مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد المدنية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الرابع - صـ 586

جلسة 8 مارس سنة 1945

برياسة سعادة محمد زكي علي باشا وكيل المحكمة وبحضور حضرات أصحاب العزة: محمد كامل مرسي بك ونجيب مرقس بك وأحمد نشأت بك ومحمد المفتي الجزايرلي بك المستشارين.

(221)
القضية رقم 93 سنة 14 القضائية

اختصاص. برلمان. كلمة الحكومة. يدخل في مدلولها مجلسا البرلمان. موظفو هذين المجلسين من موظفي الحكومة. فصل أحد مجلسي البرلمان موظفاً من موظفيه. المحاكم مختصة بدعاوى التعويض عن هذا الفصل. هذا الفصل عمل إداري وليس عملاً برلمانياً مما يخرج عن سلطة المحاكم. لا تفرقة في هذا الخصوص بين السلطة التنفيذية وأي من المجلسين.
(المادة 15 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية)
إن كلمة "الحكومة" تشمل كل النظم الأساسية للدولة، فيدخل في مدلولها مجلسا البرلمان. وإذن فموظفو هذين المجلسين داخلون في عداد موظفي الحكومة، لا يمنع من ذلك استقلال كل من المجلسين بشئون موظفيه، إذ هذا الاستقلال أمر طبيعي يقتضيه مبدأ فصل السلطات ولكنه على كل حال لا أثر له في الوضع القانوني لموظفيهما من حيث إنهم من موظفي الحكومة. فإذا فصل أحد هذين المجلسين موظفاً من موظفيه كان لهذا الموظف - كما لسائر موظفي الحكومة - أن يلجأ إلى المحاكم لتعويضه عن هذا الفصل إذا ما وقع مخالفاً للقوانين واللوائح، فإن هذا الفصل لا يخرج عن كونه عملاً إدارياً بحتاً مما يدخل تحت مراقبة المحاكم بحكم المادة 15 من لائحة الترتيب، وليس عملاً برلمانياً مما يخرج عن رقابتها لمجرد كونه صادراً من مجلس من مجلسي السلطة التشريعية، أو لمجرد اعتماد هذا المجلس الميزانية المتضمنة إلغاء الوظيفة التي كان يشغلها هذا الموظف، فإن الطبيعة الذاتية للعمل لا يمكن أن تتغير أو أن تختلف بتغير مصدرها أو اختلافه [(1)]. ثم إنه لا معنى للتفرقة في هذا الخصوص بين ما يصدر من الأوامر الإدارية عن السلطة التنفيذية وما يصدر منها عن أي مجلس من مجلسي السلطة التشريعية، إذ ليس من المقبول أن كون الأمر الإداري صادراً عن أي من المجلسين يكسبه الحصانة البرلمانية ويمنع من المقاضاة عنه، فإن القانون ما دام قائماً فهو واجب الطاعة وليس لأية سلطة أن تخالفه ولو كانت هذه السلطة تملك إلغاءه أو تعديله أو نسخه.


الوقائع

تتحصل وقائع هذا الطعن في أن المطعون ضده رفع على الطاعنين لدى محكمة مصر الابتدائية الدعوى رقم 107 سنة 1941 قال فيها إنه كان موظفاً بمجلس النواب منذ شهر مارس سنة 1924 وكان مكلفاً باختزال ما يلقى فيه من خطب وما يدور فيه من مناقشة، وظل قائماً بعمله خير قيام إلى أن أصدر رئيس المجلس في 15 من أغسطس سنة 1940 قراراً بإحالته إلى المعاش اعتباراً من أول سبتمبر سنة 1940 لإلغاء وظيفته. وقد صدر هذا القرار قبل بلوغه السن المقررة قانوناً للإحالة إلى المعاش بسبعة أعوام تقريباً دون مبرر يستند إلى المصلحة العامة. وقد جاء هذا القرار أيضاً باطلاً شكلاً لصدوره من سلطة لا تملكه ولخروجه عن الحدود والقيود التي وضعتها القوانين واللوائح. وفوق هذا فإنه صاحب حقوق أدبية ومادية غير منكورة في طريقة اختزال الكتابة العربية التي يستعملها مجلس النواب ولا حق للمجلس في استعمالها بغير رضائه. وطلب أن يقضي له بإلزام الطاعنين بأن يدفعا له تعويضاً قدره 4598 ج مع المصاريف ومقابل أتعاب المحاماة بحكم مشمول بالنفاذ المعجل، ثم عدل طلبه في مذكرة قدمها لجلسة 6 من أكتوبر سنة 1942 إلى مبلغ 4500 ج.
وبجلسة 24 من نوفمبر سنة 1942 دفع المحامي عن وزارة المالية بعدم اختصاص المحاكم بنظر الدعوى ارتكاناً على مبدأ فصل السلطات الذي قررته المادة 15 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية.
وفي 29 من يونيه سنة 1943 حكمت المحكمة برفض الدفع الفرعي بعدم اختصاص المحاكم بنظر الدعوى وباختصاصها وعينت للمرافعة في الموضوع جلسة 4 من أكتوبر سنة 1943 وأبقت الفصل في المصاريف.
استأنف الطاعنان هذا الحكم لدى محكمة استئناف مصر طالبين الحكم بقبول الاستئناف شكلاً وفي الموضوع بإلغاء الحكم المستأنف بجميع أجزائه والحكم أصلياً بعدم اختصاص المحاكم بنظر الدعوى واحتياطياً برفضها مع إلزام المستأنف عليه إلخ.
وفي 9 من إبريل سنة 1944 حكمت المحكمة المذكورة بقبول الاستئناف شكلاً وبرفضه موضوعاً وتأييد الحكم المستأنف إلخ.
أعلن هذا الحكم إلى الطاعنين في 22 من يونيه سنة 1944 فطعنا فيه بطريق النقض في 5 من يوليو سنة 1944 بتقرير أعلن إلى المطعون ضده في 8 من الشهر المذكور إلخ إلخ.


المحكمة

وحيث إن الطعن بني على ثلاثة أسباب:
وحيث إن السبب الأول يتحصل في أن الحكم المطعون فيه أقيم على أن موظفي البرلمان هم من موظفي الحكومة في حين أنهم ليسوا كذلك بل لهم وضع خاص مستقل عن الحكومة، على ما جاء بقراري مجلسي الشيوخ والنواب الصادرين في 15 من يونيه و20 من أغسطس سنة 1926 القاضيين باستقلال كل مجلس بأمور موظفيه من تعيين وترقية ومراقبة وتأديب وعزل، وبذلك يكون الحكم قد أخطأ في تطبيق القانون. ثم إنه مع قوله إنهم من موظفي الحكومة يكون أيضاً قد وقع في التناقض. ويتحصل السبب الثاني في أن الحكم اعتبر قرار فصل المطعون ضده من وظيفته إجراءاً إدارياً في حين أنه عمل برلماني، ومن ثم فإنه يكون خارجاً عن رقابة المحاكم إذ هو صادر من رئيس مجلس النواب تنفيذاً لقرار مكتب المجلس القاضي بإلغاء وظيفة المطعون ضده من ميزانية المجلس. ثم إن مجلس النواب نفسه باعتماده الميزانية بما فيها من تعديلات متضمنة لهذا الإلغاء يكون قد وافق على فصله. وغير سديد قول الحكم إن اعتماد المجلس للميزانية لا يغير من طبيعة قرار فصل الموظف المذكور ولا يخرجه عن كونه عملاً إدارياً. لأن تلك الميزانية هي ميزانية مجلس النواب الخاصة التي يستقل بها فموافقته عليها عمل برلماني. وحاصل السبب الثالث أنه حتى مع اعتبار فصل المطعون ضده إجراءاً إدارياً فإنه إذ كان صادراً من مجلس النواب لا يكون من نوع الإجراءات الإدارية الخاضعة لرقابة المحاكم في حدود الفقرة 10 من المادة 15 من لائحة ترتيبها، لأن ذلك النوع هو الذي يكون صادراً من السلطة التنفيذية وحدها دون غيرها من السلطات، فلا يدخل تحته أي إجراء ولا تصرف من البرلمان سواء أكان ذا صفة تشريعية محضة أم لا.
وحيث إن الفقرة العاشرة من المادة 15 المعدلة من لائحة ترتيب المحاكم نصت على أن المحاكم تختص بدعاوى المسئولية المدنية المرفوعة على الحكومة بسبب إجراءات إدارية وقعت مخالفة للقوانين واللوائح. فبموجب هذا النص تكون المحاكم مختصة بكل دعوى بمسئولية مدنية ترفع على الحكومة يكون سببها إجراءات إدارية مخالفة للقانون. فإذا كان مجلس النواب يدخل تحت مدلول لفظ "الحكومة"، وإذا كان قرار فصل موظفيه يعتبر إجراءاً إدارياً، كانت المحاكم مختصة بدعوى المطعون ضده كما قضى بذلك الحكم المطعون فيه، وإن لم يكن هذا الأمر ولا ذاك لم تكن المحاكم مختصة بها وكان الحكم المطعون فيه مخالفاً للقانون.
وحيث إن المادة الأولى من الدستور نصت على أن الحكومة في مصر ملكية وراثية وشكلها نيابي. ونصت المواد 23 و24 و29 و48 منه على أن جميع السلطات مصدرها الأمة، وعلى أن السلطة التشريعية يتولاها الملك بالاشتراك مع مجلس الشيوخ والنواب، والسلطة التنفيذية يتولاها الملك، والملك يتولى سلطته بواسطة وزرائه. فالحكومة بموجب هذه النصوص عبارة عن المجموعة المكونة من تلك الهيئات، أي الملك والوزراء ومجلسي البرلمان، ومن ثم فإن مدلول لفظ "الحكومة" في حكم القانون يدخل تحته كل وحدة من الهيئات المذكورة، وليس هو خاصاً بواحدة منها بالذات دون باقيها.
وحيث إنه متى تقرر ذلك فإن ما جاء بالطعن من قصر دلالة لفظ "الحكومة" على السلطة التنفيذية وحدها يكون خطأ مخالفاً للمدلول الدستوري للفظ الحكومة. أما استعمال لفظ الحكومة بمعنى السلطة التنفيذية فهو تجوز في التعبير من باب إطلاق اسم الكل على البعض، وهو أمر سائغ في اللغة والعرف يفسره أن الوزراء بحكم توليهم السلطة التنفيذية هم المباشرون في الواقع للمصالح العامة. ولكن هذا التجوز في التعبير لا يمكن أن يغير من حقيقة مدلول لفظ الحكومة قانوناً.
وحيث إنه متى كان ذلك كذلك فإن مدلول لفظ "الحكومة" في معنى الفقرة 10 من المادة 15 من لائحة ترتيب المحاكم يشمل مجلس النواب. وإذ كان مجلس النواب جزءاً من الأجزاء المكونة للحكومة مثل الوزارات فإن موظفيه يكونون بالضرورة مثل موظفي الوزارات من ضمن موظفي الحكومة. واستقلال كل هيئة من الهيئات المكونة للحكومة بأمور موظفيها أمر طبيعي مرجعه مبدأ فصل السلطات، ولكن ليس له أثر ما في الوضع القانوني لجميع موظفي تلك الهيئات وهو أنهم كلهم من موظفي الحكومة.
وحيث إن فيصل التفرقة بين العمل البرلماني الذي لا اختصاص للمحاكم بأي دعوى ترفع عنه والعمل أو الإجراء الإداري الذي يكون خاضعاً لرقابة المحاكم في حدود الفقرة 10 من المادة 15 المعدلة من لائحة ترتيبها - إن فيصل التفرقة بينهما هو ذات طبيعة العمل بلا نظر إلى الجهة التي صدر عنها لأن الطبيعة الذاتية للعمل لا يمكن أن تتغير ولا أن تختلف باختلاف مصدره.
وحيث إن تعيين الموظفين والمستخدمين بمجلسي البرلمان وفصلهم هو بطبيعته عمل إداري محض مغاير للأعمال البرلمانية التي تقوم بها هيئات البرلمان في نطاق الاختصاص الدستوري المخول لها. ولما كان البرلمان كالوزارات جزءاً من الأجزاء المكونة للحكومة، وكان موظفوه هم من ضمن موظفي الحكومة على ما سبق تقريره، فإن فصل موظفيه يكون بلا شك كفصل موظفي الوزارات طبيعة وحكماً، فليس هو عملاً برلمانياً، بل مجرد إجراء إداري. ومتى كان الأمر كذلك فإن اعتماد مجلس النواب للميزانية المتضمنة لإلغاء وظيفة المطعون ضده ليس من شأنه أن يخرج هذا الإجراء عن طبيعته الإدارية، ولا يجعله عملاً برلمانياً، وغاية ما فيه أنه يجعله إجراءاً إدارياً صادراً عن البرلمان، ولكنه إجراء إداري على كل حال.
وحيث إن اختصاص المحاكم بالدعاوى المرفوعة على الحكومة مقرر بالمادة 15 من لائحة ترتيب المحاكم، ونصها أن المحاكم تختص بدعاوى المسئولية المدنية المرفوعة على الحكومة بسبب إجراءات إدارية وقعت مخالفة للقوانين واللوائح. ولما كان هذا النص عاماً مطلقاً فإنه يشمل كل إجراء إداري صادر عن أية هيئة من الهيئات المكونة للحكومة ومنها مجلس النواب. وما جاء بالطعن من أن الإجراء الإداري في معنى المادة 15 المذكورة هو الذي يكون صادراً عن السلطة التنفيذية وحدها دون السلطة التشريعية - هذا القول تخصيص لعموم النص بلا مخصص ولا مسوغ، بل فيه منافاة للعدالة التي توجب تعويضاً لمن أصابه ضرر بسبب أي إجراء إداري مخالف للقانون، أياً كانت السلطة التي أصدرته، سواء التنفيذية أو التشريعية. ولا معنى للتفرقة بين السلطتين في هذا الخصوص، فليس بمقبول البتة أن كون ذلك الإجراء المخالف للقانون صادراً عن السلطة التشريعية يكسبه الحصانة البرلمانية ويكون مانعاً من مقاضاتها عنه، وبالتالي مهدداً لحق المضرور به، لأن القانون سيد الجميع، والبرلمان نفسه كغيره من سائر السلطات والأفراد يجب أن يعمل في حدوده وإن كان يملك أن يعدله أو يلغيه أو ينسخه بغيره، لكن القانون ما دام قائماً فإن البرلمان يكون مقيداً به وليس له أن يخالفه.
وحيث إن حاصل ما تقدم أن دعوى المطعون ضده دعوى مسئولية مدنية مرفوعة على الحكومة بسبب إجراء إداري مدعى بأنه وقع مخالفاً للقانون، فتكون المحاكم مختصة بها، ويكون الحكم المطعون فيه إذ قضى بذلك لم يخالف القانون ولم يخطئ في تطبيقه. ويكون الطعن على غير أساس متعيناً رفضه موضوعاً.


[(1)] قررت المحكمة هذه القاعدة أيضاً في حكمها الصادر بهذه الجلسة في القضية رقم 94 سنة 14 القضائية.