مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد المدنية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الثالث (عن المدة من 2 نوفمبر سنة 1939 لغاية 29 أكتوبر سنة 1942) - صـ 192

جلسة 9 مايو سنة 1940

برياسة سعادة محمد لبيب عطية باشا وكيل المحكمة وبحضور حضرات: محمد فهمي حسين بك وعلي حيدر حجازي بك ومحمد زكي علي بك ومحمد كامل مرسي بك المستشارين.

(58)
القضية رقم 49 سنة 9 القضائية [(1)]

( أ ) قوة الشيء المحكوم فيه. حكم جنائي. حجيته أمام المحكمة المدنية. مداها. علتها. حكم في جريمة الاعتياد على الإقراض بفوائد ربوية. التزام القاضي المدني به من جهة ما أثبته من سعر الفائدة ومن وقائع الإقراض. (المادة 19 من قانون تحقيق الجنايات المختلطة الصادر في 31 يوليه سنة 1937 والمادة 232 مدني)
(ب) صلح مصدّق عليه. اتفاق. ليست له حجية الشيء المحكوم فيه.
(المادة 68 مرافعات والمادتان 232 و532 مدني)
(جـ) فوائد ربوية. الاتفاق على فوائد زائدة على الحدّ القانوني. بطلانه فيما زاد على الحدّ. بطلان مطلق. إجازة هذا الاتفاق صراحة. لا تصح. استبدال دين آخر به أو إقراره بصلح. لا يصح. استرداد ما دفع زائداً. جوازه. حكم المادة 145 مدني. عام.
(المواد 125 و145 و478 مدني - قانون العقوبات)
(د) فوائد. مبدأ استحقاقها. المطالبة الرسمية. مقرض بفوائد زائدة على الحدّ. إلزامه برد ما قبضه زائداً على استحقاقه وبفوائده من تاريخ القبض. لا مخالفة في ذلك للقانون.
(المادتان 124 و146 من القانون المدني)
1 - الحكم الصادر في الدعوى الجنائية يجب أن تكون له حجية المحكوم فيه أمام المحكمة المدنية بالنسبة لما يقتضي الفصل في تلك الدعوى بيانه فيه حسب القانون متى كان مناط الدعوى المدنية ذات الفعل الذي تناوله هذا الحكم. وليست العلة في ذلك اتحاد الخصوم والموضوع والسبب في الدعويين، وإنما هي في الواقع توافر الضمانات المختلفة التي قرّرها الشارع في الدعاوى الجنائية ابتغاء الوصول إلى الحقيقة فيها لارتباطها بالأرواح والحرّيات - الأمر الذي تتأثر به مصلحة الجماعة لا مصلحة الأفراد مما يقتضي أن تكون الأحكام الجنائية محل ثقة على الإطلاق، وأن تبقى آثارها نافذة على الدوام. وهذا يستلزم حتماً ألا تكون هذه الأحكام معرّضة في أي وقت لإعادة النظر في الموضوع الذي صدرت فيه حتى لا يجرّ ذلك إلى تخطئتها من جانب أية جهة من جهات القضاء. وإذ كان تفادي التعارض على الوجه المتقدّم هو العلة في تقرير حجية الحكم الجنائي في الدعوى المدنية المتعلق موضوعها به فإن جريمة الإقراض بالربا لا تختلف في هذا الصدد عن غيرها من الجرائم لتوافر هذه العلة فيها هي أيضاً.
فالحكم الجنائي الصادر على المتهم في جريمة الاعتياد على الإقراض بفوائد ربوية يكون ملزماً للقاضي المدني فيما أثبته خاصاً بسعر الفائدة التي حصل الإقراض بها، لأن مقدار الفائدة عنصر أساسي في هذه الجريمة، وإذا أبيح للقاضي المدني إعادة النظر فيه لجاز أن يؤدّي ذلك إلى وجود التناقض بين الحكمين: المدني والجنائي في أمر هو من مستلزمات الإدانة. وكذلك يكون ملزماً له فيما أثبته عن وقائع الإقراض لتعلق هذه الوقائع أيضاً - مهما كان عددها - بالإدانة، إذ القانون لم ينص على عدد المرّات التي تكوّن الاعتياد الأمر الذي يستوجب أن تكون التهمة التي حصل العقاب عليها متضمنة جميع الأفعال الداخلة في الجريمة حتى وقت المحاكمة.
2 - إن نص المادة 68 مرافعات المنظمة للإجراءات التي تتبع في التصديق على الصلح قد أوجبت أن يحرّر القاضي محضراً بما وقع الاتفاق عليه، وبعد تلاوة هذا المحضر يضع كل من الخصوم إمضاء أو ختمه عليه، ويكون هذا المحضر في قوّة سند واجب التنفيذ، ويسلم الكاتب صورة منه بالكيفية والأوضاع المقرّرة للأحكام. وإذن فالقاضي وهو يصدّق على الصلح لا يكون قائماً بوظيفة الفصل في خصومة، لأن مهمته إنما تكون مقصورة على إثبات ما حصل أمامه من الاتفاق. وإذن فهذا الاتفاق لا يعدو أن يكون عقداً ليست له حجية الشيء المحكوم فيه وإن كان يعطي شكل الأحكام عند إثباته.
3 - إن كل اتفاق على فائدة تزيد على الحدّ الجائز الاتفاق عليه قانوناً يكون باطلاً فيما زاد على هذا الحدّ. وهذا البطلان مطلق لأن سببه مخالفة القانون والنظام العام، ولذلك لا تصح إجازته ولو صراحة، ومن باب أولى لا تصح إجازته ضمناً باستبدال دين آخر به أو بإقراره بصلح ولو كان أمام القاضي. وكل ما دفع زائداً على الفوائد الجائز الاتفاق عليها يجوز، بمقتضى المادة 145 من القانون المدني، المطالبة بردّه، فإن حكم هذه المادة عام غير مقصور على الأحوال التي يكون الدفع فيها واقعاً عن غلط.
4 - الأصل أن الفوائد لا تكون مستحقة إلا من يوم المطالبة الرسمية. لكن المادة 146 من القانون المدني قد نصت - خلافاً لهذا الأصل - على إلزام من يأخذ مبلغاً، وهو عالم بعدم استحقاقه إياه، بفوائده من يوم تسلمه له. وإذن فلا مخالفة للقانون في القضاء بإلزام المقرض بالربا الفاحش بفوائد المبالغ المحكوم عليه بردّها محسوبة من تاريخ قبضها.


الوقائع

تتلخص وقائع هذا الطعن - على ما يؤخذ من الحكم الابتدائي والحكم المطعون فيه وسائر المستندات المقدّمة وكانت من قبل تحت نظر محكمة الموضوع - في أن النيابة العمومية اتهمت محمد زكي أفندي في الدعوى رقم 2503 جنح السيدة سنة 1931 بأنه في المدّة من سنة 1920 إلى سنة 1931 بالقاهرة والواسطى اعتاد على إقراض نقود بفائدة تزيد على الحدّ الأقصى الممكن الاتفاق عليه قانوناً لعدّة أشخاص من بينهم الست أكيلة إسماعيل (المطعون ضدّها) إذ أقرضها في 18 من يناير سنة 1923 مبلغ 65 جنيهاً، وفي 5 من إبريل سنة 1923 مبلغ 56 جنيهاً، وفي 5 من مايو سنة 1923 مبلغ 24 جنيهاً وفي وفي وفي إلخ.
وجميع هذه المبالغ بفائدة 100% سنوياًً. وقد طلبت النيابة عقاب ذلك المتهم بالمادة 294 فقرة 2 و3 من قانون العقوبات. وفي أثناء التحقيق دخلت المطعون ضدّها مدّعية بحق مدني وطلبت الحكم لها مؤقتاً بمبلغ قرش واحد على سبيل التعويض مع حفظ حقها فيما تستحقه قبل المتهم. كما ادّعى بعض المقترضين الآخرين بحق مدني بعد تقديم القضية للجلسة.
دفع المتهم الدعوى بدفوع من بينها: (1) عدم قبول المدّعين بالحق المدني في دعاوى الاعتياد على الإقراض. (2) عدم قبول الدعاوى المدنية المقدّمة من المدّعين بالحق المدني لقيام محاضر صلح وأحكام نهائية تنصب على موضوعها. (3) بطلان إجراءات التحقيق التي تمت في القضية أمام النيابة العمومية. (4) عدم جواز سماع الشهود لإثبات وقائع الاعتياد على الإقراض بفوائد غير قانونية.
وفي 9 من مايو سنة 1933 حكمت محكمة السيدة زينب برفض تلك الدفوع وبحبس المتهم سنة واحدة مع الشغل وكفالة مائة جنيه لوقف التنفيذ وتغريمه 100 جنيه وألزمته بأن يدفع للمطعون ضدّها القرش الذي طلبته على سبيل التعويض. وقد ذكرت المحكمة في حكمها أن التهمة بالصورة التي رفعت بها الدعوى العمومية على المتهم وفيها بيان القروض الخاصة بالمطعون ضدّها وفوائدها قد ثبتت لديها بالأدلة التي فصّلتها.
استأنف المتهم والنيابة العمومية ذلك الحكم أمام محكمة مصر الابتدائية بالاستئناف رقم 11559 سنة 1933 فقضت تلك المحكمة في 2 من مايو سنة 1934 (أوّلاً) بالنسبة للدعاوى المدنية بإلغاء الحكم المستأنف وبعدم قبولها بانية حكمها على ما يأتي:
"ليس ثمة شك في أن الإقراض بالفوائد أمر يقرّه القانون الوضعي غير أنه وضع حدّاً لا يجوز أن تتعدّاه تلك الفوائد. وهذا من الوجهة المدنية البحت. أما فيما يتعلق بالقانون الجنائي فإن الأمر لا يزال عند حدّ الإباحة لا عقوبة عليه إذا تجاوزت الفائدة الحدّ الأقصى الذي أجازه المشرع إلا إذا اتخذ المقرض لنفسه عادة الإقراض متعدّياً تلك النسبة التي حدّدها القانون. فالمشرع إذن لا يعاقب على الإقراض في ذاته بفائدة فاحشة، وإنما يوجب العقوبة إذا تكررت هذه العملية من المقرض بحيث يصبح عادة. وبعبارة أخرى فإن الاعتياد هو الذي يكوّن الركن الأساسي الذي تستند إليه عملية الإقراض بالربا الفاحش كجريمة يعاقب القانون عليها وهو - كما تقول بحق محكمة النقض والإبرام المصرية بأحكامها الصادرة في 30 من يناير سنة 1930 وفي 4 من ديسمبر سنة 1930 و22 من فبراير سنة 1931 - وصف خلقي يعزى إلى شخص المقرض إثر مقارفته للفعل الأخير الذي يتحقق به ركن الاعتياد، وأنه لا شأن للمدّعين بالحق المدني ولا لغيرهم من المقترضين، ولو تعدّد على الواحد منهم فعل الإقراض فيطلب تبعاً تعويضاً عن ضرر أصابه من الجريمة، وأنه لا يمكن أن يتصّور وجود ضرر مباشر من عملية الإقراض بالربا الفاحش على المقترضين من شأنه أن يجيز قبول أحدهم مدّعياً بحق مدني مطالباً بتعويض عن هذا الضرر استناداً إلى نص المادة 54 تحقيق جنايات. ذلك لأنه إن أمكن تصّور ضرر يعود على المقترض فأساسه عملية القرض التي لا عقاب عليها في ذاتها والتي قد يكون للمجني عليه فيها الحق في العودة إلى مناقشتها من جديد أمام المحكمة المدنية المختصة مطالباً بالفرق بين الفوائد التي دفعها فعلاً وتلك التي أباحها المشرع لا الاعتياد الذي هو مناط العقاب في جريمة الربا الفاحش". (ثانياً) بالنسبة للدعوى العمومية: (1) فيما يتعلق بالدفوع الفرعية المقدّمة لمحكمة أوّل درجة عدا ما يمس الدعاوى المدنية بتأييد الحكم المستأنف. (2) فيما يتعلق بموضوع الدعوى بتعديل الحكم المستأنف وحبس المتهم سنتين مع الشغل. وقد أخذت المحكمة الاستئنافية بأسباب الحكم الابتدائي فيما يتعلق بثبوت التهمة ومقدار الفائدة. وبتاريخ 4 من فبراير سنة 1935 رفعت المطعون ضدّها أمام محكمة مصر الابتدائية الدعوى رقم 509 كلي سنة 1935 وذكرت في صحيفتها أن الطاعن تعامل معها منذ سنة 1914 حتى سنة 1931 وأخذ يقرضها مبالغ بفائدة تربو على 100% وضيق عليها الخناق ببعض حجوز على أملاكها واستحقاقها في الوقف حتى تضطر إلى الالتجاء إليه وإلى قبول سعر الفوائد الذي يقتضيه منها. وقد قدّم الطاعن من أجل هذا للمحاكمة الجنائية بعد إجراء تحقيق معه، وانتهت المحاكمة بتوقيع العقاب عليه في قضية الجنحة المستأنفة رقم 11559 سنة 1933. وقد بلغ مجموع ما استولى عليه منها بلا وجه حق ما يزيد على 10000 جنيه وهو ما ترفع هذه الدعوى مطالبة به وبمبلغ 2000 جنيه على سبيل التعويض مقابل احتجازه هذا المبلغ مع المصاريف والأتعاب والنفاذ بغير كفالة. وفي 19 من نوفمبر سنة 1935 بجلسة التحضير قرّرت المحكمة وقف نظر الدعوى حتى يفصل في النقض المرفوع عن الحكم الجنائي. وبإعلان تاريخه أوّل فبراير سنة 1936 عجلت بعد أن حكم برفض الطعن في الدعوى الجنائية.
وفي 31 من مايو سنة 1933 قضت محكمة مصر الابتدائية بإلزام الطاعن بأن يدفع للمطعون ضدّها 10000 جنيه والمصاريف المناسبة و300 قرش مقابل أتعاب المحاماة وبرفض ما عدا ذلك من الطلبات. فاستأنفت المطعون ضدّها هذا الحكم أمام محكمة استئناف مصر وقيد استئنافها بجدولها برقم 751 سنة 54 قضائية طالبة تعديله وإلزام الطاعن بأن يدفع لها مبلغ 12000 جنيه مع المصاريف والأتعاب عن الدرجتين.
واستأنفه الطاعن أيضاً بالاستئناف رقم 844 سنة 54 قضائية طالباً إلغاءه ورفض دعوى المطعون ضدّها مع إلزامها بمصاريف الدرجتين والأتعاب وحفظ جميع الحقوق من أي نوع كان.
وفي 19 من ديسمبر سنة 1937 قرّرت محكمة استئناف مصر ضم الاستئنافين الواحد للآخر.
وفي 13 من إبريل سنة 1939 قضت بقبولهما شكلاً وفي الموضوع:
(أوّلاً) في الاستئناف المرفوع من محمد زكي الطوبجي أفندي بتعديل الحكم المستأنف وإلزامه بأن يدفع للست أكيلة إسماعيل مبلغ 6442 جنيهاً و267 مليماً مع المصاريف المناسبة عن الدرجتين و300 قرش مقابل أتعاب المحاماة عن الدرجة الأولى.
(ثانياً) في الاستئناف المرفوع من الست أكيلة برفضه وإلزامها بمصاريف استئنافها مع المقاصة في أتعاب المحاماة عن الدرجة الثانية.
أعلن هذا الحكم للطاعن في 28 من مايو سنة 1939 فطعن فيه بطريق النقض في 22 من يونيه سنة 1939 بتقرير أعلن للمطعون ضدّها في 26 من ذلك الشهر إلخ.


المحكمة

ومن حيث إن الطاعن ينعى على الحكم المطعون فيه أنه معيب من ناحيتين:
(الأولى) خطؤه في تطبيق القانون وفي تأويله.
(الثانية) قصوره في بحث الدفوع التي قدّمها قصوراً يبطله.
وفي بيان هذين الوجهين يقول الطاعن:
(أوّلاً) إن المحكمة استندت إلى الحكم الجنائي الصادر استئنافياً من محكمة مصر الابتدائية في 2 من مايو سنة 1934 بإدانته في جريمة الاعتياد على الإقراض بفوائد فاحشة على اعتبار أن هذا الحكم له قوة الشيء المقضى به، وأنه ملزم للقضاء المدني، مع أن الأحكام الجنائية ليس لها في القانون المصري حجية أمام المحاكم المدنية. على أنه لو صح جدلاً وكان للأحكام الجنائية حجية تلزم المحاكم المدنية فإن ذلك لا ينصرف إلى جرائم الاعتياد على الإقراض بفوائد ربوية لعدم وجود أية صلة فيها بين الجريمة وبين المقترضين. وحتى لو صح القول بما يخالف ذلك فإن حجية الحكم الجنائي في هذه الجرائم أمام القاضي المدني يجب أن يتحقق لقيامها: (1) ألا يكون الحق المدّعى به قد صفى نهائياً بحكم أو بصلح قبل القضاء جنائياً. (2) ألا تتعدّى هذه الحجية بحال نطاق الدعوى العمومية ونطاق مجرّد العناصر التي يتطلبها القانون لتوافر الجريمة، وهي في دعوى الربا الفاحش تنحصر في عادة الإقراض بفائدة تزيد على الحدّ المسموح به قانوناً. ويعلق الطاعن على ذلك بأن الحكم المطعون فيه لم يرد على الأمر الأوّل بأكثر من قوله: "إن ما يدعيه المستأنف من وجود أحكام مدنية ومحاضر صلح مصدّق عليها من المحاكم عن مبالغ يدّعي أن الست أكيلة اقترضتها منه فإن ذلك على فرض وجوده لا يمنع المحاكم من النظر والمناقشة إذا ثبت أن بعض تلك الأحكام قد صدرت وهي تستر فوائد ربوية. وقد صدر حكم محكمة الجنح المستأنفة بتاريخ 2 من مايو سنة 1934 في قضية النيابة العمومية رقم 11559 على محمد زكي أفندي لأنه أقرض من ضمن من أقرضهم بفوائد ربوية الست أكيلة وكان مجموع الفوائد الربوية 100%". وهذا من المحكمة خطأ في القانون لأن الأحكام النهائية السابقة، ومثلها عقود الصلح والمحاسبة المصدّق عليها، حجة قاطعة مانعة فيما انطوت عليه من إلزام، وأن حجيتها تبقى قائمة ولو استند الطعن المقدّم عليها إلى أسباب تتعلق بالنظام العام.
وكذلك فيما يتعلق بالأمر الثاني فإن الحكم لم يصب في ردّه عليه، لأنه بعد أن قرّر القاعدة الصحيحة بقوله: "وحيث إن هذه القاعدة قاعدة تأثر المدني بالجنائي لا يمكن الأخذ بها على إطلاقها إلا فيما هو واجب لتكوين الجريمة وما هو لازم لتوافر أركانها" - بعد أن قرّر ذلك أخطأ عندما راح يطبق هذه القاعدة على الدعوى إذ قال: "ولما كان من أركان جريمة الاعتياد على إقراض نقود بفائدة تزيد على الحدّ الأقصى الممكن الاتفاق عليه أن تبحث المحكمة الجنائية عن وجود فوائد ربوية، والبحث عن وجود تلك الفوائد يستلزم البحث في معرفة سعرها حتى ينكشف أمامها الأمر وتقضي في الموضوع عن يقين. ولذلك كان بحث محكمة الجنح في سعر الفوائد التي أقرضها محمد زكي الطوبجي أفندي إلى الست أكيلة إنما هو بحث ضروري لأنه من مقوّمات عناصر الجريمة وتوافر أركانها، لأن الحكم الجنائي لا يمكن أن يستقيم بدون تقرير وجود فوائد ربوية، وذلك لا يتأتى إلا بعد معرفة سعر الفوائد. وعلى ذلك يكون الحكم الجنائي عن الفوائد الربوية وسعرها مقيداً للمحكمة المدنية، وليس للمستأنف أن يطلب إعادة النظر في ذلك". ويقول الطاعن إن وجه الخطأ في هذا التطبيق الذي ذهبت إليه المحكمة أن الحكم في الجريمة لم يكن يستلزم إلا البحث في شيئين: (الأوّل) أن المتهم أقرض مرتين على الأقل. (والثاني) أن الفائدة كانت تزيد في كل مرة على 9%. أما هل كانت الفائدة 20% أو 30% أو 200% فلا يهم الناحية الجنائية إلا في معرض تقدير العقوبة، وما تقرّره المحكمة الجنائية توصلاً إلى هذا التقدير لا يقيد القضاء المدني. وقد عرض الحكم بالفعل لثلاثة قروض، فحص كل قرض منها على حدة، وقال باحتواء ثلاثتها على ربا بلغ 100%، وبهذا تحققت كفاية الدعوى العمومية، وكان مجرّد تزيد من القضاء الجنائي بعد ذلك أن ينتقل من هذا التخصيص إلى التعميم فيقرّر أن جميع معاملات الطاعن مع المطعون ضدّها كانت تنطوي على إقراض بفائدة مقدارها 100%.
(ثانياً) إن القانون المصري لا يبيح لمن دفع الفوائد الربوية حق استردادها. والقول بأن المادة 145 مدني تجيز هذا الاسترداد هو خطأ في تفسير القانون. كما أن القول بأن الاتفاق على سداد الفوائد الربوية يخالف النظام العام هو بعينه المانع من حق الاسترداد فلا يمكن أن يعتبر علة لحق الردّ.
(ثالثاً) إن المحكمة قد أضافت فوائد بواقع المائة تسعة عن المبالغ التي قالت إنها مستحقة الرد وقالت باستحقاق هذه الفوائد من تاريخ سداد هذه المبالغ. وهذا الذي ذهبت إليه المحكمة مخالف للقانون، لأن الفوائد لا تستحق إلا في حالة الاتفاق عليها، وإذا حكم بها القاضي لا تبدأ إلا من تاريخ الطلب الرسمي.
هذا هو مبنى الطعن المقدّم.
ومن حيث إنه ليس من شك في أن الحكم الصادر في الدعوى الجنائية يجب أن تكون له حجية في الدعوى المدنية التي مناطها ذات الفعل الذي تناوله هذا الحكم، وذلك - لا على أساس اتحاد الخصوم والموضوع والسبب بين الدعويين - بل على أساس ما قرّره الشارع من الضمانات المختلفة ابتغاء الوصول إلى الحقيقة في الدعاوى الجنائية لارتباطها بالحرّيات والأرواح مما تتأثر به مصلحة الجماعة لا مصلحة مجرّد فرد من أفرادها. وهذا يقتضي أن تكون هذه الأحكام محل ثقة مطلقة، وأن يكون لها آثار دائمة بحيث لا تصبح معرّضة في كل وقت إلى الخوض في موضوعها من المحاكم المدنية تعرّضاً قد يؤدّي إلى التناقض في الأحكام. ولقد قرّر الشارع المصري هذا النظر في المادة 19 من قانون تحقيق الجنايات المختلط الصادر في 31 من يوليه سنة 1937، وسبق لهذه المحكمة أن قرّرته أيضاً بتاريخ 12 من يناير سنة 1939 بحكمها الصادر في الطعن رقم 34 سنة 8 قضائية. ولهذا فإن الحكم المطعون فيه إذ ذهب إلى أن الدعوى المدنية تتأثر حتماً بالحكم الجنائي وتخضع له لم يقل شططاً وإن كان أوجز فيما قال.
ومن حيث إنه متى كان تفادي التناقض في الأحكام هو العلة في تقرير حجية الحكم الجنائي في الدعوى المدنية المتعلقة به فمن غير المقبول استثناء جرائم الاعتياد على الإقراض بالربا من هذه القاعدة ما دامت العلة متوافرة فيها كما هي في سائر الجرائم.
ومن حيث إنه عن الأحكام المدنية التي يقول الطاعن إنها صدرت في موضوع المبالغ المطالب بها قبل أن يرفع الأمر إلى المحكمة المدنية، وإنه قد صفى بها الحق المدّعى به فلا يجوز للمحكمة المدنية أن تنظر في موضوعها مرة أخرى - هذا القول مردود بأن الظاهر من الأوراق المقدّمة في الدعوى أن تلك الأحكام ليست إلا محاضر صلح مصدقاً عليها من المحكمة المدنية فلا تعتبر أحكاماً بالمعنى القانوني. يؤيد هذا النظر ما هو واضح من نص المادة 68 من قانون المرافعات التي نظمت الإجراءات التي تتبع في شأن التصديق على الصلح، إذ أنها أوجبت على القاضي أن يحرّر محضراً بما وقع الاتفاق عليه، وبعد تلاوته يضع كل من الخصوم إمضاءه أو ختمه عليه، ويكون ذلك المحضر في قوّة سند واجب التنفيذ، ثم يسلم الكاتب صورة منه بالكيفية والأوضاع المقرّرة فيما يتعلق بالأحكام. فالقاضي عند التصديق على الصلح لا يقوم إذن بوظيفة الفصل في خصومة، وإنما هو يثبت ما حصل الاتفاق عليه أمامه. وإذا كان الاتفاق قد اتخذ شكل الأحكام فإن هذا لا ينفي عنه أنه عقد ولا يجعل له حجية الشيء المحكوم فيه.
أما ما يثيره الطاعن من التمسك بحجية الأحكام المدنية السابقة فلا محل لبحثه هنا بعد أن ثبت على ما تقدّم بيانه أن ليس بيده سوى محاضر صلح مصدّق عليها.
ومن حيث إنه ما دام القانون إنما قصد بالتزام القاضي المدني بالحكم الجنائي تفادي تعارض الأحكام بما يؤثر في جوهر الحكم الجنائي ويشكك في صحة قضائه بالإدانة أو بالبراءة، فإن القاضي المدني يقيده من الحكم الجنائي كل الوقائع التي تكون لازمة لتأسيس الإدانة أو البراءة.
وقد سبق لهذه المحكمة أن أخذت بهذا النظر في حكمها الصادر بتاريخ 12 من يناير سنة 1939 السابق الإشارة إليه، إذ بعد أن قرّرت حجية الحكم الجنائي أمام المحكمة المدنية قالت إن القاعدة الصحيحة أن هذه الحجية تقوم كلما فصل الحكم الجنائي فصلاً شاملاً ولازماً: (1) في تحقيق وقوع الفعل الذي يكوّن الأساس المشترك بين الدعويين الجنائية والمدنية. (2) في الوصف القانوني لهذا الفعل. (3) في إدانة المتهم بارتكاب الفعل أو عدم إدانته. فمتى فصلت المحكمة الجنائية في هذه الأمور جميعاً أصبح باب بحثها مغلقاً أمام المحكمة المدنية، وتعين على تلك المحاكم أن تعتبرها ثابتة وتسير في بحث الحقوق المترتبة عليها على هذا الأساس بحيث يكون حكمها متناسقاً مع الحكم الجنائي السابق صدروه. وقد أوضح الشارع هذه القاعدة في المادة 19 من قانون تحقيق الجنايات المختلط التي سبق ذكرها أيضاً إذ جاء فيها:
"إذا استلزم الفصل في دعوى مرفوعة أمام محكمة مدنية أو تجارية معرفة ما إذا كانت هناك جريمة قد ارتكبت، وإذا كانت قد وقعت من شخص معين، يجب على تلك المحكمة أن تفصل في المنازعات المتعلقة بذلك طبقاً لما قضى به نهائياً من المحكمة الجنائية التي فصلت في الدعوى ولو كانت قد طبقت قواعد الإثبات الخاصة بالمواد الجنائية".
"ويوقف الفصل في الدعوى المدنية إذا رفعت الدعوى الجنائية قبل الفصل فيها نهائياً".
ومن حيث إن مؤدّى كل ذلك أنه في جريمة الاعتياد على الإقراض بفوائد ربوية يكون الحكم الجنائي ملزماً للقاضي المدني فيما يتعلق بسعر الفائدة الذي أثبت في ذلك الحكم أن المقرض اقتضاه لأن مقدار الفائدة عنصر أساسي في الجريمة. وإلا لو أجيز للقاضي المدني إعادة النظر في هذا السعر لترتب على ذلك احتمال وجود التناقض بين الحكمين. هذا من جهة ومن جهة أخرى لما كان القانون لم يبين عدد المرات التي يتكوّن منها الاعتياد، وكان الواجب أن تتضمن التهمة جميع الأفعال التي تدخل في تكوين الجريمة إلى وقت المحاكمة، فإن الحكم الجنائي يجب أن يكون حجة بشأن جميع وقائع الإقراض التي أثبتها على المتهم.
وإذن فالحكم المطعون فيه، وقد اعتبر الحكم الجنائي حجة عن جميع القروض التي شملتها الإدانة وأيضاً عن مقدار الفوائد المقول بأن المتهم كان يقرض بها زائداً على الحدّ المقرّر قانوناً يكون قد أصاب في الأمرين كما أصاب في إطّراح محاضر الصلح الموثقة وعدم التقيد بها.
ومن حيث إنه فيما يتعلق بجوار أو عدم جواز استرداد الفوائد الربوية المدفوعة فإن كل اتفاق على فوائد تزيد على الحد الجائز الاتفاق عليه قانوناً باطل فيما زاد على هذا الحدّ. فقد بين الشارع في المادتين 125 و478 من القانون المدني الفوائد التي يجوز الاتفاق عليها. وقال في المادة 125 من ذلك القانون إنه "لا يجوز أصلاً الاتفاق على فوائد أزيد من تسعة في المائة (8% بمقتضى القانون رقم 20 لسنة 1938) سنوياً". وجعل من الإقراض بفوائد تزيد على هذا الحدّ جريمة بالشروط الواردة في قانون العقوبات. وهذا جميعاً يتحتم معه القول ببطلان مثل هذه الاتفاقات، وبأنه بطلان مطلق يرجع لمخالفة القانون ومخالفة النظام العام، فلا تصح إجازته صراحة أو دلالة، باستبدال دين آخر به، أو بإقراره بصلح موثق أمام القاضي أو غير موثق.
ومن حيث إنه يجوز بمقتضى المادة 145 من القانون المدني المطالبة برد ما دفع زائداً على الفوائد الجائز الاتفاق عليها، إذ أن المادة قرّرت في عبارة عامة أن "من أخذ شيئاً بغير استحقاق وجب عليه ردّه" وليس فيها ما يفيد قصر حكمها على الأحوال التي يقع فيها الدفع عن غلط، فلا موجب إذن للأخذ بما يقول به الطاعن من أن حكمها لا يتناول إلا حالة الغلط هذه.
ومن حيث إنه فيما يتعلق بخطأ الحكم في احتساب فوائد المبالغ المقبوضة بغير حق، فإن الحكم المطعون فيه إذ ألزم الطاعن بفوائد المبالغ التي قضى عليه بردها، وإذ حاسبه على استحقاق هذه الفوائد من تاريخ تسلمه تلك المبالغ لم يخالف القانون في شيء، فإن المستفاد من المادة 146 من القانون المدني أن من يأخذ مبلغاً وهو عالم بعدم استحقاقه له يلزم بفوائد هذا المبلغ من يوم تسلمه إياه. وذلك استثناء من الحكم العام الوارد بالمادة 124 من أن الفوائد لا تستحق إلا من يوم المطالبة الرسمية. أما ما ذهب إليه الحكم من تقدير الفوائد بواقع المائة تسعة وإن كان خطأ إذ هذا السعر لا يكون إلا عند الاتفاق عليه وفقاً للمادة 125 من القانون المدني، فإن الطاعن لم يعترض على الحكم من هذه الناحية. وقد استوضحت المحكمة في الجلسة من وكيليه عما يقصدانه بالعبارة الواردة في آخر تقرير الطعن بشأن الحكم بالفوائد فقرّرا في صراحة أنهما إنما أرادا بها الاعتراض على الحكم المطعون فيه لقضائه بالفوائد من تاريخ دفع القروض بدلاً من تاريخ المطالبة الرسمية، ولم يشيرا بشيء إلى سعر الفائدة، فليس إذن من سبيل بعد هذا التصريح من وكيلي الطاعن لمعالجة خطأ الحكم المطعون فيه من ناحية مقدار الفائدة عن المبالغ المقضي بردّها.


[(1)] القواعد التي قرّرتها المحكمة في حكمها الصادر في هذه القضية قد تقرّرت أيضاً في الحكم الصادر في القضية رقم 73 سنة 9 بهذه الجلسة.