مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية
وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الخامس (عن المدة من 6 نوفمبر سنة 1939 لغاية 26 أكتوبر سنة 1942) - صـ 29

جلسة 4 ديسمبر سنة 1939

برياسة سعادة مصطفى محمد باشا رئيس المحكمة وبحضور حضرات: حامد فهمي بك ومحمود المرجوشي باشا ومحمد كامل الرشيدي بك وسيد مصطفى بك المستشارين.

(23)
القضية رقم 1700 سنة 9 القضائية

( أ ) نصب. طريقة الاحتيال. متى تتحقق قانوناً؟ ادعاء المتهم أن من سلطته أن يعين المجني عليه في وظيفة بأحد البنوك. تقديمه له أوراقاً مزورة لتأييد هذا الادعاء. الاستيلاء منه بسبب ذلك على نقود.

(المادة 293 ع = 336)

(ب) نيابة. أعضاء النيابة. عدم خضوعهم لأحكام الرد والتنحي. قاضٍ. تنحيه عن نظر دعوى. تعيينه بعد ذلك وكيلاً للنيابة. حضوره في نفس الدعوى وترافعه فيها. لا بطلان.

(المادة 309 مرافعات)

(جـ) تحقيق. عدم سؤال المتهم في التحقيقات الأوّلية. لا تأثير له في صحة التحقيقات ولا في المحاكمة التي تبنى عليها. الجنح والمخالفات على الأخص.
(د) تقرير القاضي الملخص. عدم الإشارة فيه إلى واقعة من وقائع الدعوى. لا بطلان.
(المادة 185 تحقيق)
1 - إذا كانت الواقعة الثابتة بالحكم أن المتهم أوهم المجني عليه بأن من سلطته أن يعينه بوظيفة في أحد البنوك (البنك البلجيكي) وأيد دعواه بأوراق تشهد باطلاً بأنها صادرة من هذا البنك وبأن له بمقتضاها أن يعين الموظفين فيه، فانخدع المجني عليه بذلك وسلمه المبلغ الذي طلبه منه ليكون تأميناً، فهذه الواقعة تكون جريمة النصب، لأن ما ادعاه المتهم للتأثير في المجني عليه من المقدرة على تعيين الموظفين بالبنك إنما كان غير صحيح، والأوراق التي قدّمها له ليدعم بها مدّعاه إنما كانت مزوّرة. وبهذا تتحقق طريقة الاحتيال كما عرفها القانون.
2 - إن أعضاء النيابة العمومية في حضورهم جلسات المحاكم الجنائية ليسوا خاضعين - كالقضاة - لأحكام الرد والتنحي لأنهم في موقفهم، وهم يمثلون سلطة الاتهام في الدعوى لا شأن لهم بالحكم فيها، بل هم بمثابة الخصم فقط، وإذن فالتنحي غير واجب عليهم والرد غير جائز في حقهم. فإذا تنحى القاضي عن نظر الدعوى، ثم عين وكيلاً للنيابة، ثم حضر في نفس الدعوى وترافع فيها، فلا بطلان [(1)].
3 - إن عدم سؤال المتهم في التحقيقات الأوّلية لا تأثير له في صحتها وفي المحاكمة التي تبنى عليها. وهذا في مواد الجنح والمخالفات على الأخص فإن القانون لا يوجب فيها أن تكون المحاكمة مسبوقة بأي تحقيق.
4 - إن مجرّد عدم الإشارة في تقرير التلخيص إلى واقعة من وقائع الدعوى كعدم سؤال المتهم في التحقيقات الأوّلية لا يترتب عليه أي بطلان إذ عدم ذكر هذه الواقعة يفيد أن القاضي الملخص لم يرَ أهمية لذكرها. فإذا كان المتهم يرى أن من مصلحته أن تلم المحكمة بهذه الواقعة فإنه يجب عليه هو أن يوضحها في دفاعه الذي يتقدّم به إليها.


المحكمة

وحيث إن مبنى الوجهين الأوّل والثاني من أوجه الطعن أن الحكم المطعون فيه إذ أدان الطاعن في جريمة النصب قد أخطأ في تطبيق القانون لأن الطاعن لم يرتكب أية طريقة من طرق النصب الواردة في القانون. وقد قام الدليل على أنه وكيل حقيقة عن البنك الذي عرض على المجني عليه الالتحاق بوظيفة فيه، وأن له الحق في تعيين مندوبين للعمل في هذا البنك، كما هو ثابت بحكم محكمة أوّل درجة.
وحيث إن الطاعن ينعى بأوجه الطعن الأخرى المقدّمة منه على الحكم المطعون فيه أنه بني على إجراءات باطلة: أوّلاً لأن قاضي محكمة سوهاج كان قد تنحى عن نظر القضية أمام محكمة الدرجة الأولى ولكنه حضر فيها ممثلاً النيابة العمومية لدى محكمة الدرجة الثانية. وثانياً لأن المحكمة الاستئنافية عدّلت وصف التهمة المرفوعة بها الدعوى فذكرت للتدليل على توافر ركن الاحتيال أن الطاعن أوهم المجني عليه بأنه موفد من قبل قريبه جرجس أفندي داود، وما كان لها أن تجري هذا التعديل الذي لم يطرح على بساط البحث أمام محكمة أول درجة. وثالثاً لأن الطاعن لم تؤخذ أقواله مطلقاً في التحقيق الابتدائي. ورابعاً لأن صحيفة السوابق لم يكن من بين السوابق الواردة بها أحكام نهائية على الطاعن، فما كان ينبغي إذا مؤاخذته على مقتضاها. وخامساً لأن تقرير التلخيص الذي تلي بالجلسة لا يعدو أن يكون صورة طبق الأصل من أقوال المجني عليه، ولم يلفت فيه القاضي الملخص المحكمة إلى أن الطاعن لم يسأل في التحقيق حتى كانت تتدارك النقص الذي شاب الدعوى.
وحيث إنه يبين من الاطلاع على الحكم المطعون فيه أنه أدان الطاعن في جريمة النصب وقضي عليه بالحبس مع الشغل لمدة ستة شهور. وبعد أن أورد التهمة التي رفعت بها الدعوى على الطاعن وهي أنه "توصل بطريق النصب إلى الاستيلاء على مبلغ خمسة جنيهات وشهادة إتمام الدراسة الابتدائية وشهادة ميلاد من حلمي جرجس بأن أوهمه بواقعة مزوّرة فذكر له أنه وكيل عن البنك البلجيكي وأطلعه على أوراق ومستندات وأرنيك اعتماد ليوهمه أنه وكيل عن البنك المذكور وأنه إن دفع تأميناً قدره عشرة جنيهات يعينه في إحدى وظائف البنك" - بعد ذلك بين واقعة الدعوى كما حصلتها المحكمة من التحقيقات التي أجريت فيها فقال: إن المتهم (الطاعن) قصد إلى المجني عليه الذي كان يبحث عن عمل للالتحاق به، وكان قد علم برغبته هذه من أحد أنسبائه وهو جرجس أفندي داود، وعرض عليه أنه وكيل بنك بلجيكا وأنه موفد من قبل نسيبه جرجس أفندي، وأنه يستطيع إلحاقه في وظيفة تابعة للبنك لأن البنك في حاجة إلى موظف، وأن ذلك يستدعي أن يقوم المجني عليه بدفع عشرة جنيهات إليه بصفة تأمين، ولكي يؤيد المتهم الادعاءات التي قرّرها للمجني عليه أطلعه على أوراق ومستندات وأرنيك اعتماد من قبل البنك. وكان من جراء ذلك أن خدع المجني عليه وسلمه خمسة جنيهات وشهادة الميلاد والشهادة الابتدائية بعد أن أخذ منه ورقة بذلك، ووعده بدفع الخمسة الجنيهات الباقية في فرصة أخرى. ثم عرض الحكم إلى دفاع المتهم فقال إنه يسلم بكل هذه الوقائع ويقول إنه أخذ المبلغ من المجني عليه ليلحقه في إحدى وظائف البنك، وإن له الحق في ذلك بصفته وكيلاً عن البنك، ولكن البنك أجاب بأن المتهم كان وكيلاً عنه حقيقة في تاريخ حصول الحادثة ومع ذلك فهو لا يملك مفاوضة أحد في الالتحاق بوظائف البنك، ولا يطلب تأميناً لذلك مطلقاً، وأنه لم يكن مطلوباً للبنك موظفون أو عملاء في ذلك الوقت، وأن الكرنيه المقدّم من المتهم صادر من البنك. أما خطاب الاعتماد فإنه لم يصدر منه. وخلص الحكم من كل ذلك إلى القول بأن "المتهم وإن كان وكيلاً عن البنك إلا أنه اتخذ لنفسه صفات كاذبة، وأيد هذه الصفات للمجني عليه بالأوراق التي أطلعه عليها ومن ضمنها الخطاب المزوّر صدوره على البنك، وبهذه الطريقة خدع المجني عليه، وكان معذوراً في تصديقه لأن المتهم أيد ادعاءاته بأمور مادية مستقلة عن نفس الادعاء الأمر الذي أوقع المجني عليه في الغش فسلمه المبلغ. أما دفع المبلغ بعد ذلك فلا يفيد المتهم شيئاً إذ قد وقعت الجريمة وتمت من قبل، ولم يكن رده للمبلغ باختياره بل كرهاً عنه عند ما ضبط بمعرفة شكري توضروس، وألفى نفسه في موقف حرج فاضطر إلى دفع المبلغ لكي يخلص من القبض عليه واقتياده إلى البوليس". وأردفت المحكمة ذلك بأنه "ظاهر من الاطلاع على صحيفة سوابق المتهم أن له من الجرائم المماثلة أربعاً كلها في سنة 1935 - 1936 مما يلقي ضوءاً على حياته الحافلة بهذا النوع من الإجرام".
وحيث إنه يتضح مما تقدم أن الحكم المطعون فيه اعتبر ما وقع من الطاعن مكوّناً لجريمة النصب على أساس أنه أوهم المجني عليه بأن له السلطة في إلحاقه بإحدى وظائف البنك، وأنه أيد هذا الذي ادعاه بأوراق تشهد باطلاً بأنها صادرة من البنك، وأن له بمقتضاها أن يعين الموظفين فيه، فانخدع المجني عليه بكل هذه الأكاذيب وسلمه المبلغ الذي طلبه منه على سبيل التأمين. ومتى تقرّر ذلك كان الحكم سليماً ولا خطأ فيه، لأن ما ادعاه الطاعن للتأثير في المجني عليه من القدرة على تعيين الموظفين بالبنك إنما كان كذباً، ولأن الدليل الكتابي الذي قدّمه للمجني عليه ليدعم به مدّعاه إنما كان غير صحيح بل مزوّراً، وبهذا وذاك تتحقق قانوناً وسيلة الاحتيال الواجب توافرها في جريمة النصب. على أن ما يثيره الطاعن ويتمسك به في طعنه من أنه - على خلاف ما أثبته الحكم عليه استناداً إلى إجابة البنك - كان له الحق في تعيين الموظفين بالبنك لا يقبل منه، لأن ذلك لا يعدو المجادلة في موضوع الدعوى وتقدير أدلة الثبوت فيها مما لمحكمة الموضوع وحدها القول الفصل فيه. وأما استناد الطاعن إلى حكم محكمة أوّل درجة الثابت به أنه "قدّم أوراقاً صادرة من البنك تثبت اتصافه بهذه الصفة وبأن له الحق في إلحاق آخرين للقيام بأعمال الشركة بمقتضى تفويض مؤرّخ 4 نوفمبر سنة 1936 في مقابل عمولة محدّدة في عقد الاتفاق، فإنه لا يجديه مع ما أثبتته محكمة الدرجة الثانية من أن الأوراق التي قدمها الطاعن ليؤيد بها مزاعمه لدى المجني عليه مزوّرة على البنك، بل هو في ذات الوقت يحمل الدليل على أن هذه الأوراق كان من شأنها - كما قال الحكم المطعون فيه - حمل المجني عليه على تصديق الطاعن فيما ادعاه من قدرته على إلحاقه بإحدى الوظائف، مما يتحقق به توافر ركن الاحتيال كما عرفه القانون.
وحيث إن ما تضمنته باقي أوجه الطعن مردود: أوّلاً بأن أعضاء النيابة العمومية ليسوا في حضورهم بجلسات المحاكم الجنائية خاضعين لما يسري على القضاة من أحكام الرد والتنحي عن الحكم لأنهم - وهم يمثلون سلطة الاتهام - يعتبرون بمثابة الخصم في الدعوى، ولا شأن لهم بالحكم فيها، فلا يجب عليهم التنحي، ولا يجوز في حقهم الرد، وثانياً بأن المحكمة الاستئنافية لم تعدّل وصف التهمة كما يزعم الطاعن، بل إنها وهي تسرد الأكاذيب التي صدرت من الطاعن تعرّضت لادعائه أنه موفد إلى المجني عليه من قبل نسيبه، وقالت إن ذلك غير صحيح لأن نسيب المجني عليه كذب الطاعن فيه. وهي مع ذلك لم تؤسس واقعة النصب التي أدانت الطاعن فيها على هذه الواقعة بل أسستها على ادعائه كذباً أنه وكيل عن البنك في إلحاق الموظفين بوظائفه كما مر القول. وثالثاً بأن عدم سؤال المتهم في التحقيقات الأوّلية ليس من شأنه أن يؤثر في صحة هذه التحقيقات أو المحاكمة. وهذا في مواد الجنح والمخالفات على الأخص فإن القانون لا يوجب فيها أن تكون المحاكمة مسبوقة بأي تحقيق ابتدائي. ورابعاً بأن إشارة المحكمة في الحكم إلى صحيفة سوابق الطاعن لم تكن في مقام أخذه بالشدّة على مقتضى السوابق الواردة بها أو في مقام التدليل على ثبوت الواقعة الجنائية عليه حتى كان يصح الرد عليها بأن هذه السوابق لم تكن عن أحكام انتهائية كما يقول الطاعن، بل إن المحكمة استأنست بهذه الصحيفة مجرّد استئناس، ولم تقل عنها إلا أنها تدل على أن الاتهامات الواردة بها تلقي ضوءاً على حياة الطاعن الحافلة بنوع معين من الإجرام. وهذا تزيد كان الحكم يستقيم بدونه ولم تكن الدعوى في حاجة إليه. وخامساً بأن عدم الإشارة في تقرير التلخيص الذي تلي في جلسة المحاكمة الاستئنافية إلى واقعة لم يرَ القاضي الملخص أهمية لها في الدعوى كعدم سؤال المتهم في التحقيقات الأولية لا يترتب عليه أي بطلان. وإذا كان المتهم قد لاحظ إغفال التقرير ذكر واقعة يرى هو أن تقف المحكمة عليها بالجلسة فإنه هو الذي كان عليه أن يوضحها في دفاعه الذي يتقدّم به إليها.


[(1)] يراجع أيضاً حكم محكمة النقض في القضية رقم 1147 سنة 48 القضائية الصادر بجلسة 16 إبريل سنة 1931 والمنشورة قاعدته في الجزء الثاني من هذه المجموعة بصفحة 398 برقم 243.