مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد المدنية
وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الثاني (عن المدة من 5 نوفمبر سنة 1936م لغاية 26 أكتوبر سنة 1939م) - صـ 452

جلسة 5 يناير سنة 1939

برياسة سعادة محمد لبيب عطية باشا وكيل المحكمة وبحضور حضرات: محمد فهمي حسين بك وحامد فهمي بك وسيد مصطفى بك ونجيب مرقس بك المستشارين.

(154)
القضية رقم 57 سنة 8 القضائية

مسئولية مدنية:
( أ ) عقد استئجار الصانع. الالتزامات المتولدة عنه. انتهاؤه بانقضاء هذه الالتزامات. مقاول. مهندس. مسئوليتهما عن خلل البناء. امتدادها إلى ما بعد تسلم المباني ودفع قيمتها. دعوى الضمان التي ترفع عليهما. شرطها. عيب خفي. خلل في متانة البناء. عيب ظاهر معروف. متى لا يسأل عنه المقاول؟
(ب) مقاول أو مهندس. مسئوليته عن خلل البناء. مسئولية عقدية مقررة قانوناً. كمسئولية البائع عن العيوب الخفية.
(جـ، د) قوّة الشيء المحكوم فيه. ضرر. السبب المباشر المولد للدعوى بحق التعويض. دعوى تعويض. حكم برفضها. إقامة دعوى أخرى على من حكم قبله بالرفض. لا يجوز. حكم بعدم قبول دعوى تعويض ثانية. استئنافه. إلغاؤه والحكم في الموضوع بالتعويض المطلوب. نقض الحكم وتأييد الحكم الابتدائي بعدم قبول الدعوى. (المادة 409 مدني)
1 - إن عقد استئجار الصانع لعمل معين، بالمقاولة على العمل كله أو بأجرة معينة على حسب الزمن الذي يعمل فيه أو العمل الذي يقوم به، يعتبر - بحسب الأصل - منتهياً بانقضاء الالتزامات المتولدة عنه على الصانع ورب العمل بتسلم الشيء المصنوع مقبولاً وقيام رب العمل بدفع ثمنه. لكن القانون المصري - على غرار القانون الفرنسي - قد جعل المقاول والمهندس ضامنين متضامنين عن الخلل الذي يلحق البناء في مدّة عشر سنوات ولو كان ناشئاً عن عيب في الأرض أو عن إذن المالك في إنشاء أبنية معيبة(1)، بشرط ألا يكون البناء في هذه الحالة الأخيرة معدّاً في قصد المتعاقدين لأن يمكث أقل من عشر سنين (المادة 409 من القانون المدني المقابلة للمادة 1792 من القانون الفرنسي). فبذلك مدّ القانون ضمان المقاول والمهندس إلى ما بعد تسلم المباني ودفع قيمتها على خلاف ما يقتضيه عقد المقاولة من انقضاء الالتزام بالضمان بتسلم البناء مقبولاً بحالته الظاهرة التي هو عليها.
ويجب لقبول دعوى الضمان هذه أن يكون العيب المدّعي في البناء خللاً في متانته، وأن يكون خفياً بحيث لم يستطع صاحب البناء اكتشافه وقت التسلم. أما ما كان ظاهراً ومعروفاً فلا يسأل عنه المقاول ما دام رب العمل قد تسلم البناء من غير أن يتحفظ بحق له.
2 - إن مسئولية المقاول أو المهندس عن خلل البناء بعد تسليمه طبقاً للمادة 409 لا يمكن اعتبارها مسئولية تقصيرية أساسها الفعل الضار من جنحة أو شبه جنحة مدنية، ولا يمكن كذلك اعتبارها مسئولية قانونية من نوع آخر مستقلة بذاتها ومنفصلة عن المسئولية العقدية المقررة بين المقاول وصاحب البناء على مقتضى عقد المقاولة، وإنما هي مسئولية عقدية قررها القانون لكل عقد مقاولة على البناء سواء أنص عليها في العقد أم لم ينص، كمسئولية البائع عن العيوب الخفية فإنها ثابتة بنص القانون لكل عقد بيع على أساس أنها مما يترتب قانوناً على عقد البيع الصحيح.
3 - إن الراجح في باب قوّة الشيء المحكوم فيه هو اعتبار كل ما تولد به للمضرور حق في التعويض عن شخصه أو عن ماله قِبل من أحدث الضرر أو تسبب فيه - كل ذلك هو السبب المباشر المولد للدعوى بالتعويض مهما تنوّعت أو تعدّدت علل التعويض أو أسبابه، لأن ذلك جميعاً من وسائل الدفاع أو طرقه (moyens). فمهما كانت طبيعة المسئولية التي بحثها القاضي في حكمه الصادر برفض دعوى التعويض، ومهما كان النص القانوني الذي استند إليه المدّعي في طلباته أو النص الذي اعتمد عليه القاضي في حكمه، فإن هذا الحكم يمنع المضرور من إقامة دعوى تعويض أخرى على من حكم قبله برفض دعواه، لأنه يعتبر دالاً بالاقتضاء على انتفاء مسئولية المدّعى عليه قِبل المدّعي عما ادّعاه عليه أياً كانت المسئولية التي أسس عليها طلبه عقدية أو غير عقدية أو تقصيرية، على معنى أن كل ذلك كان من طرق الدفاع ووسائله في دعوى التعويض، وإن لم يتناوله البحث بالفعل فيها، ولم يكن ليبرر الحكم للمدّعي على خصمه بتعويض ما.
4 - إذا كانت محكمة الدرجة الأولى في قضية تعويض رفعها صاحب بناء على مقاول بأنه أخل بواجبات الصناعة وخالف مقتضى المادة 409 من القانون المدني قد حكمت بعدم جواز الدعوى لسبق الفصل فيها بحكم صدر في دعوى تعويض سابقة مرفوعة من نفس صاحب البناء على المقاول عينه، ثم ألغت محكمة الاستئناف هذا الحكم مجيزة نظر الدعوى، وندبت خبيراً لمعاينة ما حدث بعد الحكم الصادر برفض الدعوى الأولى من شروخ في البناء، ثم قضت للمدّعي بالتعويض عما لحق بناءه بعد الحكم الأوّل من خلل وما كان لحقه قبل ذلك، ثم طعن لدى محكمة النقض في الحكمين الاستئنافيين ورأت هذه المحكمة أن الدعوى الصادر فيها هذان الحكمان هي والدعوى السابق الفصل فيها متحدتان في الموضوع والسبب والخصوم فإنها مع نقضها للحكمين المطعون فيهما تقضي برفض الاستئناف موضوعاً وتأييد الحكم الصادر من المحكمة الابتدائية بعدم قبول الدعوى.


الوقائع

تتضمن وقائع الدعوى - على ما يؤخذ من الحكمين المطعون فيهما ومن الأوراق والمستندات المقدّمة لهذه المحكمة وكانت مقدّمة من قبل لدى محكمة الاستئناف - أن عبد الغني محمد السنباطي أفندي تعاقد مع المعلم عبد الرحمن علي الحدودي بتاريخ 8 ديسمبر سنة 1921 على أن يقوم له ببناء دور واحد على قطعة أرض تبلغ مساحتها 175 متراً مربعاً بثمن قدره للمتر الواحد 110 قروش وبتغطية السقف بمونة خاصة بسعر المتر الواحد 40 قرشاً عدا الكمر الحديد الذي تعهد صاحب العمل باستحضاره على حسابه، وسلمه رسماً موقعاً عليه منهما ليقيم البناء مطابقاً له، وذلك بشروط مخصوصة منها أن يتم العمل في شهرين ونصف من هذا التاريخ، وأن يكون البناء على الجملة حسب أصول الصناعة. وفي 8 نوفمبر سنة 1922 تسلم عبد الغني محمد السنباطي البناء، وتحاسب مع المقاول على أثمانه على مقتضى كشف مقاس فبلغ الثمن 302 جنيه و22 مليماً، خصم منه ما دفع للمقاول، وظهر أن الباقي عليه 200 جنيه، تعهد بتسديدها على أقساط شهرية قيمة كل قسط منها عشرة جنيهات: أوّلها يستحق في 20 ديسمبر سنة 1922. وجاء في ورقة المحاسبة أن البناء يعتبر مرهوناً للمقاول حتى يستد بدينه، وأن صاحب البناء إذا تأخر في دفع ثلاثة أقساط متوالية من هذه الأقساط يصبح المبلغ جميعه مستحقاً مع المصاريف بدون إنذار رسمي.
وفي 6 يونيه سنة 1926 رفع صاحب البناء على المقاول دعوى مستعجلة لدى محكمة طنطا الجزئية ادّعى فيها أن المقاول قد ماطله في إنهاء العمل في الميعاد فاضطر إلى تسلم المباني غير كاملة وغير موافقة لشروط الاتفاق في نوفمبر سنة 1922، ثم استكملها هو وأقام السقف عليها على حسابه الخاص. ثم قال إن المقاول قد خالف الشروط المذكورة والرسم المقدّم له ليبنى على مقتضاه، وترتب على مخالفته للشروط وعدم مراعاته أصول الصناعة أن انهارت المباني وعمت فيها الشقوق. وطلب تعيين خبير لإثبات حالة المباني وتطبيقها على الشروط لمعرفة ما إذا كانت موافقة لها من عدمه، ومضاهاة الطبيعة على الرسم، وتقدير ما بها من خلل، وإظهار ما عساه أن يكون بها من العيوب الفنية الظاهرة والمستترة. فحكمت المحكمة المستعجلة بذلك، وقدّم الخبير المعين تقريره. وعلى إثر تقديم هذا التقرير قدّم صاحب البناء عريضة لرئيس محكمة طنطا الابتدائية طلب فيها توقيع الحجز تحت يده على المائة والعشرة من الجنيهات الباقية عليه للمقاول من ثمن البناء من أصل ما يستحقه من التعويض قبله، وتحديد يوم للمرافعة في هذه الدعوى أمام المحكمة ليسمع خصمه الحكم عليه أصلياً بمبلغ 1500 جنيه، وإزالة المباني على حسابه، وتسليم الأرض خالية منها في أسبوعين من تاريخ صدور الحكم، واحتياطياً الحكم بإلزامه بأن يدفع له مبلغ 1206 جنيهات و475 مليماً قيمة التعويضات حسب البيان الوارد بالعريضة مع إلزام المدّعى عليه بالمصاريف، فصدر الأمر وأعلن للخصم على العريضة في 6 يونيه سنة 1926. وقيدت الدعوى برقم 430 سنة 1927 كلي طنطا.
وبتاريخ 2 فبراير سنة 1928 حكمت المحكمة الابتدائية المذكورة برفض الدعوى بناءً على ما ثبت في تقرير خبير دعوى إثبات الحالة من أن البناء وجد مطابقاً للشروط وفقط ظهر أن كمية الطين المضافة إلى المونة أكثر مما هو متفق عليه، ولم يؤيد صحة ذلك بدليل فني، وأنه منصوص في عقد الاتفاق أن عملية البناء تكون تحت إشراف صاحب البناء، وأن ما وجد في البناء من التشقق البسيط نتج عن عدم جعل الخزان الذي عمله صاحب البناء أصم وعن حنفية الجار الملاصقة، ولا مسئولية على المقاول فيما نتج عنهما.
فرفع صاحب البناء استئنافاً عن هذا الحكم لدى محكمة استئناف مصر طالباً إلغاءه والحكم له بطلباته التي طلبها أمام المحكمة الابتدائية. وذلك بصحيفة أعلنت لخصمه في 27 مايو سنة 1928.
وقد ناقش المستأنف في صحيفة استئنافه أسباب الحكم المستأنف فأصر على أن المقاول لم يجرِ عمل البناء حسب الرسم، وأنه اضطر إلى تسلم البناء ناقصاً وتكملته على نفقته، وعلى أن مباني المنزل الحالية لا تتحمل مباني أدوار أخرى، وأنه في حالة إقامة مبانٍ علوية على هذه المباني المفككة والمتصدّعة تكون قصيرة العمر، وأن بناء المقاول على هذه الصورة يترتب عليه حرمان الطالب من إقامة مبانٍ علوية والانتفاع بريعها. وقد قدّر ما يفوته من ربح بسبب ذلك جميعاً 1206 جنيهات و942 مليماً. ثم رد على ما جاء بالحكم المستأنف من أن سبب الشروخ قيامه هو بعمل خزان غير أصم للصرف فقال إن الأمر ليس كذلك، وطلب انتقال محكمة الاستئناف للمعاينة. ثم قال: ومتى تقرّر أن الشروخ نشأت بسبب عيب الصناعة فتكون مسئولية ذلك واقعة قانوناً على المستأنف عليه. ثم قال إن ما ذكره الحكم المستأنف من أن عمل البناء كان تحت إشراف المستأنف هو خطأ قانوناً حتى ولو نص على ذلك في عقد المقاولة الخ.
وفي 13 فبراير سنة 1929 حكمت محكمة استئناف مصر بتأييد الحكم المستأنف ارتكاناً على الأسباب الواردة في الحكم المستأنف وعلى أنه "تمت المحاسبة بين الطرفين على قيمة المباني التي قام بها المستأنف عليه وتعهد المستأنف بسداد ما ظهر عليه ولم يدع وقت ذلك حصول مخالفة في الشروط أو تأخير في التنفيذ، واستلم المنزل بدون اعتراض من 8 نوفمبر سنة 1922 لغاية رفع هذه الدعوى في سنة 1927".
لكن صاحب البناء هذا الذي خسر دعواه واستئنافه رفع دعوى مستعجلة جديدة أمام محكمة بندر طنطا الجزئية قيدت بجدولها برقم 432 سنة 1931 قال فيها إنه جدّ في البناء بعد إثبات حالته الأولى أخطاء خطيرة تمنع من انتفاعه بمنزله وبناء أدوار علوية عليه، وطلب لذلك إثبات حالة المنزل ومعرفة ماجدّ به من العيوب والأخطاء بعد معاينة الخبير السابق في القضية الأولى ومعرفة سببها وتقدير المصاريف اللازمة لإصلاحها وتقدير التعويض عنها، فحكم بطلباته.
وبعد أن قدّم الخبير المعين تقريره رفع صاحب البناء على خصمه المقاول دعوى جديدة قيدت بجدول محكمة طنطا الابتدائية برقم 382 كلي طنطا سنة 1931 قال بصحيفتها المعلنة في 5 و6 إبريل سنة 1931 إن المقاول قام بعملية البناء بطريقة تتنافى مع قواعد الفن المعماري ومع المسئوليات المدنية المنوّه عنها في القانون العام فترتب على ذلك أن حدث بالبناء تصدّع شديد وأصبح بحالة لا يمكن معها الانتفاع به ما لم تعمل الترميمات والإصلاحات وأعمال التقوية التي يقتضيها الفن المعماري. وارتكن في ذلك على تقرير خبير دعوى إثبات الحالة وعلى المادة 409 من القانون المدني التي تنص على أن المقاول مسئول عن خلل البناء مدة عشر سنين ولو كان ناشئاً عن عيب الأرض أو كان المالك أذن في إنشائه. وطلب الحكم له على المقاول بمبلغ 442 جنيهاً مع المصاريف والأتعاب وتثبيت الحجز التحفظي الذي أوقعه تحت يده على مبلغ 206 جنيهات بتاريخ 4 إبريل سنة 1931 وجعله نافذاً وشمول الحكم بالنفاذ المؤقت وبلا كفالة. وبجلسة المرافعة دفع الحاضر عن المدّعى عليه بعدم جواز نظر الدعوى لسابقة الفصل فيها برفضها.
وبجلسة 14 نوفمبر سنة 1931 حكمت المحكمة الابتدائية بقبول الدفع الفرعي المقدّم من المدّعى عليه وعدم جواز نظر الدعوى لسابقة الفصل فيها الخ.
فاستأنف المدّعي المحكوم بعدم قبول دعواه هذا الحكم بتاريخ 18 يونيه سنة 1933 لدى محكمة استئناف مصر طالباً في الموضوع الحكم برفض الدفع الفرعي وإلزام المدّعى عليه بأن يدفع له 442 جنيهاً و170 مليماً قيمة ما أثبته الخبير الذي ندبته محكمة بندر طنطا في قضية إثبات الحالة رقم 432 سنة 1931 ومصاريف الدرجتين وأتعاب المحاماة بحكم مشمول بالنفاذ المؤقت وبلا كفالة... ... الخ. وبتاريخ 28 فبراير سنة 1934 حكمت محكمة استئناف مصر بقبول الاستئناف شكلاً وفي موضوعه بإلغاء الحكم المستأنف وبجواز نظر الدعوى وقبل الفصل في الموضوع بندب ثلاثة خبراء مهندسين معماريين لأداء المأمورية المبينة بأسباب الحكم. وبعد أن باشر الخبراء مأموريتهم وقدّموا تقريرهم حصلت المرافعة في الدعوى فأصر الحاضر مع المستأنف على طلباته الواردة بصحيفة الاستئناف، والحاضر مع المستأنف عليه طلب تأييد الحكم المستأنف.
وبتاريخ 15 يناير سنة 1935 حكمت محكمة الاستئناف في الموضوع بإلزام المستأنف عليه عبد الرحمن علي الحدودي بأن يدفع للمستأنف عبد الغني محمد السنباطي 150 جنيهاً... ... الخ.
وبتاريخ 13 يونيه سنة 1938 قرّر حضرة الأستاذ عبد السلام زكي بك المحامي بالطعن بالنقض في الحكمين الاستئنافيين الصادرين بتاريخ 28 فبراير سنة 1934 و15 يناير سنة 1935 المتقدّمي الذكر اللذين لم يعلنا، وأعلن تقرير الطعن... ... الخ.


المحكمة

وحيث إن مبنى الطعن في الحكم الأوّل أن محكمة الاستئناف حين قضت بإلغاء الحكم المستأنف وبجواز نظر الدعوى وبندب ثلاثة من الخبراء للقيام بالمأمورية المبينة بهذا الحكم قد ماشت صاحب البناء فيما ادّعاه من أن دعوى التعويض التي رفعها وحكم ابتدائياً بجواز نظرها لسبق الفصل فيها هي عن خلل جديد نشأ في المباني التي أقامها له الطاعن بعد ثبوت حالتها للمرة الأولى (أي بقضية إثبات الحالة رقم 2481 سنة 1926 بندر طنطا) وبعد صدور الحكم في دعوى التعويض الأولى (أي الدعوى رقم 430 سنة 1927 كلي طنطا والاستئناف رقم 1048 سنة 50 قضائية) برفضها. كما ماشته فيما ادّعاه من أن السبب الذي بنى عليه دعواه هو عدم اتباع الأصول الفنية التي كان واجباً على المقاول مراعاتها وتقضي عليه بنزول الأساسات إلى متر ونصف، وذلك عملاً بنص المادة 409 من القانون، وبصرف النظر عن عقد المقاولة المحرّر بين الطرفين. ويقول الطاعن إنه كان ينبغي لمحكمة الاستئناف، حتى إذا صح هذا النظر قانوناً، ألا تتعجل القضاء بإلغاء الحكم المستأنف وبجواز نظر الدعوى قبل أن تتثبت مما إذا كان هذا الخلل الذي ادعاه رافع الدعوى كان جديداً ولم يكن أصله محل بحث في الدعوى الموضوعية أو لم يكن كذلك. أما أن تقضي بجواز نظر الدعوى ثم تندب ثلاثة من الخبراء تكون مأموريتهم إثبات حالة المباني وما جدّ فيها من خلل وعيوب وأخطاء بعد إثبات الحالة الأولى في القضية رقم 2481 سنة 1926 بندر طنطا، وبيان سبب ما يظهر وجوده من الخلل أو العيوب أو الأخطاء الناشئة والمستجدّة الخ. فهذا قلب للوضع لا يقبل قانوناً. ويقول الطاعن إنه مما يؤكد نظره هذا أن الخبراء الثلاثة الذين ندبتهم محكمة الاستئناف قالوا إن الشروخ الموجودة بالجهة الشرقية وبالحائط القبلية من شرق هي بعينها التي أثبتها خبير القضية الأولى. وبعد أن قالوا إن شروخ الجهات الأخرى استجدّت قالوا إنها ليست مستجدّة بالمعنى الصحيح، بل كانت موجودة بحالة شعرية وزادت بعد المعاينة الأولى. ويقول الطاعن تتمة لحجته هذه إن محكمة الاستئناف لو كان اقتصر حكمها على القضاء بندب الخبراء لتحقيق ما إذا كانت الشروخ التي يشكو منها صاحب البناء جديدة أم لا لتبين لها وجوب الحكم بتأييد الحكم المستأنف القاضي بعدم جواز نظر الدعوى. ويزيد الطاعن على ذلك فيقول إن موضوع دعوى التعويض الثانية التي صدر فيها الحكمان المطعون فيهما هو بعض موضوع الدعوى الأولى التي حكم برفضها، كما أن سبب الدعوى الثانية هو كذلك سبب الدعوى الأولى أو بعض أسبابها. ذلك لأن صاحب البناء كان يطلب الحكم له في الدعوى الأولى بمبلغ 1206 جنيهات و475 مليماً تعويضاً له عن العيوب الخفية والظاهرة في المباني، وكان يؤسسها على إهمال المقاول وعدم مراعاته شروط الاتفاق وأصول الصناعة، ويذكر أن مسئولية المقاول عن ذلك هي لعشر سنوات بنص القانون. أما في الدعوى الحالية فقد طلب الحكم بإلزام الطاعن بأن يدفع له تعويضاً عن خلل المباني قدره 442 جنيهاً، وهو بعض التعويض الذي كان مطلوباً في الدعوى الأولى، وقد جعل أساس دعواه وسببها القانوني أن المقاول قام بعملية البناء بطريقة تتنافى مع قواعد الفن المعماري والتي تقضي بها المادة 409 من القانون المدني.
وحيث إن مبنى الطعن في الحكم القطعي الثاني الصادر في 15 يناير سنة 1935 أنه بني على الحكم الأوّل المخالف للقانون، فمتى تعين نقض هذا الحكم الأوّل لما سبق ذكره وجب نقض الحكم الثاني المؤسس هو عليه. ويزيد الطاعن على ذلك فيبين خطأ الحكمين فيما قاما عليه من اعتبار الدعويين مختلفتين موضوعاً وسبباً على الوجه الذي فصله في مذكرته.
وحيث إنه يبين مما تقدّم ذكره في وقائع هذا الحكم أن رب العمل بعد أن تسلم المباني وحاسب المقاول على ما يستحقه من أجر وثمن لعمله بتاريخ 8 من ديسمبر سنة 1921 وتعهد للمقاول بدفع ما بقي له وقدره مائتا جنيه على أقساط شهرية قيمة كل قسط منها عشرة جنيهات قد ادعى في يونيه سنة 1926 في دعوى إثبات الحالة الأولى رقم 2481 سنة 1926 بندر طنطا الجزئية وفي دعوى التعويض الأولى أن المباني أقيمت مخالفة لعقد الاتفاق فانهارت وعمت فيها الشقوق، وأصبح ضررها محققاً، وأن هذا مترتب على إهمال المقاول وعدم مراعاته الاتفاق وأصول الصناعة، وطلب الحكم بإلزام الطاعن بأن يدفع له تعويضاً عما خسره وفاته من ربح قدره 1206 جنيهات و475 مليماً، وأن المحكمة الابتدائية حكمت برفض هذه الدعوى بتاريخ 2 فبراير سنة 1928 ومحكمة الاستئناف حكمت بالتأييد بتاريخ 13 فبراير سنة 1929. وكلا الحكمين قد أثبت أن المقاول لا مسئولية عليه فيما نسبه إليه من الإهمال والخطأ والتقصير ومخالفة أصول الصناعة، وأن عملية البناء كانت تحت إشراف صاحبه، وأن ما جد في الأبنية من الهبوط والتشقق نتج عن أسباب أجنبية عن عمل المقاول بعضها من خطأ صاحب البناء نفسه وبعضها من غيره. ويبين كذلك أن صاحب البناء ادعى في دعوى التعويض الثانية أن المقاول قام بعملية البناء بطريقة تتنافى مع قواعد الفن المعماري فترتب على ذلك أنه جدّ بالبناء تصدّع وتشقق شديدان، وأصبح بحالة لا يمكن معها الانتفاع به ما لم تعمل فيه الترميمات وأعمال التقوية اللازمة التي يقتضيها الفن، وارتكن على تقرير خبير دعوى إثبات الحالة الثانية رقم 432 سنة 1931 وعلى المادة 409 من القانون المدني، وأن المقاول دفع بعدم جواز نظر هذه الدعوى الثانية لسابقة الفصل فيها بالحكمين السابقي الذكر الصادرين في دعوى التعويض الأولى المتقدّمة، فحكمت المحكمة الابتدائية بذلك بتاريخ 14 نوفمبر سنة 1931 ثم حكمت محكمة الاستئناف بتاريخ 28 فبراير سنة 1934 بإلغاء الحكم المستأنف وبجواز نظر الدعوى وبندب ثلاثة من الخبراء لإثبات ما جد في المباني من خلل جديد بعد الحكم في دعوى التعويض الأولى، ثم حكمت بعد ذلك بتاريخ 15 يناير سنة 1935 بإلزام المقاول بأن يدفع لصاحب المباني 150 جنيهاً والمصاريف بانية حكمها هذا على أن المقاول لم يراعِ أصول الفن في بناء الأساس القائم على المنزل، لأنه لم يعمل له دكة، ولأنه لم ينزل بالأساس إلى عمق متر ونصف، فيجب لذلك أن يتحمل المقاول مصاريف الأعمال اللازمة لتقوية وإصلاح المنزل الذي بناه على غير أصول الفن، وأن يعوّض صاحب البناء عما لحقه من الضرر بسبب ما سيبقى بالمنزل من التشويه وما يحرمه من رغبة الغير في شرائه، وتقدّر المحكمة ذلك كله بمائة وخمسين جنيهاً مراعية ظروف الدعوى وما تقتضيه من مراعاة المباني في جملتها والأخطاء المشتركة الواقعة من الطرفين؛ مع أن الحكم الصادر برفض دعوى التعويض الأولى قد بني (على ما شهد به صاحب البناء في صحيفة استئنافه الذي رفعه عن الحكم المذكور) على أن ما وجد في البناء من التشقق سببه جعل الخزان غير أصم ووجود حنفية مجاورة وملاصقة للمنزل.
وحيث إن الأصل في عقد استئجار الصانع لعمل معين، بالمقاولة على العمل كله أو بأجرة معينة على حسب الزمن الذي يعمل فيه أو على حسب العمل الذي يعمله، أنه يعتبر منتهياً بانقضاء الالتزامات المتولدة عنه على الصانع ورب العمل بتسلم الشيء المصنوع مقبولاً وقيام رب العمل بدفع ثمنه. هذا هو الأصل في فقه الباب كله. لكن القانون المصري على غرار القانون الفرنسي قد جعل المقاول والمهندس ضامنين متضامنين عن خلل البناء مدة عشر سنوات ولو كان ناشئاً عن عيب الأرض أو كان المالك أذن في إنشاء أبنية معينة بشرط ألا يكون البناء في هذه الحالة الأخيرة معدّاً في قصد المتعاقدين لأن يمكث أقل من عشر سنين (المادة 409 من القانون المدني المقابلة للمادة 1792 من القانون الفرنسي)، فمدّ بذلك ضمان المقاول والمهندس إلى ما بعد تسلم المباني ودفع قيمتها على خلاف ما يقتضيه عقد المقاولة من انقضاء الالتزام بالضمان بتسلم البناء مقبولاً بحالته الظاهرة التي هو عليها. ولذلك فهم من القانونين أنه يجب لقبول دعوى الضمان هذه أن يكون العيب خللاً في متانة البناء، ذلك لأن تسلم رب العمل البناء مقبولاً منه من شأنه أن يغطي ما عداه من العيوب التي لا تؤثر في هذه المتانة مما يعتبر المقاول غير مسئول عنه، وأن يكون العيب خفياً لم يستطع صاحب البناء كشفه عند تسلمه. فما عدا ذلك مما كان ظاهراً ومعروفاً لا يعتبر المقاول مسئولاً عنه ما دام رب العمل قد تسلم البناء تسلماً غير مقيد بتحفظ ما. فمسئولية المقاول أو المهندس عن خلل البناء بعد تسلمه على مقتضى المادة 409 لا يمكن إذن اعتبارها مسئولية تقصيرية أساسها الفعل الضارّ من جنحة أو شبه جنحة مدنية - تلك المسئولية التي بين القانون المدني أحكامها في المواد 151 وما بعدها. وكذلك لا يمكن اعتبارها أنها مسئولية قانونية من نوع آخر مستقلة بذاتها ومنفصلة عن المسئولية العقدية المقررة بين المقاول وصاحب البناء على مقتضى عقد المقاولة حتى يحتمل أن يصح اعتبار كل منهما سبباً لدعوى تعويض ترفع إحداهما بعد الأخرى بحيث لا يكون الحكم الصادر في الدعوى الأولى برفضها مانعاً من قبول الدعوى الثانية والحكم فيها بالتعويض - لا يصح ذلك لأن المسئولية المترتبة على المادة 409 هي مسئولية عقدية قررها القانون لكل عقد مقاولة على البناء نص عليها في عقدها المكتوب أو لم ينص عليها فيه، فهي كمسئولية البائع عن العيوب الخفية قد ثبتت بنص القانون لكل عقد بيع وعلى كل بائع على أساس أنها مما تترتب قانوناً على عقد البيع الصحيح - لا يصح ذلك لما تقدّم ولأن السبب في الدعويين يكون هو في الحقيقة المسئولية العقدية ويكون الحكم الصادر برفض الدعوى الأولى المؤسسة على ضمان العقد مانعاً من قبول دعوى أخرى تؤسس على الضمان المبين حكمه في المادة 409 المتقدّمة الذكر. على أن الراجح فقهاً في باب قوّة الشيء المحكوم به هو اعتبار كل ما تولد به للمضرور من حق التعويض عن نفسه أو عن ماله بذمة من أحدث الضرر أو تسبب فيه أنه هو السبب المباشر المولد للدعوى به مهما تعدّدت علل هذا السبب الأوّل أو تنوعت أسبابه الثانية، لأن ذلك جميعاً مما يعتبر من وسائل الدفاع أو طرقه (Moyens). ولذلك قيل إنه مهما تكن طبيعة المسئولية التي بحثها القاضي في حكمه الصادر برفض دعوى التعويض، ومهما يكن النص القانوني الذي استند عليه المدّعي في طلباته، واستند عليه القاضي في حكمه، فإن الحكم الذي يصدره يمنع المضرور من إقامة دعوى تعويض أخرى على من حكم قبله برفض دعواه الأولى. ذلك لأن الحكم الصادر برفض الدعوى يعتبر دالاً باقتضائه على أن لا مسئولية على المدّعى عليه قبل المدّعي عما ادعاه عليه أياً كانت مسئوليته المزعومة عقدية أو غير عقدية أو تقصيرية، على معنى أن كل ذلك كان من طرق الدفاع ووسائله في دعوى التعويض (وإن لم يكن محل بحث في الحكم في واقع الأمر) ولم يكن ليبرر أمام المحكمة الحكم للمدّعي على خصمه بتعويض ما.
وحيث إن محكمة الاستئناف بقضائها في الدعوى الحالية أوّلاً بإلغاء الحكم المستأنف وبنظر دعوى التعويض الثانية وبندب ثلاثة من الخبراء للتحقق مما إذا كان قد استجد في مباني المنزل تصدّع أو تشقق جديد بعد الحكم في دعوى التعويض الأولى برفضها، وبقضائها ثانياً بعد ذلك بإلزام الطاعن بأن يدفع التعويض الذي حكمت به على أساس اختلاف الموضوع والسبب في الدعويين مع ظهور أن التعويض المطلوب في الدعوى الثانية والذي حكم به هو بعض التعويض الذي طلب في الدعوى الأولى وحكم برفضه جملة وتفصيلاً على أساس أن المقاول غير مسئول عن تشقق المباني وهبوط أساسها لأنهما قد ترتبا على عمل أجنبي عن المقاول، ومع ظهور أن السبب في الدعويين كان واحداً وهو مخالفة المقاول لحكم العقد وأصول الصناعة وحكم القانون (أي لحكم المادة 409 من القانون المدني وإن لم يذكر هذا النص بالذات في الدعوى) - إن محكمة الاستئناف بقضائها هذا تكون قد خالفت القانون، وحرمت المقاول من حق اكتسبه نهائياً على مقتضى حكم نهائي سابق فاصل في النزاع عينه بينه وبين خصمه. وذلك حتى على تقدير أن ما طلب من التعويض في الدعوى الثانية كان عن حدث جديد، لأن الحكم في الدعوى - إذ صدر برفضها على أساس أن المقاول غير مسئول لصاحب البناء عما حدث من الهبوط في أساس المباني ومن التشقق والتصدّع في جدرانها وحيطانها وأن المسئول عن ذلك هو غيره - يكون مانعاً من غير شك من قبول دعوى التعويض الثانية المرفوعة عن تشقق جديد مترتب على هبوط في أساس المباني ولو جعلت العلة في هذا الهبوط عدم النزول بالأساس إلى عمق 1.5 بدلاً من متر واحد، لأن هذه العلة لا تصلح قانوناً لأن تكون سبباً تقام عليه دعوى التعويض الثانية لما ذكر.
وحيث إنه لذلك يتعين نقض الحكمين المطعون فيهما والحكم في الاستئناف المرفوع من المدّعى عليه في الطعن برفضه موضوعاً وتأييد الحكم الصادر بعدم قبول الدعوى رقم 382 سنة 1931 كلي طنطا.


(1) يلاحظ أن هذه اللفظة حرّفت في النص العربي للمادة 409 من القانون المدني فكتبت "معينة" وصحتها "معيبة" (Vicieuses) كما هو واضح من النص الفرنسي لهذه المادة.