مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الثالث (عن المدة بين 7 نوفمبر سنة 1932 وبين 26 أكتوبر سنة 1936) - صـ 84

جلسة 19 ديسمبر سنة 1932

برياسة سعادة عبد العزيز فهمي باشا وحضور حضرات محمد لبيب عطية بك وزكي برزي بك ومحمد فهمي حسين بك وأحمد أمين بك.

(60)
الطعن رقم 665 سنة 3 القضائية

( أ ) الاشتباه. معناه. التشرد. معناه. علة الاشتباه. خطر المشتبه فيه على الأمن العام. علة التشرد. مخالفة حسن الأخلاق أو مخالفة القانون مخالفة لا خطر فيها على الأمن العام.
(ب) إنذار الاشتباه. لا أمد لانتهاء أثره. عدم قابليته للسقوط.
(القانون رقم 24 لسنة 1923)
1 - الاشتباه هو صفة ينشئها الإنذار في نفس قابلة له قبولاً يقع تحت تقدير حفظة النظام، بخلاف التشرد فإنه حالة مادية يقرّرها الإنذار تقريراً محتوماً لانتزاعه من الواقع الذي لا خيار لحفظة النظام فيه. وعلة الاشتباه هي خطر المشتبه فيه على الأمن العام. أما علة التشرد فمخالفة حسن الأخلاق أو مخالفة القانون مخالفة هي في ذاتها ضئيلة لا خطر فيها على الأمن العام.
2 - إن القانون لم يجعل لإنذار الاشتباه أمداً ينتهي فيه أثره، بل إن المادة التاسعة إذ نصت على أنه "إذا حدث بعد إنذار البوليس أن حكم مرة أخرى بالإدانة على الشخص المشتبه فيه أو... يطلب تطبيق المراقبة الخاصة عليه" بدون أن تبين مدى هذه البعدية، فقد أفادت أنها بعدية مطلقة لا حدّ لها، وأن إنذار الاشتباه غير قابل للسقوط بمضي أية مدّة كانت، بل هو يلصق بالشخص صفة استعداده للإجرام وكونه خطراً على الأمن العام إلصاقاً لا يمحوه الزمن، بحيث إذا وقع في سبب من أسباب تطبيق المراقبة، في أي وقت كان بعد هذا الإنذار، وجب اعتباره وتطبيقها.


الوقائع

اتهمت النيابة العامة عبد السلام مرسي حسين بأنه في يوم 26 مارس سنة 1932 عاد إلى حالة الاشتباه بأن لم يسلك سلوكاً مستقيماً إذ اتهم في حادثة السرقة رقم 696 البندر سنة 1932 مع سابقة إنذاره مشبوهاً بتاريخ 15 ديسمبر سنة 1928 وطلبت من محكمة جنح المنيا الجزئية معاقبته بالمواد 2 و9 و10 و11 و12 من القانون رقم 24 لسنة 1923؛ سمعت المحكمة هذه الدعوى وحكمت حضورياً في 3 أغسطس سنة 1932 عملاً بالمواد السابقة بوضع المتهم تحت مراقبة البوليس لمدة ثلاثة شهور تبدأ من انتهاء عقوبة الحبس المحكوم بها عليه في الجناية نمرة 696 المنيا سنة 1932، فاستأنف هذا الحكم يوم صدوره.
ومحكمة المنيا الابتدائية الأهلية نظرت الدعوى بهيئة استئنافية وقضت حضورياً في 13 أكتوبر سنة 1932 عملاً بالمادة 172 من قانون تحقيق الجنايات بقبول الاستئناف شكلاً وفي الموضوع بإلغاء الحكم المستأنف وبراءة المتهم.
فطعن حضرة رئيس نيابة المنيا في هذا الحكم بطريق النقض في 25 أكتوبر سنة 1932 وقدّم حضرته تقريراً بالأسباب في ذات التاريخ.


المحكمة

بعد سماع المرافعة الشفوية والاطلاع على الأوراق والمداولة قانوناً.
حيث إن الطعن قدّم وبينت أسبابه في الميعاد فهو مقبول شكلاً.
وحيث إن مبنى الطعن أن المحكمة الاستئنافية أخطأت فيما ذهبت إليه من تبرئة المتهم بناء على ما ارتأته من أن إنذار الاشتباه المسلم له في 15 ديسمبر سنة 1928 قد سقط بمضي ثلاث سنوات من هذا التاريخ وأن مدّة سقوطه لا يقطعها الحكمان اللذان صدرا عليه في 10 أغسطس سنة 1930 بوضعه تحت المراقبة ستة أشهر لعوده إلى الاشتباه، وفي 29 نوفمبر سنة 1931 بوضعه تحت المراقبة ثلاثة شهور لعوده مرة أخرى إلى الاشتباه. وتقول النيابة إن هذين الحكمين يقطعان المدة على خلاف رأي المحكمة الاستئنافية وإن محكمة النقض قد سبق لها أن حكمت بمثل ذلك وإذن فهي تطلب نقض الحكم وتطبيق القانون.
وحيث إنه بالاطلاع على الحكم المطعون فيه وجد أن المحكمة قارنت ما ورد بالمادة السادسة الخاصة بالتشرد بما ورد بالمادة التاسعة الخاصة بالاشتباه وذكرت ما حاصله أن إنذار التشرد إذا كان مفعوله ينقطع بالعود إلى التشرد في خلال ثلاث سنوات من تاريخه فإن هذا الانقطاع مدلول عليه بنص المادة السادسة. أما إنذار الاشتباه فلم يرد في المادة التاسعة ما يفيد أن مدته تنقطع بشيء وإذن فهو على كل حال يسقط بمضي ثلاث سنوات أي سواء ارتكب الشخص في أثنائها ما يدعو إلى تطبيق المراقبة المشار إليها في تلك المادة أو لم يرتكب.
وحيث إن ما ذهب إليه الحكم المطعون فيه بعيد في مغزاه وفي أساسه معاً عن الصواب ولكن للمحكمة عذرها فإن مسألة أثر إنذار الاشتباه ومدّة دوامه هي من مسائل قانون المتشردين والمشتبه فيهم التي اضطربت فيها آراء الباحثين فلم تجد إلا قياسها على حالة التشرد فاعتبرت أوّلاً أن إنذار الاشتباه يسقط أثره بالمدة كما يسقط إنذار التشرد، وثانياً أن مدة سقوطه هي ثلاث سنوات ما نصت عليه المادة السادسة بخصوص أثر إنذار التشرد. ولقد سبق عرض هذه المسألة القانونية بالذات على محكمة النقض فتجنبت البت فيها إلا بالقدر الكافي للفصل في الطعن الذي كان مرفوعاً لها. ذلك بأنها لم تبت صراحة في النقطة الأساسية وهي هل أثر إنذار الاشتباه يسقط بالمدّة أو لا يسقط بل قالت ما خلاصته أن الإنذار على فرض سقوطه بثلاث سنوات فإن هذه المدة يجب أن تنقطع بكل ما يعتبر به المنذر قد عاد إلى التشرد أو الاشتباه بوجود ما يحقق هذا الوصف فيه. (حكم 5 يونيه سنة 1930 في القضية نمرة 1131 سنة 47 قضائية وهو الذي تمسكت به النيابة في طعنها الحالي).
وحيث إن مما تجب ملاحظته أن حالة التشرد إجمالاً وحالة الاشتباه مختلفتان في طبيعتهما وفي مقتضياتهما اختلافاً كلياً. ذلك بأن التشرد حالة فعلية تثبت للشخص كلما وقع مادياً بحالة ظاهرة للحس والعيان في وضع من الأوضاع الواردة بالمادة الأولى من قانون التشرد والاشتباه (رقم 24 لسنة 1923)، فهي توجد وتنقطع بوجود موجبها المادي وانقطاعه: فمن تكفف الناس مثلاً فهو متشرد، وبمجرد انقطاعه عن التكفف فهو غير متشرد، والغجر الرحل مثلاً متشردون ما داموا رحلاً لا صناعة ثابتة لهم، فإذا أقاموا فهم غير متشردين. وتلك الحالة الفعلية من شأنها بمقتضى كونها فعلية ألا تكون فيها خيرة لحفظة النظام بل كلما وجدت تحتم عليهم بطبيعة الحال إثباتها وعمل ما ينبغي للإقلاع عنها. على هذا الأساس وردت المادة الثالثة التي نصها: "إذا تبين للبوليس أن شخصاً في حالة تشرد استدعاه إلخ". وهذا النص متفق في حكمه وفي عبارته مع ذلك الأساس الفعلي ومصداق له إذ حاصله أنه متى رأى البوليس شخصاً في تلك الحالة وجب عليه إنذاره ليقلع عنها في عشرين يوماً وإلا عوقب. وقد دل القانون بمفهومه الصريح في المادة السادسة على أن من بقي بلا تشرد مدة ثلاث سنوات سقط أثر إنذاره، فإن تشرد بعدها وجب إنذاره إنذاراً جديداً حتى يمكن تطبيق العقاب عليه إن لم يكف في مدى عشرين يوماً عن التشرد. أما إن تشرد في خلال الثلاث السنوات فعقوبته واجبة، وآخر يوم من تنفيذها يقوم مقام الإنذار ويكون له أثر مدّة ثلاث سنوات، فإن مضت بلا تشرد ثم تشرد بعد مضيها وجب أيضاً إنذاره إنذاراً جديداً حتى تمكن معاقبته إن لم يكف عن هذا التشرد الجديد وهلم جرّا.
أما حالة الاشتباه فليست حالة فعلية ظاهرة للحس والعيان تثبت للشخص وتلازمه لغشيانه فعلاً مادياً وتنقطع بترك هذا الفعل المادي. وإنما هي صفة خلقية معناها أن الشخص المتصف بها قد وقع منه في الماضي أمور يستدل منها على أن له نفساً مستعدة للإجرام ميالة إليه، وأنه بهذه النفسية خطر على أمن المجتمع. وهذه الصفة الخلقية لا شيء في ظاهر حركات صاحبها وسكناته الحالية ينم عليها، وليس من شأنها أن تثبت حتماً بمجرّد وجود موجب سابق من موجباتها المبينة بالمادة الثانية فإن هذا الموجب ليس سوى جزء من علتها. وإنما ثبوتها بعد قيام هذا الموجب أمر جوازي صرف راجع لإرادة حفظة الأمن إن شاءوا أثبتوها للشخص وألصقوها به بإنذار يوجهونه إليه وإن شاءوا لم يثبتوها ولم يلصقوها. وذلك بحسب ما يبدو لهم في كل حالة من خطر صاحبها على الأمن العام وعدم خطره. وفي الواقع فإن من يحكم عليه في قتل عمد مثلاً قد يكون رجلاً أبي النفس قويم الخلق جرّه إلى فعلته ثأر لعرض أو لقالة ذميمة ماسة بالشرف أو لقتيل من أهله قتله المجني عليه ظلماً وعدواناً، فمثل هذا الشخص قد يرى رجل النظام أنه مأمون الخلق يكره الإجرام ولا يميل إليه وأن لا محل لإظهاره في الناس مظهر الأشرار ووسمه فيهم بميسم المستعدة نفوسهم للإجرام. وكذلك من يتكرر الحكم عليه في جريمة مما أشارت إليه الفقرة الأولى من المادة المذكورة مثلاً قد يبدو لرجل البوليس أنه غرّ جاهل استدرجه رفقة أشرار فأوقعوه فيما حكم عليه من أجله وهكذا.
وحيث إنه يبين من ذلك أن الاشتباه هو صفة ينشئها الإنذار في نفس قابلة له قبولاً يقع تحت تقدير حفظة النظام بخلاف التشرد فإنه حالة مادية يقرّرها الإنذار تقريراً محتوماً لانتزاعه من الواقع الذي لا خيار لحفظة النظام فيه. كما يبين أن علة الاشتباه خطر المشتبه فيه على الأمن العام. أما علة التشرد فمخالفة حسن الأخلاق أو مخالفة القانون مخالفة هي في ذاتها ضئيلة لا خطر فيها على الأمن العام.
وحيث إنه متى وضح ذلك الفارق الكلي بين التشرد والاشتباه في طبيعتهما وطبيعة مصادرهما وجب الأخذ بما يقرّره القانون من الأحكام في شأن كل منهما والاحتراس الشديد عند استنباط الحكم في مسائل أحدهما مما نص عليه في مسائل الآخر.
وحيث إن المادة السادسة إذا كانت أفادت بمفهومها الصريح أن إنذار التشرد يسقط بثلاث سنوات يقلع فيها المنذر عن حالة التشرد فإن القانون لم يجعل لإنذار الاشتباه أمداً ينتهي فيه أثره، بل إن المادة التاسعة إذ نصت على أنه: "إذا حدث بعد إنذار البوليس أن حكم مرة أخرى بالإدانة على الشخص المشتبه فيه أو.... يطلب تطبيق المراقبة الخاصة عليه" بدون أن تبين مدى هذه البعدية فقد أفادت أنها بعدية مطلقة لا حد لها وأن إنذار الاشتباه غير قابل للسقوط بمضي أية مدة كانت بل هو يلصق بالشخص صفة استعداده للإجرام وكونه خطراً على الأمن العام إلصاقاً لا يمحوه الزمن بحيث إذا وقع في سبب من أسباب تطبيق المراقبة في أي وقت كان بعد هذا الإنذار وجب اعتباره وتطبيقها. هذا هو حكم القانون في صراحة نصه وإطلاقه.
وحيث إن الباحثين في هذه المسألة قد التفت نظرهم فذهبوا يقولون إن للجرائم نفسها مدّة مقرّرة تسقط فيها الدعوى العمومية بها أو العقوبة الصادرة فيها فهالهم أن إنذار الاشتباه وليس قائماً على إجرام وقع فعلاً من الشخص حال توجيهه له بل هو مجرّد تنبيه له ليسلك في المستقبل سلوكاً حسناً - هالهم أن هذا الإنذار، وهذه صفته والمراد الظاهر منه، يكون دائم الأثر مهما أحسن الشخص سلوكه فحفزهم ما هالهم من هذا إلى تقرير أن له أمداً ينتهي إليه. وبعد أن اطمأنوا إلى هذا القيد الذي وضعوه من عند أنفسهم على الرغم من إطلاق النص أخذوا يتلمسون السبل لمعرفة ماذا يمكن أن يكون مدى هذا الأمد فاستقوه من نص المادة السادسة الخاص بمدى أثر إنذار التشرد. ثم إنهم فيما يتعلق بانقطاع مدة هذا الأثر وعدم انقطاعها قالوا إنها تنقطع بمثل ما ينقطع به ذلك الإنذار احتذاء لأحكام المادة السادسة أيضاً. وها أنه في الدعوى الحالية يجيء الحكم المطعون فيه بمذهب جديد هو أن مدّة أثر الإنذار ثلاث سنوات ولكنها لا تنقطع بأي أمر بل إذا مضت خرج الرجل نقياً طاهر الأخلاق ولو كان هو مجرماً ما زالت حوادث إجرامه تتكرر وتتكرر عقوبته عليها أثناء الثلاث السنوات المذكورة!
وحيث إن القيد الذي وضعه الباحثون بل الذي وضعته من قبلهم وزارة الداخلية في الفقرة الثانية من البند الخامس من التعليمات التي أصدرتها في مايو سنة 1924 بخصوص طريقة السير في تنفيذ قانون المتشردين من عدم سريان مفعول إنذار الاشتباه إلا لمدّة ثلاث سنين هو قيد خاطئ:
(أوّلاً) لأن عبارة القانون، كما سلف القول، مطلقة من كل قيد. وليس للباحث ولا للقاضي أن يتحكم في نص القانون المطلق فيقيده من عند نفسه لمجرّد أنه يظن العدل في هذا التقييد.
(ثانياً) لأن علة هذا التقييد وهي مراعاة العدل هي علة قائمة على وهم، وفي القانون أمثلة للإطلاق يصح أن يرد على الناظر فيها مثل الخاطر الذي أدّى إلى القول بهذه العلة ومع ذلك فلا يجرؤ أحد على المساس بإطلاقها. من ذلك الفقرة الأولى من المادة (48) من قانون العقوبات فإنها جعلت الحكم بعقوبة من العقوبات المقررة للجنايات كالسجن ثلاث سنين مثلاً نذيراً مستديماً ورصداً ملازماً شبحه للمحكوم عليه أبداً بحيث لو أخطأ في حياته مرة أخرى فارتكب جناية أو جنحة تحرّك الرصد فجعله عائداً لا يحكم عليه بالعقوبة المقرّرة في أصل القانون بل يجوز للقاضي أن ينزل به أقصاها بل أن يضاعفها له ضعفين. ولا ينفع هذا الجاني لا أن يكون استوفى عقوبته الأولى ولا أن تكون سقطت بمضي المدة ولا أن يكون أحسن السلوك عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر من بعد الحكم الأوّل. وإذا كان هذا من مبادئ القانون المقرّرة التي لا يمتري فيها أحد، وكان إحسان السلوك أو العدل أو المصلحة الاجتماعية أو ما شاكل ذلك لا يغني في ملازمة شبح العود ونذيره المخيف للمحكوم عليه طول حياته فمن الوهم إذن أن يقال إن العدل يقضي بأن يكون للشرير الخطر على الأمن العام والذي يحكم حفظة هذا الأمن باستعداد نفسه للإجرام - من الوهم أن يقال إن العدل يقضي بأن يكون لأثر إنذاره أمد ينتهي إليه. ومن الأمثلة أيضاً ما ورد في المادة (52) من قانون العقوبات من أن الأمر بإيقاف التنفيذ لا يصح إذا كان المحكوم عليه سبق أن حكم عليه بعقوبة جناية أو بالحبس أكثر من أسبوع. فهذه الأسبقية أو القبلية أتت بصيغة الإطلاق. ومهما كان الجاني قد أحسن سلوكه في الفترة التي بين الحكم الأوّل وبين الجريمة الثانية، ومهما بلغت هذه الفترة من المدى، ومهما كانت الجريمة الثانية تافهة لا تستدعي في ذاتها إيجاب التنفيذ - مهما يكن شيء من ذلك فإن الكل متفقون على أن إيقاف التنفيذ محظور، ولم يخطر في بال أحد أن يقول إن هذه الأسبقية في الماضي يلزم عدلاً أن تقف عند حدّ مخصوص لو تجاوزته في الماضي وجب إيقاف التنفيذ، ولا أن يتعلل بأن في طول الزمن إيذاناً بأن الرجل صار حسن السلوك لا يستحق تنفيذ العقوبة الجديدة عليه.
(ثالثاً) إن القيد الذي يراد وضعه للبعدية المطلقة المنصوص عليها في أوّل المادة التاسعة لا يتسق مع أحكام المادة الثانية بل يتعثر في مماشاتها. ذلك بأن المادة الثانية بينت موجبات جواز الاشتباه. ومن يتأمل في فقرتها الأولى مثلاً يجدها تقسم الموجبات الواردة بها إلى قسمين: الأوّل وهو الحكم ولو مرة واحدة في قتل عمد، والثاني هو الحكم أكثر من مرة في باقي الجرائم المشار إليها فيها. ثم إنها فيما يتعلق بالقسم الأوّل لم تشترط أي شرط زمني لجواز إلصاق صفة الاشتباه بالمحكوم عليه. أما القسم الثاني فقد أوجبت ألا تلصق تلك الصفة إذا كانت قد مرت خمس سنوات من بعد أن استوفى المحكوم عليه عقوبته الأخيرة أو من بعد أن تكون قد مضت المدة المسقطة لهذه العقوبة الأخيرة. وإذن فللبوليس الحق إذا توسم الخطر على الأمن من أي رجل حكم عليه مرة في قتل عمد أن يعمد إليه ويوجه له إنذاراً يلصق به صفة الاشتباه استعداداً لتطبيق المراقبة عليه لو بدا منه ما يوجبها بحسب المادة التاسعة، ولا يضيره أن يكون توجهه إليه بالإنذار حاصلاً بعد عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر من يوم انقضاء العقوبة بل ما بقي من حياة هذا المحكوم عليه كله ظرف لجواز الإنذار. كما أن له إذا توسم الخطر في أي فرد من أفراد القسم الثاني أن يعمد إليه في آخر يوم من الخمس السنوات التي تلي انقضاء عقوبته مهما طالت مدة تلك العقوبة وأن يوجه إليه الإنذار. وإمكان توجيه الإنذار لأفراد القسم الأوّل في أي وقت كان وتوجيهه لأفراد القسم الثاني في ظرف تلك الخمس السنوات يتنافر معه القول بأن الإنذار له أثر محدود بثلاث سنوات قياساً على إنذار التشرد. ويظهر هذا التنافر واضحاً إذا فرض أن البوليس وجه الإنذار لأي أفراد القسمين في أوّل يوم يتلو يوم انتهاء عقوبتهم هل يجب عليه تكرير هذا الإنذار في باقي سني حياة أفراد القسم الأوّل كل ثلاث سنوات مرة أو بعد مضي الثلاث السنوات الأولى من الخمس السنوات التالية لانقضاء عقوبة أفراد القسم الثاني؟ إذا كانت أحوال إنذار الاشتباه مقيسة على أحوال إنذار التشرد فكيف يمكن البوليس هذا التكرير ما دام إنذار المتشرد كما هو صريح القانون لا يمن تكريره إلا إذا وقع تشرد جديد فعلي من المتشرد وما دام أن المشتبه فيه لم يقع منه شيء جديد؟ وإذا قيل بأن هذا التكرير بعد السنوات الثلاث الأولى لا يجوز ما دام المشتبه فيه لم يرتكب قبل نهايتها شيئاً جديداً - إذا قيل ذلك اصطدم قائله مع ما للبوليس من الحق في إنذار أفراد القسم الأوّل ولو في آخر أيام حياتهم وأفراد القسم الثاني لغاية خمس سنين بعد انقضاء عقوبتهم. وقيام البوليس بالإنذار الأوّل ليس من شأنه أن يسقط أصل حقه المقرر صراحة بالقانون. ثم ماذا يكون الرأي لو أن البوليس عمد بالنسبة لأحد أفراد القسم الثاني فأنذره في آخر يوم من الخمس السنوات التالية لانقضاء العقوبة فهل هذا الإنذار يخلق معدوماً لا أثر له إلا في يوم صدوره فقط ولا يبيح تطبيق المراقبة لو أن المنذر أتى أمراً في خلال الثلاث السنوات التالية يوجب تطبيقها؟ وكيف يقال ذلك إلا إذا فرض أن الشارع عابث يضع أحكاماً مسخوراً منها؟
الحق أن التشرد والاشتباه، كما أسلفنا، مختلفان اختلافاً بيناً فكل يأخذ حكمه مستقلاً. وحكم الاشتباه فيما يتعلق بأساسه وبتقريره وبزمن تقريره يخالف حكم التشرد. وكذلك يخالفه فيما يتعلق بأثر الإنذار الخاص به، فإن القانون في المادة التاسعة أطلق في مدى هذا الأثر ولم يجعل له زمناً محدّداً كما جعل لإنذار التشرد. ولقد احتاط القانون كل الاحتياط فيما أراد جعله من أحكام إنذار التشرد منطبقاً على إنذار الاشتباه. ذلك بأنه في المادة الثامنة لم ينص إلا على أن "الإجراءات الخاصة بإنذار التشرد وهي المبينة في المواد الثالثة والرابعة والخامسة تسري على إنذار الاشتباه". والمبين بتلك المواد هو كيفية إصدار الإنذار وطريقة المعارضة فيه. أما مدّة سريان مفعول إنذار التشرد فموطنها المادة السادسة. وقد احترز القانون فلم يجعل أي حكم منها سارياً على إنذار الاشتباه وهو احتراز مقصود لأنه مبني على الاختلاف بين طبيعة الأمرين وعلى ما يجب أن يكون بينهما من الاختلاف في الأحكام الموضوعية دون الأحكام الإجرائية الشكلية. على أن الدقة التي روعيت بفقرات المادة السادسة من جهة تقرير مدى إنذار التشرد وحصره في ثلاث سنوات فقط، ثم تكرير ذلك في كل فقرة من فقرات المادة - تلك الدقة تدل على عناية الشارع بأمر المواعيد عناية كلية وأنه ما كان يفوته تقرير مثلها فيما يتعلق بإنذار الاشتباه لو أنه كان يريد أن يجعل له أمداً خاصاً.
وحيث إنه لجميع ما تقدم يتعين القول بأن إنذار الاشتباه مستديم الأثر لا يسقط بأي مدة كانت ولذلك يتعين نقض الحكم وتطبيق المراقبة مع الاقتصار في مدتها على القدر الذي قضت به محكمة أوّل درجة. ولا يفوت المحكمة في هذا المقام أن تنبه إلى أن من الخطأ التعبير عن جريمة من تطلب المراقبة عليه بمقتضى المادة التاسعة بأنها جريمة عود للاشتباه إذ الاشتباه، كما تقدم، صفة مستمرّة لا عود فيها وإنما الذي يجب التعبير به هو أن الرجل ارتكب كذا وكذا مع كونه مشتبهاً فيه.