مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الرابع (عن المدة من 2 نوفمبر سنة 1936 لغاية 30 أكتوبر سنة 1939) - صـ 109

جلسة 13 ديسمبر سنة 1937

برياسة سعادة مصطفى محمد باشا رئيس المحكمة وحضور حضرات: عبد الفتاح السيد بك ومحمود المرجوشي باشا ومحمد كامل الرشيدي بك وأحمد مختار بك المستشارين.

(122)
القضية رقم 13 سنة 8 القضائية

حكم. تسبيبه. حكم ابتدائي بالإدانة. حكم استئنافي بالبراءة. تأسيسه على تقدير المحكمة للوقائع. عدم رده على جزئيات الحكم الابتدائي. كفايته.
يكفي في الأحكام القاضية بالبراءة المؤسسة على تقدير الوقائع أن تكون الأسباب التي اقتنعت بها المحكمة مؤدية عقلاً إلى البراءة. فإذا كان حكم البراءة صادراً من محكمة استئنافية إلغاءً لحكم ابتدائي فيكفي مع ما تقدّم أن يكون في أسبابه الرد إجمالاً على ما استندت إليه محكمة الدرجة الأولى دون حاجة إلى الرد على كل جزئية من جزئيات الحكم الابتدائي.


الوقائع

اتهمت النيابة العامة هذين المتهمين بأنهما في أوّل نوفمبر سنة 1934 بالجيزة توصلاً إلى الاستيلاء على مبلغ مائة جنيه من أحمد خلوصي أفندي باستعمال طرق احتيالية من شأنها إيهامه بوجود مشروع كاذب وواقعة مزوّرة في صورة واقعة صحيحة. وذلك بأن اتفقا على أن يسعى الأول لدى المجني عليه ليوهمه برغبة الثاني في الزواج من ابنته ملوكه أحمد خلوصي. وقد قام الأوّل بسعيه، وقدّم الثاني كخطيب للابنة. ثم انحدرا في الاحتيال إلى إجراء هذا العقد خدعة ومن غير صداق مدفوع، وحصلا بذلك وعقب إجرائه مباشرة من المجني عليه على المبلغ المتقدّم الذكر بعد أن أوهماه بأنهما سيستعملانه في تجهيز منزل الزوجية بعد إضافة مائة جنيه أخرى إليه. ثم تقاسما المبلغ فحصل الأوّل على ستين جنيهاً منه، وأخذ الثاني باقيه. وبعد ذلك عملا على الخلاص من العقد فطلق الثاني ابنة المجني عليه قبل الدخول بها. وطلبت من محكمة جنح الجيزة الأهلية معاقبتهما بالمادة 293 من قانون العقوبات.
وادعى أحمد خلوصي أفندي المجني عليه مدنياً وطلب الحكم له بمبلغ خمسة وعشرين جنيهاً تعويضاً مؤقتاً قبل المتهمين متضامنين.
وبجلسة 21 يونيه سنة 1936 دفع الحاضر مع المتهم الثاني ببطلان الدعوى المدنية المرفوعة من أحمد خلوصي أفندي لأن المبلغ هو ملك الآنسة ملوكه أحمد خلوصي. وبعد أن ردّت النيابة على هذا الدفع بما هو وارد بمحضر تلك الجلسة انضم الحاضر مع المدّعي المدني إليها في هذا الرد. فقضت المحكمة برفض هذا الدفع، ودفع المتهم الأوّل ببطلان تحقيقات النيابة للأسباب الآتية: (1) جعلت النيابة التحقيقات سرية (2) عدم توجيهها تهمة إليه (3) عدم اشتمال أوراق المحاكمة على المذكرات والقرارات والآراء الخاصة بالنيابة وقرار النائب العمومي بإحالة محام مثله على المحاكمة (4) عدم استيفاء التحقيق في جنحة بلاغ كاذب رفعت إليها قانوناً، ودفع رسمها، ولم يصدر فيها قرار لا بالحفظ أو بالإحالة (5) بطلان شهادة المبلغين في التحقيق لسماعها في غيبته. كما دفع بعدم قبول المدعي المدني بعد أن فصلت المحكمة الشرعية في القضية بصفة نهائية في دعوى النفقة بحكم صدر نهائياً من جهة تملكه، وأنه لذلك يطلب عدم جواز نظر الدعوى لسبق الفصل فيها.
وبعد أن سمعت المحكمة مرافعة النيابة والمتهم الأوّل في هذين الدفعين قضت برفضهما، وبعد أن أنهت المحكمة سماع الدعوى قضت فيها حضورياً بتاريخ 5 ديسمبر سنة 1936 عملاً بالمواد 293 و296 و40 و41 و32 و52 من قانون العقوبات بالنسبة للمتهم الأوّل، وبالمواد 293 و296 و269 من ذلك القانون بالنسبة للمتهم الثاني: (أوّلاً) بحبس المتهم الأوّل مصطفى رجب أفندي ستة شهور مع الشغل وأمرت بإيقاف التنفيذ وعلى النيابة تحذيره بمضمون المادة 54 من قانون العقوبات (ثانياً) بإلزامه بأن يدفع للمدّعي بالحق المدني مبلغ خمسة وعشرين جنيهاً والمصاريف المدنية وخمسمائة قرش أتعاب محاماة (ثالثاً) عدم قبول الدعوى العمومية بالنسبة للمتهم الثاني عبد الرازق نظمي أفندي وعدم اختصاص محكمة الجنح بنظر الدعوى المدنية قبله (رابعاً) أعفت المتهم من المصاريف الجنائية على اعتبار أن المتهم الثاني مختلس ومبدّد وأن المتهم الأوّل شريك للمتهم الثاني في هاتين الجريمتين.
استأنف المتهم الأوّل الحكم في الدفع الفرعي في 30 يونيه سنة 1936 واستأنفت النيابة حكم الموضوع في 12 ديسمبر سنة 1936 واستأنفه المدّعي بالحق المدني في 9 منه، واستأنفه المتهم الأوّل أيضاً في 8 ديسمبر سنة 1936.
ولدى نظر الدعوى أمام محكمة مصر الابتدائية الأهلية منعقدة بهيئة استئنافية طلبت النيابة التشديد للأوّل وإلغاء الحكم المستأنف بالنسبة للمتهم الثاني ومعاقبته طبقاً للمواد المطلوبة. وطلب المدّعي بالحق المدني الحكم له بالتعويض السابق طلبه. وتمسك المتهم الأوّل والحاضر مع المتهم الثاني بما دفعا به أمام محكمة أوّل درجة. وبعد أن أنهت المحكمة سماع موضوع الدعوى قضت فيها حضورياً بتاريخ 17 يونيه سنة 1937 عملاً بالمادة 172 من قانون تحقيق الجنايات: (أوّلاً) بقبول الاستئنافات شكلاً (ثانياً) بتأييد الحكم المستأنف الصادر بتاريخ 21 يونيه سنة 1936 القاضي برفض الدفوع المقدّمة من المتهمين (ثالثاً) بإلغاء الحكم المستأنف القاضي بعدم قبول الدعوى العمومية قبل المتهم الثاني وبعدم اختصاص محكمة الجنح بنظر الدعوى المدنية قبله والحكم بقبول الدعوى العمومية وباختصاص المحكمة بنظر الدعوى المدنية قبله (رابعاً) وفي موضوع الدعوى بإلغاء الحكم المستأنف بالنسبة للمتهم الأول وبراءته مما نسب إليه وبرفض الدعوى المدنية قبله وبإلزام رافعها بالمصاريف المدنية عن الدرجتين (خامساً) ببراءة المتهم الثاني مما نسب إليه ورفض الدعوى المدنية قبله وإلزام رافعها بالمصاريف (سادساً) أعفت المتهمين من المصاريف الجنائية.
فطعن في هذا الحكم بطريق النقض صاحب العزة عبد العزيز حلمي بك رئيس نيابة مصر بتاريخ 4 يوليه سنة 1937، وقدّم حضرة محمد عبد الله محمد أفندي وكيل النيابة تقريراً بالأسباب في 5 منه، وقدّم المتهم الأوّل مذكرة بدفاعه في 17 منه.
وبجلسة يوم الاثنين 29 نوفمبر سنة 1937 المحدّدة لنظر هذا الطعن قدّم المتهم الأوّل مذكرة أخرى، وبعد أن سمعت المحكمة الدعوى على الوجه المبين تفصيلاً بالمحضر أجلت النطق بالحكم فيها لجلسة اليوم (13 ديسمبر سنة 1937).


المحكمة

وحيث إن مبنى الطعن هو:
أوّلاً - أن محكمة أوّل درجة عنيت في حكمها بتقصي وقائع الدعوى بما لا زيادة عليه لمستزيد، ولكن الحكم المطعون فيه لم يتعرّض لها لا بإثبات ولا بنفي مع أنها مسائل جوهرية.
ثانياً - جاء الحكم المطعون فيه متخاذلاً فيما ورد به من أسباب خاصة. فقد سلم بحاجة المطعون ضدهما إلى المال، وأن أوّلهما لما علم أن لدى المجني عليه مبلغاً لتجهيز ابنته عرض عليه الزواج من هذه الابنة فأبى، ثم عرض عليه أن يزوّجها من أخيه فأبى كذلك، فساق المطعون ضدّه الثاني ليتزوّجها، مما يدل على أن القصد هو الوصول إلى المال المخصص لتجهيز الفتاة. وقد اقتسم المطعون ضدّهما فعلاً مبلغ التسعين جنيهاً الذي تسلمه ثانيهما من والد الفتاة للجهاز. ومع ذلك يقول الحكم إن غاية المطعون ضدّه الأوّل كانت إتمام الزواج للفوز بمبلغ عشرة جنيهات كان قد اقترضها من المجني عليه.
ثالثاً - جاء بالحكم المطعون فيه أن مبلغ التسعين جنيهاً أعطي للزوج لا ليكون ثمناً لأثاث منزل الزوجية بل هبة يوفي بها ديونه، ولكنا لحكم يقول بأنه تحرر بهذا المبلغ إقرار على الزوج المذكور. وبالرجوع إلى هذا الإقرار يتبين أن هذا الزوج أقر باستلام المبلغ، وأنه سيضيف إليه مائة جنيه أخرى لتجهيز بيت الزوجية بحيث إن لم يتم الزواج يلزم بردّه. على أن قول المحكمة إن مبلغ التسعين جنيها كان هبة قول غير منتج في البراءة، إذ الحكم الابتدائي قد أدان المطعون ضدهما على أساس استعمال طرق احتيالية من وجهين: الأوّل إيهام المجني عليه بوجود مشروع كاذب هو تأثيث بيت الزوجية، والثاني إساءة استعمال صفة كل منهما واستغلال الثقة الحاصلة من هذه الصفة. وقد جهد الحكم المطعون فيه في استظهار أن المطعون ضدّه الأوّل كان يقصد إتمام الزواج، وفاته أن موضوع البحث هو جدية هذا الزواج.
رابعاً - إن الأسباب التي ذكرها الحكم المطعون فيه خاصة بالمطعون ضدّه الثاني ليست أقل غموضاً واضطراباً، فقد استخلص حسن النية بعبارة غامضة لا تصلح أن تكون تسبيباً للحكم.
وحيث إنه على الرد على مطعن الطاعنة إجمالاً فإنه يبين من الرجوع إلى الحكم المطعون فيه أنه استعرض وقائع الدعوى استعراضاً وافياً، وأتى على مشروع زواج المطعون ضدّه الثاني بابنة المجني عليه بوساطة المطعون ضدّه الأوّل وما كان من الاتفاق بينهم على أن يقبض الزوج تسعين جنيهاً يضم إليها مائة جنيه لتجهيز منزل الزوجية. وقد أتى الحكم على كلام كل من المطعون ضدّهما والمجني عليه في هذا كله، ولخص رأي محكمة أوّل درجة في تقديره، وضرب صفحاً عن بعض التفصيلات التي عرض لها الحكم الابتدائي لعدم اتصالها مباشرة بوقائع الدعوى. ثم عرض الحكم بعد ذلك للبحث في جدّية الزواج من عدمه، فرأى أن المطعون ضدّه الأوّل كان مديناً بعشرة جنيهات لوالد الفتاة، وأنه أراد الخلاص من هذا المبلغ فنجح في جعله أجراً لوساطته في الزواج لو كلل بالنجاح، واستخلص الحكم من ذلك أن المطعون ضدّه الأوّل كان وقت عقد الزواج حريصاً على نجاحه، كما رأى الحكم أن المطعون ضدّه الثاني وقّع على إقرار بأن ما تسلمه من والد الفتاة كان مائة جنيه تعهد بأن يضم إليها مائة أخرى من ماله ليعدّ أثاث بيت الزوجية، ثم هدم هذا التعهد بقوله في الإقرار إنه حر في شراء ما يشاء في أي وقت شاء مهما بلغت قيمته قلة أو كثرة، فلا تملك زوجته أو غيرها محاسبته متى تم الدخول بها، فإن لم يتم الدخول بها دفع إليها المائتي جنيه. واستخلص الحكم من ذلك أن التسعين جنيهاً لم تكن إلا منحة من والد الزوجة للمطعون ضدّه الثاني بمناسبة الزواج وأيد الحكم ذلك بما كان من الوالد المذكور من دفعه أحداً وعشرين جنيهاً لصانع أثاث منزل الزوجية الذي عهد إليه الزوج بإعداد هذا الأثاث، وكان ذلك القسط الأوّل من قيمته. ولم تر المحكمة بعد ذلك داعياً لبحث الطريقة التي اقتسم بها المطعون ضدّهما مبلغ التسعين جنيهاً، ولا التغلغل في حالتهما المالية لعدم مساس شيء من ذلك بواقعة الاستيلاء على مال المجني عليه. وعقب الحكم على ما تقدّم بأن الزواج كان جدياً، وأن المطعون ضدّه الأوّل ما كان راضياً عن الطلاق الذي أعقبه، وأن هذا الطلاق إنما حدث على أثر نفور طرأ بين المطعون ضدّه الثاني ووالدي الفتاة بسبب إحجامهما عن المضي في مساعدته ومعاونته في صنع الأثاث.
وحيث إنه يؤخذ مما تقدّم أن الحكم المطعون فيه بنى البراءة على أسباب موضوعية واستنتاجات معقولة لا تخاذل بينها ولا تعارض، وكان فيما أورد من وقائع وتقدير لها الردّ الكافي على ما جاء بحكم محكمة أوّل درجة من تقدير مخالف. وما كانت المحكمة الاستئنافية مع كل ما أتت عليه من وقائع الدعوى بملزمة بمجاراة محكمة أوّل درجة فيما ذهبت إليه من شتى الأمور التي لا اتصال بينها وبين وقائع الدعوى الحالية ومساجلتها في صددها ما دامت قد رأت في الوقائع الخاصة بحادث الزواج ذاته ما يكفي لتكوين اعتقادها في الاتهام. وإذاً يكون كل ما اشتمل عليه الطعن لا يخرج عن مؤاخذة محكمة الموضوع على ما كان منها من تقدير للأدلة المطروحة لديها، وهذا مما لا شأن لمحكمة النقض به طالما أن التقدير جاء سليماً من شائبة التحريف أو التعسف في الاستنتاج. على أنه يكفي في أحكام البراءة المؤسسة على تقدير الوقائع أن تكون الأسباب التي اقتنعت بها المحكمة مؤدّية عقلاً إلى تلك البراءة. فإذا كن حكم البراءة صادراً من محكمة استئنافية إلغاءً لحكم ابتدائي يكفي مع ما تقدّم أن يكون في أسبابه الردّ إجمالاً على ما استندت إليه محكمة أوّل درجة دون حاجة للردّ على كل جزئية من جزئيات الحكم الابتدائي، وقد جاء الحكم المطعون فيه وافياً من هذه الناحية.