مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الثالث (عن المدة بين 7 نوفمبر سنة 1932 وبين 26 أكتوبر سنة 1936) - صـ 140

جلسة 27 فبراير سنة 1933

برياسة سعادة عبد العزيز فهمي باشا وبحضور حضرات محمد لبيب عطية بك وزكي برزي بك ومحمد فهمي حسين بك وأحمد أمين بك.

(96)
القضية رقم 1116 سنة 3 القضائية

( أ ) جرائم النشر. تقدير مرامي العبارات. حق محكمة النقض.
(ب) الإهانة. معناها.
(جـ) النقد المباح. تجاوزه. جريان العرف بعبارات نابية عن الأدب. لا يجدي.
(المادة 159 ع)
1 - لمحكمة النقض والإبرام في جرائم النشر حق تقدير مرامي العبارات التي يحاكم عليها الناشر من ناحية أن لها بمقتضى القانون تصحيح الخطأ في التطبيق على الواقعة بحسب ما هي مثبتة في الحكم. وما دامت العبارات المنشورة هي بعينها الواقعة الثابتة في الحكم، صح لمحكمة النقض تقدير علاقتها بالقانون من حيث وجود جريمة فيها أو عدم وجودها وذلك لا يكون إلا بتبين مناحيها واستظهار مراميها.
2 - الإهانة هي كل قول أو فعل يحكم العرف بأن فيه ازدراءً وحطاً من الكرامة في أعين الناس وإن لم يشمل قذفاً أو سباً أو افتراءً. ولا عبرة في الجرائم القولية بالمداورة في الأسلوب ما دامت العبارات مفيدة بسياقها معنى الإهانة.
3 - لا يشفع في تجاوز حدود النقد المباح أن تكون العبارات المهينة التي استعملها المتهم هي مما جرى العرف على المساجلة بها.


الوقائع

اتهمت النيابة العمومية محمد توفيق دياب أفندي بأنه في يومي 26 و27 إبريل سنة 1932 بدائرة مدينة القاهرة محافظة مصر بصفته رئيس التحرير المسئول لجريدة الجهاد اليومية أهان علناً هيئتين نظاميتين وهما مجلس النواب واللجنة البرلمانية المشكلة لفحص مشروع سدّ جبل الأولياء بأن نشر مقالين تحت عنوان "حديث الصباح" بالعددين رقم 222 و223 من جريدة الجهاد المذكورة والتي وزعت على الجمهور نسب فيهما إلى الهيئتين المذكورتين المغامرة بحياة مصر والميل إلى إقرار مشروع سدّ جبل الأولياء لغرض بقاء الحكومة الحاضرة في الحكم وبقاء أعضاء البرلمان في ظلالها شهوراً أو أعواماً أو دهوراً وغير ذلك مما تضمنه المقالان المذكوران من ألفاظ الإهانة والسب. وطلبت من محكمة جنايات مصر محاكمة المتهم بالمواد 148 و159 و168 من قانون العقوبات. وبالجلسة أضافت النيابة إلى وصف التهمة ما يأتي: "حالة كون المتهم عائداً إذ سبق الحكم عليه بعقوبة الحبس بالشغل مع إيقاف التنفيذ لجريمة مماثلة لهذه في 31 مارس سنة 1932" وطلبت تطبيق الفقرة الثالثة من المادة 48 والمادة 49 من القانون المذكور.
وبعد أن سمعت المحكمة الدعوى حكمت حضورياً في 3 يناير سنة 1933 عملاً بالمادة 50 من قانون تشكيل محاكم الجنايات ببراءة المتهم محمد توفيق دياب أفندي مما أسند إليه.
فطعن حضرة رياض رزق الله بك بالنيابة عن رئيس نيابة مصر في هذا الحكم بطريق النقض في 21 يناير سنة 1933 وقدّم حضرته تقريراً بالأسباب في ذات التاريخ.
وتحدّد لنظر الطعن جلسة اليوم. وفيها حضر المتهم ومعه الأستاذ مكرم عبيد أفندي وترافع بما هو مدون بمحضر الجلسة. كما سمعت المحكمة قول المتهم الذي رغب في ذكره لها. وصممت النيابة على الأسباب المقدّمة منها.


المحكمة

بعد سماع المرافعة الشفوية وأقوال المتهم وطلبات النيابة العامة والاطلاع على الأوراق والمداولة قانوناً.
بما أن طعن النيابة العامة قد قدّم في الميعاد وكذلك أسبابه فهو مقبول شكلاً.
وبما أن تقرير الأسباب يتلخص في أن محكمة الجنايات قد أخطأت في تأويل القانون وكان مظهر خطئها في ثلاثة أمور:
(أوّلاً) أنها استندت في إثبات حسن نية المتهم إلى ما قدّرته من أن غرضه من كتابة المقالين اللذين رفعت بشأنهما الدعوى العمومية كان تحذيراً للجنة البرلمانية والبرلمان من الموافقة على إنشاء خزان جبل الأولياء على اعتبار أن اللجنة لم تكن فرغت من بحث المشروع. مع أن هذا الاعتبار لا أساس له من الصحة لأن الواقع باعتراف المتهم نفسه في مقاله الأول أن اللجنة كانت أقرت المشروع. أما البرلمان فإن المتهم كان يتحدّث عنه في المقالين بلهجة الواثق من أنه سيقرّ المشروع حتماً. فالأساس الذي بنت عليه المحكمة حسن نية المتهم مردّه خطأ في فهم الوقائع على صحتها.
(ثانياً) أن المحكمة لم تراع في حكمها أنه حتى مع التسليم بأن المساجلة قد تتطلب أحياناً استعمال بعض العبارات الحماسية والأساليب التخيلية إلا أنه يجب التنكب عن اتخاذها ستاراً للسب والإهانة.
(ثالثاً) أن المحكمة قد أخطأت في تقدير المعاني التي تنطوي تحت ألفاظ المقالين فنفت أن بهما أي سب أو إهانة مع أن الأمر جلي تكشف عنه عباراتهما من غير تفهم أو تأويل. هذا هو ملخص وجوه طعن النيابة.
وبما أنه يجب التنويه بادئ الرأي عند بحث هذا الطعن بأن القضاء قد استقر على أن لمحكمة النقض والإبرام في جرائم النشر حق تقدير مرامي العبارات التي يحاكم عليها الناشر من ناحية أن لها بمقتضى القانون تعديل الخطأ في التطبيق على الواقعة بحسب ما هي مثبتة في الحكم. وما دامت العبارات المنشورة هي هي بعينها الواقعة الثابتة في الحكم صح لمحكمة النقض والإبرام تقدير علاقتها بالقانون من حيث وجود جريمة فيها أو عدم وجودها. وذلك لا يكون إلا بتبين مناحيها واستظهار مراميها.
وبما أنه ما دام لمحكمة النقض والإبرام حق المراقبة على محكمة الموضوع في تقديرها لمعاني الألفاظ والعبارات التي تنشر من جهة علاقتها بالقانون أصبح الوجه الثالث من تقرير الأسباب هو مناط البحث في طعن النيابة التي احتكمت في هذا الوجه إلى محكمة النقض لتفصل فيما إذا كانت عبارات المقالين المرفوعة بشأنهما الدعوى بهما إهانة لمجلس النوّاب وللجنة البرلمانية المشكلة لفحص مشروع جبل الأولياء كما رأت النيابة العامة أو أن تلك العبارات ليست إلا مجرّد تحذير لا إهانة فيه كما ذهبت إليه محكمة الجنايات.
وبما أنه بمراجعة المقالين موضوع الدعوى الحالية المنشورين بإمضاء المتهم بالعددين رقم 222 و223 من جريدة الجهاد التي تصدر في القاهرة تبين أن ما جاء في العدد الأوّل ما يأتي: -
"نعم أوشكت الصاعقة التي يسمونها سد جبل الأولياء أن تنقض على رأس مصر والمصريين وسيرجع الفضل الخالد في هذه النكبة الخالدة إلى صدقي باشا في البداية وإلى برلمانه في الختام...... ولا تنس أن هذه الكثرة المتهافتة على تأييد البلاء الداهم أبى لها تفانيها في متابعة الوزارة إلا أن ترفض حتى مجرّد إلقاء السمع لرجال الفن من خصوم المشروع. فبعد أن أقبلت اللجنة بسمعها المرهف وبصرها المتشوف وفؤادها المتلهف على كل جدّ وهزل وحق وباطل تجود به شفاه الأبطال من مجندي الكارثة رفضت أغلبية اللجنة البرلمانية الصدقية أن تعير المعارضين الفنيين مثقال ذرّة من عنايتها الكريمة السمحاء فضربت من دونهم على سمعها حجاباً وعلى بصرها غشاءً وعلى قلبها أسداداً غلاظاً بعضها فوق بعض...".
"ماذا فعلت اللجنة الصدقية البرلمانية؟ هل خلعت منظار "الصدقية" المظلمة ساعة أو دقيقة لتلبس منظار المصرية المنيرة وهي تنظر في كارثة لن تقع حين تقع على حزبي الشعب والاتحاد وحدهما وهما من هذه الأمة كالذرة من الطود أو القطرة من العباب! كلا لم تستبدل اللجنة بمنظار الوزارة منظار الوطن بل زادت منظارها الصدقي "سواداً" ثم أرسلت من خلاله نظرة حالكة إلى عثمان محرم باشا وآرائه وآراء المعارضين الفنيين طراً وأرسلت نظرة حالكة أخرى إلى سير وليم ولكوكس وتوسلاته من أجل الحق ومن أجل مصر ومن أجل الوفاء - ارتد إلى اللجنة طرفها وكأنه لا يرى في صفحة الوطن حاضره ومستقبله سوى الوزارة وتأييد الوزارة وإن حل الخطب وعظمت الكارثة...... وصدقي باشا وأغلبية اللجنة التي أيدت وقوع النكبة الجارفة...... وليهنأ البرلمان الصدقي الذي ينوي المصادقة على الكارثة في هذه الدورة الحاضرة أي خلال أسابيع".
ومما جاء في العدد الثاني ما يأتي: -
"كلهم يسلم بهذا حتى صدقي باشا ورئيس لجنته البرلمانية علي المنزلاوي بك وجميع أعضائها الذين أقروا مشروع الخزان بالأمس وجميع أعضاء برلمانهم الذين ينتظرون بنافذ الصبر إقراره في الغد القريب".
"إذاً ماذا يدفع هذه الضمائر إلى المغامرة بحياة أمة".
"أهو أن يشتروا بهذا الثمن المروّع بقاء وزرائهم في الحكم وبقاء أنفسهم في ظلاله شهوراً أو أعواماً أو دهوراً".
"إنها لصفقة ليس يقدم عليها مصري وفيه ذرة من الرحمة بنفسه وعشيرته ووطنه أو ذرّة من تقدير الأشياء بأقدارها ولو كان كل يوم يقضونه في الحكم ألف عام من أيام النعيم في جنات الخلود....".
"أيتها الوزارة! وأيها الوزاريون! أيتها اللجنة السادرة! وأيها البرلمان المغامران! المسألة جدّ وهي من الجدّ فوق ما تتصوّرون. ليست حياة مصر أو موتها ملكاً لكم ولا لعشرين برلماناً صدقياً ولا لمائة صدقي وإبراهيم فهمي بل ليست ملكاً لمصطفى النحاس ولم تك ملكاً لسعد، وأنتم تعلمون من هما في قلوب الملايين!! ليست مصر ملكاً لمصري ولا لمئات المصريين من الزعماء المجاهدين فضلاً عن حضراتكم أيها السادة المغامرين بحياة الوطن......".
"فأي ضمير يطاوعكم على أن تكلوا عنق مصر إلى السيف الإنجليزي اعتماداً على مجرّد حسن الظن بحضارة الإنجليز وأي عاطفة تطاوعكم على أن تجعلوا كارثة جبل الأولياء لعبة من ألاعيب الحزبية ووسيلة إلى مكايدة "خصومكم" من المواطنين ومصافاة "حلفائكم" من الغاصبين".
"وأي عقل يهديكم إلى التردي بمصر في هذه الهاوية وهي منها بمأمن وعنها في غنى.. .. إنها لجناية مروّعة ستبقى على الدهور بقاء ذلك السيف معلقاً على رأس مصر والمصريين فهل عوّلتم على إقرار هذه الجناية التي لم يسبق أن اسودت بمثلها صفحات التاريخ".
وبما أن الإهانة هي كل قول أو فعل يحكم العرف بأن فيه ازدراء وحطاً من الكرامة في أعين الناس وإن لم يشمل قذفاً أو سباً أو افتراءً (راجع حكم محكمة النقض الصادر في 2 يناير سنة 1933 في القضية نمرة 849 سنة 3 قضائية).
وبما أن مناحي المقالين ومؤداهما الذي تكشف عنه بعض عباراتهما هو رمي أعضاء البرلمان واللجنة البرلمانية التي نيط بها بحث مشروع جبل الأولياء بأنهم قوم لا ضمير لهم ولا عواطف، وأنهم في سبيل بقاء الوزارة القائمة في الحكم يضحون بمصلحة وطنهم وتراث أجدادهم لكي يعيشوا في ظل تلك الوزارة غير مبالين بما يجنون بفعلتهم على الأجيال المقبلة - هذا هو منحى المقالين غير محتمل المكابرة. ولا عبرة بالحيل الإنشائية التي جاء بها الكاتب عندما أورد بعض الجمل البينة الإهانة بصيغة الاستفهام فإن السياق ينم على أن ذلك التساؤل لم يكن إلا تساؤل توكيد وتوبيخ. على أن المداورة في الأساليب الإنشائية بفكرة الفرار من حكم القانون لا نفع فيها للمداور ما دامت الإهانة تتراءى للمطلع خلف ستارها وتستشعرها الأنفس من خلالها. إنما تلك المداورة مخبثة أخلاقية شرها أبلغ من شر المصارحة فهي أحرى منها بترتيب حكم القانون.
وبما أن إسناد هذه المثالب لأعضاء هيئة نظامية وتجريدهم من الإخلاص لوطنهم في سبيل منافعهم أو إرضاءً لشهواتهم الحزبية لا شك أنه يحط من كرامتهم في أعين الناس ويجرح شرفهم ويؤذي نفوسهم.
وبما أن ما ذهب إليه الحكم المطعون فيه من أن العرف جرى على المساجلة بالعبارات الحماسية والأساليب التخيلية وألفاظ التهويل والمبالغة والتحذير والترهيب لمجرّد التأثير على النفس وحملها على التصديق في الشؤون التي ليس من المستطاع حمل المناظر على تصديقها بالطرق البرهانية الهادئة كالحال في مسألة جبل الأولياء - هذا الرأي لا تجيزه محكمة النقض والإبرام بل إنها تصرح بأن فيه خطراً على كرامة الناس وطمأنينتهم وتشجيعاً للبذاءة ودنس الشتائم، والحقيقة ليست بنت التهويل والتشهير والمبالغة والترهيب، بل هي بنت البحث الهادئ والجدل الكريم. وإذا كان لحسن النية مظهر ناطق فإنه الأدب في المناظرة والصدق في المساجلة.
وبما أنه متى استبان أن العبارات التي دوّنها المتهم في المقالين موضوع هذه الدعوى فيها بمعناها وبسياقها إهانة لهيئة نظامية، وجب تطبيق القانون ومعاقبة المتهم بمقتضى المادة 159 من قانون العقوبات، وذلك عملاً بالمادتين 229 فقرة ثانية و232 من قانون تحقيق الجنايات.
وبما أن المحكمة ترى في تقدير العقوبة التي تنزلها بالمتهم أن تكون رادعة له بعد أن تبين أنه لم يزدجر بالحكم الذي صدر عليه في 21 مارس سنة 1932 في قضية قذف بحبسه ستة شهور مع إيقاف التنفيذ فنأى بجانبه عن التحذير الذي وجه إليه بمقتضى المادة 54 من قانون العقوبات ولم يمض شهر واحد حتى اقترف جريمة مماثلة جعلته عائداً في حكم الفقرة الثالثة من المادة 48 عقوبات.