مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الرابع (عن المدة من 2 نوفمبر سنة 1936 لغاية 30 أكتوبر سنة 1939) - صـ 184

جلسة 28 مارس سنة 1938

برياسة سعادة مصطفى محمد باشا رئيس المحكمة وبحضور حضرات: عبد الفتاح السيد بك ومحمود المرجوشي باشا ومحمد كامل الرشيدي بك وسيد مصطفى بك المستشارين.

(188)
القضية رقم 959 سنة 8 القضائية

( أ ) ضرب أو جرح أفضى إلى موت. القصد الجنائي في هذه الجريمة. طبيب. انتفاء مسئوليته الجنائية. علته. حلاق. عملية ختان. مسئوليته الجنائية.
(المادة 200 ع = 236)
(ب) ضرب أو جرح. والد. ضرب الولد. انتفاء المسئولية الجنائية عن الوالد. علتها. تجاوز حدّ التأديب المباح. عقاب الوالد.
(المادة 55 ع = 61)
1 - إن القانون لم ينص على ركن العمد في مواد الضرب أو الجرح بل اعتبرها من الجرائم العمدية التي يكفي فيها القصد الجنائي العام الذي يفترضه القانون من غير نص عليه.
وإذا كان الشارع في جريمة الضرب أو الجرح المفضي إلى الموت قد نص على العمد، خلافاً لما فعل في المواد الأخرى الخاصة بالضرب أو الجرح، فذلك لما أراده من وجوب التفرقة بين جريمة الجرح أو الضرب المفضي إلى الموت وبين جريمة القتل العمد. ولكن ليس معنى هذا النص أن هذه الجريمة تتطلب نية جنائية خاصة بل القصد الجنائي فيها يتوافر قانوناً متى ارتكب الجاني فعل الضرب أو الجرح عن إرادة وعلم بأن هذا الفعل يترتب عليه المساس بسلامة جسم الشخص المصاب أو صحته. ولا عبرة بالبواعث والدوافع التي تحمل على ارتكاب فعل الجرح مهما كانت شريفة، بل متى تحقق فعل الجرح، وثبت علم الفاعل بأن في فعله مساساً بجسم المصاب، تحققت الجريمة ولو كان من أوقع فعل الجرح وانتواه مدفوعاً إليه بعامل الحنان والشفقة، قاصداً مجرّد فعل الخير، أو ملبياً طلب المجروح نفسه. ومن ثبتت عليه جريمة إحداث الجرح العمد يتحمل قانوناً مسئولية تغليظ العقاب على حسب نتيجة الجرح الذي أحدثه ومضاعفاته، كما لو طال علاج المجني عليه أو تخلفت عنده عاهة مستديمة، أو مات بسبب الإصابة، ولو كان لم يقصد هذه النتيجة، مأخوذاً في ذلك بقصده الاحتمالي إذ كان يجب عليه وهو يحدث الجرح أن يتوقع إمكان حصول النتائج التي قد تترتب على فعلته التي قصدها. ولا يهم في ذلك إن كانت تلك النتائج قد ترتبت مباشرة أو غير مباشرة على فعله ما دام هذا الفعل هو السبب الأوّل المحرّك للعوامل الأخرى التي سببت النتائج المذكورة.
على أن جريمة الجرح العمد وإن كانت تتوافر عناصرها ولو كان محدث الجرح طبيباً أو جراحاً يعمل لخير المريض وشفائه متى ثبت أنه أتى الفعل المادي بإحداث الجرح وهو عالم أن فعله يمس سلامة جسم مريضه إلا أن المسئولية الجنائية في هذه الجريمة تنتفي عن الطبيب أو الجرّاح لا لعدم توافر القصد الجنائي لديه، بل لسبب قانوني آخر هو إرادة الشارع الذي خوّل الأطباء، بمقتضى القوانين واللوائح التي وضعها لتنظيم مزاولة مهنة الطب، حق التعرّض لأجسام الغير ولو بإجراء عمليات جراحية مهما بلغت جسامتها. أما من يحدث جرحاً بآخر ويعلم أن هذا الجرح يؤذي المجروح ولا يحميه قانون مهنة الطب ولا يشمله بسبب الإباحة فإنه يسأل عن الجرح العمد ونتائجه من موت أو عاهة سواء تحقق الغرض الذي قصده بشفاء المجني عليه أو لم يتحقق. وإذاً فالحلاق غير المرخص له في مباشرة الجراحة الصغرى إذا أجرى عملية ختان وتسببت عنها وفاة المصاب فعمله يعتبر جرحاً عمداً لم يقصد منه القتل ولكنه أفضى إلى الوفاة طبقاً للمادة 200 ع.
2 - إن انتفاء المسئولية الجنائية عن الوالد الذي يضرب ابنه في الحدود المعقولة تأديباً له لا يرجع إلى انتفاء القصد الجنائي عنده لسلامة نيته وابتغائه الخير لابنه، بل يرجع إلى الإباحة القانونية المنصوص عنها في المادة 61 ع (55 من قانون العقوبات القديم) التي تقضي بأن حكم القانون لا يسري على كل فعل يرتكب بسلامة نية عملاً بحق مقرّر قانوناً. ولذلك فإذا تجاوز الوالد حدود التأديب المباح حق عليه العقاب المقرّر لجريمة الضرب العمد.


المحكمة

وحيث إن الطعن يتحصل في أن قرار الإحالة أخطأ في تأويل القانون باعتراضه على التفرقة في المسئولية الجنائية بصدد العمليات الجراحية إذا كان من يجريها مرخصاً أو غير مرخص له بذلك، مع أن القانون نفسه هو الذي وضع هذه التفرقة إذ خوّل للأوّل حق معالجة الناس وإحداث الجراح بأجسامهم وحرم الثاني من هذا الحق. كما أخطأ في تعرّضه للقصد الجنائي في جريمة إحداث الجرح بقوله إنه قصد خاص يستلزم علم الفاعل بالضرر، وإن هذا القصد - معرفاً بهذا التعريف - لا يتوافر في حق المتهم، مع أن القصد الجنائي في الجريمة المذكورة هو القصد الجنائي العادي العام الذي يكفي لقيامه أن يكون الفاعل عالماً بأن فعله يترتب عليه المساس بسلامة جسم المجني عليه أو صحته. وبما أن المتهم حلاق وغير مرخص له بإجراء العمليات الجراحية، ومنها الختان الذي أجراه وتسبب عنه وفاة المصاب، فعمله يعتبر جناية إحداث جرح متعمد نشأ عنه الموت.
وحيث إنه بالرجوع للقرار المطعون فيه يبين أنه ذكر أن القصد الجنائي في جرائم إحداث الجروح عمداً هو قصد خاص يستلزم علم المتهم بالضرر الذي ينشأ عن عمله ويكاد يندمج في نية الإضرار بدليل تعمد الشارع الفرنسي إضافة كلمة "عمد" في المواد 309 وما بعدها من قانون العقوبات ليدلل بها على وجوب توافر نية الإضرار. ويقول القرار إن من العبث القول بمسئولية الفاعل "عن كل النتائج التي كان يمكنه أن يتوقعها لمجرّد أنه ارتكب الفعل بإرادته فقد يكون أخطأ في عدم توقعها ولكن هذا الخطأ لا يكوّن إلا جريمة الإهمال". وأضاف القرار إلى ما تقدّم أن العمد لا يتعارض مع جرائم الإهمال، فمن يلقي حجراً بفعل عمدي من نافذة فيصاب به أحد السابلة يعدّ بداهة مرتكباً جريمة الجرح الخطأ لا المتعمد مع أنه كان من واجبه أن يتوقع مرور المصاب في الطريق تحت النافذة التي ألقى منها الحجر. وعلى هذا الأساس تعرّض القرار لوقائع الدعوى فقال إن المتهم أجرى عملية الختان للمجني عليه، وبذلك يكون أحدث به عمداً جرحاً، وهذا أمر يعاقب عليه القانون الخاص بتعاطي صناعة الطب لأن المتهم غير مرخص له بإجراء هذه العملية. أما نتيجة هذا الفعل المتعمد وهو التسمم الدموي الناتج من الامتصاص العفن في موضع الجرح المتضاعف بسبب إهمال المتهم وعدم احتياطه لجهله بأصول الجراحة فإن المتهم لم يتعمدها عندما أحدث الجرح نفسه، بل كان يقصد شفاء المجني عليه بعد ختانه، فمسئوليته عن هذه النتيجة ناشئة من أنه كان في وسعه أن يتفاداها إذا كان عالماً بأصول الفن الذي يزاوله. وانتهى القرار بالقول بأن فعل العمد بإحداث الجرح يقع تحت نصوص قانون تعاطي صناعة الطب وحده. أما نتيجة هذا الفعل فهي جنحة إصابة بإهمال وأنه يجب عمل هذه التفرقة بين الفعل ونتيجته، إذ لو نجحت العملية وتحقق قصد المتهم بشفاء المجني عليه بعد ختانه لما جاز أن يتهم بجنحة الجرح العمد لمجرّد أنه أجرى العملية الجراحية وإلا لجاز أن يكون الفعل الواحد في وقت واحد جريمتين: مخالفة وجنحة، والشارع أبعد من أن يقع في تناقض كهذا. فضلاً عن أنه لا يمكن في حالة تحقق الشفاء إقامة الدليل على وجود ضرر أصاب المجني عليه. ويقول القرار أيضاً إن الواقع هو أن من أولى البديهيات أن عقوبة جريمة إحداث الجرح خطأ توقع على من يتعاطون صناعة الطب بغير ترخيص. وقد تناول القرار بعد ذلك الكلام عن التفرقة القانونية بين ما يقع من الأطباء المرخص لهم بتعاطي صناعة الطب وبين ما يقع من غير المرخص لهم فقال إن اعتبار ما يقع من المرخص لهم جنحاً قوامها الإهمال أو ما في حكمه إن ثبت نسبة إهمال لهم، واعتبار ما يقع من غيرهم جرائم عمدية لا سند له من القانون. لأن الترخيص لا يمكن أن يغير من وصف الجريمة فتكون غير عمدية للمرخص لهم وعمدية لغيرهم. كما لا يمكن اعتبار من يطلق عياراً من سلاح ناري غير مرخص به أنه أصاب شخصاً عمداً إذا كان قصده مجرّد الإرهاب. وخلص القرار من بحثه إلى اعتبار ما وقع من الحلاق المتهم جنحة قتل خطأ ومخالفة مزاولة تعاطي صناعة الطب بغير ترخيص وإعادة الأوراق إلى النيابة لإجراء شئونها فيها على هذا الاعتبار الذي ارتأته.
وحيث إن القصد الجنائي في جريمة الضرب أو الجرح يتوافر قانوناً متى ارتكب الجاني فعل الضرب أو الجرح عن إرادة وعلم بأن هذا الفعل يترتب عليه المساس بسلامة جسم الشخص المصاب أو صحته.
وحيث إن القرار المطعون فيه إذ ذهب إلى أن جريمة الضرب تتطلب نية جنائية خاصة قد وقع في خطأ ظاهر إذ يكفي توافر علم محدث الجرح بأن ما أحدثه يؤلم المصاب في جسمه. فإذا أراد الشخص الفعل المادي وهو فعل الجرح الذي مس جسم المجني عليه وكان عالماً بالنتيجة القريبة لفعلته وهي إيلام المجروح في جسده تكاملت عناصر الجريمة بتوافر الركنين المادي والأدبي. يدل على ذلك أن القانون لم ينص على ركن العمد في مواد الضرب أو الجرح بل اعتبرها من الجرائم العمدية التي يكفي فيها القصد الجنائي العام الذي يفترضه القانون بغير نص. ولولاه ما أراده الشارع من وجوب التفرقة بين الجرح أو الضرب المفضي إلى الموت والقتل لما نص على العمد في الجريمة الأولى أسوة بما فعل في باقي المواد.
وحيث إنه لما تقدّم يتعين القول بأن البواعث والدوافع التي تحمل على ارتكاب فعل الجرح ولو كانت شريفة لا تؤثر في قيام القصد الجنائي. فمتى تحقق فعل الجرح وثبت علم الفاعل بأن في فعله المساس بجسم المصاب تحققت الجريمة ولو كان من أوقع فعل الجرح وانتواه مدفوعاً إليه بعامل الحنان والشفقة قاصداً مجرّد فعل الخير أو ملبياً طلب المجروح نفسه.
وحيث إنه مما يؤيد هذا النظر ما أورده قانون العقوبات في المادة 61 (55 من القانون القديم) من أن حكم القانون لا يسري على كل فعل يرتكب بسلامة نية عملاً بحق مقرر قانوناً، فلا مسئولية على الوالد إذا ضرب ابنه تأديباً له في الحدود المعقولة لا لانتفاء القصد الجنائي بسلامة نيته وابتغائه الخير لابنه، بل لسبب من أسباب الإباحة القانونية تطبيقاً لهذا النص بحيث إذا تجاوز الأب حدود التأديب حق عليه العقاب المقرّر لجريمة الضرب العمد.
وحيث إن الشخص الذي تثبت عليه جريمة إحداث الجرح العمد يتحمل قانوناً مسئولية تغليظ العقاب على حسب نتيجة الجرح الذي أحدثه - كما لو طال علاج المجني عليه أو تخلفت عنده عاهة مستديمة أو مات بسبب الإصابة - ولو لم يقصد هذه النتيجة مأخوذاً في ذلك بقصده الاحتمالي. لأنه وهو يحدث الجرح يجب عليه أن يعلم ويتوقع إمكان وقوع كل هذه النتائج المترتبة على فعلته التي قصدها. ولا يهم في ذلك إن كانت تلك النتائج مترتبة مباشرة أو غير مباشرة عن فعله ما دام هذا الفعل هو السبب الأوّل المحرّك للعوامل الأخرى التي سببت النتائج المذكورة.
وحيث إنه متى تقرر ذلك وجب القول بتوافر عناصر جريمة الجرح العمد ولو كان محدثه طبيباً أو جراحاً يعمل لخير المريض وشفائه متى ثبت أنه أتى الفعل المادي بإحداث الجرح وهو عالم أن عمله يمس سلامة جسم مريضه. إلا أن انتفاء المسئولية الجنائية عن الطبيب أو الجراح الذي يعمل على شفاء المرضى والمصابين لا يرجع - في الواقع - إلى عدم توافر القصد الجنائي لديه بل مرجعه إلى سبب قانوني آخر هو إرادة الشارع الذي خوّل - بالقوانين واللوائح التي وضعها لتنظيم مزاولة مهنة الطب - الأطباء حق التعرّض لأجسام الغير ولو بإجراء عمليات جراحية مهما بلغت جسامتها.
وحيث إنه متى كان رفع المسئولية الجنائية عن الأطباء مرجعه إباحة الشارع لهم ما يجرونه لاعتبارات قدّرها، وكانت أسباب الإباحة - في المواد الجنائية - استثناء من القواعد العامة التي توجب معاقبة كل شخص على ما يقع منه من الجرائم، وجب عدم التوسع فيها وحصرها في الدائرة التي رسمها القانون للغرض السامي الذي أراده وقصرها على الأشخاص الذين رأى الشارع أن يخصهم بسبب الإباحة، لأن الخير الذي قصده لا يتحقق إلا على أيديهم بسبب المؤهلات التي اكتسبوها بعد طول دراسة في علم الطب وبحث في فن العلاج.
وحيث إن الأحكام الخاصة بتنظيم مهنة الطب وشروط مزاولتها واردة في الأمر العالي الصادر في 8 فبراير سنة 1886 والقانونين رقم 14 لسنة 1920 ورقم 66 لسنة 1928 وقرار وزارة الداخلية الصادر في 13 يونيه سنة 1891 وكلها صريحة في تحريم مزاولة مهنة الطب والجراحة على من ليس لديه شهادات دراسية ومؤهلات علمية، وصريحة كذلك في منع الحلاقين من إجراء أية عملية جراحية عدا عمليات الختان وتلقيح الجدري والحجامة، وهي من عمليات الجراحة الصغرى التي لا يجوز لهم إجراؤها إلا بترخيص يعطى لهم بعد أن ينجحوا في اختبار يعمل لهم لتعرّف كفايتهم.
وحيث إنه يبين مما تقدّم أن كل شخص يحدث جرحاً بآخر ويعلم أن هذا الجرح يؤلم المجروح، ولا يحميه قانون مهنة الطب ولا يشمله بسبب الإباحة، يسأل عن الجرح العمد ونتائجه من موت أو عاهة سواء تحقق الغرض الذي قصده بشفاء المجني عليه أو لم يتحقق.
وحيث إنه ثابت في القرار المطعون فيه أن المتهم حلاق وغير مرخص له بتعاطي صناعة الطب ولا مباشرة الجراحة الصغرى، وأنه أحدث جرحاً بجسم المجني عليه وتعمد إحداثه وهو عالم بداهة بأن الجرح يؤلمه، وأن هذا الجرح أدى إلى الوفاة فكان يتعين على قاضي الإحالة اعتبار ما وقع من المتهم جناية جرح عمد أفضى إلى الموت.
ومن حيث إنه لما تقدّم يتعين نقض القرار المطعون فيه وإعادة القضية إلى قاضي الإحالة للتصرف فيها على هذا الأساس.