مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الرابع (عن المدة من 2 نوفمبر سنة 1936 لغاية 30 أكتوبر سنة 1939) - صـ 514

جلسة 3 إبريل سنة 1939

برياسة سعادة مصطفى محمد باشا رئيس المحكمة وبحضور حضرات: عبد الفتاح السيد بك ومحمود المرجوشي باشا ومحمد كامل الرشيدي بك وسيد مصطفى بك المستشارين.

(373)
القضية رقم 394 سنة 9 القضائية

إثبات. اقتناع المحاكم الجنائية. أساسه. التحقيق الشفهي بالجلسة. محاضر التحقيق. تقديرها. الطعن فيها. محاضر المخالفات. حجيتها الخاصة.
(المادة 139 تحقيق)
العبرة في اقتناع المحاكم الجنائية هي بما يتضح لها ما تجريه بنفسها من التحقيق الشفهي ومما يطرح على بساط البحث أمامها من عناصر الإثبات الأخرى. فمحاضر التحقيق التي يجريها البوليس أو النيابة، وكل ما تحويه هذه المحاضر من اعترافات المتهمين ومشاهدات المحققين وأقوال الشهود، لا تعدو أن تكون من العناصر المذكورة، إذ هي في الواقع لم تحرر إلا تمهيداً لتحقيقها شفوياً بالجلسة، وهي بهذا الاعتبار خاضعة في كل الأحوال لتقدير القضاء وقابلة للجدل والمناقشة أسوة بشهادة الشهود أمام المحكمة، فلأطراف الخصومة الطعن فيها دون سلوك سبيل الطعن بالتزوير، وللمحكمة القول الفصل في تقديرها، فلها ألا تصدّقها أو أن تعوّل عليها حسبما يهدي إليه اقتناعها. والأصل في ذلك كله الحرّية المخوّلة للمحاكم الجنائية في تكوين عقيدتها والحكم فيما يطرح عليها بما يقوم بوجدانها. ولا يخرج عن هذه القاعدة إلا ما استثناه القانون وجعل له حجية خاصة بنص معين، كمحاضر المخالفات التي نصت المادة 139 من قانون تحقيق الجنايات على اعتماد ما دوّن فيها إلى أن يثبت ما ينفيه، مما يقتضي - خروجاً على الأصل - تقيد المحكمة في هذه الحالة بالأخذ بما يثبته المحقق في هذه المحاضر مما يقع تحت سمعه وبصره ما لم يثبت المتهم بأي طريق من الطرق القانونية ما ينفيه.


المحكمة

وحيث إن ملخص الوجهين الأوّل والثاني من أوجه الطعن يتحصل في أن الحكم المطعون فيه استند إلى كشوف طبية جاءت مبنية على الاحتمال والظن لا التأكيد واليقين. وفي بيان ذلك يقول الطاعن إن الثابت هو أن المجني عليه كان يضرب رأسه بالحائط وقت التحقيق فلا يبعد أن تكون ارتطمت بفجوة أو نتوء أو غيرهما مما سبب العاهة، خصوصاً لما هو ثابت من أن ضابط البوليس نبه وقتئذ أحد الجند بمنع المجني عليه من الاسترسال في عمله هذا خشية موته. فكان يجب أن يبنى الحكم على شهادة من عاين وأثبت لا على مجرّد الاحتمال الذي بنيت عليه الكشوف الطبية الثلاثة التي توقعت على المجني عليه وجاء بها جواز حصول إصابات المجني عليه من جسم صلب راض كالعصا أو النبوت أو ما أشبه واستبعاد حصولها من تصادم رأس المصاب بالأرض أو خبط المصاب رأسه بالحائط. ويضيف الطاعن إلى ذلك أن المحكمة لم تعوّل على ما أثبته ضابط البوليس في محضر ضبط الواقعة عن تعليله لإصابات المجني عليه، مع أن ما يثبته المحقق في محضره على اعتبار أنه شاهده بعينه ووقع تحت حسه يعتبر حجة ما لم يطعن فيه بالتزوير ويقوم الدليل فعلاً على أنه مزوّر.
وحيث إن العبرة في اقتناع المحاكم الجنائية هي بما يتضح لها من عناصر الإثبات التي تطرح على بساط البحث أمامها وبما تجريه بنفسها من التحقيق الشفهي لتكوين اعتقادها في الدعوى الجنائية المطلوب منها الفصل فيها. أما محاضر التحقيق، سواء ما يجريه البوليس أو النيابة، وكل ما تحويه من اعترافات تنسب للمتهمين ومشاهدات المحققين وأقوال الشهود فلا تعدو أن تكون من عناصر الدعوى وأدلتها، إذ هي في الواقع لم تحرّر إلا تمهيداً للتحقيق الشفوي الذي يحصل بالجلسة. وهي بهذه المثابة خاضعة في كل الأحوال لتقدير القضاء وقابلة للجدل والمناقشة أسوة بشهادة الشهود الذين تسمعهم المحكمة. ولأطراف الخصومة الطعن فيها بما يشاءون دون حاجة إلى سلوك سبيل الطعن بالتزوير. وللمحكمة في النهاية القول الفصل في قيمتها، ولها إذا ما اتضح لها ما ينفيها أن لا تصدّقها وأن لا تعوّل عليها. والأساس في ذلك كله حرية المحاكم الجنائية في تكوين اعتقادها والحكم بما يقوم بوجدانها. ولا يخرج عن هذه القاعدة إلا ما استثناه القانون وجعل له حجية خاصة بنص خاص كمحاضر المخالفات التي نصت المادة 139 من قانون تحقيق الجنايات على اعتمادها إلى أن يثبت ما ينفيها. ومؤدى ذلك أن من واجب المحكمة في هذه الحالة الخاصة أن تأخذ بما يثبته المحقق في هذه المحاضر مما يقع تحت سمعه وبصره إلا إذا أثبت المتهم ما ينفيه بأي طريق من الطرق القانونية.
وحيث إنه جاء في الحكم المطعون فيه أن ضابط البوليس أثبت في محضره أن الطاعن تقدّم إليه مصاباً وشاكياً فعمل له الإسعافات المبدئية وأخذ في استجوابه، وأن المجني عليه كان حاضراً أيضاً فأصابه تشنج عصبي وخرج الزبد من فمه وسال الدم من وجهه وأذنه على إثر سقوطه، فاستدعى مفتش الصحة الذي كشف عليه، وأنه أي الضابط "لاحظ أن عبد الحكيم إبراهيم (المجني عليه) يسيل من أذنه ورأسه دماء نتيجة سقوطه فوق البلاط بالمكتب، وقبل إصابته بهذه النوبة العصبية لم يكن برأسه إصابات ظاهرة، وأنه لم يستطع استجوابه لحالة التشنج التي كان بها". وخلص الحكم من هذا إلى قوله "إن الضابط لم يتنبه إلى وجود إصابات برأس المجني عليه إلا بعد أن حضر مفتش الصحة لإسعافه والكشف عليه. وهذا يدل على أنه قد أهمل فحص المجني عليه عند حضوره إليه بالمكتب. ولأجل أن يستر هذا الإهمال أثبت في ملحوظته أن إصابات الرأس لم يكن المجني عليه مصاباً بها قبل النوبة العصبية التي اعترته، وأشار إلى تعليل هذه الإصابات بأنها نتيجة سقوطه على البلاط بالمكتب ولم يعللها بغير ذلك". وبعد أن أثبتت المحكمة ما اطمأنت إليه من أن إصابات المجني عليه كانت نتيجة الضربات بعصا كما أثبتته الكشوف الطبية قالت إنه إزاء ما ثبت لها من إهمال ضابط البوليس في عدم فحص المجني عليه عند مثوله أمامه وفي عدم إثبات ما به من الإصابات وهي تزيد عن العشر إصابات برأسه وجسمه وتبين أن بعضها كان جسيماً وقد كسر عظام الجمجمة بالرغم من أن المصاب قد أخبره عند مثوله أمامه بأنه مضروب، وإزاء محاولته إثبات أن هذه الإصابات قد حدثت من سقوط المجني عليه أمامه على الأرض ومن ضرب نفسه بالحائط تغطية لإهمال فحصه في بادئ الأمر، وإزاء ما ثبت من الكشوف الطبية أن إصابات المجني عليه هي نتيجة ضربه بالعصا من قبل سقوطه على الأرض أمام الضابط - لذلك لا تعوّل المحكمة على شهادة حسين كامل أفندي ضابط البوليس أمام النيابة ولا على ما أثبته في محضر ضبط الواقعة عن تعليله لإصابات المجني عليه. ومن ثم لا تأخذ بدفاع المتهم.
وحيث إن محكمة الجنايات بعدم اطمئنانها إلى ما دوّنه ضابط البوليس في محضره من جهة سبب إصابات المجني عليه وما أبداه بشأنها من تعليل وتعويلها في ذلك إلى ما جاء بالكشوف الطبية من أنها مسببة من الضرب بعصا لم تخالف القانون في شيء بل إن كل ما عملته كان في حدود سلطتها المطلقة التقديرية للأدلة المعروضة عليها لتكوين اعتقادها ومنها محضر التحقيق الابتدائي الذي أجراه البوليس. وقد قالت كلمتها بشأن ما دوّنه ضابط البوليس المحقق في محضره وما قرّره لدى النيابة وعللت رأيها تعليلاً لا شائبة فيه. ولذا فلا محل للجدل بشأن ذلك لدى محكمة النقض.
وحيث إن مبنى الوجه الثالث هو أن الحكم المطعون فيه باطل لاعتماده في التدليل على أقوال المدعي وشقيقه؛ وهذه الأقوال قد لابستها ظروف تقطع بكذبها، فالطاعن لم يتهم إلا رابع يوم الحادثة بعد ترتيب الأمر بينه وبين أخيه. كما أن ما قرّره المجني عليه وشقيقه أخيراً بوجود الطاعن وحده في بدء المشاجرة دون باقي إخوته يناقضه أقوال شقيق المجني عليه. كما أن كذب المجني عليه قد ظهر واضحاً من أقواله بأنه خر صريعاً في مكان الحادثة ثم عدوله عن هذا الادعاء، وكذب شقيق المجني عليه واضح أيضاً من ادعائه بحصول سرقة له - الأمر الذي اتضح عدم صحته. كما أن اتهام الطاعن لا يستقيم مع كسر يده كسراً مضاعفاً. وقد كذب المجني عليه وأخاه أربعة شهود وما جاء بمحضر ضبط الواقعة.
وحيث إن كل ما اشتمل عليه وجه الطعن ليس إلا نقاشاً موضوعياً فيما استندت إليه محكمة الموضوع من أدلة الإدانة وما أطرحته من أقوال شهود النفي. وكل هذا يرجع إلى سلطتها المطلقة في وزن الأدلة والأخذ منها بما تطمئن إليه دون سواه.
وحيث إن الوجه الرابع يتحصل في أن المجني عليه وأخاه كانا متهمين أصلاً في الدعوى ثم فصلت محكمة الجنايات الجناية عن الجنحة وما كان يسوغ مع ذلك قبول شهادتهما لأنهما شهدا في موضوع لهما فيه مصلحة.
وحيث إن لمحكمة الجنايات إذا قدّمت لها جنحة مع جناية أن تقصر النظر على الجناية دون الجنحة إذا لم يكن بينهما ارتباط يجعلهما غير قابلتين للتجزئة. ولذا فإن ما كان من محكمة الجنايات من فصل الجنحة التي كان متهماً فيها المجني عليه مع أخيه عن الجناية التي اتهم فيها الطاعن لم تخالف القانون في شيء ما. كما أنه لا جناح على محكمة الموضوع إن هي سألت المجني عليه وأخاه كشاهدين في هذه الجناية بعد أن فصلتها عن الجنحة. على أن للمحكمة الجنائية أن تعوّل على أقوال متهم على آخر في دعوى واحدة وتعدّها وحدها دليلاً مثبتاً للإدانة.
وحيث إن الوجه الخامس يتحصل في أن شهوداً قرّروا بأن المجني عليه كسر يد الطاعن بفأس وأنه غادر محل المشاجرة سليماً. وقد استند الطاعن إلى هذه الشهادة إلا أن المحكمة أغفلتها ولم ترد عليها.
وحيث إن محكمة الجنايات إذ اقتنعت بأدّلة الثبوت وأدانت الطاعن بناء عليها فأن في ذلك الردّ الضمني الكافي على إطراحها ما ينافيها من أقوال مخالفة دون حاجة لتناول هذه الأقوال صراحة بالبحث والتمحيص.
وحيث إن الوجه السادس يتحصل في أن محكمة الجنايات مسخت الوقائع بذكرها أن الملاحظ تناقض فيما أثبته بالمحضر مع ما قرره أمام النيابة بأن المدّعي أصيب بنوبة أفاق بعدها ثم أخذ يضرب رأسه بالحائط بينما قرر في المحضر أنه لم يستطع استجوابه ولم يذكر إن كان ضرب رأسه بالحائط أم لا، وذكرت أن هذا التناقض أدّى بالنيابة إلى ندب مساعد الطبيب الشرعي، فهذا الذي ذهبت إليه المحكمة مهدوم من أساسه، لأن النيابة أفرجت عن الطاعن استناداً إلى محضر الضابط الذي وثقت به، كما أن استدعاء النيابة للملاحظ لم يكن ليفسر لها تناقضاً سابقاً بل بناء على طلب قدّمه الطاعن لسماع أقواله، فضلاً عن أن النيابة نفسها لم تناقش الملاحظ بشأن ما ورد بالكشفين الأوّلين كما أن ندب طبيب ثالث لم يكن إلا بعد أداء الضابط لشهادته بشهر وكان بناء على تحقيق جديد أجرته النيابة. وعلى ذلك فإن ما ساقته المحكمة للتشكيك في أقوال الملاحظ يعدّ مسخاً للوقائع. هذا وإن ما أدلى به الضابط أمام النيابة ما هو إلا تفسير لما جاء بمحضره، وليس فيهما أي تناقض. كما أن أوراق القضية لا تؤدي إلى أدنى ريبة من جهة الملاحظ بل بالعكس تقطع بكذب المدّعي وأخيه. ويضيف الطاعن إلى ما ذكر أن المحكمة أخلت بحق دفاع الطاعن لعدم سماعها شهادة الضابط ومناقشته أو على الأقل تلاوة أقواله.
وحيث إن ما اشتمل عليه هذا الوجه ليس إلا تظلماً مما كان من محكمة الموضوع من إطراحها أقوال ملاحظ البوليس وما أثبته في محضره عن حالة الطاعن وقت أن تقدّم إليه وما انتابه من التشنج والانطراح على الأرض إلى آخر ما كان من البيانات التي ذكرها بمحضره أو أبداها لدى النيابة بهذا الصدد. والواقع أن محكمة الجنايات قد دللت على الإدانة بما يؤدى إليها، ورأت في الوقت ذاته أن تعرض لما قد يتعارض معها من أقوال الضابط ففندته تفنيداً سائغاً كما هو ظاهر في الرد على الوجهين الأوّل والثاني. ومن هذا يبين أن الطاعن إنما يثير في وجه الطعن مناقشة موضوعية في تقدير هذه الأقوال ويحاول إثبات صحتها ووجوب الثقة بها والتعويل عليها، والمجال أمام محكمة النقض لا يتسع لهذا الجدل لتعلقه بدليل استند إليه الطاعن أمام محكمة الموضوع وقد قالت فيه رأيها الحاسم. أما ما يثيره الطاعن أخيراً من أن المحكمة أخلت بحق دفاعه بعدم استدعائها ضابط البوليس لسماع شهادته أو تلاوة أقواله بالجلسة فمردود بأن الدفاع عن الطاعن لم يطلب حضوره، بل ترافع هو ومحامي المدعي المدني على أساس ما أثبته هذا الضابط في محضره فلم تكن المحكمة بملزمة باستدعاء الضابط أو تلاوة أقواله وكان لها تقدير تلك الأقوال التي تناولتها المرافعة.