مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد المدنية
وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الثاني (عن المدة من 5 نوفمبر سنة 1936م لغاية 26 أكتوبر سنة 1939م) - صـ 554

جلسة 11 مايو سنة 1939

برياسة حضرة محمد فهمي حسين بك وبحضور حضرات: حامد فهمي بك وعبد الفتاح السيد بك وعلي حيدر حجازي بك ونجيب مرقس بك المستشارين.

(182)
القضية رقم 4 سنة 9 القضائية

وضع يد. مناط اعتباره قانوناً. الحيازة. نية التملك. مال ينشئ الاستيلاء عليه الملك. مجرّد حيازته. لا تكفي لاعتبار المستولي منتوياً التملك. وجوب إجراء أعمال ظاهرة ومستمرة. تسوير مثل هذا المال أو المرور فيه. لا يكفي في ثبوت وضع اليد عليه. مال متلقي عن مالكه بسند قانوني. حيازته ووضع اليد عليه. ثبوتهما بمجرّد تسلمه. متى يعتبر التسلم واقعاً؟ أرض فضاء تلقيت ملكيتها بالتخلية من ملاكها المتعاقبين. إنشاء حدود لها. المرور فيها. دفع أموالها. مظاهر كافية في ثبوت وضع اليد. (المادتان 76 و271 مدني)
الأصل أن وضع اليد لا اعتبار له قانوناً إلا بالنسبة لمن أراد حيازة المال لنفسه وحازه بنية تملكه. والأصل في الحيازة أنها دخول المال في مكنة الحائز وتصرفه فيه التصرفات المادية القابل لها. غير أنه إذا كان المال من نوع ما يكون الاستيلاء عليه منشئاً للملك لا ناقلاً له إمّا لكونه غير مملوك أصلاً لأحد أو لكونه سبق فيه الملك لأحد، فإن مجرّد دخوله في مكنة من استولى عليه لا يكفي قانوناً لاعتبار هذا المستولي منتوياً التملك ما لم يكن قد أجرى فيه من الأعمال الظاهرة المستمرة ما يدل على قيام هذه النية لديه. فتسوير هذا النوع من المال أو المرور به لا يكفي وحده في ثبوت حيازته أو وضع اليد عليه. وأمّا الأموال التي تتلقى ملكيتها عن مالكها بسند معتبر قانوناً، فإن الحيازة فيها ووضع اليد عليها يثبتان لمتلقيها بمجرّد تسلمها بالحالة التي هي عليها؛ والتسلم يعتبر تاماً متى وضعت تحت تصرفه بحيث يمكنه الانتفاع بها بدون مانع ولو لم يتسلمها بالفعل. ومتى اكتسبت الحيازة واليد على هذا الوجه فإنهما يبقيان لمن اكتسبهما حافظين خصائصهما مفيدين أحكامهما ما دام لم يعترضه من يعكرهما عليه أو يزيلهما عنه ويسكت هو المدة التي تستوجب بمرورها يد المعترض حماية القانون. فإذا كان الثابت أن الأرض المتنازع عليها فضاء، وليست من الأراضي التي لم يسبق فيها الملك لأحد، بل هي من الأراضي التي تلقيت الحيازة فيها بالتخلية من ملاكها المتعاقبين، فيكفي في ثبوت وضع اليد عليها القيام - مع عدم المنازع - بإنشاء حدود لها والمرور فيها ودفع الأموال المستحقة عليها. وإذن فالحكم الذي لا يكتفي في ثبوت وضع اليد عليها بهذه المظاهر، بل يشترط تسويرها على الأقل يكون حكماً مخطئاً في تكييف وضع اليد ويتعين نقضه.


الوقائع

تتضمن وقائع هذه المادة - على ما جاء بالحكم المطعون فيه والمستندات المقدّمة لهذه المحكمة وكانت مقدّمة من قبل لدى المحكمة الاستئنافية - أن الطاعنين رفعا على المدّعى عليه "محمود محمد مصطفى" دعوى أمام محكمة الوايلي الجزئية قيدت بجدولها برقم 2350 سنة 1936 طلبا بها الحكم بمنع تعرّض المدّعى عليه للأرض المبينة بصحيفة الدعوى مع إعادة يدهما عليها بحكم مشمول بالنفاذ المعجل وبدون كفالة مع إلزام المدّعى عليه بالمصاريف ومقابل أتعاب المحاماة. وقد قالا بصحيفة دعواهما وعند المرافعة أمام المحكمة المذكورة إنهما يملكان قطعة أرض فضاء مساحتها فدانان و3 قراريط و7 أسهم بناحية كفر فاروق بصحراء عين شمس بعقد هبة رسمي صدر لهما من والدتهما أمام مكتب العدل بمدينة سان باتولو بجمهورية البرازيل في 10 آيار سنة 1929، وإن والدتهما تملك هذه القطعة من طنوس خليل بمينى بمقتضى عقد بيع عرفي تاريخه 3 من إبريل سنة 1906 ومسجل في 23 من مايو سنة 1911، وإن هذا البائع تملك القطعة المذكورة وغيرها بطريق المشتري بالمزاد العلني الإداري لدى مديرية القليوبية في 18 من مايو سنة 1895. قالا ولأن هذه الأرض بطبيعتها من أراضي البناء، وكان الغرض من شرائها هو إعدادها للبناء، ولأن المالكين لها غير مقيمين بالديار المصرية، كان الدكتور منصور قطيط بك ابن عمهما يمرّ عليها من وقت لآخر ليلاحظ عدم حصول اغتصاب جزء منها ممن ينتهزون الفرص لاغتيال مثل هذه الأراضي في غفلة من أصحابها. وفي يوم 10 من فبراير سنة 1936 لاحظ الدكتور منصور بك أن شخصاً اسمه محمد السيسي وزوجته زرعا بضعة أشجار، وبنيا خصا من البوص، ودقا طلمبة، وذلك في مساحة لا تتجاوز 250 متراً مربعاً من الأرض المذكورة، فقدّم شكواه للبوليس فحقق الواقعة وثبت من التحقيق أن محمود محمد مصطفى أفندي هو الذي دفع بالسيسي وزوجته لهذا التعرّض. ولذلك أمرت النيابة بحفظ الشكوى إدارياً وبالكتابة للقسم لإبقاء الأرض تحت يد المشتكي وتمكينه من ذلك، ولصاحب الشأن أن يرفع دعواه مدنياً أمام الجهة المختصة.
قدّم المدّعيان عقود التمليك وضمت المحكمة الشكوى الإدارية رقم 419 سنة 1936 والتحقيقات التي تمت فيها.
وبتاريخ 13 من مايو سنة 1936 حكمت المحكمة الجزئية بإحالة الدعوى إلى التحقيق لإثبات ونفي ما ورد بالأسباب، وسمعت المحكمة شهود الإثبات والنفي، ثم حكمت بتاريخ 7 من مارس سنة 1937 بمنع تعرّض المدعى عليه للمدعين في قطعة الأرض المبينة الحدود بعريضة الدعوى، وإعادة يد المدعين عليها، وألزمت المدعى عليه بالمصاريف و100 قرش أتعاباً للمحاماة للمدعين.
استأنف المحكوم عليه هذا الحكم لدى محكمة مصر الابتدائية طالباً إلغاءه مع إلزام المستأنف عليهما بالمصاريف والأتعاب عن الدرجتين.
وبتاريخ 5 من إبريل سنة 1938 حكمت محكمة مصر بقبول الاستئناف شكلاً وموضوعاً بإلغاء الحكم المستأنف ورفض الدعوى وإلزام المستأنف عليهما بمصاريفها في الدرجتين و200 قرش أتعاب محاماة عنهما.
لم يعلن هذا الحكم إلى الطاعنين ولكنهما طعنا فيه بطريق النقض في 26 من ديسمبر سنة 1938 بتقرير أعلن إلى المدعى عليه في 31 من الشهر المذكور الخ.


المحكمة

ومن حيث إن مبنى الطعن أن المحكمة الاستئنافية حين حكمت بإلغاء الحكم المستأنف ورفض دعوى الطاعنين قد أخطأت في تطبيق القانون. وذلك من ناحية تقريرها أن القانون لا يعرف في مثل الدعوى الحالية إلا وضع اليد المادي على قطعة الأرض الفضاء المتنازع عليها، وأنه لا يكفي في القول بثبوت حيازة المدعيين مرور وكيلهما كل شهر مرة لأنها ليست طريقاً وإنما هي أرض فضاء معدّة للبناء كان ينبغي تسويرها على الأقل. ويقول الطاعنان إن في هذا تخليطاً بين وضع اليد على مال وبين الانتفاع به فيما أعدّ له، وإن القانون لا يمنع أن يكون في أرض البناء وضع يد قانوني غير مصحوب بانتفاع، وأن يكون مظهره إقامة الحدود والعلامات لفصلها عما جاورها والمرور عليها، والقيام بدفع أموالها مع عدم المنازع، كما وأن القانون لا يوجب تسوير الأرض الواسعة المعدّة للبناء.
وحيث إن الأصل أن وضع اليد على مال لا اعتبار له قانوناً إلا بالنسبة لمن أراد حيازة المال لنفسه وحازه فعلاً بنية تملكه. والأصل في الحيازة أنها هي دخول المال المحوز في مكنة الحائز وتصرفه فيه فعلاً التصرفات المادية القابل لها. غير أن المال إذا كان من نوع ما يكون الاستيلاء عليه منشئاً للملك لا ناقلاً له سواء أكان غير مملوك أصلاً لأحد أم كان قد سبق فيه الملك لأحد، فإن مجرّد دخوله في مكنة من استولى عليه لا يكفي قانوناً لاعتبار هذا المستولي واضعاً اليد بنية التملك ما لم يجرَ فيه من الأعمال الظاهرة المستمرة ما يدل على أنه إنما استولى عليه ليتملكه لنفسه بوضع اليد المملك بمضي المدّة. وهذا النوع من الأموال لا يكفي لاعتباره محوزاً موضوعاً عليه اليد قانوناً مجرّد تسويره أو المرور به. أما الأموال التي تتلقى عن مالكها بسند معتبر قانوناً فإن حيازة متلقيها لها ووضع يده عليها يقعان له بمجرّد تسلمه إياها بالحالة التي هي عليها، والتسلم يقع بمجرّد وضعها تحت تصرفه بحيث يمكنه وضع يده عليها والانتفاع بها بدون مانع ولو لم يتسلمها بالفعل. ومتى اكتسب الحائز الحيازة ووضع اليد على هذا الوجه المعتبر فإنهما يبقيان له حافظين خصائصهما مفيدين أحكامهما ما لم يتعرّض له من يعكرهما عليه أو يزيلهما عنه ويسكت هو على التعرّض المدة التي تستوجب بها اليد الجديدة حماية القانون.
وحيث إن المحكمة الجزئية بعد أن فصلت وقائع الدعوى وما تم فيها من تحقيق أمام البوليس وأمام النيابة وبحثت الأقوال والأوراق التي قدّمت لها من طرفي الخصومة قالت: "بما أن الذي تستخلصه من... ... أن يد المدّعى عليه طارئة عارضة راجحة بشأنها مظاهر الغصب والتعرّض الذي لا يتعدّى مداه من الزمن حدّ الأيام القليلة التي ذكرها أخو المدعيين في شكواه ونطقت بصحة أقواله معاينة الضابط المادية، وكان شهود المدّعى عليه أنفسهم أفصح في تأييدها من أقوال شهود المدعيين" ...ثم قالت: "... ... ليس ثمة ما يمنع القاضي مبالغة في الاستدلال من الاستئناس بما يقدّمه المتنازعون من عقود وأوراق لتأييد مساسية اليد المدّعى بها... ... وقد قدّم الطرفان مستندات التمليك الذي شاءوا أن يجعلوا منه مساسية أيديهم على عين النزاع، فقدّم المدّعيان عقداً قالا إن والدتهما تنازلت به عن الأرض لهما بطريق الهبة وعقد تمليك تلك الوالدة... ... كما قدّما كشفاً من المساحة يفيد مسح الأرض باسم تلك الوالدة ووضعها في تكليفها في سنة 1932، وتبين فوق ذلك أن والدة المدعيين لا تزال على قيد الحياة ولم يوجه إلى حجة تنازلها لولديها أي مطعن... ... كما أن البائع لتلك الوالدة رغم قدم عهد عقده إليها لا يزال حياً كذلك، وقد سمعت أقواله عن البيع وعن اليد... ... وهذا البائع بدوره قد اشترى من الحكومة وبطريق المزاد العلني وبموجب مستندات سردها في التحقيق، وها هي المساحة الحديثة بدورها وهي مصلحة حكومية تجري مسح الأراضي في خلال السنوات العشر الأخيرة تحت أعين الناس وأبصارهم، وتحقق يد الملاك، وقد لوحظ أنه رغم غياب المالكة الأصلية في الأقطار السورية وقيام المدّعى عليه نحو الأرض قد مسحت تلك المصلحة الأرض على تكليف والدة المدعيين فلم يشك المدّعى عليه ولم يناقض. وفضلاً عما تقدّم جميعه فإن السيدة المذكورة من وقت مشتراها لم يشب ملكها نزاع ولا اعترض يدها معترض حتى برز المدّعى عليه في خلال السنة الماضية وقبل بلاغ ولدها منصور بك بأيام... وبما أنه على العكس من ذلك كله فقد شابت عقد المدّعى عليه جميع شوائب الريبة والتشكيك... ... فترى المحكمة أنه صار ثابتاً مما تقدّم وعلى وجه قاطع أن والدة المدعيين قد وضعت يدها من تاريخ مشتراها في سنة 1906 لحين التنازل لولديها... ... وبما أنه فيما يتعلق بما يدفع به المدّعى عليه من فقدان مظهر الحيازة المادية لدى المدعيين ووالدتهما من قبلهما، ذلك بأنهما لم يسوراها ولم يقوما بالتخفير عليها أو إحداث المنشآت فيها والزراعة بها، فترى المحكمة أنه كان كافياً في وجود تلك الحيازة واستمرارها بمظاهرها القانونية المطلوبة، بل وعلى سبيل الظهور بمظهر المالك، مرور أخي المدعيين بها من وقت لآخر ومباشرة غيره من المجاورين بذلك المرور على هذا الأساس، فالحيازة المادية ليست شرطاً في وضع اليد... الخ".
وحيث إنه يبين من هذا الذي نقل عن الحكم المستأنف أن هذا الحكم قد بين بجلاء ووضوح تأمين أن الأرض المتنازع عليها لم تكن من الأراضي التي لم يسبق فيها الملك لأحد فيفتقر الاستيلاء عليها لإحيائها وتملكها بمضي المدّة إلى أعمال انتفاع ووضع يد مادية ظاهرة ومستمرة وخالية عن النزاع تفيد الحيازة المادية بنية التملك، بل كانت ولا تزال من الأموال التي يتلقاها الملاك على التعاقب بعضهم من بعض. ولذلك جاء في خاتمة هذا الحكم ما نصه:
"وبما أنه لذلك تكون دعوى المدّعيين صحيحة وصفتهما ثابتة في إقامتها لما تبين من وضع يدهما على العين من تاريخ التنازل لهما، وللمتنازلة لهما من تاريخ مشتراها من خليل طنوس بصفة مستمرة وظاهرة وخالية من النزاع حتى تعرّض لهما المدّعى عليه في المدّة السابقة على دعواهما بما لا يزيد على شهرين، وعن شكوى أخيهما بنحو نصف تلك المدّة ويتعين والحالة هذه الحكم لهما بمنع تعرّض المدّعى عليه... ... وبإعادة وضع يدهما... الخ".
وحيث إن المحكمة الاستئنافية لم تخالف محكمة الدرجة الأولى إلا في تكييف وضع اليد المتنازع عليه بحكم القانون.
وحيث إن ما قيل بالحكم المطعون فيه من أن القانون يشترط في قبول دعوى اليد أن يكون مدعيها حائزاً للعقار حيازة مادية مستمرة ظاهرة لا غموض فيها، وأنه لا يعرف إلا وضع اليد المادي، وأنه إذا كانت الأرض المتنازع عليها أرضاً فضاء من الأراضي المعدّة للبناء، فلا يعتبر مجرّد المرور حولها ومشاهدتها وضع يد بالمعنى المراد بل يجب تسويرها على الأقل - إن ما قيل من ذلك فيه التفات عن حكم القانون الواجب تطبيقه على مثل صورة الدعوى، كما سبق الذكر، لأن الأرض المتنازع عليها هي مما تتلقى الحيازة فيها بالتخلية من ملاكها المتعاقبين مما يكفي فيها ما ثبت في الدعوى من مظاهر وضع اليد الخالية من النزاع بالكيفية التي شرحها الحكم المستأنف.
وحيث إنه لذلك يتعين نقض الحكم المطعون فيه والقضاء بتأييد الحكم المستأنف.