مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد المدنية
وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الثاني (عن المدة من 5 نوفمبر سنة 1936م لغاية 26 أكتوبر سنة 1939م) - صـ 256

جلسة 3 فبراير سنة 1938

برياسة سعادة محمد لبيب عطية باشا وكيل المحكمة وبحضور حضرات: محمد فهمي حسين بك وحامد فهمي بك وعلي حيدر حجازي بك وأحمد مختار بك المستشارين.

(89)
القضية رقم 46 سنة 7 القضائية

دين ممتاز. السلف الزراعية. المساحة الجائز التسليف عليها. تحديدها في قانون السلف الزراعية رقم 54 لسنة 1929. مخالفة وزارة المالية لذلك. لا تأثير لها في صحة السلفة ولا تمس الامتياز المعطى لها قانوناً.
إن إعطاء وزارة المالية سلفة على زراعة تتجاوز مساحتها الحدّ المقرّر في القانون رقم 54 لسنة 1929 إنما هي مخالفة متعلقة بالتنظيم المالي للدولة فقط فلا تأثير لها في صحة السلفة المعقودة ولا تمس الامتياز الذي أعطاه لها القانون(1).


الوقائع

تتلخص وقائع هذه الدعوى - على ما يؤخذ من الحكم المطعون فيه وسائر المستندات المقدّمة وكانت من قبل تحت نظر محكمة الاستئناف - في أن الطاعنين بصفتهم نظار وقف ناشد سمعان أفندي أجروا إلى محمد علي شلبي أفندي وسيد أحمد علي شلبي أفندي أطياناً مساحتها 568 فدّاناً لمدّة ثلاث سنوات ابتداءً من 15 نوفمبر سنة 1928؛ ولما تأخر المستأجران عن سداد الأجرة المستحقة في 15 أكتوبر سنة 1929 استصدر نظار الوقف في 20 فبراير سنة 1930 حجزاً تحفظياً على الحاصلات الموجودة بالعين المؤجرة، ثم استصدروا في 10 فبراير سنة 1931 من محكمة الأزبكية الجزئية حكماً بإلزام المستأجرين بدفع مبلغ 6932 جنيهاً و116 مليماً وتثبيت الحجوزات التحفظية الموقعة، وذلك في القضية رقم 2190 أزبكية سنة 1930؛ ولما شرع الطاعنون في تنفيذ حكم محكمة الأزبكية تبين أن وزارة المالية كانت حجزت على محصول القطن وفاء لسلفة زراعية كانت أقرضتها لأشخاص استأجروا الأرض من باطن المستأجرين المتعاملين مع الطاعنين، وأنها باعت فعلاً محصول القطن هذا وخصمت قيمته من مطلوب السلفة.
عند ذلك رفع الطاعنون أمام محكمة مصر الابتدائية الدعوى رقم 1332 كلي سنة 1932 وأعلنوا صحيفتها لوزارة المالية وآخرين بتاريخ 29 و30 مارس و4 إبريل سنة 1932 مطالبين الحكومة وسائر المدّعى عليهم متضامنين بأن يدفعوا لهم مبلغ 960 جنيهاً و70 مليماً وهو ثمن القطن الذي حجزت عليه وزارة المالية وباعته. وقد استندوا في دعواهم هذه إلى أن السلفة التي حصل الحجز والبيع لتحصيلها قد تمت خلافاً لنصوص القانون رقم 54 لسنة 1929 الخاص بالسلف الزراعية، وأنها بهذه المخالفة تفقد الامتياز الذي منح للسلف الزراعية بمقتضى ذلك القانون وتصبح في مصاف السلف العادية التي يتقدّمها ممتازاً دينهم وهو دين إيجار.
نظرت محكمة مصر الابتدائية الدعوى ثم أصدرت بتاريخ 31 ديسمبر سنة 1934 حكماً بإلزام وزارة المالية وحدها بأن تدفع للطاعنين مبلغ 241 جنيهاً و745 مليماً والمصاريف المناسبة ومائتي قرش مقابل أتعاب المحاماة ورفضت طلب النفاذ وأخرجت باقي الخصوم بلا مصاريف.
استأنفت وزارة المالية هذا الحكم أمام محكمة استئناف مصر بعريضة أعلنتها للطاعنين في 28 إبريل سنة 1935 وقيدتها تحت رقم 530 سنة 52 قضائية، وطلبت فيها للأسباب التي أوردتها الحكم بقبول الاستئناف شكلاً وفي الموضوع إلغاء الحكم المستأنف ورفض دعوى الطاعنين وإلزامهم بمصاريفها ومقابل أتعاب المحاماة.
كذلك استأنف الطاعنون الحكم بعريضة أعلنوها في 11 و26 أغسطس سنة 1935 وقيدوها تحت رقم 5 سنة 53 قضائية طالبين قبول استئنافهم شكلاً وفي الموضوع تعديل الحكم المستأنف وإلزام وزارة المالية بأن تدفع لهم مبلغ 960 جنيهاً و601 مليم وفوائده بواقع المائة خمسة من تاريخ المطالبة الرسمية الحاصلة بالإنذار المؤرّخ في 17 سبتمبر سنة 1932 والمصاريف وأتعاب المحاماة عن الدرجتين وأن يكون الحكم في مواجهة باقي الخصوم المعلنين.
نظرت محكمة استئناف مصر الدعويين ثم قضت في 28 مايو سنة 1936 بقبول الاستئنافين شكلاً وقبل الفصل في الموضوع بندب أحد أعضاء الهيئة للانتقال لوزارة المالية كي يطلع على ما قد يكون بها من تعليمات موضوعة عن كيفية إعطاء السلفيات الزراعية تطبيقاً لقانون التسليف وعن طريقة التحقق من البيانات الواردة في طلبات السلفة. وقد تم الانتقال فعلاً وحدّدت للمرافعة جلسة 21 يناير سنة 1937 وترافع طرفا الخصومة ودفعت وزارة المالية دفعين فرعيين لا شأن لهما بهذا الطعن. ثم قضت المحكمة في 4 فبراير سنة 1937 في غيبة بعض الخصوم وفي حضور الطاعنين ووزارة المالية (أوّلاً) برفض الدفعين الفرعيين و(ثانياً) في الموضوع برفض استئناف وزارة المالية وإلزامها بمصاريفه وبقبول استئناف الطاعنين وتعديل الحكم المستأنف وإلزام وزارة المالية بأن تدفع للطاعنين مبلغ 394 جنيهاً و162 مليماً وفوائده بواقع المائة خمسة سنوياً من 24 أكتوبر سنة 1933 لحين السداد والمصاريف المناسبة عن الدرجتين، وأمرت بالمقاصة في أتعاب المحاماة ورفضت ما خالف ذلك من الطلبات.
لم يعلن هذا الحكم للطاعنين ولكن وكيلهم قرر في 25 مايو سنة 1937 بالطعن فيه بطريق النقض الخ.


المحكمة

وبما أن الطعن بني على وجوه خمسة تتلخص الأربعة الأولى منها في أن الحكم المطعون فيه قد خالف بقضائه بامتياز دين وزارة المالية على دين الوقف نظارة الطاعنين أحكام القانون رقم 54 لسنة 1929 الخاص بالسلف الزراعية وأساء تأويله، كما خالف قواعد الامتياز المبينة في المادة 601 مدني وأخطأ في تطبيقها. هذا فضلاً عن تناقضه وتبريره الحصول على السلف الزراعية بطريق التحايل ثم مخالفته المبادئ القانونية العامة الخاصة بإجراءات المرافعة.
وفي بيان ذلك يقول الطاعنون إن السلفة أعطيت لشخصين تزيد حيازتهما العقارية على الحدّ الأقصى الذي سمح به القانون رقم 54 لسنة 1929 وهي ثلاثون فدّاناً أو تسعون بشروط خاصة، فإنه مسلم بأن هذين الشخصين يحوزان 568 فدّاناً، وقد عقدا، مستترين وراء أشخاص مسخرين، السلفة الزراعية التي تتمسك بها وزارة المالية، فيكون ما عقداه غير منطبق على شرائط القانون المتقدّم ذكره، ويكون إذن دين وزارة المالية قبلهما ديناً عادياً لا تمتاز به على دين الوقف، ولا تنطبق عليه المادة 601 من القانون المدني التي تنطبق على دين الوقف وحده باعتباره أجرة للأطيان. أما عن تناقض الحكم وتبرير الحصول على السلف الزراعية بطريق التحايل فيقول الطاعنون إن الحكم مع تسليمه بأن قانون السلف الزراعية جاء معتدياً على حق المؤجر المقرر له في المادة 601 مدني بما رتبه من حق امتياز تلك السلف - مع تسليم الحكم بذلك وبأنه قانون ضيق التطبيق فقد أجاز للحكومة أن تتوسع في تطبيقه.
وفيما يتعلق بمخالفة الحكم للمبادئ القانونية الخاصة بإجراءات المرافعة قد ذكر الطاعنون أن الحكم المطعون فيه قرّر أنه لا يجوز لهم التمسك بما تحتويه التعليمات الصادرة من وزارة المالية للجهات الإدارية المكلفة بإعطاء السلف للمزارعين على اعتبار أن هذه التعليمات قصد بها تنظيم العمل وضمان حسن تنفيذ القانون - قرّر الحكم ذلك مع أن محكمة الاستئناف نفسها أصدرت في 28 مايو سنة 1936 حكماً تمهيدياً في القضية بانتقال أحد أعضاء هيئتها إلى وزارة المالية للاطلاع على هذه التعليمات وعلى طريقة التحقق من البيانات الواردة في طلبات السلفة، ونفذ هذا الحكم فعلاً، فأصبحت التعليمات جزءاً من أوراق الدعوى من حق الخصوم أن يتمسكوا به.
أما الوجه الخامس من وجوه الطعن فيتلخص في أن الطاعنين تقدّموا للمحكمة بدفاع مستمد من المادة 152 مدني التي تنص على مسؤولية السيد عن الغش أو الخطأ الذي يقع من عماله، وذكروا أن العمدة وشيخ البلد والصراف قد وقعوا على الأقل في تقصير شديد باعتمادهم استمارات السلف التي تمت على خلاف ما تقضي به شروط القانون فيجب أن تتحمل وزارة المالية، وهي بمثابة السيد، نتائج عملهم الذي أضر بالطاعنين.
تلك هي خلاصة وجوه الطعن المقدّمة.
وبما أن ما يأخذه الطاعنون على الحكم في أربعة الوجوه الأولى من طعنهم يرجع إلى ما جاء في الفقرات الآتية: "ومن حيث إنه لإمكان الفصل في هذا النزاع يلزم البحث في كنه القانون رقم 54 سنة 1929 والغرض الذي صدر من أجله ومدى القيود التي قيد الحكومة بها في إعطاء السلف. وترى المحكمة أن ذلك القانون إنما جمع بين غرضين: أما أوّلهما فهو العمل على تخفيف الضائقة المالية التي أثرت في المزارعين تأثيراً سيئاً أعجزهم عن الإنفاق على الزراعة بأن خصص جانباً من الأموال العامة لتقرضها الحكومة لأكبر عدد من المزارعين يتيسر إقراضه تخفيفاً للضائقة التي حلت بهم وعوناً لهم على إنتاج حاصلات الأرض بما يزيد في الثروة العامة. وتحقيقاً لهذا الغرض أجاز القانون للحكومة أن تقرض الزرّاع الذين يحوزون ثلاثين فداناً على الأكثر المبالغ اللازمة للصرف على الزراعة من بذور وأسمدة ومصاريف إنتاج. ثم صرح بزيادة المساحة من ثلاثين إلى تسعين فداناً بقرار من مجلس الوزراء. وأما الغرض الثاني فهو العمل على عدم إساءة استعمال هذه القروض أو التوسع فيها، وذلك بحصرها فيما أعدّت له من إنتاج الحاصلات دون غيره بالنص على أنه لا يجوز التسليف على أكثر من عشرة أفدنة إذا كانت الأرض التي في حيازة المقترض ثلاثين فداناً وعلى ثلاثين فداناً إذا كانت تلك المساحة تسعين، وكذلك النص على عدم جواز إعطاء سلفتين عن محصول واحد. ثم قضى القانون بعد ذلك بأن القروض التي تقرضها الحكومة طبقاً لنصوصه يكون لها امتياز مساوٍ لامتياز القروض التي تصرف على البذور والحصاد". ثم قال الحكم: "ومن حيث إن المحكمة ترى أن مخالفة القانون في شأن المساحة الجائز التسليف عليها إنما تتعلق بطبقة الزرّاع الذين رأى الشارع إقراضهم. وإذا كان القانون قد نص على قصر التسليف على طبقة الحائزين لثلاثين فداناً، ثم أجاز التوسع بقرار من مجلس الوزراء حتى يشمل التسليف طبقة الحائزين لتسعين فداناً، فذلك من الأمور التي مرجعها جسامة الأموال المخصصة للغرض الذي رمى إليه الشارع وكفايتها أو عدم كفايتها لأدائه. ولذا فإن وزارة المالية إذا توسعت في التسليف بأكثر مما أباح القانون إنما تكون قد خالفته من جهة التنظيم المالي للدولة لا من جهة المساس بمعاملات الأفراد. والذي يؤيد ذلك أن القانون نفسه قد رسم طريق التوسع في التسليف بالرجوع إلى مجلس الوزراء. ولو كان الأمر متعلقاً بالحقوق الخاصة بالأفراد لما وكل إلى السلطة الإدارية التوسع فيه. ومتى تبين هذا فإنه يتضح أن الحكومة إذا توسعت في التسليف حتى شملت المستأجرين الأصليين من الوقف الحائزين لأطيان مساحتها 568 فداناً إنما خالفت نصاً من النصوص التي لا تمس صحة السلفة ولا الامتياز الذي أعطاه لها القانون. وبالتالي لا يجوز للمدعين التمسك بهذا الوجه".
وبما أن هذا الذي ذكرته محكمة الاستئناف في تحديد طبيعة وقيمة شروط الحيازة العقارية واستخلاصها منه أن وزارة المالية إذا توسعت في التسليف بأكثر مما أباح القانون إنما تكون قد خالفته من جهة التنظيم المالي للدولة لا من جهة المساس بمعاملات الأفراد - - إن ما جاءت به محكمة الاستئناف في هذا الصدد هو النظر الصحيح في تفسير قانون السلف الزراعية وتقرّه هذه المحكمة وترى فيه الرد الكافي على جوهر ما تمسك به الطاعنون في أربعة الوجوه الأولى من طعنهم.
أما ما ذكره الطاعنون من أن المقترضين كانوا مسخرين ولم يكونوا في الواقع إلا مستأجرين صوريين يسترون محمد علي شلبي وأحمد علي شلبي، وأن محكمة الاستئناف قد استظهرت ذلك - هذا القول لا يجدي الطاعنين نفعاً حتى على فرض صحته. لأن وزارة المالية لم تكن طرفاً في التسخير أو الصورية، ومن المسلم به قانوناً أن المتعاقد حسن النية لا يمكن أن يحتج عليه من المسخر أو ممن سخره أو من دائنيهما. ويلاحظ في الدعوى الحالية أن الطاعنين لم يدعوا قط أن القرض كان صورياً، أو أن الحكومة وهي تؤدي السلف المعقودة كانت ملمة بالتسخير المقول به.
وبما أن ما جاء في الوجه الخامس من سكوت المحكمة عن وزن دفاع الطاعنين بشأن التقصير الفادح الذي يقولون إن العمدة وشيخ البلد والصراف قد وقعوا فيه - هذا القول مردود بأن الطاعنين لم يطلبوا قط من محكمة الموضوع أن تقضي لهم بشيء معين تأسيساً على هذه المسئولية، وما كان لهم أن يطلبوا ذلك والغش أو التقصير المدعى به لا شأن لهم به، ثم هو على أية حال لم يؤثر، كما تقدّم بيانه، على صحة عقد القرض الذي لم يكونوا طرفاً فيه.


(1) هذه القاعدة قرّرها الحكم المطعون فيه وأقرّتها محكمة النقض.