مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثانية عشرة - العدد الثاني (من منتصف فبراير سنة 1967 إلى آخر سبتمبر سنة 1967) - صـ 653

(68)
جلسة 18 من فبراير سنة 1967

برئاسة السيد الأستاذ الدكتور محمود سعد الدين الشريف رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة الأساتذة الدكتور أحمد موسى، عادل عزيز زخاري، عبد الستار عبد الباقي آدم، عباس فهمي محمد بدر المستشارين.

القضية رقم 917 لسنة 11 القضائية

( أ ) تأديب. ذنب إداري. تكييف الواقعة بما يجعلها من الذنوب الإدارية المستحقة للعقاب مرجعة إلى تقدير جهة الإدارة ومبلغ انضباط هذا التكييف على الواقعة المنسوبة إلى الموظف من حيث الخروج على الواجب الوظيفي، والإخلال بحسن السير والسلوك المستأهل للعقاب بوصفه ذنباً إدارياً.
(ب) الإبلاغ عن المخالفات التي تصل إلى علم أحد العاملين بالدولة. أمر مكفول بل هو واجب عليه توخياً للمصلحة العامة ولو كانت تمس الرؤساء - يتعين عند قيامه بهذا الإبلاغ ألا يخرج عن مقتضيات الوظيفة من توقير الرؤساء - واحترامهم وأن يكون قصده من الإبلاغ للكشف عن المخالفات المبلغ عنها توصلاً إلى ضبطها لا مدفوعاً بشهوة الإضرار بالزملاء أو الرؤساء والكيد لهم والطعن في نزاهتهم على غير أساس من الواقع.
(جـ) تقدير العقوبة. لا رقابة للقضاء عليه إلا إذا اتسم بعدم الملاءمة الظاهرة أو سوء استعمال السلطة - فصل الموظف لما رأته الجهة الإدارية من أن تاريخه حافل بالجزاءات لإهماله في عمله ولمخالفته التعليمات ولسوء سلوكه باعتدائه على بعض زملائه والتشاجر معهم ودأبه على تقديم الشكاوى ضد زملائه ورؤسائه ولما رأته من أنه قد خاصمهم جميعاً مما يجعل تعاونه معهم مستحيلاً - لا يمكن والحالة هذه القول بأن الجهة الإدارية قد أساءت استعمال سلطتها بفصله من الخدمة أو أنها أنزلت به عقوبة لا تتحقق فيها الملاءمة العادلة بين الذنب الذي اقترفه والعقاب الذي أوقع به.
1 - أن تكييف الواقعة بما يجعلها من الذنوب الإدارية المستحقة للعقاب إنما مرجعة إلى تقدير جهة الإدارة ومبلغ انضباط هذا التكييف على الواقعة المنسوبة إلى الموظف من حيث الخروج على الواجب الوظيفي أو الإخلال بحسن السير والسلوك المستأهل للعقاب بوصفه ذنباً إدارياً.
2 - أنه وإن كان الإبلاغ عن المخالفات التي تصل إلى علم أحد العاملين بالدولة أمر مكفول، بل هو واجب عليه، توخياً للمصلحة العامة ولو كانت تمس الرؤساء - إلا أنه يتعين عليه عند قيامه بهذا الإبلاغ ألا يخرج عما تقتضيه واجبات الوظيفة العامة من توقير الرؤساء واحترامهم وأن يكون قصده من هذا الإبلاغ الكشف عن المخالفات المبلغ عنها توصلاً إلى ضبطها، لا يلجأ إليه مدفوعاً بشهوة الإضرار بالزملاء أو الرؤساء والكيد لهم والطعن في نزاهتهم على غير أساس من الواقع وإذا كانت النيابة الإدارية قد انتهت إلى عدم ثبوت الاتهامات التي كالها المدعي لزملائه ورؤسائه واستخلصت ذلك استخلاصاً سائغاً وسليماً من الأوراق فإن المدعي لا يكون قد قصد من اتهاماته، على كثرتها، سوى الكيد لهم والتشهير بهم والطعن في نزاهتهم مما يضر بهم ضرراً بليغاً، فعل ذلك دون أن يقدر خطورة كل هذه الاتهامات التي كان يطلقها في وجه كل من يعمل معه بغير سند أو أساس لما وقر في ذهنه من أن موظفي المنطقة قد تعمدوا عدم تعيينه في إحدى الوظائف التي كانت قد شغرت بها. ولا جدال في أن هذا يعد منه خروجاً على الواجب الوظيفي وإخلالاً بحسن السير والسلوك المستأهل للعقاب بوصفه ذنباً إدارياً. ولا يغير من ذلك ما زعمه المدعي من أن إحدى هذه الشكاوى قد تبينت صحتها إذ أنه بفرض صحة ذلك فإن هذا لا يوثر في أن باقي الشكاوى التي قدمها المدعي وكانت محل تحقيق النيابة الإدارية قد ثبت عدم صحتها وأنه لم يقصد مع تقديمها وجه المصلحة العامة بل قصد بها الطعن على زملائه ورؤسائه وبغير حق.
3 - أن تقدير العقوبة للذنب الإداري الذي ثبت في حق الموظف هو أيضا من سلطة جهة الإدارة لا رقابة للقضاء فيه عليها إلا إذا اتسم بعدم الملاءمة الظاهرة أو سوء استعمال السلطة. ولما كان الظاهر من ملابسات إصدار القرار المطعون فيه بأقصى العقوبة - وهي الفصل - أن الجهة الإدارية قد رأت أن تاريخ المدعي حافل بالجزاءات، إذ يبين من الاطلاع على ملف خدمته أنه منذ عين في مايو سنة 1949 قد جوزي كثيراً لإهماله في عمله ومخالفته التعليمات وسوء سلوكه باعتدائه على بعض زملائه والتشاجر معهم. كما رأت، بدأبه على تقديم الشكاوى ضد زملائه ورؤسائه، أنه قد خاصمهم جميعاً مما يجعل تعاونه معهم مستحيلاً فلا يمكن والحالة هذه، القول بأن الجهة الإدارية قد أساءت استعمال سلطتها بفصل المدعي من الخدمة أو أنها أنزلت به عقوبة لا تتحقق فيها الملاءمة العادلة بين الذنب الذي اقترفه والعقاب الذي أوقع به ولما كان قرار الفصل قد صدر من السيد المحافظ - الذي له طبقاً لقانون نظام الإدارة المحلية - سلطة وكيل الوزارة والوزير. وقد عرض على لجنة شئون العمال المختصة طبقاً لقرار السيد رئيس الجمهورية رقم 634 لسنة 1960 في شأن تأديب عمال اليومية الحكوميين فإن هذا يجعل القرار بمنأى عن أي طعن.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة تتحصل - حسبما يبين من أوراق الطعن - في أن المدعي السيد/ عبد المنعم عشماوي محروس أقام الدعوى رقم 136 لسنة 11 القضائية بصحيفة أودعها سكرتارية المحكمة الإدارية لوزارات الصحة والأوقاف والإسكان والمرافق والإدارة المحلية والأزهر في 8 من يناير سنة 1964 ضد وزارة الصحة ومحافظة الفيوم طالباً الحكم بإلغاء القرار الصادر في 12 من يونيه سنة 1963 بفصله من وظيفته مع ما يترتب على ذلك من آثار وإلزام الوزارة بالمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة.. وقال - شرحاً لدعواه أنه أعلن في 19 من يونيه سنة 1963 بفصله من وظيفة عامل تعفير بمنطقة الفيوم الطبية. وقد تضمن هذا القرار أسباباً ثلاثة هي:
(1) عدم صلاحية العقوبات على كثرتها في إصلاحه.
(2) عدم معاونة رؤسائه المباشرين وغير المباشرين.
(3) اتهام زملائه بتهم كاذبة.
ثم قال المدعي أن هذه الأسباب غير صحيحة لأنه بالنسبة للسبب الأول فإنه عين في 10 من مايو سنة 1949 وكل ما وقع عليه من جزاءات هي ثلاثة جزاءات أولها سابق على سنة 1958 بخصم سبعة أيام من مرتبه. وفي سنة 1963 وقع عليه جزاءان بسبب الشكوى التي بني عليها قرار فصله أولهما بخصم عشرة أيام والثاني بخصم ثلاثة أيام. وأنه من البديهي أنه لا يمكن اعتبار أن الجزائين الأخيرين غير مجديين في تقويمه لأنه لم يقع منه بعد توقيعها ما يثبت عليه أي إخلال بواجبات وظيفته.. أما عن السبب الثاني فإنه ادعاء لا أصل له في الأوراق لأنه لم يقصر في أداء أي عمل أسند إليه ولم يرفض أي عمل طلب منه أن يقوم به ولم يجر أي تحقيق معه في شيء من ذلك. أما عن السبب الأخير فإن الأمر فيه يخلص في أنه كان قد تقدم ليؤدي امتحاناً في وظيفة مساعد طاهي بالمنطقة الطبية ونجح فعلاً فيه. ولكن تعيينه لم يتم وراحت الشائعات - إلى حد التواتر - بأن هناك تلاعباً وقع في شغل هذه الوظيفة فبادر إلى تقديم شكوى ضمنها ما وصل إليه علمه وأسنده إلى الشائعات المتواترة.. وفي التحقيق أفضى بالمصدر الذي استقى منه المعلومات التي ضمنها شكواه وتبين من التحقيق حسن نيته وأن مبعثها هو حرصه على سمعة الجهاز الحكومي بالإضافة إلى رغبته في تحسين مركزه المالي.. وأنه إذا كانت النيابة العامة قد قررت أنه عجز عن إثبات صحة الأمور التي أوردها في شكواه فإن هذا لا يعني أنها غير صحيحة فلو أن النيابة قد استظهرت كذبها لما ترددت في وصفها بذلك ولكان في مقدورها أن تقيم ضده دعوى البلاغ الكاذب.. وأنه متى ثبت أنه لم يستهدف الإضرار بالمصلحة العامة أو الإيقاع بأحد فإنه لا يكون مسئولاً مسئولية تبلغ حد فصله من وظيفته.
وردت الوزارة على الدعوى بمذكرة دفعت فيها بعدم قبول الدعوى شكلاً لعدم مراعاة المواعيد القانونية المقررة إذ أن المدعي تقدم بطلب المعافاة في 4 من أغسطس سنة 1963 قبل فوات ستين يوماً على تقديم تظلمه في أول يوليه سنة 1963 - وطلبت في الموضوع رفض الدعوى مع إلزام المدعي بالمصروفات واستندت في ذلك إلى النتيجة التي قام عليها قرار الفصل استخلصت استخلاصاً سائغاً من أصول ثابتة بالأوراق وصدر ممن يملكه وقام على سبب صحيح يبرره.. وقالت الوزارة في بيان ذلك - أن المدعي تقدم بشكاوى كيدية وعديدة ضد زملائه ورؤسائه المباشرين وغير المباشرين بالمنطقة الطبية التي يعمل بها نسب إليهم فيها أنهم استولوا وصرفوا مبالغ أموال الدولة دون وجه حق وتقاضي بعضهم الرشوة لتعيين أحد العمال كما تصرف البعض في أموال الدولة تصرفات غير صحيحة واستعملوا سيارات الحكومة في أغراضهم الخاصة. وتولت النيابة الإدارية التحقيق في جميع الشكاوى وانتهت إلى أنه يبين لها عدم ثبوت صحة كل أثاره المدعي من مخالفات مالية وإدارية ضد العاملين بالمنطقة الطبية وأنه لو صح بالنسبة للمدعي إليهم لأوجب عقابهم جنائياً ولكنه عجز عن إقامة الدليل على ذلك وقد رفعت المنطقة مذكرة بما انتهت إليه النيابة الإدارية مع إيضاح لحالة المدعي ولسلوكه الوظيفي وكثرة شكاويه مع عدم إنتاج العقوبات - مع كثرتها - في تغيير سلوكه وإصلاحه وعدم معاونته رؤسائه المباشرين وغير المباشرين واتهامه لهم بتهم كاذبة مما يجعل التعاون بينه وبينهم مستحيلاً مستقبلاً. فأشار السيد المحافظ بإحالة الأمر إلى اللجنة الفنية لشئون العمال التي رأت فصله من الخدمة واعتمد ذلك السيد المحافظ وقالت الوزارة أن ما ذكر يعطي صورة ناطقة لسلوك المدعي الوظيفي ورعونته التي بسببها صدر القرار بفصله من الخدمة إذ قد تحقق خروجه على مقتضى الواجب في أداء وظيفته بإضراره المصلحة العامة وحسن سير المرفق العام فضلاً عن إخلاله بالثقة والأمانة المفروضة فيه وعدم الاطمئنان التي تصرفاته بالجهة التي عمل فيها مع زملائه ورؤسائه..
وقدمت الوزارة ملف التحقيقات وملف خدمة المدعي وملف التظلم المقدم منه.
وقدمت هيئة مفوضي الدولة تقريراً بالرأي القانوني مسبباً انتهت فيه إلى أنها ترى الحكم برفض الدفع بعدم قبول الدعوى وبقبولها شكلاً وفي الموضوع بإلغاء قرار فصل المدعي مع ما يترتب على ذلك من آثار وإلزام الجهة الإدارية بالمصروفات واستندت في ذلك إلى أن درجة خطورة الذنب الإداري المنسوب إلى المدعي لا تتناسب البتة مع جزاء الفصل مع ما للفصل من آثار بالغة الضرر بالمدعي وأن ذلك لا يمنع الجهة الإدارية من إعادة تقدير الجزاء المناسب لما قام في حق المدعي من ذنب غير جسيم.
وعقبت الوزارة على تقرير هيئة مفوضي الدولة بمذكرتين دفعت فيهما بعدم قبول الدعوى بالنسبة للوزارة لرفعها على غير ذي صفة لأن القرار صدر من السيد محافظ الفيوم طبقاً لقانون نظام الإدارة المحلية.. وطلبت في الموضوع رفض الدعوى واستندت في ذلك إلى أن قرار الفصل المطعون فيه قائم على سببه بعيداً عن عدم المشروعية بالغلو نظراً لما ثبت من أن المدعي أصبح لا يصلح معه العقوبات لأنه بالاطلاع على ملف خدمته بين أنه جوزي مراراً كما أن مديري المنطقة السابقين سبق أن قرروا أن العامل المذكور تعود تقديم الشكاوى الكيدية المجهولة ضد موظفي المنطقة بقصد التشهير بهم وتعطيل الأعمال وطلبوا نقله خارج المنطقة.
وبجلسة 17 من مايو سنة 1965 قضت المحكمة إدارية برفض الدفع بعدم قبول الدعوى في وجهيه وبقبولها شكلاً وفي الموضوع بإلغاء القرار الصادر بفصل المدعي، على الوجه المبين بالأسباب مع ما يترتب على ذلك من آثار وإلزام المدعى عليهما بالمصروفات.. وأقامت قضاءها في الموضوع على أن قرار فصل المدعي قد قام على سبب واحد هو ما نسبه إلى العاملين بالمنطقة من أمور لو صحت لأوجبت عقابهم قانوناً وقد عجز عن إقامة دليل على صحتها وأن هذا السبب قد ثبت في حق المدعي على النحو الذي كشفت عنه تحقيقات النيابة الإدارية وأنه وإن كان للجهة الإدارية أن تترخص في تقدير خطورة الذنب الإداري وما يناسبه من جزاء إلا أن شرط ذلك ألا يشوب استعمالها لسلطتها هذه غلو يعيب القرار ومن صور هذا الغلو عدم الملاءمة بين درجة خطورة الذنب الإداري وبين نوع الجزاء ومقداره وأن المدعي وإن كان قد أخطأ في اتهامه للعاملين بالمنطقة وعجزه عن إقامة الدليل على ما أسنده إلى كل منهم من اتهام إلا أن هذا الخطأ لا يناسب فصله من الخدمة ولذلك فقد غدا القرار المطعون فيه منطوياً على غلو في الجزاء يعيبه مما يقتضي الحكم بإلغائه حتى تعيد الجهة الإدارية توقيع الجزاء المناسب.
وقد طعنت الحكومة في هذا الحكم بصحيفة أودعتها سكرتارية المحكمة في 17 من يوليه سنة 1965 طالبة الحكم بقبول طعنها شكلاً في الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه ورفض دعوى المطعون عليه وإلزامه بالمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة. وبنت طعنها على أن فصل المدعي إنما هو فصل غير تأديبي لجأت إليه الإدارة بعد أن أعيتها الحيل في إصلاحه وآية ذك أن قرار الفصل لم يستند إلى تهم محددة نسبت إلى المدعي وفصل من أجلها بل أن هذا القرار قد أورد الحالة المسلكية العامة له وأن هذه الحالة قد جعلته غير صالح للوظيفة.. وعلى ذلك فإن سلطة الرقابة القانونية على هذا القرار تتحدد بأمر واحد - هو عدم وجود إساءة استعمال السلطة وظهور وجه المصلحة العامة في إصداره وأنه لما كان فصل المدعي جاء كاشفاً بما ذكر فيه من أسباب، عن عدم صلاحيته وعدم جدارته بالبقاء في الوظيفة العامة مما نطقت به أوراق ملف خدمته والجزاءات التي وقعت عليه وسوء شهادة رؤسائه في حقه ولم يثبت أن الإدارة قد تغيت غير الصالح العام في فصله فإن قرار فصله لا يمكن وصمه بإساءة استعمال السلطة. كما أن هذا القرار قد صدر من مختص وهو السيد المحافظ إذ أنه طبقاً لقانون الإدارة المحلية رقم 124 لسنة 1960 يجمع بين سلطة وكيل الوزارة والوزير. وفصل العمال سواء أكان فصلاً تأديبياً أو غير تأديبي من سلطة وكيل الوزارة طبقاً للقرار الجمهوري رقم 634 لسنة 1960 بتأديب العمال الذي جعل أعلى سلطة بالنسبة لهم هو وكيل الوزارة وأنه لذلك يكون قرار فصل المدعي قد استوفى كافة أركانه الشكلية والموضوعية وطابق القانون.. ثم استطردت الحكومة قائلة أنه إذا فرض أن القرار محل الطعن هو قرار تأديبي فإنه صحيح واستند إلى سببه القانوني الذي يبرره إذ نطقت تحقيقات النيابة الإدارية بوصم المدعي باختلال جسيم في شخصيته وارتكابه ذنوباً إدارية بكيله عشرات من التهم للعاملين من زملائه ورؤسائه وأن هذه واقعة يجب تقديرها التقدير الصحيح في ضوء الملابسات المحيطة بالموضوع. ولو أن المدعي قد باشر هذا العمل بالنسبة لشخص واحد لكان من الجائز القول بأنه لا يستحق الفصل ولكن المدعي وقد باشر هذا الذنب على تلك الصورة الخطيرة التي نطقت بها التحقيقات يكون قد ارتكب ذنباً من نوع آخر يتضمن حداً كبيراً من الجسامة تبرر فصله ولذلك فإنه يكون قد قام على كامل سببه ومن ثم فإن الحكم المطعون فيه قد خالف الواقع والحق في قوله أن جزاء فصل المدعي لا يتناسب مع ما ثبت في حقه.
ثم قدم المدعي مذكرة ردد فيها دفاعه السابق وأضاف إليه أنه ليس صحيحاً أن كل الشكاوى التي قدمها ثبت كذبها وحسبه أن إحدى تلك الشكاوى التي قدمها ضد السيد عزت جرجس البرنشاوي تبينت صحتها. وطلب ضم قضيتي النيابة الإدارية المتعلقتين بهذه الشكوى كما طلب ضم محضر شرطة بندر الفيوم الذي حرر في 31 من مارس لسنة 1963 الذي جاء فيه ما يدل على أنه يؤدي عمله على خير وجه.
ومن حيث إنه يبين من الاطلاع على الأوراق أن المدعي قدم عديداً من الشكاوى ضد العاملين معه بالمنطقة الطبية، من زملاء ورؤساء، ادعى فيها أنهم ارتكبوا مخالفات إدارية ومالية منها أنهم صرفوا، بدون وجه حق وبالمخالفة للتعليمات، أجوراً إضافية وعلاوة غلاء معيشة وبدلات سفر وانتقال وطبيعة عمل وما إلى ذلك من بدلات أخرى، وتصرفوا في أموال الدولة تصرفات غير سليمة وأنهم قاموا بمحاباة بعض العمال على حساب المصلحة العامة التي تقضي بعدم إسناد بعض الأعمال لهم. كما أساءوا استعمال سيارات المنطقة ودراجاتها وأن بعضهم استخدام بعض العمال في أداء خدمات خاصة.. كما ادعى أن بعض المشكو في حقهم قارف جرائم يعاقب عليها قانوناً منها أنهم تقاضوا رشوة لتعيين بعض العمال عن غير الطريق القانوني فضلاً عما ادعاه من وجود اختلاسات في إيجار العمارة المؤجرة لاستعمالها مخزناً للتموين الطبي بالمحافظة.. وقد بلغ عدد العاملين المشكو في حقهم خمسة وعشرين موظفاً وعاملاً ويبدو أن الذي دعا المدعي إلى تقديم هذه الشكاوى عدم إجابته إلى ما طلبه من تعيينه في إحدى الوظائف التي خلت بالمنطقة وتعيين آخر بدلاً منه.. وقد أحالت المحافظة هذه الشكاوى للنيابة الإدارية لإجراء التحقيق وتحديد المسئولية فيما تضمنته.. فسمعت أقوال الشاكي فأيد ما جاء بتلك الشكاوى. كما سمعت أقوال المشكو في حقهم واحداً واحداً فنفى كل منهم ما نسب إليه وقدم الأدلة المؤيدة لذلك.. وقامت النيابة الإدارية بتحقيق دفاع كل منهم واطلعت على الأوراق والسجلات موضوع هذه الشكاوى وانتهت في مذكرتها المؤرخة في 30 من إبريل سنة 1963 إلى عدم ثبوت صحة ما أثاره المدعي فيها وأنه بمواجهته بذلك طلب إحالة الأوراق إلى النيابة العامة.. ورأت النيابة الإدارية أن هذا الطلب ليس له ما يبرره إذ لم يكشف التحقيق عن جرائم عامة يمكن إبلاغ النيابة العامة عنها وأنه لذلك يكون المدعي قد أسند إلى العاملين بالمنطقة الطبية التي يعمل بها أموراً لو صحت لأوجبت عقابهم قانوناً وعجز عن إثباتها ومن ثم فإنه يكون قد خرج على مقتضى الواجب في أداء أعمال وظيفته واقترحت النيابة الإدارية مساءلته إدارياً لما نسب إليه على أن يكون الجزاء شديداً ورادعاً حتى لا يعود إلى إزعاج السلطات وكي لا يستمرئ التشهير بالموظفين.. وقد بعث السيد مدير عام تلك المنطقة بنتيجة هذه التحقيقات إلى السيد المحافظ وأرفق بها صحيفة جزاءات المدعي السابقة وطلب الموافقة على فصله حتى يكون في الجزاء درساً له وعبرة للآخرين من أمثاله.. فرأى السيد المحافظ أن المدعي قد عولج بالنصح والإرشاد وجوزي بشتى الجزاءات ولم يثمر هذا في إصلاح ذات نفسه وأشار لذلك بعرض أمره على لجنة شئون العمال التي انتهت بجلستها المنعقدة في 10 من يونيه سنة 1963 إلى التوصية بفصله للأسباب التي أبدتها النيابة الإدارية ولما تبين لها من أنه قد أصبح لا تفلح معه العقوبات ولا تقومه الجزاءات لأنه بالاطلاع على ملف خدمته وجد أنه جوزي بمقدار 23 يوماً جزاءات على ثلاث دفعات. فضلاً عن وجود تقرير من مديري المنطقة السابقين في عامي 1958، 1961 بأن العامل المذكور تعود تقديم الشكاوى ضد العاملين بالمنطقة بقصد التشهير بهم وتعطيل الأعمال وطلبا لذلك نقله خارج المنطقة.. ثم ذكرت اللجنة أنه بذلك يكون قد خاصم جميع رؤسائه المباشرين ومن يعلوهم بالمنطقة مما يجعل تعاونه معهم مستحيلاً.. فأصدر السيد المحافظ لذلك قراراً بفصله في 12 من يونيه سنة 1963.
ومن حيث إن الثابت مما تقدم أن ما نسب إلى المدعي - من أنه قد خرج على مقتضى الواجب في أداء أعمال وظيفته وذلك بأن نسب إلى العاملين معه بالمنطقة الطبية أموراً لو صحت لأوجبت عقابهم قانوناً وعجز عن إقامة الدليل على صحتها - هذا الذي نسب إلى المدعي ثابت قبله بما لا يدع مجالاً لأي شك وعلى ذلك فإن أدانته في ذلك تكون قد استخلصت استخلاصاً سائغاً وسليماً من الأوراق.
ومن حيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن تكييف الواقعة بما يجعلها من الذنوب الإدارية المستحقة للعقاب إنما مرجعه إلى تقدير جهة الإدارة ومبلغ انضباط هذا التكييف على الواقعة المنسوبة إلى الموظف من حيث الخروج على الواجب الوظيفي أو الإخلال بحسن السير والسلوك المستأهل للعقاب بوصفه ذنباً إدارياً.
ومن حيث إنه وإن كان الإبلاغ عن المخالفات التي تصل إلى علم أحد العاملين بالدولة أمر مكفول، بل هو واجب عليه، توخياً للمصلحة العامة ولو كانت تمس الرؤساء - إلا أنه يتعين عليه عند قيامه بهذا الإبلاغ ألا يخرج عما تقتضيه واجبات الوظيفة العامة من توقير الرؤساء واحترامهم وأن يكون قصده من هذا الإبلاغ الكشف عن المخالفات المبلغ عنها توصلاً إلى ضبطها، لا أن يلجأ إليه مدفوعاً بشهوة الإضرار بالزملاء أو الرؤساء والكيد لهم والطعن في نزاهتهم على غير أساس من الواقع. وإذا كانت النيابة الإدارية قد انتهت إلى عدم ثبوت الاتهامات التي كالها المدعي لزملائه ورؤسائه واستخلصت ذلك استخلاصاً سائغاً وسليماً من الأوراق فإن المدعي لا يكون قد قصد من اتهاماته، على كثرتها، سوى الكيد لهم والتشهير بهم والطعن في نزاهتهم مما يضربهم ضرراً بليغاً فعل ذلك دون أن يقدر خطورة كل هذه الاتهامات التي كان يطلقها في وجه كل من يعمل معه بغير سند أو أساس لما وقر في ذهنه من أن موظفي المنطقة قد تعمدوا عدم تعيينه في إحدى الوظائف التي كانت قد شغرت بها. ولا جدال في أن هذا يعد منه خروجاً على الواجب الوظيفي وإخلال بحسن السير والسلوك المستأهل للعقاب بوصفه ذنباً إدارياً.. ولا يغير من ذلك ما زعمه المدعي من أن إحدى هذه الشكاوى قد تبينت صحتها إذ أنه يفرض صحة ذلك فإن هذا لا يؤثر في أن باقي الشكاوى التي قدمها المدعي وكانت محل تحقيق النيابة الإدارية قد ثبت عدم صحتها وأنه لم يقصد من تقديمها وجه المصلحة العامة بل قصد بها الطعن على زملائه ورؤسائه وبغير حق حسبما تقدم.
ومن حيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى كذلك على أن تقدير العقوبة للذنب الإداري الذي ثبت في حق الموظف هو أيضاً من سلطة جهة الإدارة لا رقابة للقضاء فيه عليها إلا إذا اتسم بعدم الملاءمة الظاهرة أو سوء استعمال السلطة.. ولما كان الظاهر من ملابسات إصدار القرار المطعون فيه بأقصى العقوبة - وهي الفصل - أن الجهة الإدارية قد رأت أن تاريخ المدعي حافل بالجزاءات إذ يبين من الاطلاع على ملف خدمته أنه منذ عين في مايو سنة 1949 قد جوزي كثيراً لإهماله في عمله ومخالفته التعليمات وسوء سلوكه باعتدائه على بعض زملائه والتشاجر معهم. كما رأت، بدأبه على تقديم الشكاوى ضد زملائه ورؤسائه، أنه قد خاصمهم جميعاً مما يجعل تعاونه معهم مستحيلاً.. فلا يمكن، والحالة هذه، القول بأن الجهة الإدارية قد أساءت استعمال سلطتها بفصل المدعي من الخدمة أو أنها أنزلت به عقوبة لا تتحقق فيها الملاءمة العادلة بين الذنب الذي اقترفه والعقاب الذي أوقع به.. ولما كان قرار الفصل قد صدر من السيد المحافظ - الذي له طبقاً لقانون نظام الإدارة المحلية - سلطة وكيل الوزارة والوزير. وقد عرض على لجنة شئون العمال المختصة طبقاً لقرار السيد رئيس الجمهورية رقم 634 لسنة 1960 في شأن تأديب عمال اليومية الحكوميين.. فإن هذا يجعل القرار المذكور بمنأى عن أي طعن.
ومن حيث إنه يبين مما تقدم أن قرار الفصل المطعون فيه قد صدر ممن يختص بإصداره قانوناً وقام على سبب صحيح استخلص استخلاصاً سائغاً ومقبولاً من الأوراق وليس فيه شطط ولا غلو.. وترتب على ذلك الحكم المطعون فيه، إذ قضى بإلغائه، يكون قد جانب الصواب ويتعين لذلك القضاء بإلغائه وبرفض دعوى المدعي مع إلزامه بالمصروفات..

"فلهذه الأسباب"

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه وبرفض الدعوى وألزمت المدعي بالمصروفات..