة 1953 ليس منقطع الصلة بالقرار، بل هو مكمل له، وشرع لتحقيق الغاية ذاتها. وإذا كان ذلك هو فحوى القرار ثم القانون، وتلك هي الغاية التي يتلاقيان فيها فيكون من غير المقبول - والحالة هذه - القول بأن وظيفة الجهات الإدارية تقف فقط عند مجرد إذاعة القرار على الموظفين، بل هي على العكس من ذلك منوط بها تنفيذه والعمل على تحقيق أهدافه. فلا جناح عليها إن هي بصرت موظفاً ممن تعتقد أنهم ممن يعنيهم هذا القرار بما يفيده من مزايا اعتزال الخدمة بموجبه، وبصرته في الوقت ذاته بما قد يتعرض له من احتمال تطبيق القانون عليه إن لم يعتزل الخدمة بموجب القرار - لا جناح عليها في ذلك، بل هي مندوبة إليه؛ ومن ثم فهي في هذا كله لم تتخذ وسائل غير مشروعة، ولم تجاوز سلطتها أو تسئ استعمالها أو تنحرف بها، بل سلكت المسلك الواجب بحكم وظيفتها في القيام على تنفيذ القوانين واللوائح بروحها وتحقيق المصلحة العامة المنشودة منها.


إجراءات الطعن

في 3 من أغسطس سنة 1957 أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة سكرتيرية هذه المحكمة عريضة طعن قيد تحت رقم 904 سنة 3 ق في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري بجلسة 30 من يونيه سنة 1957 في الدعوى المقامة من السيد/ عبد العزيز حسن النوتي ضد وزارة الزراعة والقاضي: بإلزام الحكومة بأن تدفع للمدعي مبلغ ألف وخمسمائة جنيه، والمصاريف المناسبة، ومبلغ ألف قرش مقابل أتعاب المحاماة. وقد أعلن الطعن إلى المطعون عليه في 10/ 8/ 1957 وإلى وزارة الزراعة في 12/ 8/ 1957، وعين لنظر الدعوى جلسة 5 من أكتوبر سنة 1957، وفيها سمعت المحكمة الإيضاحات على الوجه المبين بالمحضر، ثم أرجئ النطق بالحكم لجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة، حسبما هو مستفاد من الأوراق، تتحصل في أن المطعون عليه أقام دعواه بصحيفة قال فيها إنه حصل على شهادة الدراسة الثانوية قسم ثان علمي في سنة 1921، ثم رحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية على نفقته الخاصة طلباًً للدراسات العالية، حيث حصل على بكالوريوس في الزراعة من جامعة تكساس سنة 1925 وعلى درجة أستاذ في العلوم وماجستير في الصناعات الزراعية من جامعة كاليفورنيا سنة 1926، ثم قضى سنتين يتمرن تحت إشراف هذه الجامعة في أشهر مصانع المنتجات بكاليفورنيا. وأنه في منتصف سنة 1928 عاد إلى مصر وصادف آنئذٍ أن حكومتها قررت استدعاء خبير من أمريكا لإنشاء مصنع حكومي لحفظ وتجفيف البلح يكون نموذجاً لهذه الصناعة في مصر والبلاد العربية. ولما اتصلت وزارة الزراعة بهذا الخبير اعتذر وأشار عليها بأن تعهد في إنشاء هذا المصنع إلى المدعي لما ناله من علم وخبرة بذلك في أمريكا، وزكى ما أشار به الخبير الأستاذ المساعد لمنتجات الفاكهة بجامعة كاليفورنيا. وعلى أثر هذه التزكية المزدوجة وبسببها عين المدعي في وظيفة اختصاصي ثان لمصلحة البساتين بالسلك المؤقت بالدرجة الخامسة الدائمة مباشرة بقرار من مجلس الوزراء في 7 من أكتوبر سنة 1928. وما أن استلم عمله حتى اتصل بالشركات المختصة في أمريكا وأنشأ المصنع على أحدث طراز، ثم قام بإعداد مواصفات سائر مصانع المنتجات الزراعية بالمصلحة، وأشرف على إنشائها، وكان من أثر نجاحها أن قامت في أنحاء البلاد مصانع أهلية على غرار المصانع الحكومية أدت وما تزال تؤدي خدمات جليلة للاقتصاد القومي. هذا إلى أن مصانع الحكومة كانت تقوم تحت إشراف المدعي بتموين القوات المسلحة بالأغذية المحفوظة وما زالت قائمة بذلك إلى الآن. وأنه في سنة 1937 ندبت الحكومة المدعي للسفر إلى المملكة العربية السعودية لإدخال صناعة تجفيف البلح فيها، فأدى مهمته خير أداء، ثم مثل الحكومة في المؤتمر الدولي السابع للصناعات الزراعية الذي انعقد في بودابست عاصمة المجر في سنة 1939، وكذلك أوفد في سنة 1942 لزيارة مصانع الأغذية المحفوظة بفلسطين فأدخل ما اقتبسه منها في مصانع وزارة الزراعة، كما أوفد في سنة 1952 إلى العراق لزيارة مصانع حفظ البلح وتجفيفه، وقد قدم إلى الوزارة تقارير وافية عن كل مهمة من تلك المهام. ورغم هذا لم يرق المدعي إلى الدرجة الرابعة إلا في 6 من إبريل سنة 1944 ضمن المنسيين. غير أنه استدرك بعد ذلك بعض ما فاته مما لم يكن له ذنب فيه، فرقي إلى الدرجة الثالثة في أغسطس سنة 1948، فالثانية في نوفمبر سنة 1951، وكان مرشحاً للترقية إلى الدرجة الأولى في سنة 1953، إذ أن تقريره عن تلك السنة قد اعتبره في درجة جيد من جهة القدرة على العمل والمواظبة عليه والإنتاج فيه ومن جهة معاملته للجمهور والرؤساء والزملاء والمرءوسين. وفي هذه الأثناء ارتقى في وظيفته إلى اختصاصي أول بمصلحة البساتين؛ ثم إلى مساعد كبير الاختصاصيين بها. وأنه قد بلغ من تقدير وزارة الزراعة لعمل المدعي وجهده أن تقدمت إلى وزارة المالية أربع مرات طالبة منها الحصول على موافقة اللجنة المالية ومجلس الوزراء على تثبيته وحساب مدة خدمته المؤقتة في المعاش - المرة الأولى في سنة 1942، والثانية في سنة 1947، والثالثة في سنة 1948، والرابعة في سنة 1950 - فكانت وزارة المالية ترد على وزارة الزراعة بأنها ترى إرجاء النظر في حالة تثبيته تارة انتظاراً لوضع قواعد جديدة للمعاشات وتارة أخرى حتى يبت نهائياً في مشروع قانون المعاشات الذي كان معروضاً على البرلمان والذي ينظم حالات التثبيت بصفة عامة. وكان أن قرر مجلس الوزراء في 4 من نوفمبر سنة 1953 ضم مدة خدمة لا تجاوز السنتين مع أداء الفرق بين المرتب والمعاش لموظفي الدرجة الثانية فأعلى الذين يقدمون طلباً في خلال ستين يوماً باعتزال الخدمة متى أجاز المجلس ذلك. والباعث - كما يقول القرار ذاته - إفساح مجال الترقي أمام العناصر الممتازة من موظفي الحكومة وفتح باب التوظف أمام المتفوقين من خريجي الجامعات والمعاهد العلمية. وما أن أوشك الميعاد المحدد في القرار على نهايته حتى صدر القانون رقم 600 لسنة 1953 في 9 ديسمبر سنة 1953، مجيزاً لمجلس الوزراء - بناءً على اقتراح لجنة إدارية يشكلها - أن يحيل إلى المعاش من تتبين عدم صلاحيته لوظيفته من الموظفين من الدرجة الثانية فما فوقها قبل بلوغ السن المقررة لترك الخدمة على أساس ضم مدة لا تجاوز السنة مع أداء الفرق بين المرتب والمعاش مشاهرة وذلك خلال مدة تبدأ من 3 من يناير سنة 1954 وتنتهي في 10 منه. وقد حظر هذا القانون الطعن بالإلغاء أو بوقف التنفيذ في القرارات التي تصدر تطبيقاً لأحكامه، كما منع سماع الدعاوى الخاصة بالتعويض عنها أمام المحاكم على اختلاف أنواعها. ثم حدث في يوم 29 من ديسمبر سنة 1953 أن استدعى المدعي لمقابلة الدكتور عباس الساوي الوكيل المساعد لوزارة الزراعة بمكتب السيد علي صادق مدير قسم المشاتل والتجارب بمصلحة البساتين، وفي حضور هذا المدير كلف الوكيل المساعد المدعي أن يقدم استقالته من وظيفته على أساس القواعد التي تضمنها قرار مجلس الوزراء الصادر في 4 من نوفمبر سنة 1953، ولما سأله المدعي عن الأسباب التي جعلت الوزارة تطلب منه الاستقالة أجابه أن اسمه ضمن كشف وضعته لجنة مشكلة من أربعة وزراء لإخراج من فيه من الخدمة، وقد ورد هذا الكشف للوزارة من المراجع العليا، ثم نصحه هو والسيد علي صادق بالاستقالة؛ كيما يخرج بكرامته. وقد فهم المدعي من ذلك أنه إذا لم يعتزل الخدمة طوعاً عملاً بقرار مجلس الوزراء الصادر في 4 من نوفمبر سنة 1953 فإنه من المقرر فصله بالتطبيق للقانون رقم 600 لسنة 1953 على اعتبار عدم صلاحيته لوظيفته. وكانت صدمة قاسية تلك التي تلقاها في وقت كان ينتظر فيه الترقية إلى الدرجة الأولى ويأمل لكفايته المعروفة للوزارة أن تسنح له الفرصة لمزيد من الرقي خلال السنوات الست الباقية له في الخدمة. وفي مساء اليوم ذاته عرض المدعي على أخيه الأستاذ محمد حسن النوتي المحامي ما كان من أمر الدكتور عباس الساوي معه طالباً منه الرأي، فاستمهله حتى يتحرى الأمر من الدكتور الساوي، وقد قابله يوم 31 من ديسمبر سنة 1953 فكرر النصح بالاستقالة ضناً بالكرامة. وكان المدعي قد قابل الدكتور محمد بهجت مدير مصلحة البساتين بالنيابة غداة مقابلته للوكيل المساعد وأبلغه ما حصل، فأخبره المدير أنه لا يعرف شيئاً عن هذا الأمر؛ إذ لم يسبق أخذ رأيه فيه، واستمهله هو كذلك حتى يقصد الوزارة مستفسراً، ولما عاد قال له إنه تحدث مع السيد يونس ثابت الوكيل الدائم في خصوصه، وعلم منه أن الكشف الذي تضمن اسمه ورد الوزارة من الجهات العليا وأنها هي لا شأن لها في أمره. ونظراً إلى أن ميعاد العمل بالقانون رقم 600 لسنة 1953 يبدأ يوم 3 من يناير سنة 1954 وبه ينتهي ميعاد العمل بقرار مجلس الوزراء المؤرخ 4 من نوفمبر سنة 1953، فقد اضطر - خشية معاملته بهذا القانون بما ينطوي عليه من مضرة مادية وإيذاء أدبي - أن يقدم استقالته في يوم 2 من يناير سنة 1954 على أساس قرار مجلس الوزراء سالف الذكر. وفي 11 من يناير سنة 1954 أصدر السيد وزير الزراعة أمره بقبول الاستقالة اعتباراً من أول يناير سنة 1954 وأبلغ المدعي بهذا القرار يوم 16 من يناير سنة 1954. واستطرد المدعي إلى القول بأن تكليفه بالاستقالة على الوجه السابق الذكر - ودليله عليه استشهاد السادة عباس الساوي وعلي الصادق ومحمد حسن النوتي ومحمد بهجت ويونس ثابت والظروف التي حصل فيها هذا التكليف وهي مستفادة من المقارنة بين نصوص قرار مجلس الوزراء المؤرخ 4 من نوفمبر سنة 1953 وبين أحكام القانون رقم 600 لسنة 1953 والملابسات التي سبقت مباشرة الاستقالة وصاحبتها وتلتها، وهي ثابتة من تظلمات المدعي من تكليفه بتقديمها - كل ذلك لا يدع شكاً في أن هذه الاستقالة لم تصدر منه عن إرادة حرة ورغبة صحيحة ورضاء طليق، بل صدرت تحت ضغط من الإدارة جاوزت به حدود سلطتها، فجاوز بدوره حدود التصرف المشروع؛ إذ لم يكن لوكيل الوزارة المساعد أن يكلف المدعي بالاستقالة وأن ينصحه بها على هذه الصورة التي ألقت في نفسه رهبة حملته على تقديمها، بل كان متعيناً على الإدارة أن تترك المدعي وشأنه يختار حراً ما يراه أصلح له وهو أعرف الناس بظروفه وأقدرهم على اختيار السبيل الملائم لها؛ وبذلك تكاملت عناصر الإكراه الأدبي الذي يفسد الرضا ويبطل الإرادة، وأنه قد جرى قضاء محكمة القضاء الإداري على أن القرار الإداري الصادر بقبول استقالة شابها هذا الإكراه يكون مخالفاً للقانون على اعتبار أنه فصل غير مشروع. وانتهى المدعي إلى طلب الحكم بإلزام الحكومة بأن تؤدي إليه على سبيل التعويض مبلغ 260 م و5381 ج والفوائد بسعر 4% من تاريخ المطالبة الرسمية حتى الوفاء مع مصروفات الدعوى. وقد ردت الحكومة على الدعوى بأنه بتاريخ 2/ 1/ 1954 أرسل المدعي طلباً يلتمس فيه الموافقة على اعتزاله الخدمة مع ضم سنتين لمدة خدمته وحفظ حقه في الأجزى له في المكافأة أو الادخار تطبيقاً لقرار مجلس الوزراء الصادر في 16/ 12/ 1953، وقد صدر أمر الوزارة رقم 546 بتاريخ 11/ 1/ 1954 بقبول استقالته من 1/ 1/ 1954 مع ضم السنتين إلى مدة خدمته. وقررت الحكومة أن ما ورد بالعريضة من أن السيد وكيل الوزارة المساعد قد كلف المدعي بالاستقالة ثم نصحه هو والسيد مدير قسم المشاتل والتجارب بمصلحة البساتين كي يخرج بكرامته لا يتفق والحقيقة. والذي حدث فعلاً هو إبلاغ المدعي وغيره بقرار مجلس الوزراء وبالقانون رقم 600 لسنة 1953، وكان للمدعي، كما كان لغيره من الموظفين الذين ينطبق عليهم القرار المذكور، مطلق الحرية في اختيار الطريق الذي يرون سلوكه. وفي 30 من يونيه سنة 1957 صدر الحكم المطعون فيه بإلزام الحكومة بأن تدفع للمدعي مبلغ 1500 ج والمصاريف المناسبة ومقابل أتعاب المحاماة. واستند في أسبابه إلى أنه لا يوجد في ملف خدمة المدعي ما يفيد أنه وجه إليه يوماً لوم أو نسب إليه تقصير أو قدم لمحاكمة، بل على العكس من ذلك كانت شهادة رؤسائه عنه في كل مرة عند تجديد عقده تحمل الثناء عليه والرضا عن عمله. وأن من كانت له ظروف المدعي لا يقبل على طلب اعتزال الخدمة طائعاً مختاراً، بل لا بد أن يكون هناك دافع له على تقديمها، مما يدعو المحكمة لأن تطمئن إلى صدق أقوال المدعي فيما يتعلق بالحديث الذي يقول إنه دار بين الدكتور عباس الساوي وكيل الوزارة المساعد وبينه في هذا الشأن في حضور السيد علي صادق مدير قسم المشاتل، لا سيما وقد رفضت الوزارة الإذن لموظفيها بإبداء أقوالهم في هذه الواقعة دون أن تبدي لهذا الرفض سبباً، وأن تهديد الموظف الصالح بفصله طبقاً لأحكام القانون رقم 600 لسنة 1953 الذي ما شرع إلا لفصل غير الصالح من الموظفين يعتبر تهديداً بأمر غير مشروع، هو الانحراف في تطبيق القانون، مما تتوافر معه عناصر الإكراه ويكون طلب الاستقالة المقدم منه تحت تأثير هذا التهديد باطلاً لانعدام ركن الرضاء، ويكون القرار الصادر بقبولها باطلاً لانعدام ركن السبب. وقد طعن السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة في هذا الحكم، وبنى طعنه على أنه إن صح جدلاً أن وزارة الزراعة لوحت للمدعي بتطبيق أحكام القانون رقم 600 لسنة 1953 عليه، فإن التلويح بتطبيق قانون من قوانين الدولة لا يصح اعتباره إكراهاً مفسداً للرضاء؛ لأن تطبيق الجهة الإدارية لأحكام أي قانون إنما مرده إلى السلطة التي خولها إياها ذلك القانون؛ وعلى ذلك يكون تصرفها عملاً مشروعاً، والإكراه المفسد للرضاء ينبغي أن يقوم على تهديد بعمل غير مشروع. وإذ ذهب الحكم المطعون فيه غير هذا المذهب فإنه يكون قد وقع مخالفاً للقانون، متعيناً الطعن فيه.
ومن حيث إنه يخلص مما تقدم أن مثار النزاع ينحصر فيما إذا كان قد شاب إرادة المدعي عند تقديم طلب اعتزال الخدمة إكراه مفسد للرضا من عدمه.
ومن حيث إن هذه المحكمة سبق أن قضت بأن طلب اعتزال الخدمة باعتباره مظهراً من مظاهر إرادة الموظف يجب أن يصدر برضاء صحيح، فيفسده ما يفسد الرضا من عيوب، ومنها الإكراه إذا توافرت عناصره وشروطه القانونية؛ وذلك بأن يقدم الموظف الطلب تحت سلطان رهبة بعثتها الإدارة في نفسه دون وجه حق وكانت قائمة على أساس؛ بأن كانت ظروف الحال تصور له أن خطراً جسيماً محدقاً يهدده هو أو غيره في النفس أو الجسم أو الشرف أو المال، ويراعى في تقدير الإكراه جنس من وقع عليه هذا الإكراه وسنه وحالته الاجتماعية والصحية وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر في جسامته. وأن الإكراه يشتمل على عنصرين: عنصر موضوعي، وهو الوسائل التي تولد الإيذاء بخطر جسيم محدق بالنفس أو المال، وعنصر نفساني، وهو الرهبة التي تبعثها تلك الوسائل في النفس بغير حق فتحمل الموظف على تقديم الاستقالة. وأن الإكراه - باعتباره مؤثراً في صحة القرار الإداري - يخضع لتقدير المحاكم الإدارية في حدود رقابتها لمشروعية القرارات الإدارية، كما يخضع لرقابة المحكمة الإدارية العليا في تعقيبها على أحكام تلك المحاكم.
ومن حيث إن محصل ما ينعاه المدعي من إكراه شاب رضاه عند تقديم طلب اعتزال الخدمة أنه كان واقعاً عند تقديم هذا الطلب تحت ضغط عليه من أولي الشأن في الوزارة وإلا تعرض لتطبيق القانون رقم 600 لسنة 1953 في حقه باحتمالاته التي قد تتمخض عن وضع أسوأ له، فلم يكن أمامه إلا أن يختار أخف الضررين، وأن ما اتبعته الوزارة معه ينهض إلى حد الوسائل غير المشروعة التي بعثت في نفسه بغير حق الرهبة الجدية التي أفسدت رضاه.
ومن حيث إن ما ينسبه المدعي إلى الإدارة من موقف اتخذته حياله بمناسبة تطبيق قراري مجلس الوزراء الصادرين في 4 و25 من نوفمبر سنة 1953 لو صح لما كان إكراهاً مفسداً للرضا؛ لانتفاء ركن عدم المشروعية، سواء في الوسائل أو في الغاية؛ إذ ينبغي لكي يكون ثمة إكراه من هذا القبيل أن تبعث الرهبة بوسائل غير مشروعة ولغاية غير مشروعة؛ حتى يصدق على الرهبة أن الإدارة قد بعثتها في نفسه بغير حق؛ ذلك أن هذا الموقف لا يعدو أن يكون من جانب الإدارة تنفيذاً لأغراض قراري مجلس الوزراء المشار إليهما وتحقيقاً لوجه المصلحة العامة التي تغياها هذان القراران، فلا تثريب على الإدارة - والحالة هذه - إن هي بصرت موظفاً ممن يعنيهم هذان القراران بالمزايا التي يفيد منها بالتطبيق لأحكامهما، وبصرته في الوقت ذاته بما قد يتعرض له من احتمال تطبيق القانون رقم 600 لسنة 1953 في حقه، ثم تركت له التقدير في هذا الشأن - إن الإدارة في مسلكها هذا لم تتخذ وسائل غير مشروعة أو تنحرف بسلطتها عن الغاية المشروعة، بل سلكت المسلك الواجب بحكم وظيفتها في القيام على تنفيذ القوانين واللوائح؛ إذ هي مخاطبة بمقتضى القرارين المذكورين للعمل على تحقيق أغراضهما. فموقفها في تطبيقهما يكون - والحالة هذه - مشروعاً في الوسيلة والغاية معاً. ولا يغير من هذا النظر التبصير في الوقت ذاته باحتمال التعرض لتطبيق القانون رقم 600 لسنة 1953 الذي ينطوي على مزايا أقل ويجعل الموظف في مركز أسوأ لو طبق في حقه؛ لأن ذلك لو صح من جانب الإدارة يكون في ذاته مسلكاً مشروعاً في وسيلته وغايته، ما دام هو قانوناً من قوانين الدولة الواجبة التطبيق. كما وليس في التلويح به لموظف في مناسبة تطبيق القرارين سالفي الذكر انحراف بالسلطة عن طريق استعمال هذا القانون في غير الغاية التي أعد لها؛ ذلك أن القرارين والقانون جميعها من التنظيمات العامة التي تستهدف في النهاية غاية واحدة هي إصلاح الأداة الحكومية ورفع مستواها، يقطع في ذلك ما كشفت عنه المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 600 لسنة 1953 إذ ربطت بينها في الغاية والغرض؛ فبعد أن استهلت بالإشارة إلى القرارين والغرض المقصود منهما صرحت بما يلي ".... وقد تقدم عدد قليل من الموظفين للإفادة من هذين القرارين وبهذا لم ينتجا الأثر المطلوب من استصدارهما. ولهذا أعد مشروع القانون المرافق..."، فلا يمكن القول - والحالة هذه - بأن التلويح بتطبيق هذا القانون في مناسبة تطبيق قراري 4 و25 من نوفمبر سنة 1953 هو انحراف بالسلطة باستعمال أداة قانونية لغير الغاية التي أعدت لها ما دامت تلك التنظيمات تستهدف في النهاية أغراضاً واحدة.
ومن حيث إنه لا غناء في هذا الشأن فيما ذهب إليه الحكم المطعون فيه من أن التلويح أو التصريح بتطبيق القانون رقم 600 لسنة 1953 ليس عملاً مشروعاً في كل الأحوال، بل يتوقف على ما إذا كان يتبين للمحكمة أن الموظف صالح أو غير صالح، فإن تبين أنه صالح كان ما فعلته الإدارة انحرافاً بالسلطة بتطبيق القانون في غير ما أعد له، وكان حمل الموظف على اعتزال الخدمة تحت هذا الضغط إكراهاً مستكملاً عناصره وأركانه القانونية مفسداً للرضا بطلب اعتزال الخدمة، أما إذا تبين أن الموظف غير صالح فإنها تستعمل حقها في تطبيق القانون، ولا يكون التهديد في مثل هذه الحالة إلا نصيحة تسدى إلى الموظف ليقدم استقالته بدلاً من فصله - كما لا غناء لذلك فيما جاء بمذكرة المدعي الأخيرة من أنه لا يدخل في سلطة جهات الإدارة عقب صدور قرار مجلس الوزراء في 4 من نوفمبر سنة 1953 أن تكلف أي موظف بأن يستقيل عملاً بأحكامه، بل يقف سلطانها في تنفيذه عند حد إذاعته على الموظفين، فإذا جاوزت ذلك إلى تكليف الموظف بالاستقالة وقرنت التكليف بتهديده بالمعاملة بقانون أقل مزايا من القرار كان ذلك منها مجاوزة لسلطتها، وهي عمل آخر غير مشروع إلى جانب الانحراف بها في تطبيق قانون في غير ما شرع له - لا غناء في هذا كله؛ لأن القول بأن مسلك الإدارة يكون مشروعاً إذا تبين للمحكمة فيما بعد أن الموظف غير صالح ويكون غير مشروع إذا تبين لها أنه صالح لا يستقيم إلا إذا كانت الإدارة حين سلكت هذا المسلك توقن بأن الموظف صالح ومع ذلك حملته على اعتزال الخدمة بالتهديد بتطبيق القانون عليه؛ إذ يكون مسلكها عندئذ معيباً بإساءة استعمال السلطة وبالانحراف بها باستعمال أداة قانونية في غير ما شرعت له، أما إذا كانت تعتقد وقتئذٍ أنه غير صالح فلا يكون مسلكها معيباً بمثل هذا العيب الخاص؛ إذ غني عن البيان أن إساءة استعمال السلطة أو الانحراف بها هو من العيوب القصدية في السلوك الإداري قوامه أن يكون لدى الإدارة قصد إساءة استعمال السلطة أو الانحراف بها. كما أنه ليس بصحيح أن سلطة جهات الإدارة في تنفيذ قرار مجلس الوزراء الصادر في 4 من نوفمبر سنة 1953 تقف عند حد إذاعته على الموظفين دون التدخل بعد ذلك في شيء - ليس ذلك صحيحاً؛ لأن الباعث على إصدار القرار هو - كما سلف القول - إصلاح الأداة الحكومية ورفع مستواها عن طريق التخلص من الموظفين غير الصالحين من الدرجة الثانية فما فوقها، في قطاع هو مركز الصدارة، وفي منطقة هي جبهة القيادة من تلك الأداة، ولم يقصد القرار أبداً التخلص ممن توقن الإدارة بصلاحيتهم؛ ومن أجل هذا جعل الزمام بيد مجلس الوزراء، فلا يجيز الاعتزال إلا لمن يرى أنه غير صالح. والقانون المشار إليه ليس منقطع الصلة بالقرار، بل هو - كما سبق إيضاحه - مكمل له، وشرع لتحقيق الغاية ذاتها، وإذا كان ذلك هو فحوى القرار ثم القانون، وتلك هي الغاية التي يتلاقيان فيها؛ فيكون من غير المقبول - والحالة هذه - القول بأن وظيفة الجهات الإدارية تقف فقط عند مجرد إذاعة القرار على الموظفين، بل هي على العكس من ذلك منوط بها تنفيذه والعمل على تحقيق أهدافه. فلا جناح عليها إن هي بصرت موظفاً ممن تعتقد أنهم ممن يعنيهم هذا القرار بما يفيده من مزايا اعتزال الخدمة بموجبه وبصرته في الوقت ذاته بما قد يتعرض له من احتمال تطبيق القانون عليه إن لم يعتزل الخدمة بموجب القرار - لا جناح عليها في ذلك، بل هي مندوبة إليه؛ ومن ثم فهي في هذا كله لم تتخذ وسائل مشروعة ولم تجاوز سلطتها أو تسئ استعمالها أو تنحرف بها، بل سلكت المسلك الواجب بحكم وظيفتها في القيام على تنفيذ القوانين واللوائح بروحها وتحقيق المصلحة العامة المنشودة منها.
ومن حيث إنه لكل ما تقدم يكون الحكم المطعون فيه قد أخطأ في تأويل القانون وتطبيقه؛ ومن ثم يتعين القضاء بإلغائه، وبرفض الدعوى.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبرفض الدعوى، وألزمت المدعي بالمصروفات.