مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية
وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء السادس (عن المدة من 2 نوفمبر سنة 1942 لغاية 29 أكتوبر سنة 1945) - صـ 630

جلسة 5 فبراير سنة 1945

برياسة سعادة سيد مصطفى باشا رئيس المحكمة، وبحضور حضرات: جندي عبد الملك بك وأحمد محمد حسن بك وأحمد علي علوبة بك وأحمد فهمي إبراهيم بك المستشارين.

(490)
القضية رقم 307 سنة 15 القضائية

استئناف. حكم غيابي. عدم استئناف النيابة إياه. معارضة المتهم فيه. القضاء في المعارضة بوقف تنفيذ العقوبة المحكوم بها غيابياً. تخفيف للعقوبة. استئناف النيابة هذا الحكم. جوازه. وقف التنفيذ من العناصر التي تدخل في وزن العقوبة. ليس للمحكمة الاستئنافية أكثر من أن تلغى وقف التنفيذ.
إن الأصل قانوناً أن الأحكام الصادرة في مواد الجنح تكون قابلة للاستئناف من المحكوم عليه ومن النيابة. فإذا كانت النيابة قد فوّتت الميعاد الذي يجوز لها فيه استئناف الحكم الغيابي، فإن هذا لا يترتب عليه إلا أن المحكمة يكون ممتنعاً عليها أن تشدّد العقوبة المقضى بها في هذا الحكم، ولكنه لا يترتب عليه منع النيابة من استئناف الحكم الذي يصدر فيما بعد في المعارضة إذ ما قضى بتخفيف العقوبة المحكوم بها غيابياً ولو من طريق وقف تنفيذها. فإن وزن العقوبة لا يكون بنوعها ومقدارها فحسب، بل أيضاً بتنفيذها أو عدم تنفيذها، إذ وقف التنفيذ باعتباره من صميم عمل القاضي حين يصدر الحكم داخل في تقدير أثر العقوبة في الزجر، فهو إذن عنصر من عناصرها التي تراعى عند إيقاعها. وإذن فإذا كان الحكم الغيابي غير مأمور فيه بوقف تنفيذ العقوبة، فإن قضاء المحكمة، بناء على معارضة المحكوم عليه، بوقف التنفيذ يعتبر بلا شك تعديلاً للعقوبة إلى أخف. أما القول بأن الأمر بوقف التنفيذ من إطلاقات القاضي وأنه متى صدر فلا يصح لأحد أن يتظلم منه فمردود بأن وقف تنفيذ العقوبة هو - كما مر القول - عنصر من العناصر التي تراعى في تقديرها وقت إيقاعها، كما هو الشأن في مدتها. وإذن فللنيابة أن تستأنف الحكم الصادر في المعارضة ولو كان لم يخالف الحكم الغيابي إلا في أنه أمر بوقف تنفيذ العقوبة المقضي بها في الحكم الغيابي. ولكن لا يكون للمحكمة الاستئنافية، بناء على هذا الاستئناف، أكثر من أن تلغي وقف التنفيذ، كي لا تتجاوز العقوبة ما كان مقضياً به في الحكم الذي لم تستأنفه النيابة.


المحكمة

وحيث إن محصل الطعن هو أن الحكم المطعون فيه قضى بعدم جواز الاستئناف المرفوع من النيابة عن الحكم الصادر في المعارضة بحجة أنها سبق أن رضيت بالحكم الغيابي ولم تستأنفه، والحكم في المعارضة إنما أيد ذلك الحكم، وإذا كانت المحكمة قد أمرت فيه بوقف تنفيذ العقوبة فإن ذلك منها لا يعتبر تعديلاً للحكم الغيابي. وتقول النيابة في طعنها إن هذا الذي ذهبت إليه المحكمة الاستئنافية غير صحيح، لأن وقف تنفيذ العقوبة هو تعديل لها.
وحيث إن الحكم المطعون فيه إذ قضى بعدم جواز الاستئناف المرفوع من النيابة قد قال في ذلك: "وحيث إن القضاء قد استقرّ على أن استئناف النيابة للحكم الغيابي يظل قائماً إذا تأيد هذا الحكم بعد المعارضة فيه، أما إذا تعدّل الحكم أو قضى بالبراءة وجب تجديد الاستئناف إذا رأت النيابة لزوماً لذلك، ومن باب أولى إذا كانت النيابة قد ارتضت الحكم الغيابي ولم تستأنفه، فليس لها أن تستأنف في هذه الحالة حكم المعارضة إلا إذا لكان يقضى بتعديل الحكم الذي ارتضته أو ببراءة المتهم. وحيث إن الحكم المستأنف لم يعدّل العقوبة وإنما قضى نظراً لظروف ارتآها بإيقاف تنفيذها عملاً بالمادتين 55 و56 من قانون العقوبات. وحيث إن مدار البحث بعد ذلك هو معرفة ما إذا كان مثل هذا الحكم يعتبر معدّلاً للحكم الغيابي الذي قبلته النيابة، فيجوز لها استئنافه، أم أن مجرّد الأمر بإيقاف التنفيذ مع بقاء العقوبة على ما كانت عليه قبل المعارضة يكون بمثابة تأييد لما سبق أن قضى به غيابياً ووافقت عليه النيابة، فليس لها أن تطعن فيه بطريق الاستئناف بعد ذلك، لأن هذا الحكم الأخير إنما يعيد للحكم الغيابي قوّته التي أوقفتها معارضة المتهم إيقافاً مؤقتاً ويمتزج الحكمان ويعتبران حكماً واحداً. وحيث إن الأصل هو وجوب تنفيذ العقوبة، فما كان القضاء في فرنسا - لا عند وضع قانون العقوبات ولا قبل ذلك - يملك إعفاء الجاني من استيعاب العقوبة التي حدّدها القانون إذ كان ذلك في نظرهم بمثابة عفو يصدره غير الملك، فكان من أثر قيام هذه العقبة الدستورية مع صراحة القانون في بعض الحالات التي تستدعي الرحمة بالمتهم أن ظهرت نظرية الظروف المخففة، ثم بعد ذلك ظهر في 26 مارس سنة 1891 قانون berenger الذي عدّل مبدأ التنفيذ الفوري للأحكام الجنائية بأن أجاز للقاضي تحت شروط معينة أن يأمر بإيقاف تنفيذ الحكم عند إصداره طالما أن المتهم لا يرتكب إثماً جديداً في زمن حدّده بخمس سنوات Roux - Droit Penal P. 383 على أن لا يكون هذا الإيقاف حقاً يتمسك به المتهم حتى ولو توافرت فيه الشروط وإنما هو منحة une faveur يجوز للمحاكم أن تأمر بها أو لا تأمر. فإن فعلت وجب عليها أن تسبب مبرراتها (المرجع السابق ص 390). على أن فكرة الإعفاء المؤقت من العقوبة لم تكن قاصرة على التشريع الفرنسي، بل يمكن القول إن هناك طريقتين للوصول إلى هذا الغرض أحدهما الطريقة الفرنسية البلجيكية سالفة الذكر، وهي التي نقل عنها المشرع المصري نظام إيقاف التنفيذ فيصدر القاضي حكمه بالطرق العادية ولكن يأمر بعدم تنفيذه إلا إذا ارتكب المتهم في زمن معلوم جريمة أخرى وحكم عليه بسببها بعقوبة من العقوبات المقرّرة للجنح أو بعقوبة أشدّ منها (بلجيكا) وبعقوبة الحبس المقرّرة للجنح أو بعقوبة أشدّ منها (فرنسا) بينما Le systeme Anglo Americain كقانون سنة 1887 الصادر في إنجلترا يجيز للقاضي أن يرجئ الحكم ويأخذ تعهداً على المتهم بالسير الحميد والحضور لدى المحكمة بمجرّد طلب يصله من قبلها. ومعنى هذا النظام هو إيقاف المحاكمة لا إيقاف تنفيذ العقوبة فلا يوصم المتهم بها ولكن تظل الدعاوى معلقة زمناً طويلاً Garraud Droit Crimenel 565 وتقرير المستشار القضائي سنة 1901. فلما صدر قانون العقوبات المصري أخذ بالطريقة الفرنسية وقرّر نظام إيقاف التنفيذ في الباب السابع - والآن الثامن - من الكتاب الأوّل تحت عنوان "تعليق الأحكام على شرط". ولذا يقال إن الحكم معلق تنفيذه على شرط (الموسوعة الجنائية لجندي بك عبد الملك جزء 2 ص 103). وحيث إنه بالرجوع إلى نص المادتين 55 و56 عقوبات تلاحظ المحكمة أن عبارة أولاهما "يجوز للمحكمة عند الحكم في... إلخ أن تأمر بإيقاف تنفيذ العقوبة"، وفي الثانية "يصدر الأمر بإيقاف تنفيذ العقوبة"، ثم جاءت المادة 57 فأجازت إلغاء أمر إيقاف التنفيذ بحكم تصدره المحكمة. وحيث إنه لو كان إيقاف التنفيذ حكماً لما جاز لأي محكمة أن تتعرّض له بالإلغاء بعد أن يصبح نهائياً، فضلاً عما هنالك من تمييز واضح الدلالة في اللفظ في نص التشريع بين الحكم والأمر بإيقاف تنفيذه، وهو ما لم تفعله الشرائع الأخرى التي أجازت ذلك أيضاً. وحيث إنه إذا ما أضيف إلى ما تقدّم أن الحكم قد صدر وأنه قائم بالفعل وكل ما طرأ عليه هو تعليق تنفيذه فترة من الزمن على شروط حدّدها القانون فلا يمكن اعتبار هذا التعليق تعديلاً للحكم الغيابي إذ لم تتغير مدّة العقوبة حتى ولو استعمل قاضي المعارضة هذا التعبير خطأ في منطوقه وليس للنيابة أن تتظلم من الأمر بالإيقاف وحده طالما أن المحكمة أصدرته في حدود ما تملك ولم تتناول الحكم نفسه بالتعديل أو الإلغاء. والقول بعد ذلك إن الإيقاف فيه تخفيف للعقوبة به حجة تنطوي على أخذ بالظاهر وإسراف في التعبير. لأن التخفيف لم يحصل في العقوبة وإنما ينصرف مؤقتاً إلى أثرها من نفس المحكوم عليه. وحيث إنه لما تقدم بكون استئناف النيابة غير جائز قانوناً في هذه الحالة".
وحيث إن الأصل قانوناً أن الأحكام الصادرة في مواد الجنح تكون قابلة للاستئناف من المحكوم عليه ومن النيابة، فإذا كانت النيابة قد فوّتت الميعاد الذي يجوز لها استئناف الحكم الغيابي فيه، فإن هذا يترتب عليه عدم إمكان تشديد العقوبة المقضي بها إذا ما طعن المحكوم عليه في الحكم بطريق الاستئناف، ولكنه لا يترتب عليه منع النيابة من استئناف الحكم الذي يصدر في المعارضة، إذا ما قضى بتخفيف العقوبة المحكوم بها غيابياً، ولما كان مبلغ العقوبة التي تقع على الجاني لا يقاس بنوعها ومقدارها فحسب، بل أيضاً بتنفيذها أو الأمر بوقف تنفيذها، فإن الأمر بوقف التنفيذ باعتباره من صميم عمل القاضي حين يصدر الحكم يتصل بتقدير العقوبة في الزجر، فهو بهذا الاعتبار عنصر من عناصرها التي تراعى فيها. وإذن فإذا كان الحكم الغيابي مقتضاه تنفيذ العقوبة المحكوم بها، فإن قضاء المحكمة بناء على معارضة المحكوم عليه بوقف التنفيذ يعتبر بلا شك تعديلاً لها إلى "أخف" أما القول بأن الأمر بوقف التنفيذ من إطلاقات القاضي، وأنه مطلق الحرية فيه، وأنه إذا صدر منه فلا يصح لأحد أن يتظلم منه، فمردود بأن وقف تنفيذ العقوبة هو عنصر من العناصر التي تراعى في تقديرها وقت إيقاعها، كما مر القول، وشأنه في ذلك كشأن مدّتها. ومتى تقرّر ذلك فإن النيابة العامة يكون لها أن تستأنف الحكم الصادر في المعارضة المرفوعة من المتهم، ولو كان لم يعدّل الحكم الغيابي إلا عن طريق الأمر بوقف تنفيذ العقوبة المحكوم بها، وإنما لا يكون للمحكمة الاستئنافية بناء على هذا الاستئناف أن تشدّد العقوبة بأكثر من إلغاء وقف التنفيذ كيلا تتجاوز العقوبة المحكوم بها غيابياً. ولذا فإن الحكم المطعون فيه يكون قد أخطأ فيما قضى به من عدم جواز استئناف النيابة للحكم الصادر في المعارضة.