أحكام النقض - المكتب الفني - مدني
العدد الثاني - السنة 8 - صـ 619

جلسة 20 من يونيه سنة 1957

برياسة السيد عبد العزيز محمد رئيس المحكمة، وبحضور السادة: محمد عبد الواحد علي، وأحمد قوشه ومحمد متولي عتلم، وإبراهيم عثمان يوسف المستشارين.

(69)
القضية رقم 2 سنة 26 القضائية "أحوال شخصية"

( أ ) أهلية. عوارض الأهلية. سفه. مواريث "حكم تصرف المورث بالنسبة للوارث". تعريف السفه. تصرف الإنسان في كل ما يملك لزوجته وأولاده الصغار سواء بعوض أو بغير عوض. لا مخالفة فيه لمقتضى العقل والشرع.
(ب) أهلية. عوارض الأهلية. غفلة. إرادة. تصرفات الإنسان التبرعية لزوجته وأولاده الصغار. انعدام دلالتها على التسلط أو الغفلة.
1 - السفه هو إنفاق المال على غير مقتضى الشرع والعقل. وتصرف الإنسان في كل ما يملك لزوجته وأولاده الصغار سواء كان هذا التصرف بعوض أو بغير عوض لا مخالفة فيه لمقتضى الشرع والعقل بل هو تصرف تمليه الرغبة في تأمين مستقبل الزوجة والصغار الذين يرعاهم وليس من شأن مثل هذا التصرف إتلاف المال في مفسدة بل إن فيه حفظ المال لمن رأى المتصرف أنهم أحق أهله به إذ الشرع لا يحرم على الإنسان الخروج عن ماله حال حياته كلاً أو بعضاً لأحد ورثته لمصلحة مشروعة يقدرها، ولو قصد من ذلك حرمان بعض ورثته مما عساه قد يؤول إليهم.
2 - ليس في خروج الإنسان عن ماله لزوجته وأولاده الصغار ما ينبئ عن استئثار أو تسلط لأن تصرفه لهم أمر تمليه العاطفة وتدفع إليه الغريزة، كما أن تصرفاته التبرعية لهم لا يمكن أن يوصف معها بالغفلة لأن الغفلة هي ضعف بعض الملكات الضابطة في النفس ترد على حسن الإدارة والتقدير ويترتب على قيامها بالشخص أن يغبن في معاملاته مع الغير.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع التقرير الذي تلاه السيد المستشار المقرر والمرافعة وبعد المداولة.
حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
وحيث إن الوقائع - حسبما يبين من الحكم المطعون فيه وسائر أوراق الطعن - تتحصل في أنه بتاريخ 6 من مارس سنة 1954 قدمت المطعون عليها طلباً إلى نيابة القاهرة للأحوال الشخصية ذكرت فيه أن الطاعن وهو والدها بلغ من العمر خمسة وسبعين عاماً وأنه كان بعد وفاة زوجته الأولى "وهي والدة المطعون عليها" قد تزوج شابة رزق منها بولدين وما لبث أن وقع تحت تأثير زوجته وولديه فتصرف إليهم في كل ما يملك - ثم حدث أن ورث أطياناً زراعية تبلغ 41 فداناً و10 قراريط أطيان ومنقولات عن ابن أخيه الدكتور فخري بطرس نصير. وأنها تخشى أن يحل بهذا المال ما حل بماله السابق وطلبت لهذا توقيع الحجز عليه للسفه والغفلة - وبعد أن حققت النيابة الطلب قدمته إلى محكمة القاهرة دائرة الأحوال الشخصية وطلبت في مذكرتها رفضه - وقيدت الدعوى برقم 93 س سنة 1954 مصر الجديدة. وفي 12 من مارس سنة 1955 قضت المحكمة برفض الطلب - فاستأنفت المطعون عليها هذا الحكم أمام محكمة الاستئناف القاهرة وقيد برقم 30 سنة 1955 أحوال شخصية - وفي 28 من ديسمبر سنة 1955 قضت محكمة الاستئناف بإلغاء الحكم المستأنف وتوقيع الحجر على الطاعن للغفلة والسفه - وأقام الحكم قضاءه على أن الطاعن خرج في الفترة بين سنة 1942، 1949 عن كل ما يملك لزوجته الشابة وولديه منها فباع لهم في سنة 1942 منزله بشارع روض الفرج بثمن قدره ثلاثة آلاف من الجنيهات كما باع في سنة 1944 قطعة أرض فضاء لابنه كمال بثمن رمزي قدره 60 جنيهاً وأقام له على تلك الأرض بناء من أربع طبقات دفع نفقات إنشائه من ماله الخاص - وأن الطاعن في المدة من سنة 1943 إلى سنة 1946 باع ما كان يملك من أرض زراعية بمديرية الفيوم بثمن قدره 11920 جنيهاً و951 مليماً وفي سنتي 1948 و1949 اشترت الزوجة وابنها كمال أرضاً زراعية بمركز شبين القناطر قدره 1089 جنيهاً و550 مليماً بحق الثلثين للزوجة والثلث للابن ونص في العقد على أن نصيب الابن دفع ثمنه من مال الطاعن. وخلص الحكم إلى أن الطاعن أجهز على جميع ثروته للزوجة وابنيها إما بالبيع مباشرة أو ببيع بعض العقارات وشراء وغيرها لحسابهم، وأن هذه التصرفات تنم عن الحالة التي اندفع إليها الطاعن فأسفرت عن تجرده من كل ماله لمصلحة أشخاص معينين بالذات مما يفصح عن المدى البعيد الذي أحرزه هؤلاء في الاستئثار به والسيطرة عليه بسبب غفلته وسهولة خداعه - وأنه وإن كان لم يترتب على هذه التصرفات إتلاف المال إلا أن نقل المال إلى آخرين يدل على سوء تدبيره وفساد تقديره وأن إسرافه في هذه التصرفات التبرعية إلى حد تجريد نفسه انتهى به إلى أن أصبح عالة على من كان يعولهم، وقد طعن الطاعن على هذا الحكم بطريق النقض، وعرض الطعن على دائرة فحص الطعون وأيدت النيابة رأيها بنقض الحكم وقررت دائرة الفحص بجلسة 30 من يناير سنة 1957 إحالة الطعن على الدائرة المدنية والتجارية ومسائل الأحوال الشخصية. وبعد أن قدمت المطعون عليها مذكرة بدفاعها قدمت النيابة مذكرة ثانية أصرت فيها على وجهة نظرها، ثم حددت جلسة 6 من يونيو سنة 1957 لنظر الطعن وفيها صممت النيابة على رأيها.
وحيث إن الطعن أقيم على سببين يتحصل أولهما في النعي على الحكم المطعون فيه بالخطأ في تطبيق القانون لأن السفه والغفلة حالتان قانونيتان لكل منهما معيار قانوني تقاس به التصرفات التي توجب الحجر عند قيام أي حالة منهما بالشخص الذي يطلب الحجر عليه فإذا أخطأ الحكم في التعرف على قيام تلك الحالة من تصرفات معينة فإنه يكون قد أخطا تطبيق القانون كما أخطأ التكييف القانوني لوقائع الحال. وأنه لما كان السفه شرعاً وقانوناً هو تبذير المال وتضييعه على خلاف مقتضى الشرع والعقل لا لغرض أو لغرض لا يعده العقلاء من أهل الديانة غرضاً صحيحاً - وكانت الغفلة - شرعاً وقانوناً هي حالة تقوم بصاحب الغفلة وهو من لا يهتدي إلى التصرفات الرابحة أو الرابحة فيغبن لسلامة قلبه من كونه غير مفسد ولا قاصد للفساد - فإن القضاء قد جرى على أن الشيخوخة لا تكفي وحدها سبباً للحجز وعلى أن بيع الشخص لجزء من أملاكه لمصلحة يراها هو جديرة بالعناية في نظره لا يستدعي توقيع الحجز عليه ما دامت تلك المصلحة لا تتنافى مع ما هو مشروع في نظر العقلاء. وأنه إذا كان تصرف الشخص في ماله لبعض ورثته قد قصد به حرمان البعض الآخر ولو انتهى ذلك التصرف إلى تجريد المتصرف من كل ماله فإن ذلك لا يوجب الحجز عليه - ولكن الحكم المطعون فيه قد اعتمد في تقرير قيام حالة السفه والغفلة بما تصوره من تجرد الطاعن من جميع أملاكه بتصرفات تبرعية لمصلحة زوجته وولديه منها - وأنه بصرف النظر عن بطلان إسناد الحكم في هذا الخصوص فإن ما اعتد به الحكم في ذلك هو مما لا يعتد به شرعاً في قيام حالتي السفه والغفلة، لأن نقل ملكية المال ولو تبرعاً من شخص إلى زوجته وأولاده الذين يعيشون معه ويرعونه ويعيش هو معهم ويرعاهم لا يعتبر خروجاً على مقتضى الشرع والعقل - والقانون يبيح للشخص التصرف حال حياته في جميع أمواله معاوضة أو تبرعاً ولو أضر هذا التصرف بورثته بل ولو تعمد هذا الإضرار ويكون الحكم إذ أنزل على مثل هذا التصرف معنى السفه قد أخطأ تطبيق القانون وأنه لا يشفع للحكم ما أورده من أن التجرد من كل المال تبرعاً يجعل الطاعن عالة على من كان يعولهم مما يعد سوء تدبير وفساد تقدير لأنه لم يثبت لدى المحكمة أن الطاعن أصبح عالة على أحد. وأنه لو أن مثل هذا التصرف يصلح في نظر القانون موجباً للحجز لحرمه ابتداء. كما أن الحكم إذ قرر قيام حالة الغفلة بالطاعن تأسيساً على ما أورده من أن صدور هذه التصرفات إلى أشخاص بذواتهم دون غيرهم فيه دلالة على تسلط هؤلاء الأشخاص على إرادته وعلى ضعف هذه الإرادة يكون قد أخطأ في تطبيق القانون بالنسبة إلى معيار الغفلة لأن التصرف الذي أخذه الحكم على الطاعن هو مما يجري به العرف في كثير من الأحوال وتمليه الغريزة بغير حاجة إلى التسلط مما لا يصح معه القول بأن المتصرف لم يهتد في تصرفه إلى الصواب بل هو الصواب في نظر الحريصين حتى يتحقق للرجل حفظ ماله على من هو صاحب المال مآلاً.
وحيث إن الحكم المطعون فيه إذ قضى بالحجر على الطاعن للسفه والغفلة أقيم على "أن الطاعن باع لزوجته وولديه منها منزلاً كان يملكه بثمن قدره ثلاثة آلاف من الجنيهات في سنة 1942 كما باع لابنه كمال قطعة أرض للبناء تبلغ مساحتها 111 متراً و80 س بثمن رمزي قدره ستين جنيهاً في سنة 1944 ثم أقيم على قطعة الأرض المذكورة بناء من أربع طبقات من مال الطاعن حسبما دلت التحريات على ما جاء بالمكلفة إذ أن ما جاء بتلك التحريات سائغ لأن الابن كان قاصراً لا يزيد عمره عن خمس عشرة سنة ولم يثبت أنه كان يمتلك مالاً وقتئذ. كما أن الطاعن كان يملك 27 ف و22 ط و2 س بمديرية الفيوم من بينها 17 فداناً غرست بأشجار الفاكهة فباعها جميعاً للغير بين سنتي 1943 و1946 بثمن قدره 11920 ج و915 م ثم اشترى لزوجته بحق الثلثين ولابنه كمال بحق الثلث 42 ف و20 ط و14 س بناحية زفيتة مشتول مديرية القليوبية بثمن قدره 10890 ج و550 م في سنتي 1948 و1949 ونص في عقود الشراء على أن حصة الابن دفع ثمنها من مال الطاعن وأنه كان من أثر هذه التصرفات أن أصبح الطاعن مجرداً من كل مال يمتلكه إذ أجهز على ثروته بأكملها بنقلها إلى زوجته وولديه منها إما بالبيع إليهم مباشرة أو بالبيع إلى الغير والشراء بأسمائهم - وأنه إذ تجرد من جميع أمواله لمصلحة أشخاص معينين بالذات قد أفصح عن المدى البعيد الذي أحرزه هؤلاء الأشخاص من الاستئثار به والسيطرة عليه بسبب غفلته وسهولة خداعه - وأنه وإن كان لم يترتب على تلك التصرفات إتلاف المال إلا أن في نقله إلى آخرين ما يدل على سوء تدبيره وفساد تقديره - كما أن إسراف الطاعن في تصرفاته التبرعية إلى حد تجريد نفسه من ماله تجريداً تاماً من شأنه الإضرار بمصلحته الشخصية إذ أصبح بسببه عالة على من كان هو العائل لهم وهو أمر لا يقتضيه العقل والشرع - وأنه لما كان الطاعن قد آله إليه مال جديد بطريق الميراث عن الدكتور فخري نصير فإنه يتعين المحافظة على هذا المال الجديد حتى لا يلقى المصير الذي لقيه ماله السابق". وهذا الذي أقيم عليه الحكم ينطوي على خطأ في تطبيق القانون على الوقائع الثابتة في الحكم. ذلك أن السفه هو إنفاق المال على غير مقتضى الشرع والعقل. ولما كان تصرف الطاعن في كل ما يملك لزوجته ولأولاده الصغار سواء كان هذا التصرف بعوض أو بغير عوض لا مخالفة فيه لمقتضى الشرع والعقل بل هو تصرف تمليه الرغبة في تأمين مستقبل الزوجة والصغار الذين يرعاهم وليس من شأنه مثل هذا التصرف إتلاف المال في مفسدة بل أن فيه حفظ المال لمن رأى الطاعن أنهم أحق أهله به إذ الشرع لا يحرم على الإنسان الخروج عن ماله حال حياته كلاً أو بعضاً لأحد ورثته لمصلحة مشروعة يقدرها ولو قصد من ذلك حرمان بعض ورثته مما عساه قد يؤول إليهم كما أن مثل هذا التصرف لا ينافي العقل - أما ما أورده الحكم تبريراً للحجر على الطاعن للغفلة من أن تصرفاته في كل حالة إلى أشخاص بذواتهم قد دل على المدى البعيد الذي أحرزه هؤلاء في الاستئثار به والسيطرة عليه بسبب غفلته وسهولة خداعه فإنه بدوره ينطوي على خطأ في تطبيق القانون على الوقائع الثابتة في الحكم لأن الأشخاص الذين عناهم الحكم هم زوجة الطاعن وولديه وليس في خروج الطاعن عن ماله لهم ما ينبئ عن استئثار أو تسلط لأن تصرفه لهم أمر تمليه العاطفة وتدفع إليه الغريزة. كما أن التصرفات التي صدرت من الطاعن والتي وصفها الحكم بأنها تصرفات تبرعية لا يمكن معها وصف من صدرت منه بالغفلة لأن الغفلة هي ضعف بعض الملكات الضابطة في النفس ترد على حسن الإدارة والتقدير ويترتب على قيامها بالشخص أن يغبن في معاملاته مع الغير. وأخيراً فإن الحكم لم يورد الدليل على ما قرره من أن الطاعن أصبح عالة على من كان من قبل هو العائل لهم بل إن ما أثبته الحكم ينفي ما قرره في هذا الخصوص خصوصاً بعد أن آل إلى الطاعن ميراث كبير من أحد أقاربه. لما كان ذلك فإن الحكم يكون متعين النقض دون حاجة إلى بحث السبب الآخر من أسباب الطعن.
وحيث إن موضوع الدعوى صالح للحكم.
وحيث إنه للأسباب المتقدمة وللأسباب التي ذكرها الحكم المستأنف يتعين رفض الاستئناف وتأييد الحكم المستأنف.