مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الرابع (عن المدة من 2 نوفمبر سنة 1936 لغاية 30 أكتوبر سنة 1939) - صـ 557

جلسة 22 مايو سنة 1939

برياسة سعادة مصطفى محمد باشا رئيس المحكمة وبحضور حضرات: عبد الفتاح السيد بك ومحمد كامل الرشيدي بك وأحمد مختار بك وسيد مصطفى بك المستشارين.

(398)
القضية رقم 1227 سنة 9 القضائية

قذف بطريق النشر:
( أ ) القصد الجنائي في هذه الجريمة. متى يتحقق؟
(ب) الطعن في أعمال الموظفين. متى يكون مباحاً؟
(حـ) رئيس تحرير الجريدة. إعفاؤه من المسئولية الجنائية. شرطه.
(المواد 261 و262 و148 و166 المكررة ع = 302/ 1 و303/ 2 و307 و171 و195 ع)
1 - إن القانون لا يتطلب في جريمة القذف قصداً جنائياً خاصاً، بل يكتفي بتوافر القصد الجنائي العام الذي يتحقق فيها متى نشر القاذف أو أذاع الأمور المتضمنة للقذف وهو عالم أنها لو كانت صادقة لأوجبت عقاب المقذوف في حقه أو احتقاره عند الناس. ولا يؤثر في توافر هذا القصد أن يكون القاذف حسن النية أي معتقداً صحة ما رمى المجني عليه به من وقائع القذف.
2 - إن القانون - في سبيل تحقيق مصلحة عامة - قد استثنى من جرائم القذف الطعن في أعمال الموظفين العموميين أو الأشخاص ذوي الصفة النيابية العامة أو المكلفين بخدمة عامة متى توافر فيه ثلاثة شروط: (الأوّل) أن يكون الطعن حاصلاً بسلامة نية أي لمجرّد خدمة المصلحة العامة مع الاعتقاد بصحة المطاعن وقت إذاعتها. (والثاني) ألا يتعدّى الطعن أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة. (والثالث) أن يقوم الطاعن بإثبات حقيقة كل أمر أسنده إلى المطعون فيه. فكلما اجتمعت هذه الشروط تحقق غرض الشارع ونجا الطاعن من العقاب. أما إذا لم يتوافر ولو واحد منها فلا يتحقق هذا الغرض ويحق العقاب.
3 - إن القانون قد أوجب في الشق الأخير من المادة 195 من قانون العقوبات لإعفاء رئيس تحرير الجريدة من المسئولية الجنائية عن الجريمة التي تتم بالنشر في الجريدة توافر شرطين: أحدهما أن يرشد أثناء التحقيق عن مرتكب الجريمة، ويقدّم كل ما لديه من المعلومات والأوراق لإثبات مسئوليته، والآخر أن يثبت أيضاً أنه لو لم يقم بالنشر لعرض نفسه لخسارة وظيفته في الجريدة أو لضرر جسيم آخر. فإذا لم يقم بتحقيق هذين الشرطين أو قام بتحقيق واحد منهما فقط دون الآخر فلا تزول عنه المسئولية.


المحكمة

وحيث إن مبنى وجهي الطعن (أوّلاً) أن المحكمة ذكرت أن المتهمين (الطاعنين) عجزاً عن إثبات واقعة القذف فلا فائدة لهما من الاحتجاج بحسن نيتهما لأن حسن النية لا يكفي وحده للإعفاء من العقاب. وهذا القول من المحكمة يفيد أن الطاعنين حسنا النية - الأمر الذي ينهار معه القصد الجنائي في الجريمة التي أدينا فيها. ولكن المحكمة مع ذلك ذكرت في موضع آخر أن القصد الجنائي متوافر لديها وأدانتهما على هذا الأساس. ويعقب الطاعنان على ذلك بأن ما ذكرته المحكمة من ذلك يجعل حكمها متناقضاً تناقضاً يعيبه ويوجب نقضه. (ثانياً) إن الدفاع تمسك لدى محكمة الموضوع بأن رئيس التحرير يعفى من المسئولية بمقتضى المادة 195 من قانون العقوبات إذا ذكر في التحقيق اسم كاتب الخبر، ولكن المحكمة لم تعوّل على هذا الدفع وقضت بالإدانة بغير أن ترد عليه رداً معيناً. (ثالثاً) إن المحكمة أخطأت تفسير المادة 302 من قانون العقوبات لأن التفسير الحقيقي لها هو أن حسن النية الذي توافر عند الطاعن الأوّل هو في الوقت نفسه اعتقاد منه بصحة الواقعة إذ فهم هذا الطاعن من الورقة التي رآها أن الدكتور "الذي تشير إليه" إنما هو طبيب لأن جامعة الإسكندرية لم يكن بها وقتئذ إلا كلية الطب فاعتقد الطاعن صحة الواقعة، لأن العنوان الذي قرأه في الورقة يتفق تماماً مع اعتقاده، ولا يتصوّر عقلاً أن يكون المتهم حسن النية وتكون الواقعة في اعتقاده غير صحيحة. أما ما رأته المحكمة من أن هذه المادة تشترط بجانب حسن النية أن يثبت المتهم صحة الواقعة فإنه تفسير لا يتفق مع مدلولها ما دام حسن النية يستلزم دواماً اعتقاد المتهم بصحة الواقعة، ولا يمكن أن يكون المشرع أراد أن يكلف المتهم تكليفين. (رابعاً) إن المادة 195 من قانون العقوبات لا تشترط حصول تكليف بالنشر من الحزب الذي يدير سياسة الجريدة لرئيس تحريرها كما أشارت المحكمة إلى ذلك، بل كل ما تشترطه هذه المادة هو أن يكون من الظروف المحيطة ما يقطع بأن عدم نشر الخبر يعرّضه لضرر مادي أو أدبي والجريدة في هذه الدعوى هي جريدة حزب سياسي والخبر الذي نشرته متعلق بوزير في وزارة يعارضها الحزب الذي يوجه سياسة الجريدة، فعدم النشر في هذه الظروف يعرّض رئيس التحرير لضرر مادي أو أدبي. وبذلك تنتفي المسئولية. (خامساً) إن الذي يمكن القول به هو أن العقاب إنما يكون على نسبة المحاباة إلى المجني عليه، وهذه المحاباة قد قدّم الدفاع الدليل الكافي عليها، ومن ذلك أن الدكتور إسماعيل صديق هيكل أخذ علاوتين استثنائيتين، وليس في نقله إلى جهة أخرى أي محسوبية أو محاباة.
وحيث إن القانون لا يتطلب في جريمة القذف قصداً جنائياً خاصاً بل يكتفي بتوافر القصد الجنائي العام الذي يتحقق فيها متى نشر القاذف أو أذاع الأمور المتضمنة للقذف وهو عالم أنها لو كانت صادقة لأوجبت عقاب المقذوف في حقه أو احتقاره عند الناس. ولا يؤثر في توافر هذا القصد أن يكون القاذف حسن النية أي معتقداً صحة ما رمى المجني عليه به من وقائع القذف.
وحيث إن القانون - في سبيل تحقيق مصلحة عامة - قد استثنى من جرائم القذف بنص صريح في المادة 302 من قانون العقوبات وأباح الطعن في أعمال الموظفين العموميين أو الأشخاص ذوي الصفة النيابية العامة أو المكلفين بخدمة عامة متى توافر فيه ثلاثة شروط: الأوّل أن يكون الطعن حاصلاً بسلامة نية أي لمجرّد خدمة المصلحة العامة مع الاعتقاد بصحة المطاعن وقت إذاعتها. والثاني أن لا يتعدّى الطعن أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة. والثالث أن يقوم الطاعن بإثبات حقيقة كل أمر أسنده إلى المطعون فيه. فكلما اجتمعت هذه الشروط تحقق غرض الشارع ونجا الطاعن من العقاب. أما إذا لم يتوافر ولو واحد منها فلا يتحقق هذا الغرض ويحق العقاب.
وحيث إن القانون قد أوجب في الشق الأخير من المادة 195 من قانون العقوبات لإعفاء رئيس تحرير الجريدة من المسئولية الجنائية عن الجريمة التي تتم بالنشر في الجريدة توافر شرطين: أحدهما أن يرشد أثناء التحقيق عن مرتكب الجريمة ويقدّم كل ما لديه من المعلومات والأوراق لإثبات مسئوليته، والآخر أن يثبت أيضاً أنه لو لم يقم بالنشر لعرض نفسه لخسارة وظيفته في الجريدة أو لضرر جسيم آخر. فإذا لم يقم بتحقيق هذين الشرطين أو قام بتحقيق واحد منهما فقط دون الآخر فلا تزول عنه المسئولية.
وحيث إن الحكم المطعون فيه أدان الطاعنين بالمواد 302/ 1 و303/ 2 و307 و171 و195/ 1 من قانون العقوبات في جريمة قذفهما بطريق النشر موظفاً عمومياً هو وزير المعارف محمد حسين هيكل باشا بسبب أعمال وظيفته، وكان ذلك بأن ألف أوّلهما مقالاً بقصد النشر وقام الثاني بنشره في جريدة المصري بصفته رئيس تحريرها. وأثبت الحكم واقعة الدعوى كما حصلتها المحكمة من التحقيقات التي أجريت فقال إن المقال موضوع المحاكمة نشر بجريدة المصري بالعدد رقم 669 الصادر بتاريخ 14 أغسطس سنة 1938 تحت عنوان (ابن عم الوزير) وجاء فيه "طلبت وزارة المعارف إلى وزارة المواصلات الموافقة على تعيين الدكتور إسماعيل صديق هيكل بالقسم الطبي لمصلحة السكة الحديد أستاذاً بكلية الطب بجامعة فؤاد الأوّل بالإسكندرية. والدكتور إسماعيل هيكل هو ابن عم معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف فلا ضير على ابن العم أن يتقدّم رصفاءه وإخوانه لمثل هذا المنصب الذي له مكانته وتقديره في المستقبل القريب. فلعلها خطوة تتلوها خطوات من أجل ابن العم المحظوظ". ثم عرض الحكم إلى توافر أركان جريمة القذف فقال: "إن الركن المادي وهو إسناد أمر معين للمجني عليه لو كان صادقاً لأوجب احتقاره عند أهل وطنه واضح من الخبر المنشور في الجريدة إذ نسب للمجني عليه فيه أنه حابى ابن عم له فطلب تعيينه أستاذاً بكلية الطب بجامعة فؤاد الأوّل بالإسكندرية متخطياً في ذلك أقرانه ورصفاءه، وشفع ذلك بعبارة تهكمية في قوله (فلعلها خطوة تتلوها خطوات من أجل ابن العم المحظوظ)". وتكلم عن القصد الجنائي فقال "بأنه متوفر أيضاً لدى المتهمين (الطاعنين) لأن جريمة القذف ليس القصد الجنائي فيها إلا علم القاذف بأن ما أسنده للمقذوف من شأنه لو صح أن يلحق به ضرراً مادياً أو أدبياً، وأن عبارة الخبر تحمل بنفسها الدليل على هذا القصد لأنها من الصراحة والوضوح في نسبة المحاباة إلى المجني عليه بحيث يفترض علم المتهمين بمدلولها وبأنها تمس سمعة المجني عليه المذكور واعتباره؛ كما أن العلانية متوفرة لأن القذف حصل بواسطة النشر في جريدة المصري اليومية، وقد وزع العدد المشتمل عليه على الجمهور بغير تمييز بين الناس". وأشار الحكم بعد ذلك إلى الإعفاء الوارد في المادة 302 من قانون العقوبات فقال إنه يشترط لإعفاء من يقذف في حق الموظفين العموميين أن يحصل القذف بسلامة نية ولا يتعدّى أعمال الوظيفة وأن يثبت القاذف حقيقة كل فعل أسند إلى الموظف فلا يكفي حسن النية وحده للإعفاء من العقاب، وإنما يجب أن يقترن بإثبات صحة الواقعة المقذوف بها، وإنه ثبت باعتراف المتهمين أن الواقعة المسندة إلى المجني عليه غير صحيحة، فقد ورد في الخبر الذي نشراه في جريدة المصري أن ابن عمه الدكتور إسماعيل صدّيق هيكل هو طبيب بالقسم الطبي بمصلحة السكة الحديد، وأن وزارة المعارف طلبت تعيينه أستاذاً بكلية الطب بجامعة فؤاد الأوّل بالإسكندرية مع أن الثابت أن الدكتور إسماعيل صدّيق هيكل ليس بطبيب بل هو دكتور في الاقتصاد السياسي. كما ثبت أن وزارة المعارف لم تطلب تعيينه مدرّساً في جامعة الإسكندرية، إذ الترشيح لمراكز الأستاذية هو من شئون الجامعة لا الوزارة. وقد سلم المتهمان بكذب الخبر في التصحيح الذي نشراه عقب التحقيق معهما، إذ جاء فيه أن الدكتور إسماعيل صدّيق هيكل قدّم طلباً إلى المصلحة التابع هو لها يلتمس فيه تعيينه لتدريس مادة الاقتصاد السياسي لطلاب القسم الخاص بجامعة الإسكندرية، وأن ما نشراه قبلاً من أن وزارة المعارف طلبت إلى وزارة المواصلات الموافقة على تعيينه أستاذاً بكلية الطب غير صحيح، لأن وزارة المعارف لا تعلم شيئاً عن هذا الطلب. وإنه ما دام المتهمان قد عجزا عن إثبات واقعة القذف فلا فائدة لهما من الاحتجاج بحسن نيتهما، لأن حسن النية لا يكفي وحده للإعفاء من العقاب كما تقدّم بيانه، بل يجب أن يقترن بصحة الواقعة، وإنه ليس للمتهمين أن يستندا إلى وقائع أخرى في قولهما بمحاباة المجني عليه لابن عمه الدكتور إسماعيل صدّيق هيكل وموظفين آخرين لأن هذه الوقائع خارجة عن موضوع الدعوى ولم تكن محل تحقيق فيها. وعرض الحكم أيضاً إلى مسئولية المتهمين (الطاعنين) في جريمة النشر هذه فأثبت "أنه طبقاً للمادة 195 من قانون العقوبات تقع المسئولية الجنائية على المتهم الأوّل منشئ الخبر، وعلى المتهم الثاني رئيس التحرير بصفتهما فاعلين أصليين لجريمة القذف، وأنه ليس للمتهم الثاني أن يتنصل من هذه المسئولية بحجة أنه أرشد في أثناء التحقيق عن المتهم الأوّل وأنه قدّم ما لديه من المعلومات لإثبات مسئوليته. وذلك لأن الفقرة الثانية من المادة 195 عقوبات تشترط فوق ذلك للإعفاء من المسئولية الجنائية في هذه الحالة أن يثبت رئيس التحرير أنه لو لم يقم بالنشر لعرّض نفسه لخسارة وظيفته في الجريدة أو لضرر جسيم آخر. ولم يثبت المتهم الثاني شيئاً من ذلك فهو لم يدّع أن مدير الجريدة أو الحزب المسيطر على سياستها قد كلفه بنشر الخبر المشتمل على واقعة القذف هذه الغير صحيحة، وأنه هدّده بالإيذاء إذا امتنع، بل ذهب في دفاعه بالجلسة إلى أنه لم يكن في مقدوره الاطلاع على كل ما ينشر بالجريدة لكثرة الرسائل التي ترد إليها من مندوبيها العديدين.
وحيث إنه يبين من كل ما تقدّم أن الحكم المطعون فيه أثبت على الطاعنين توافر العناصر القانونية للجريمة التي أدانهما فيها، وبيّن القصد الجنائي في جريمة القذف على وجهه الصحيح قانوناً، ولم يتحدّث عن سلامة النية إلا في مقام التدليل على اعتبار ما وقع من الطاعنين طعناً معاقباً عليه قانوناً إذ قال إن عجزهما عن إثبات صحة المطاعن التي نشراها في حق المجني عليه يكفي لإنزال العقاب بهما حتى مع ثبوت سلامة نيتهما. وقوله هذا سديد لا يصح معه الادعاء بوجود تناقض في الحكم، لأن القصد الجنائي في جريمة القذف لا ينفيه سلامة نية القاذف واعتقاده صحة الواقعة التي أسندها إلى المقذوف في حقه. وقد طبق الحكم المادة 195 عقوبات تطبيقاً صحيحاً حيث قال "إن الطاعن الثاني وإن أرشد عن كاتب المقال إلا أنه لم يثبت أنه لو كان امتنع عن نشر هذا المقال لعرّض نفسه لخسارة أو ضرر جسيمين، وهو لم يدّع أن مدير الجريدة أو الحزب المسيطر على سياستها قد كلفه نشر المقال، بل ذهب في دفاعه بالجلسة إلى أنه لم يكن في مقدوره الاطلاع على كل ما ينشر بالجريدة لكثرة الرسائل التي ترد إليها من مندوبيها العديدين". لأن الواقع أن إعفاء رئيس التحرير من المسئولية ليس بالأمر المفترض، فإذا لم يقم رئيس التحرير بإثبات العوامل التي أكرهته على نشر المقال المتضمن الطعن المعاقب عليه قانوناً فلا يصح له أن يدّعي أن من واجب المحكمة مراعاة الظروف التي نشر فيها المقال لتستبين منها هذه العوامل، لأن تلك الظروف - كما بينت في وجه الطعن - لا تدل حتماً على ما يريد الطاعنان الاستشهاد بها عليه. أما ما يدّعيانه أخيراً من أنهما قدًما الدليل على صحة محاباة المجني عليه لقريبه فمردود بما ذهب إليه الحكم من أنهما قدّما للمحاكمة عن واقعة قذف معينة وأنهما عجزا عن إثبات صحتها، وأن هذا موجب لعقابهما بدون اعتداد بالوقائع الجديدة التي أقحماها في الدعوى أثناء نظرها ولم تكن واردة بالمقال موضوع المحاكمة.