مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد المدنية
وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الثاني (عن المدة من 5 نوفمبر سنة 1936م لغاية 26 أكتوبر سنة 1939م) - صـ 106

جلسة 11 مارس سنة 1937

برياسة سعادة محمد لبيب عطية باشا وكيل المحكمة وبحضور حضرات: مراد وهبة باشا ومحمد فهمي حسين بك وحامد فهمي بك وعلي حيدر حجازي بك المستشارين.

(43)
القضية رقم 83 سنة 6 القضائية

( أ ) نقض وإبرام. قاعدة شرعية واجب العمل بها. اعتماد القاضي الأهلي في حكمه على هذه القاعدة. واجبه يقضي بالتثبت من أنها قد أخذ بها على وجهها الصحيح في موطن تطبيقها. رقابة محكمة النقض عليه في ذلك.
(ب) دعوى شرعية. حكم المحكمة العليا الشرعية برد القضية إلى المحكمة الابتدائية للسير فيها على حسب المنهج الشرعي. ماهيته في نظام المرافعات الشرعية. لا يثبت حقاً للمدّعي في موضوع دعواه. (المواد 88 و89 و101 و137 و323 و324 من لائحة المحاكم الشرعية)
(جـ) حكم شرعي. شروط حجيته. دفع شرعي لم يفرغ في قالب دعوى مستقلة. لا يلتفت إليه. مثال.
(د) وقف. ناظر الوقف. صرفه الريع لبعض المستحقين وحرمان بعضهم منه عامداً متعمداً. مطالبة المحروم بحقه. سبيلها. النزاع في الاستحقاق. لخلاف على النسب. لخلاف على قيام شرط. كيفية رجوع المحروم بحصته.
(هـ) وقف. حسن النية المبرئ لذمة الناظر. معناه.
1 - متى كان العمل على مقتضى قاعدة من القواعد الشرعية واجباً فعلى المحكمة الأهلية - إذا رأت أن ترتب على هذه القاعدة حكماً في النزاع المعروض عليها - أن تتثبت من أنها قد أخذ بها على وجهها الصحيح في موطن تطبيقها، ولمحكمة النقض الرقابة عليها في ذلك.
2 - حكم المحكمة العليا الشرعية برد القضية إلى المحكمة الابتدائية للسير فيها حسب المنهج الشرعي هو - بمقتضى نظام المرافعات الشرعية - حكم شكلي لا يفيد إلا مجرّد الإذن للمدّعي بذكر دعواه في مواجهة خصمه وسؤال المدّعى عليه الجواب عنها بالإقرار أو بالإنكار أو بالدفاع. فهو لذلك لا يمكن اعتباره مثبتاً لأي حق للمدّعي في موضوع دعواه.
3 - الحكم الصادر من المحكمة الشرعية لا تكون له حجية الشيء المقضي به إلا إذا كان فاصلاً في الدعوى المرفوعة إلى المحكمة وفقاً لنظام المرافعات الشرعية وفي الحدود المرفوعة بها الدعوى. والدفع الذي لم يفرغه صاحبه في قالب دعوى مستقلة ببيان عناصره وأدلته والوجه الشرعي المستند إليه فيه، وإنما أقحمه في دفاعه إقحاماً ولم يطلب أمر خصمه بالجواب عنه، لا يلتفت إليه.
وعلى ذلك فإذا كانت المدعية - تنفيذاً لحكم المحكمة العليا الشرعية القاضي بإعادة القضية إلى المحكمة الابتدائية للسير فيها حسب المنهج الشرعي - قد أعادت دعواها في حدودها الأولى بأنها تستحق عن والدها ووالدتها في المنزل الموقوف ستة قراريط، وأن المدّعى عليه الذي آل إليه النظر على الوقف قد وضع يده على المنزل واستغل ريعه وأنكر استحقاقها، وطلبت الحكم عليه باستحقاقها وأمره بأن يدفعه إليها، ووقف المدّعى عليه موقف المنكر لدعوى الاستحقاق إنكاراً مطلقاً، وحكمت المحكمة للمدّعية بطلباتها، فاستأنف المحكوم عليه هذا الحكم طالباً إلغاءه وعدم سماع الدعوى لمضي المدّة، وأقحم في دفاعه أن شرط الواقف لا يعطي المدّعية إلا حق السكنى مقيداً بقيود لم تتحقق بالنسبة لها، ولم يبين عناصر هذا الدفع ولا أدلته ولا الوجه الشرعي الذي يستند إليه فيه ولا القيود التي لم تتحقق، ولم يطلب أمر المدّعية بالجواب عنه، فإن حكم المحكمة العليا الشرعية بتأييد الحكم المستأنف لا يعتبر فاصلاً في أمر استحقاق المدّعية في الريع، بل إن حجيته تنحصر في الحدود التي كانت الدعوى دائرة فيها أمام المحكمة الابتدائية وهي أصل الاستحقاق.
فإذا اعتبرت المحكمة الأهلية الحكم الشرعي المذكور قد فصل نهائياً في هذا الدفع المقحم المبني على أن المدعية لا تستحق شيئاً في الريع وفصل بالتالي في النزاع بين الطرفين على الاستحقاق في الريع، وحكمت بناءً على ذلك بمبلغ الريع الذي تستحقه المدعية كان حكمها خاطئاً وتعين نقضه.
4 - إن الناظر إذا صرف ريع الوقف لبعض المستحقين فيه وحرم البعض الآخر من استحقاقه عامداً متعمداً، فإنه يكون للمحروم الخيار في أن يطالبه بحقه أو أن يرجع بهذا الحق على من قبضه من المستحقين. وإذا كان الوقف صادراً على ذرّية الواقف وبرهن أحد على أنه منهم وأنه لذلك ذو حق في الوقف، وكان النزاع في استحقاقه راجعاً إلى الخلاف في أمر نسبه إلى الواقف، فإن أثر الحكم له بالاستحقاق يجعله مستنداً إلى وقت الوقف ويخوّل له الرجوع بكل ما استحقه عن السنين الماضية على من قبضه من المستحقين الآخرين. أما إذا كان الخلاف غير متعلق بالنسب وإنما يتعلق بقيام شرط الاستحقاق في مدّعيه، كما إذا نص في كتاب الوقف على أن الاستحقاق هو لأولاد ولد الواقف وأثبت شخص أنه من أولاد بناته وقضى له بدخوله تفسيراً لكتاب الوقف، فإنه لا يكون مستحقاً لشيء من الغلة الماضية إذا كانت قد استهلكت، لأن الحكم في هذه الحالة لا يكون مظهراً ومقرراً بل هو مثبت لحق مدعي الاستحقاق في الوقف. وذلك لوجود شبهة الاقتصار في شرط الواقف. فإن كانت الغلة موجودة استحق فيها نصيبه لضعف تلك الشبهة، وإلا فلا.
5 - إن حسن النية الذي تبرأ به ذمة ناظر الوقف عند الرجوع عليه في ما له بنصيب أحد المستحقين في غلة السنوات الماضية التي استهلكت ووزعت على باقي المستحقين إنما هو اعتقاد الناظر أن من قضي له بالاستحقاق لم يكن، مع التسليم بنسبه للواقف، من المستحقين بحسب ظاهر كتاب الوقف، وأنه كان يوزع غلة الوقف بالطريقة الشرعية بين المستحقين لها على مقتضى ما كان يعتقده ولو كان متأوّلاً.


المحكمة

ومن حيث إن مبنى الطعن أن محكمة الاستئناف قد قضت بإلزام الطاعن بأن يدفع لعمته الست عزيزة أحمد كشك 181 جنيهاً و515 مليماً على اعتبار أنها مستحقة لستة قراريط من أربعة وعشرين قيراطاً في المنزل الموقوف، وأن الطاعن مسئول لها عن صافي حساب نصيبها هذا في المدة من مايو سنة 1922 حتى 10 يونيه سنة 1928 لأنه كان فيها الناظر الوحيد على الوقف، وعن نصفه في المدّة من 10 يونيه سنة 1928 حتى إبريل سنة 1931 ثم في المدة من مايو سنة 1931 حتى ديسمبر سنة 1932، لأنه كان في المدة الأولى ناظراً مع أخيه عبد السلام كشك أفندي وفي المدة الثانية ناظراً مع أخيه محمد زكي كشك أفندي، وأنها قد أخطأت في ذلك من النواحي الآتية:
(أوّلاً) من ناحية اعتمادها على حكم المحكمة العليا الشرعية الصادر في سنة 1932 ضدّ محمد زكي كشك أفندي الذي كان وقتئذ مجرّد ناظر منضم مع أن هذا الحكم لم يصدر في مواجهة الطاعن بل لم يصدر إلا في أصل الاستحقاق في الوقف ابتداءً من سنة 1932، ومثله لا يمنع الطاعن عند رجوع عمته عليه في ما له بالدعوى الحالية من دفعها بأنها لا تستحق على مقتضى كتاب التغيير في الوقف إلا السكنى في المنزل الموقوف بقدر نصيبها الشرعي الذي آل إليها عن والدها الواقف وعن والدتها، وبأنها لم تستحق السكنى هذه - على مقتضى شرط الواقف أيضاً - لأنها لم تتعزب ولم يمت عنها زوجها الذي تزوّجت به من قبل سنة 1916
(ثانياً) من ناحية أن الطاعن قد تمسك في دفعه هذا بصريح كتاب الوقف ولم يرد بالحكم المطعون فيه ما يصلح ردّاً عليه في ذلك.
(ثالثاً) من ناحية أنه دفع الدعوى بأنه لم يقبض شيئاً زيادة عن قدر استحقاقه، وأن المنزل كان متروكاً لسكنى المستحقين جميعاً، وأن الذي كان ينفرد بالعمل في تأجير بعض المنزل الموقوف وقبض أجرته هو شريكه في النظر. وقد قدّم المستندات الكثيرة المؤيدة لذلك فلم تحفل المحكمة بهذا الدفع ولم ترد عليه مع أهميته وإنتاجه في الدعوى، بل جعلت الطاعن وحده مسئولاً عن نصيب عمته مدّة معينة، ومسئولاً عن نصف نصيبها مدّة أخرى، بغير علة ظاهرة غير المشاركة في النظر.
(رابعاً) من ناحية أن الطاعن كان تمسك أمام محكمتي الموضوع بأنه حتى إذا فرض جدلاً أن عمته كانت مستحقة لغير السكنى أو السكنى وأنه قد حصل شيئاً من الريع فقد حصله بحسن نية، ولا تصح مطالبته في سنة 1932 عن المدّة من سنة 1916 إلى سنة 1932، ولكن المحكمة قد قضت مع ذلك على الطاعن بانية حكمها على أنها تتشكك في حسن نية الطاعن. وفي ذلك خطأ في تطبيق المادة 146 من القانون المدني.
هذا. وحيث إن الدعوى الحالية تتضمن رجوع الست عزيزة على محمود فؤاد كشك أفندي وأخويه عبد السلام أفندي ومحمد زكي أفندي الذين تناوبوا النظر والإشراف بنصيبها الشرعي في ريع المنزل الموقوف وطلبها الحكم عليهم بإلزامهم بنصيبها المذكور في مالهم، كل عن المدّة التي كان فيها ناظراً لأنه مسئول عنه. وقد فصلت فيها محكمة الموضوع على هذا الأساس وعلى اعتبار أن محمود أفندي لم يكن حسن النية فيما ادعاه ودفع به، معتمدة على كتاب التغيير في الوقف المؤرّخ في 18 يونيه سنة 1911 وعلى بعض الأحكام الشرعية التي صدرت في القضية الشرعية التي رفعتها الست عزيزة على محمد زكي أفندي في أواخر سنة 1931 تثبت بها استحقاقها في الوقف. وقد قالت محكمة الاستئناف في الحكم المطعون فيه ما نصه:
"وحيث إنه تبين من الاطلاع على الأحكام الشرعية أنه قد فصل نهائياً في هذا الادعاء (أي ادعاء محمود فؤاد أفندي)، وتناول البحث فيما إذا كان للست عزيزة حق السكنى فقط أو حق المطالبة بالريع، وقضى نهائياً باستحقاقها لستة قراريط في ريع الوقف المذكور. ولا يحتج على ذلك بأن الأحكام الشرعية لم تكن في مواجهة محمود فؤاد كشك أفندي لأنه مما لا نزاع فيه بين الطرفين أنه في وقت رفع الدعوى الشرعية من الست عزيزة كان محمود فؤاد أفندي ناظراً مع محمد زكي كشك أفندي، وقد صدرت الأحكام الشرعية على محمد زكي كشك أفندي باعتباره ناظراً على الوقف فيعتبر الحكم صادراً في مواجهته أيضاً. على أنه ثابت من الاطلاع على هذه الأحكام أن هذه النقطة قد فصل فيها أيضاً وتقرر جواز قيام أحد الناظرين خصماً عن الآخر. وعليه يكون الدفع بعدم استحقاق الست عزيزة في ريع الوقف في غير محله". ثم قالت: "وحيث إن محمود فؤاد كشك أفندي يدعي فوق ذلك بأنه مع التسليم بأن الست عزيزة مستحقة فإنه عندما استولى على الريع كان حسن النية فهو غير ملزم بأدائه. والمحكمة ترى من تصرفاته وإنكاره استحقاقها حتى بعد صدور الحكم الشرعي به ما يحملها على التشكك في حسن نيته...".
وحيث إن الثابت من كتاب تغيير الوقف "أن المرحوم السيد أحمد كشك أشهد على نفسه في 21 جمادى الثانية سنة 1329 (18 يونيه سنة 1911) لدى محكمة إسكندرية الشرعية بأنه بعد أن وقف منزله... بمقتضى كتاب الوقف المحرّر من هذه المحكمة بتاريخ 21 جمادى الأولى سنة 1326 (21 يونيه سنة 1908) على من عينه به وما شرطه لنفسه من الشروط العشرة جعل وقفه الآن من يوم تاريخه على نفسه مدّة حياته ينتفع به سكناً وإسكاناً وغلة واستغلالاً وكيفما أحب واختار بسائر وجوه الانتفاعات الوقفية الشرعية، ثم من بعده يكون ذلك وقفاً شرعياً على زوجته الموجودة الآن على عصمته وهي الست زينب بنت عبد الله رمضان وعلى أولاده منها محمد أحمد كشك أفندي والستات أسما وعزيزة البلغ بالفريضة الشرعية بين الجميع، ثم من بعد زوجته المذكورة يكون نصيبها وهو الثمن وقفاً على أولاده المذكورين بالفريضة الشرعية بينهم، ثم من بعد كل بنت يكون جميع ما استحقته في هذا الوقف وقفاً على أخيها محمد أحمد كشك أفندي المذكور فإن لم يوجد يكون وقفاً على من يوجد من أولاده؛ ينتفع كل من زوجته وأولاده المذكورين بالسكنى ما دام حياً ما عدا البنتين المذكورتين فإن كلاً منهما ينتفع بالسكنى ما دام عزباً أو مات زوجها عنها. وإذا مات ولده محمد أحمد كشك أفندي كان نصيبه وما يؤول إليه وقفاً شرعياً على أولاده الموجودين الآن على قيد الحياة وهم محمد فؤاد أفندي البالغ وعزيزة القاصرة المرزوق بهما من زوجته المتوفاة... ومحمد زكي أفندي ومفيدة البالغين وعبد السلام القاصر المرزوق بهم من زوجته التي على عصمته الآن... ومن سيحدثه الله له من الأولاد من زوجته المذكورة ومن غيرها. ينتفعون من ذلك بالسكنى والإسكان، ثم من بعد ذلك يكون كل منهم نصيبه من ذلك لأولاده، ثم من بعدهم على أولادهم ذكوراً وإناثاً... وأبقى لنفسه الشروط العشرة... وشرط أيضاً شروطاً منها أن يبدأ بعمارة هذا الوقف من يكون شاغلاً هذا المنزل بسكناه وأن يدفع ما هو مربوط عليه من العوائد الأميرية... وجعل لنفسه النظر على هذا الوقف مدّة حياته، ثم من بعده يكون لزوجته الست زينب الموقوف عليها المذكورة، ثم من بعدها يكون النظر لولده محمد أحمد كشك أفندي مدّة حياته، ثم من بعده يكون لأرشد أولاده، ثم من بعده يكون لأرشد إخوته. ومنها أنه شرط لزوجته وولده وبنتيه المذكورين أعلاه حق السكنى في المنزل مدّة حياتهم بشرط أن لا يكون لزوجة ولده الست سلومة المذكورة حق في السكنى ما دامت زوجته وابنتاه شاغلات المنزل بسكناهم، وأن كل بنت من بنتيه المذكورتين لا حق لها في السكنى ما دامت متزوجة، فإذا تعزبت أو مات زوجها كان لها حق السكنى في المنزل المذكور؛ وإذا مات ولده المذكور قبل وفاة البنتين المذكورتين اللتين تكونان شاغلتين المنزل بسكنى انتقل لأولاده حق السكنى معهما".
فنص كتاب الوقف هذا يفيد أن الواقف بعد أن جعل وقفه من تاريخ 18 يونيه سنة 1911 على نفسه مدّة حياته ينتفع به سكناً وإسكاناً وغلة واستغلالاً وجعله من بعده لزوجته وأولاده ومن يليهم وانتهى من إيراد طبقات المستحقين، بين كيفية استحقاق كل منهم فقال:
"ينتفع كل من زوجته وأولاده المذكورين بالسكنى ما دام حياً ما عدا البنتين المذكورتين فإن كلاً منهما تنتفع بالسكنى ما دام عزباً أو مات زوجها عنها، وأنه إذا مات ولده محمد أحمد أفندي كان نصيبه وما يؤول له وقفاً على أولاده محمود فؤاد وعزيزة محمد زكي ومفيدة وعبد السلام ومن سيحدثه لهم. ثم بين كيف ينتفع هؤلاء الورثة فقال: إنهم ينتفعون من ذلك بالسكنى والإسكان. ثم أكد هذا فذكر عند إيراده ما شرطه من الشروط: أنه شرط لزوجته وولده وبنتيه المذكورين أعلاه الحق في السكنى في المنزل مدّة حياتهم بشرط ألا يكون لزوجة ولده الست سلومة حق في السكنى ما دامت زوجته هو وابنتاه شاغلات المنزل بسكناهّن، وأن كل بنت من بنتيه المذكورتين لا حق لها في السكنى ما دامت متزوّجة. فإذا تعزبت أو مات زوجها كان لها حق السكنى في المنزل المذكور. وإذا مات ولده المذكور قبل وفاة البنتين المذكورتين انتقل لأولاده حق السكنى معهم". ومفهوم ذلك بلا نزاع أن الست عزيزة المدّعى عليها في الطعن ممن نص على استحقاقهم لسكنى المنزل الموقوف مدّة حياتهم، وأنها وأختها الست أسما لا تستحق أيهما السكنى إلا إذا كانت عزباً أو مات زوجها عنها، وأن ولد الواقف محمد أحمد أفندي قد نص على استحقاقه هو أيضاً للسكنى مدّة حياته. أما أولاده فقد نص على استحقاقهم للسكنى والإسكان بعد وفاة والدهم بعد وفاة أختيه. أما إذا توفي هذا الوالد قبل وفاتهما فقد نص على انتقال حق السكنى لأولاده مع عمتيهم أو مع من يكون باقياً على قيد الحياة منهما.
وحيث إن الثابت في الأحكام الشرعية المقدّمة لهذه المحكمة أن الست عزيزة أحمد كشك رفعت في سنة 1931 على ابن أخيها محمد زكي كشك أفندي أمام محكمة إسكندرية الابتدائية الشرعية دعوى قيدت بجدولها برقم 79 سنة 1930 - 1931 تضمنت - على ما جاء بقرار تلك المحكمة الصادر في 18 يناير سنة 1932 - أن المرحوم أحمد كشك وقف المنزل... بمقتضى حجة الوقف الصادرة من هذه المحكمة في 20 يونيه سنة 1908 وأنه غير في الإنشاء والمصارف الواردة فيه بإشهاد من هذه المحكمة في يونيه سنة 1911 وجعل الوقف المذكور على نفسه مدّة حياته، ثم من بعده فعلى زوجته الست زينب بنت عبد الله وعلى أولاده منها محمد أحمد كشك أفندي والسيدتان أسما وعزيزة البلغ بالفريضة الشرعية بينهم، ثم من بعد كل فعلى من عينهم فيه. وأن الواقف قد مات فخص المدّعية خمسة قراريط وربع من ريع المنزل بالنسبة لأصل الإنشاء. ثم ماتت زوجته عن ولدها وبنتيها المذكورتين فحص المدّعية 4/3 قيراط، فيكون جميع ما تستحقه ستة قراريط من أصل أربعة وعشرين قيراطاً... وأن المدّعى عليه (محمد زكي كشك أفندي) قد آل إليه النظر على هذا الوقف بقرار من المحكمة في 27 مايو سنة 1931 وتقرّر انفراده بالنظر في 7 نوفمبر سنة 1931 وقد وضع يده على منزل الوقف واستغل ريعه وأنكر استحقاق الطالبة لنصيبها فيه، فهي لذلك تطلب الحكم لها عليه باستحقاقها لنصيبها المذكور. وقدّم وكيلها مسوّغاً لسماع الدعوى كتابي الوقف والتغيير وصورة من قرار إقامة المدّعى عليه ناظراً، وأخرى من قرار إفراده بالنظر. والمحكمة الشرعية، قرّرت بتاريخ 10 رمضان سنة 1350 (18 يناير سنة 1932) عدم سماع الدعوى غيابياً لعدم وجود المسوّغ وقالت: "إنه بالاطلاع على كتاب التغيير يرى أن الواقف لم يعطِ المدّعية حقاً في الريع بل جعل لها حق السكنى فقط بشرط أن تكون عزباً أو مات عنها زوجها، بدليل أنه بعد أن ذكر الموقوف عليهم بين وجه الانتفاع بالنسبة لهم وفيه أن للمدّعية حق السكنى، كما نبه على ذلك في آخر حجة التغيير. ولهذا لا يكون للمدّعية حق في ريع هذا الوقف ويتعين عدم سماع دعواها لعدم وجود المسوّغ لها بالصفة المبينة بها".
فاستأنفت الست عزيزة هذا القرار لدى المحكمة العليا الشرعية فألغته وردت القضية لمحكمة الدرجة الأولى للسير فيها حسب المنهج الشرعي. فأعلنت المدّعية خصمها محمد زكي كشك أفندي بالسير في الدعوى، وأعادتها بجلسة محكمة إسكندرية الشرعية في 25 يوليه سنة 1932 على الوجه الذي ادعتها به في المرة الأولى، وطلبت الحكم لها على المدّعى عليه - والذي وصفته بأنه قد وضع يده على منزل الوقف منذ تنظره واستغل ريعه وأنكر استحقاقها لنصيبها فيه - باستحقاقها لنصيبها المذكور في ريع المنزل الموقوف وأمره بأن يدفعه إليها. وقدّم وكيلها مسوغاً لسماع الدعوى كتاب الوقف والتغيير وصورة من قرار إقامة المدّعى عليه ناظراً وصورة أخرى من إقرار إفراده بالنظر وصورة من إعلام شرعي صادر في 17 ديسمبر سنة 1911 بوفاة الواقف المذكور وانحصار إرثه في زوجته وأولاده المذكورين ومنهم المدّعية، وأحضر شاهدين شهدا بباقي الدعوى. فحكمت المحكمة المذكورة على محمد زكي كشك أفندي بصفته ناظر وقف السيد أحمد كشك باستحقاقها ستة قراريط من أربعة وعشرين قيراطاً، وأمرته بأن يدفع إليها استحقاقها على هذا الوجه غيابياً. وبنت حكمها هذا على أن وكيل المدّعية ادعى دعواها المذكورة، وطلب ما طلبه بها، وقد أثبتها بالأوراق الرسمية والشهادة الشرعية فتعين الحكم طبقاً للمنهج الشرعي. فعارض المحكوم عليه في هذا الحكم فقررت المحكمة بتاريخ 24 أكتوبر سنة 1932 قبول المعارضة شكلاً ورفضها موضوعاً. وقد جاء في هذا القرار: "أن المعارض بنى معارضته على أسباب ثلاثة: أنه لا يصلح للخصومة في الدعوى لأنه لم يكن ناظراً أثناء هذه الخصومة، وأنه لم يعلن بالدعوى، وأن المدعية لا تستحق في الوقف. فعن السبب الأوّل تبين من بحث الأوراق المدعى عليه عين ناظراً مؤقتاً منضماً إلى محمود فؤاد كشك أفندي بدلاً من عبد السلام أفندي في 27 مايو سنة 1931 ثم أذن بالانفراد في 7 نوفمبر سنة 1931، ثم رفع هذا الانفراد في 3 ديسمبر سنة 1931؛ أما وصف النظر فهو باقٍ لم يرفع عنه وقد كان رفع هذه الدعوى في 19 يوليه سنة 1931 أي في وقت هو ناظر فيه، وأحد النظار يقوم خصماً عن الباقين. وأما عن السبب الثاني فقد تبين أن المدعى عليه أعلن بالدعوى إعلاناً قانونياً. وأما عن السبب الثالث فإنه لا يزيد عن جحود للدعوى، وقد ثبتت بدليلها على الوجه المبين سابقاً. ومن حيث إنه تبين من هذا أن لا صحة لسبب من الأسباب التي بنيت عليها المعارضة، وما دام الأمر كذلك وقد قدّمت المعارضة في ميعادها القانوني لهذا قررنا...".
استأنف محمد زكي كشك أفندي هذا الحكم لدى المحكمة العليا الشرعية طالباً نقضه وعدم سماع الدعوى. وقيد هذا الاستئناف برقم 21 سنة 1932 - 1933 وقد بناه - حسب ما جاء بحكم تلك المحكمة العليا - على "أن الحكم المستأنف صدر ممن لا يملك إصداره لأن المدعية توفي والدها من أكثر من عشرين سنة وتوفيت والدتها من أكثر من خمس عشرة سنة، ولم تتقدم برفع دعواها ولا المطالبة بحقوقها إن كانت لها حقوق مع تمكنها من رفع الدعوى وعدم وجود أي مانع لها فتكون دعواها غير مسموعة طبقاً للمادة 375 من القانون رقم 38 سنة 1931. (ثانياً) وعلى أن المدّعية رفعت الدعوى عليه، وكان ناظراً مضموماً، وفي أثناء الخصومة تغيرت صفته، فتكون إجراءات الحكم المستأنف باطلة. (ثالثاً) على أن شرط الواقف لا يعطي المستأنف عليها سوى حق السكنى مقيداً بقيود، فلا حق للمستأنف عليها إلا في السكنى متى تحققت الشروط المطلوبة وهو ما لم يكن محل نزاع...". وقال وكيل المستأنف عليها "بأن الدفع بعدم السماع لمضي المدّة غير صحيح لأن المدّعى عليه معترف باستحقاقها. وأما ما يتعلق بأن المستأنف عليها ينطبق عليها شرط الواقف أو لا ينطبق فقد فصلت في ذلك المحكمة العليا (يقصد بذلك حكمها القاضي بإعادة القضية لمحكمة الدرجة الأولى للسير فيها حسب المنهج الشرعي). وطلب تأييد الحكم المستأنف". بعد ذلك قالت المحكمة: "حيث إن الحكم المستأنف في الموضوع وصحيح لصحة أسبابه. وما دفع به من عدم السماع لمضي المدّة غير صحيح لأنه تبين أن لا نزاع في أصل الاستحقاق، لهذا قرّرنا (أوّلاً) رفض الدفع (أي الدفع بعدم السماع لمضي المدّة)، (وثانياً) بتأييد الحكم المستأنف ورفض الاستئناف حضورياً".
هذا هو الثابت بالأحكام الشرعية التي اعتمدت على بعضها محكمة الموضوع في التقرير بأن هذه الأحكام قد فصلت نهائياً فيما إذا كان للست عزيزة حق السكنى فقط أو حق المطالبة بالريع.
وحيث إن قواعد الفقه الشرعي التي صدر على مقتضاها حكم المحكمة الابتدائية الشرعية المؤرّخ في 18 يناير سنة 1930 وحكم المحكمة العليا المؤرّخ في 25 إبريل سنة 1932 تتلخص في أن القاضي الشرعي لا يجوز له سماع الدعوى وأمر المدّعى عليه بالجواب عنها والسير فيها إلا إذا كانت صحيحة شرعاً توافر في مدّعيها وفي المدّعى عليه وفي المدّعى به شروط شكلية معروفة من أهمها أن تكون الدعوى محتملة الثبوت عقلاً وعادة. لأن حكم الدعوى الصحيحة عندهم هو وجوب الجواب على الخصم عنها إما بالإقرار وإما بالإنكار، فإذا أجاب بالإقرار يمكن الإلزام عليه. والمراد بتحقق الإلزام الذي هو فائدة الدعوى إمكان تحققه دون وقوعه (الفتح القدير جزء 7 ص 142 وص 192). ولهذا كان للقاضي الحق في التقرير من تلقاء نفسه بعدم صحة الدعوى أو بعدم سماعها إذا لم يرها مستوفية شروط الصحة الشكلية. وقد اعتمد الشارع هذه الأصول ونقل أحكامها وما تفرّع عنها إلى لائحة المحاكم الشرعية، فقضى مثلاً في المادة 88 بعدم سماع الدعوى إلا على خصم شرعي حقيقي، وفي المادة 89 برفض الدعوى إذا لم يكن بين المتداعيين خصومة في نفس الأمر بل قصدا بالتداعي الاحتيال على الحكم بما يدعيه أحدهما على الآخر، ومنع من سماع دعوى الوصية والإيصاء عند الإنكار إلا إذا وجدت أوراق خالية من شبهة التصنع تدل على صحة الدعوى (المادة 98)، ومن سماع دعوى الزوجية إلا إذا كانت ثابتة بوثيقة زواج رسمية في الحوادث الواقعة من أوّل أغسطس سنة 1930، ومنع، عند الإنكار، بنص المادة 137 من سماع دعوى الوقف أو الإقرار به أو غير ذلك من الشروط التي تشترط فيه، إلا إذا وجد بذلك إشهاد شرعي ممن يملكه على يد حاكم شرعي إلى آخر المادة. وأجاز للقاضي الشرعي التقرير من تلقاء نفسه بعدم صحة الدعوى أو بعدم سماعها (المادة 101)، ونص في المادتين 323 و324 على أنه إذا استؤنف أي حكم أو قرار من الأحكام والقرارات التي يجوز استئنافها قبل الحكم في أصل الدعوى فبعد الفصل فيه ترّد القضية لمحكمة الدرجة الأولى للسير فيها بما يقتضيه المنهج الشرعي. ولهذا كان من المحكمة الابتدائية الشرعية أن لاحظت من تلقاء نفسها وفي غيبة المدّعى عليه أن الدعوى المقدّمة لها تخالف الظاهر من كتاب تغيير الوقف الذي قدّمته المدعية مسوغاً لسماع دعواها، فقررت عدم سماعها لعدم وجود المسوغ، وكان من المحكمة العليا عند نظرها في الاستئناف المرفوع لها من المدعية - إذ رأت احتمال جواز سماع الدعوى على تقدير أن الخصم قد يجيب عنها بإقراره بها أو ينكر بعض وقائعها فتثبتها المدعية بالأدلة الشرعية - أن ألغت القرار المذكور وردت القضية إلى المحكمة الابتدائية للسير فيها على المنهج الشرعي. وقد قضت بذلك على ما جرت عليه من أن محل عدم سماع الدعوى لعدم تقديم المسوغ لها إنما يكون في حالة الإنكار (حكم المحكمة العليا الشرعية - المحاماة الشرعية سنة 7 رقم 99 ص 396). ولما كان معنى ردّ القضية إلى محكمة الدرجة الأولى للسير فيها حسب المنهج الشرعي في نظام المرافعات الشرعية إنما هو مجرّد أمر المدعي بذكر دعواه في مواجهة خصمه وسؤال المدعى عليه الجواب عنها (كتاب المرافعات الشرعية للمرحوم الشيخ محمد زيد بك ص 41)، فلا يمكن بحال أن يعتبر ذلك القرار الآذن بسماع الدعوى فقط حكماً بصحتها موضوعاً، وبأن المدعية قد صارت به من ذوات الاستحقاق في الغلة على رغم كتاب التغيير في الوقف. وإذن فهو لا حجية له فيما حاولت الست عزيزة الاستناد إليه فيه من زعمها أنه يدل على أنها مستحقة حقاً في غلة المنزل الموقوف. وقد أحسنت محكمة الموضوع في عدم الاستناد على هذا القرار لأنه قرار شكلي صدر قبل الجواب عن الدعوى وفي غيبة الخصم.
وحيث إن قواعد الفقه الشرعي التي أصدر على موجبها حكما المحكمة الابتدائية الشرعية في 25 يوليه و24 أكتوبر سنة 1932، وحكم المحكمة العليا الشرعية في 19 ديسمبر سنة 1932، والأخيران هما اللذان أشير إليهما في الحكم المطعون فيه، هي:
(1) الدعوى الصحيحة المحتملة الثبوت المأذون بسماعها حكمها أمر المدعي بذكرها في مواجهة خصمه وأمر المدعى عليه بالجواب عنها إما بالإقرار أو بالإنكار أو بالسكوت أو بالدفع، وهي طرق القضاء الشرعي ومسالكه، ولكل منها أحكامه.
(2) والدفع في اصطلاحهم هو إتيان المدعى عليه بدعوى يريد بها إسقاط دعوى المدعي. وحكمه أنه يقبل من المدعى عليه أو من له شأن في الدعوى، وأنه يجوز الدفع به قبل الحكم وبعده. ومما مثل به أنه إذا ادعى شخص على آخر ديناً فدفع بأنه أبرأه منه أو صالحه عليه قبل دفعه، ومتى ثبت بطل كلام المدعي وحكم برفض دعواه. ومنه أنه إذا أقيمت الدعوى من أحد بطلب استحقاقه في وقف، وثبت ذلك بالبينة وحكم القاضي بالاستحقاق كان للمستحق الذي لم يخاصم دفع هذه الدعوى لتعدّي الحكم إليه.
وقد أدخل الشارع هذه القواعد في لائحة المحاكم الشرعية في الفصول الثالث والرابع والخامس من الباب الثاني. فعقد الفصل الثالث لسماع الدعوى وشروط سماعها، ومتى تسمع ولا تسمع، والفصل الخامس للجواب عن الدعوى، والفصل الرابع لدفع الدعوى قبل الجواب عنها، فأوجب أن يكون جواب المدعى عليه عن كل وقائع الدعوى وعن موضوع كل واقعة إجابة خاصة ويذكر صراحة إن كان ينكرها أو يقرّ بها ويبين ما يقرّه وما ينكره بغير إبهام، وأن يذكر كذلك وقائع دفعه وأحواله بياناً واضحاً لا إبهام فيه مع تفسير أدلته والوجه الشرعي الذي استند عليه فيه (المادة 106). وأشار إلى الدفع وسماه الدفع المعتبر دعوى مستقلة في المادة 109 وما يترتب عليه في حق المدّعي عند حضوره وعند غيابه. وبين في المادة 341 أن لمن يتعدّى إليه حكم مّا مباشرة الطعن فيه أمام المحكمة الابتدائية أو محكمة الاستئناف وفي أي وقت إلا إذا سقط الحق في رفعه إلى المحكمة بسبب من الأسباب.
ومن حيث إن المدعية - تنفيذاً لحكم المحكمة العليا الشرعية القاضي بإعادة القضية إلى المحكمة الابتدائية للسير فيها حسب المنهج الشرعي - قد أعادت دعواها في حدودها الأولى إذ ادعت أنها تستحق عن والدها ووالدتها في المنزل الموقوف ستة قراريط، وأن المدعى عليه (محمد زكي كشك أفندي) الذي آل إليه النظر على الوقف في 27 مايو سنة 1931 وتقرّر إفراده بالنظر في 7 نوفمبر سنة 1931 قد وضع يده على المنزل واستغل ريعه وأنكر استحقاقها لنصيبها فيه. ولذلك فهي تطلب الحكم عليه باستحقاقها لهذا النصيب، وأمره بأن يدفعه إليها - ادّعت دعواها هذه بغير أن تبين صريحاً إن كانت تستحق هذا النصيب في الغلة أو في السكنى، وإن كانت استحقته في الغلة، فما كان سندها فيه من كتاب الوقف. ولذلك ولغياب المدّعى عليه أصدرت المحكمة بطلباتها حكماً غيابياً جاء فيه: "إن وكيل المدّعية ادّعى دعواها المذكورة وطلب ما طلبه بها. وحيث إنه أثبتها بالأوراق الرسمية والشهادة الشرعية ويتعين الحكم بالآتي طبقاً للمنهج الشرعي". ولما عارض المدّعى عليه في هذا الحكم استند في معارضته إلى سببين يتعلقان بالشكل هما عدم توجه الدعوى عليه لعدم صلاحيته لأن يكون خصماً فيها، وعدم صحة إعلانه بها. واستند في الموضوع إلى ما قاله من أن المدّعية لا تستحق في الوقف. فكان من المحكمة بعد أن رفضت السببين الأوّلين أن قالت: "إن هذا السبب الثالث لا يزيد عن جحود الدعوى، وقد ثبتت بدليلها على الوجه المبين آنفاً (أي بالحكم الغيابي)، فحق القضاء بتأييد الحكم الغيابي". فيبين من هذا أن موقف المدّعى عليه أمام المحكمة الابتدائية لم يعد موقف المنكر لدعوى الاستحقاق المحدّدة آنفاً إنكاراً مطلقاً. ومتى كان الأمر كذلك فلا يمكن اعتبار حكميها إلا صادرين في حدود هذا الإنكار المطلق للدعوى في حدودها المرفوعة هي بها. فلما استأنف المحكوم عليه لدى المحكمة العليا الشرعية طلب إلغاء الحكم المستأنف وعدم سماع الدعوى تطبيقاً للمادة 375 من اللائحة التي تنص على أن القضاة ممنوعون من سماع الدعوى لمضي أكثر من خمس عشرة سنة مع تمكن المدّعي من رفعها وعدم العذر له في عدم رفعها، ولأن المدعية رفعت دعواها عليه وكان ناظراً مضموماً، وفي أثناء نظر الخصومة تغيرت صفته فصارت إجراءات الحكم المستأنف باطلة، ولأن شرط الواقف لا يعطي المستأنف عليها سوى حق السكنى مقيداً بقيود لم تتحقق فيما مما لم يكن محل نزاع الآن فتكون دعواها واجبة الرفض من هذه الناحية أيضاً. أما المستأنف عليها فقد قالت إن المستأنف معترف باستحقاقها، وإن المحكمة العليا الشرعية قد فصلت من قبل فيما إذا كان ينطبق عليها شرط الواقف (تقصد بالضرورة حكمها الصادر من قبل بإعادة القضية إلى محكمة الدرجة الأولى للسير فيها وفق المنهج الشرعي)، وطلبت تأييد الحكم المستأنف. فحكمت المحكمة برفض الدفع بعدم سماع الدعوى وبتأييد الحكم المستأنف بانية حكمها على أن ما دفع به المستأنف من عدم سماع الدعوى لمضي المدّة غير صحيح لأنه تبين أنه لا نزاع في أصل الاستحقاق، وعلى أن الحكم المستأنف في الموضوع صحيح. ويبين من هذا الحكم أن المدعى عليه لم يدفع الدعوى أمام المحكمة العليا بدفع جديد إلا بالدفع بعدم سماع الدعوى لمضي المدّة، وهو من الدفوع التي كان يصح الدفع بها قبل الإجابة على الدعوى. ولذلك كانت طلباته منحصرة في طلب إلغاء الحكم المستأنف وعدم سماع الدعوى. أما ما أقحمه من القول في دفاعه من أن شرط الواقف لا يعطي المدعية إلا حق السكنى مقيداً بقيود لم تتحقق فيها فقد كان مجرّد قول مبهم قال عنه هو إنه لم يكن موضع النزاع وقتئذ، فلم يصبح به دافعاً للدعوى، ومكلفاً خصيمته بالجواب عنه حتى إذا أنكرته كلفته المحكمة هو بإثباته. ولو ثبت بالمنهج الشرعي لترتب على الحكم فيه الحكم برفض الدعوى، كما هو شأن الدفع في نظام المرافعات الشرعية. ذلك لأنه من جهةٍ لم يفرغه على صورة الدعوى المستقلة فيبين عناصره وأدلته والوجه الشرعي الذي استند عليه فيه (المادة 106). وكيف يعتبر دافعاً وهو لم يذكر كيف كانت المدعية مستحقة للسكنى بكتاب الوقف، وما هي قيود هذا الحق، وهل انطبق عليها شرط الواقف فيما جاء به من تقييد حق المستحقين من طبقتها للسكنى فقط، ومن تقييد حقها وحق أختها في السكنى ما دامت لم تتزوج أو لم تتعزب، وهل ادعى أنها تزوّجت ولا تزال على عصمة زوجها - كيف يعتبر دافعاً وهو لم يذكر ذلك بل يقول إنه لا نزاع الآن في انطباق هذا الشرط بقيوده وعدم انطباقه. ولذلك لم يطلب من المحكمة الحكم بمنعها من الدعوى لأن حقها في السكنى لم يتصل بها لعدم توافر قيود شرطيه فيها فآل نصيبها لأخيها المرحوم محمد أحمد كشك أفندي ولورثته من بعده، كما نص على ذلك إشهاد التغيير في الوقف. ولهذا رأينا المحكمة العليا لم تلتفت إلى هذا القول ولم تعتبره دفعاً بدعوى، وقصرت نظرها على الدفع بعدم السماع لمضى المدّة وعلى موضوع دعوى المدعية في حدودها الأولى، فحكمت برفض هذا الدفع وبتأييد الحكم المستأنف. وظاهر أن المدعى عليه لو كان ادعى أن ليس بعد الواقف من زوجته وأولاده من استحق الغلة، وأن هؤلاء جميعاً ما كانوا يستحقون إلا السكنى، وأن كل بنت من بنتيه لا تستحق إلا السكنى بقدر نصيبها الشرعي بشرط أن تكون عزباً - لو كان ادعى ذلك، وادعى أن السيدة عزيزة لم تستحق السكنى لأنها تزوّجت في حياة والدها ثم هي لا تزال في عصمة زوجها إلى الآن، وأن ورثة أخيها تقاسموا سكنى المنزل الموقوف دونها في السنين الماضية - لو أنه كان ادعى ذلك، واستند إلى كتاب الوقف وطلب أمر خصمه بالجواب عن دفعه هذا بعد بيانه على مثل ما سبق ذكره لكان متعيناً على المحكمة أن تجيبه إلى ذلك، فإن أنكرت المدعية هذه الدعوى الجديدة طلبت المحكمة منه هو إثباتها، ثم فصلت في هذا الدفع وفي أصل الدعوى بما يقتضيه المنهج الشرعي. أما وأنه لم يفعل ذلك لهذا بقي حكم المحكمة العليا في حدود الدعوى على ما سارت فيه أمام المحكمة الابتدائية في حدود إنكار المدعى عليه الاستحقاق المدعى به إنكاراً مطلقاً مع اعترافه بأصل الإنشاء، وانحصرت حجية الحكم في هذه الحدود، وصار لمن صدر عليه الحكم ولكل مستحق في الوقف يتعّدى إليه هذا الحكم دفعه بدعوى مستقلة متى شاء ما لم يسقط حقه بسبب من الأسباب (المادتين 341 و342 من اللائحة). وعلى هذا يكون الحكم المطعون فيه قد أخطأ فيما جاء به من أن محكمة الاستئناف قد تبين لها أن الحكم المذكور والحكمين المؤيدين به الصادرين من المحكمة الابتدائية الشرعية في 25 يوليه سنة 1932 و24 أكتوبر سنة 1932 قد فصلت نهائياً فيما يدعيه محمود فؤاد كشك أفندي (الطاعن) من أن الست عزيزة لا تستحق في ريع الوقف، وأن دفعه بذلك في غير محله.
وحيث إن الحكم المطعون فيه قد جاء به بعد ذلك ما نصه: "وحيث إن محمود فؤاد أفندي يدعي فوق ذلك بأنه مع التسليم بأن الست عزيزة مستحقة، فإنه عندما استولى على الريع كان حسن النية فهو غير ملزم بأدائه والمحكمة ترى من تصرفاته وإنكاره استحقاقها حتى بعد صدور الحكم الشرعي بها ما يحملها على التشكك في حسن النية؛ خصوصاً إذا لوحظ بأنه لم يترك النظر على الوقف، وأنه كان يدير الوقف تارة مع مشرف وأخرى مع ناظر وكلاهما يعرف أن الست عزيزة مستحقة. يضاف إلى ذلك أن استحقاق الست عزيزة ظاهر جلي من الاطلاع على كتاب الوقف الذي لم يحصل تعديل فيما يتعلق بها. فمن غير المحتمل أن يكون محمود أفندي جاهلاً لأحقيتها".
وحيث إن الثابت من المستندات المقدّمة لهذه المحكمة، وكانت مقدّمة من قبل لمحكمة الموضوع، أن محمود فؤاد كشك أفندي لم ينكر قط أن الست عزيزة هي عمته، وأنها ممن جعل الواقف لهم حق الانتفاع بسكنى المنزل الموقوف بعده أسوة بوالدتها وأخيها محمد أحمد أفندي وأختها الأخرى المرحومة الست أسما الذين آل لهم الاستحقاق عن الواقف بالفريضة الشرعية، وأن نصيب والدتها قد آل إليها وإلى باقي ورثتها الشرعيين، وأن نصيبها في ذلك عن والدها ووالدتها ستة قراريط، وإنما الذي ادعاه أن كتاب التغيير في الوقف - وهو المرجع الوحيد في الدعوى - قد جعل حقها في السكنى هي وأختها مدّة حياتهما على أن تنتفع به كل منهما ما دامت عزباً أو مات زوجها عنها، وأنها هي قد تزوّجت في حياة الواقف ولا تزال على عصمة زوجها مستدلاً في ذلك بما كانت قدّمته هي من المستندات لدى محكمة الاستئناف، وأن نصيبها لذلك قد آل إلى أخيها المرحوم محمد أحمد أفندي الذي هو من طبقتها ثم إلى أولاده، وأن هؤلاء تقاسموا سكنى المنزل مدّة، ثم أجرته مدّة أخرى على اعتبار أنهم المستحقون جميعاً دونها، وأنه هو شخصياً لم ينتفع بأكثر من نصيبه على هذا الاعتبار، وأنه حتى لو سلم باستحقاقها لشيء عنده عن المدّة السابقة لتاريخ دعواها الشرعية التي لم ترفعها إلا في منتصف سنة 1932، فإنه يكون غير ملزم بردّه لأنه كان حسن النية، ولا ردّ على مستهلك الثمرات بحسن نية طبقاً للمادة 146 من القانون المدني.
وحيث إن الثابت أيضاً من تلك المستندات أن منزل الوقف كان تحت يد ورثة محمد أحمد كشك أفندي وهم محمود فؤاد أفندي وإخوته عبد السلام أفندي ومحمد أفندي زكي وعطا أفندي وأختهم الست عزيزة (غير المدعى عليها في الطعن)، وأنهم تقاسموا الانتفاع بسكناه مدّة ثم بأجرته مدّة أخرى على اعتبار أنهم المستحقون وحدهم لسكناه، ثم لغلته دون الست عزيزة عمتهم، وعلى اعتبار أن كل ذكر منهم حصته 3/1 5 قيراط والست عزيزة 3/2 2 قيراط، وأن بعضهم كان يستبد بالبعض الآخر فينازعه في انتفاعه ويقبض الأجرة دونه. فمن ذلك أن عبد السلام كشك أفندي طالب أخويه محمود فؤاد أفندي ومحمد زكي أفندي بحساب حصته في المنزل الموقوف أوّلهما بصفته ناظراً على الوقف والآخر بصفته مشرفاً عليه باعتبارها 3/1 5 قيراط عن المدّة من أوّل يونيه سنة 1922 لغاية 10 يناير سنة 1926، فحكمت محكمة استئناف مصر بتاريخ 25 فبراير سنة 1936 برفض الدعوى قبل محمود فؤاد أفندي بناءً على ما ثبت لديها من أن معظم المنزل الموقوف كان مشغولاً بسكنى باقي المستحقين، وأن محمود فؤاد أفندي لم يستولَ على شيء من الريع. وثبت أيضاً أن الست عزيزة استشكلت في حكم سبق صدوره لأحد أخويها على الآخر بتمكينه من السكنى بقدر نصيبه الشرعي باعتباره 3/1 5 قيراط، وأنها رفعت على أخويها محمود فؤاد أفندي وعبد السلام أفندي دعوى طالبتهما فيها بصافي ريع استحقاقها في المنزل الموقوف عن المدّة من يونيه سنة 1927 إلى مارس سنة 1931، وأن المحكمة حكمت بإلزام عبد السلام أفندي وحده بما خصها من صافي ريع المنزل الموقوف لما تبينته من أنه وحده الذي كان واضعاً اليد عليه (راجع حكم محكمة الوايلي الصادر في 9 يناير سنة 1933 في القضية رقم 2331 سنة 1931)، وثبت أيضاً من الحكم الشرعي الصادر في 4 مايو سنة 1931 في القضية الشرعية رقم 27 سنة 1930 - 1931 أنه لما أقيم عبد السلام أفندي في 5 مارس سنة 1927 ناظراً على الوقف منضماً لأخيه محمود فؤاد أفندي أدار شئون الوقف منفرداً بالتأجير وقبض الأجرة وعدم صرفها للمستحقين. ولذلك طلب أخوه عزله من النظر، فحكمت المحكمة الشرعية بعزله وأثبتت في حكمها أنه "انفرد بإدارة الوقف، وأنه كثير المشاغبة وسيئ السير والسلوك، وأنه يجب إبعاده عن النظارة على هذا الوقف عملاً لمصلحة الوقف ومستحقيه".
وحيث إن ناظر الوقف إذا صرف لبعض المستحقين وحرم البعض الآخر تقصداً منه فالمحروم بالخيار إن شاء رجع على الناظر أو على من قبض حصته من المستحقين. وإذا كان الوقف صادراً على ذرّية الواقف وبرهن أحد على أنه من الذرّية، وأثبت استحقاقه، وكان الخلاف على استحقاقه متعلقاً بالنسب، فإن الحكم يكون مستنداً إلى وقت الوقف ويكون له الرجوع بحصته في السنين الماضية على من قبضها من المستحقين. أما إذا كان الخلاف غير متعلق بالنسب وإنما يتعلق بقيام الشرط فيه بعد تفسيره، كما إذا وقف على أولاد ولده وأثبت شخص أنه من أولاد البنات وقضي بدخوله، فإنه لا يستحق شيئاً من غلة السنين الماضية المستهلكة، لأن القضاء يكون مثبتاً أنه من الموقوف عليهم لا مظهراً، لوجود شبهة الاقتصار في شرط الواقف، فإن كانت الغلة موجودة استحق فيها نصيبه لضعف تلك الشبهة وإلا فلا.
وحيث إن حسن النية المبرئ لذمة ناظر الوقف عند الرجوع عليه في ماله بما يدّعيه أحد المستحقين من نصيب في غلة السنوات الماضية المعترف باستهلاكها وتوزيعها على باقي المستحقين إنما هو اعتقاده أن هذا الذي ثبت له الاستحقاق كان مع الاعتراف بنسبه للواقف غير مستحق لشيء بحسب الظاهر من كتاب الوقف، وأنه لهذا الاعتقاد، ولو كان متأولاً، كان يوزع غلة الوقف على مستحقيها الباقين بالفريضة الشرعية بينهم.
وحيث إن محكمة الاستئناف بتقريرها أن في إنكار محمود فؤاد كشك أفندي استحقاق عمته في الوقف حتى بعد صدور الحكم الشرعي لها به ما يحملها على التشكك في حسن نيته، خصوصاً إذا لوحظ أنه لم يترك النظر على الوقف وأن أخويه اللذين اشتركا معه في الإشراف وفي النظر على الوقف كانا يعرفان أنها مستحقة في الوقف، وخصوصاً وأن استحقاقها ظاهر جلي الاطلاع على كتاب التغيير - إن محكمة الاستئناف بتقريرها هذا تكون قد نفت عن محمود فؤاد أفندي حسن نيته بمعناها المتقدّم ذكره في هذا الحكم بما لم ينفها شرعاً وقانوناً. لأنه لم ينكر قط، لا قبل الحكم الشرعي ولا بعده، أن الست عزيزة عمته، ولا أنها من المنصوص على استحقاقهم في كتاب الوقف، بل اعترف ولا يزال يعترف بأنها كانت بعرضية أن تستحق السكنى لو لم تتزوّج ولو لم تبقَ في عصمة زوجها للآن، وأنه كان يعتمد في ذلك على كتاب التغيير، ولأن أخويه وشريكيه في النظر كانا هما أيضاً على مثل اعتقاده هذا فكانوا لذلك جميعاً يعتبرون أنفسهم المستحقين وحدهم لسكنى المنزل الموقوف على ما سبق الذكر.
وحيث إن محكمة الاستئناف إذ فعلت ذلك تكون خالفت حكم القانون وأحكام الفقه الإسلامي. ولذلك يتعين قبول الطعن ونقض الحكم المطعون فيه.
وحيث إن الدعوى صالحة للحكم.
وحيث إن الحكم المستأنف - فيما يتعلق باستئناف محمود فؤاد أفندي رقم 1241 سنة 51 قضائية - هو في غير محله للأسباب المتقدّمة الذكر، ويتعين الحكم بناءً على ذلك بإلغاء الحكم المستأنف بالنسبة لمحمود فؤاد أفندي ورفض دعوى الست عزيزة قبله بناءً على ما ثبت من حسن نيته على ما جاء بهذا الحكم.