مجموعة القواعد القانونية التى قررتها محكمة النقض والإبرام فى المواد المدنية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الخامس (عن المدة من 22 نوفمبر سنة 1945 لغاية 9 يونيه سنة 1949) - صـ 592

جلسة 8 من أبريل سنة 1948

برياسة حضرة محمد المفتى الجزايرلى بك وكيل المحكمة وحضور حضرات: سليمان حافظ بك ومصطفى مرعى بك وأحمد حلمى بك وعبد الرحيم غنيم بك المستشارين.

(299)
القضية رقم 25 سنة 17 القضائية

أهلية التعاقد. الفصل فيها من اختصاص القاضى المدنى. تطبيق المادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية فى هذا الصدد. لا محل له. محل انطباق هذه المادة. مسائل الأحوال الشخصية التى يتعرض القاضى للفصل فيها بصفة فرعية قائماً مقام القاضى الشرعى.
إن تطبيق المادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية لا يكون واجباً على القاضى المدنى إلا فى خصوص مسائل الأحوال الشخصية التى يتعرض للفصل فيها بصفة فرعية مقيماً نفسه فى الحكم مقام القاضى الشرعى. وإذ كانت الأهلية فى التعاقد من مسائل الأحوال الشخصية التى يختص القاضى المدنى بالفصل فيها بصفة أصلية لا يصح النعى على حكمه بأنه لم يطبق فى شأنها نص المادة 280 المذكورة [(1)].


الوقائع

فى 6 من فبراير سنة 1947 طعن الطاعنون بطريق النقض فى حكم محكمة استئناف مصر، الصادر يوم 13 من يونيه سنة 1946 فى الاستئنافين رقم 1171 س ق 61 ورقم 324 س ق 62 أولاً بتأييد حكم محكمة مصر الابتدائية (فى القضية رقم 565 سنة 1937 كلى الصادر يوم 6 من مارس سنة 1944 ببطلان عقد البيع الرسمى المؤرخ 4 من أكتوبر سنة 1935 نمرة 6155 والذى بمقتضاه باعت السيدة جميلة يوسف باسيلى الألفى إلى الأستاذ مويز أبنر 10 ف و16 ط و20 س شيوعاً فى 42 ف و21 ط و20 س موضحة الحدود والمعالم بصحيفة الدعوى ومحو جميع التسجيلات والقيود المترتبة على هذا البيع واعتبارها كأن لم تكن وإلزام المدعى عليه الأول بنصف المصروفات المستحقة والمقاصة فى أتعاب المحاماة ورفض ما عدا ذلك من الطلبات وإلزام المدعية بصفتها بباقى المصروفات وإخراج المدعى عليه الثانى من الدعوى بلا مصروفات) فيما قضى به من بطلان عقد البيع الرسمى المؤرخ 4 من أكتوبر سنة 1935 ومحو جميع التسجيلات والقيود المترتبة عليه، وكذلك فيما قضى به من رفض طلبى الحساب وطلب التعويض. ثانياً - بإلغاء الحكم فيا عدا ذلك وبطلان العقود الآتية: (1) عقد البيع الرسمى المحرر فى 24 من أبريل سنة 1933 أمام مأمور العقود الرسمية بمحكمة مصر المختلطة تحت رقم 1992 والمسجل فى 5 مايو سنة 1933 رقم 3400 (2) عقد القرض والرهن الرسمى المحرر فى 24 من أبريل سنة 1933 أمام مأمور العقود بمحكمة مصر المختلطة تحت رقم 1933 ومحو التسجيلات والقيود المترتبة على هذين العقدين (3) عقد التوكيل الرسمى المحرر فى 24 من أبريل سنة 1933 أمام مأمور العقود تحت رقم 1994 (4) عقد الاتفاق العرفى المحرر فى 24 من أبريل سنة 1933 بين السيدة جميلة يوسف باسيلى الألفى والخواجه جيدوفوا وبين الأستاذ مويز أبنر. ثالثاً - بإلزام الأستاذ مويز أبنر بجميع المصروفات عن الدرجتين ومبلغ خمسين جنيهاً مقابل أتعاب المحاماة عنهما. وطلبوا إلى هذه المحكمة قبول الطعن شكلاً ونقض الحكم المطعون فيه فيما عدا ما قضى به من تأييد الحكم المستأنف برفض طلبى تقديم الحساب ورفض طلب التعويض والحكم فى موضوع الاستئنافين بإلغاء الحكم المستأنف الصادر من محكمة مصر الابتدائية بالنسبة لما قضى به من بطلان عقد البيع الرسمى المؤرخ فى 4 أكتوبر سنة 1935 رقم 6155 ومحو جميع التسجيلات والقيود المترتبة على هذا البيع واعتبارها كأن لم تكن وإلزام الطالب بنصف المصروفات المستحقة والمقاصة فى أتعاب المحاماة وتأييد الحكم المستأنف فيما عدا ذلك ورفض دعوى المدعية بصفتها وإلزامها بالمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة عن جميع مراحل التقاضى واحتياطياً إحالة القضية على محكمة استئناف مصر للحكم فيها من جديد وإلزام المطعون عليها بالمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة.
وفى 9 من فبراير سنة 1947 أعلنت المطعون عليها بتقرير الطعن الخ. الخ.


المحكمة

وحيث إنه (الطعن) بنى على أربعة أسباب أولها يتحصل فى أن الحكم المطعون فيه مقام على أن محجورة المطعون عليها كانت ناقصة الأهلية لسفهها وغفلتها قبل الحجر عليها لهذين السببين بزمن بعيد، وأن مورث الطاعنين كان عالماً بهذا النقص فى أهليتها عند تعاقده معها قبل الحجر، وأنه لما كان السفيه وذو الغفلة كلاهما ناقص الأهلية بحكم الحالة التى هو فيها ولو لم يطلب الحجر عليها أو يصدر قرار به، وكان قرار الحجر ليس إلا إشهاراً لحالة سابقة على صدوره، كان هذا القرار - فضلاً عن كونه حجة على الكافة من وقت صدوره - سارياً على المتعاقد من قبل مع ناقص الأهلية متى كان عالماً بقيام سبب الحجر به. وتأسيساً على ذلك أبطلت محكمة الاستئناف عقود البيع والرهن والوكالة الصادرة من محجورة المطعون عليها إلى مورث الطاعنين فى 24 من أبريل سنة 1933 و4 من أكتوبر سنة 1935 دون بحث ما ادعته المطعون عليها من عيب فى رضاء محجورتها لصدوره نتيجة إكراه أو تدليس. وهذا الأساس الذى أقامت عليه المحكمة قضاءها مخالف للشريعة الإسلامية الواجبة التطبيق فى مسائل الأهلية وللقول المستقر فى فقه القانون الوضعى فى هذه المسائل ولأحكام القانون المدنى الخاصة بانعقاد العقد وصحته ونفاذه. ذلك أن القانون الواجب التطبيق فى مسائل الأهلية هو قانون الأحوال الشخصية وهذا القانون هو الشريعة الإسلامية أى أحكامها المعمول بها فى المحاكم التى تطبقها، وهى أرجح الأقوال فى مذهب أبى حنيفة وفقاً للمادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، وأرجح الأقوال فى المذهب قول أبى يوسف، وعنده أن السفيه وذا الغفلة كليهما كامل الأهلية حتى يحجر عليه القاضى فتصرفاته قبل الحجر صحيحة نافذة والحجر عليه لا يرجع أثره إلى ما سبقه من تصرفات بل هو مقصور على ما كان منها تالياً له. ومن ثم لا يكون القرار مشهراً لحالة سابقة بل هو منشئ لحالة جديدة ويترتب على ذلك أن محجورة المطعون عليها كانت كاملة الأهلية عندما تعاقدت مع مورث الطاعنين فما كان للحكم المطعون فيه أن يبطل عقودها قبل التحقق من العيب المدعى فى رضائها. وحاصل السبب الثانى أن الحكم لما قال بغفلة محجورة المطعون عليه وقت التعاقد أخطأ فى تكييف حالها وقصر فى بيان أدلة الغفلة. والسبب الثالث حاصله أن الحكم جاء قاصراً فى إقامة الدليل على علم مورث الطاعنين بسفه محجورة المطعون عليها وغفلتها عند تعاقده معها. ذلك أنه استفاد علمه من أمور ثلاثة أولها اتصاله الشخصى بها أثناء مفاوضاته لها، وهذا الاتصال لا يصح اعتباره مصدراً للعلم بصفتين لا تظهران من مجرد الحديث واللقاء بل من تصرف صاحبهما، والثانى مما بلغه عن حالها من جيد تاوضروس وفلتس جرجس، ولا يغفل أن يكونا هما قد حدثاه عن سفه محجورة المطعون عليها وغفلتها فينفرانه من معاملتها، وهى الغرض الذى كانا ينشدانه، والثالث من شروط التعاقد ذاته وهى لا تصلح دليلاً على السفه والغفلة. والسبب الرابع حاصله أن الحكم جاء قاصراً فى رده على دفاع مورث الطاعنين بأن بخس الثمن لا يرجع إلى الغبن الفاحش الذى اتخذت منه هذه المحكمة دليلاً على السفه والغفلة بل إلى كون الفكرة الغالبة فى البيع الصادر من محجورة المطعون عليها عن جزء من أرضها هى الشركة بين صاحب الأرض وبين خبير بتقسيم الأراضى للبناء وبيعها أجزاءً فكانت خبرة مورث الطاعنين ملحوظة فى تعيين الثمن الذى اشترى به.
وحيث إن الحكم المطعون فيه بعد أن أثبت أن محجورة المطعون عليها كانت منذ زمن طويل قبل أن يتعاقد معها مورث الطاعنين ذات غفلة وسفه ضعيفة الرأى سيئة التدبير مغالية فى الإسراف غلواً بعيداً عن أية دراية مما أدى إلى ارتباك أمورها واختلال شؤونها حتى إذا ما انقضى النصف الأول من سنة 1932 أصبحت الستة والأربعون فداناً التى كانت تملكها بروض الفرج مهددة بنزع الملكية بسبب تأخرها عن دفع قسط من الدين المستحق عليها لبنك الأراضى وقسط من فوائد دين آخر، وأنه فى ذلك الحين تعرف بها مورث الطاعنين، وهو محام أمام القضاء المختلط جمع إلى مهنة المحاماة الاشتغال بالأعمال المالية وأخصها تقسيم الأراضى الفضاء المعدة للبناء إذ يشتريها من ملاكها بأبخس ثمن ثم يبيعها مجزأة بأغلى الأثمان، وأنه لما وقف على حالة محجورة المطعون عليها من سفه وغفلة ووقوع فى ارتباك مالى استغل ذلك كله باستصدار عقود بيع ورهن ووكالة منها فى 24 من أبريل سنة 1933 و4 من أكتوبر سنة 1935، وأنه إذ كان موقناً بأن تصرفاتها هذه لن تلبث حتى تكون موضع نزاع أمام المحاكم عمد إلى إبعاد القضاء الوطنى، وهو قضاؤهما الطبيعى، عن نظره واحتال لذلك بأن أدخل عنصراً أجنبياً صورياً فى التعاقد كيما يتسنى له نقل النزاع إلى القضاء المختلط الذى يعمل فى محيطه، وأنه لما طلب الحجر عليها فى 13 من أكتوبر سنة 1935 سعى جاهداً للدفاع عنها أمام المجلس الحسبى علماً منه بأنه كان يدافع عن نفسه، وأن هذا الاستغلال الفاحش الذى لا تورع فيه جعل المجلس الحسبى بعد الحجر يرخص للقيم فى الالتجاء إلى النيابة العامة انتصافاً منه للمحجور عليها، فتقدم القيم إليها ببلاغ يتهم فيه مورث الطاعنين بالنصب والربا الفاحش والتزوير وكان قد رفع الدعوى ببطلان العقود. وبعد أن أقام الحكم الأدلة على سفه المحجور عليها وغفلتها قبل التعاقد وعلى علم مورث الطاعنين بسفهها وغفلتها عند التعاقد قال إن السفه والغفلة نقص فى الأهلية وإنه يكفى لحماية ناقص الأهلية أن يكون من يتعاقد معه عالماً بنقص أهليته وقت التعاقد، ولا يمنع من ذلك أن يكون قرار الحجر لم يصدر إلا بعد التعاقد لأنه وإن كان القرار حجة على الكافة منذ صدوره، فإنه يسرى على العاقد الذى كان يعلم عند التعاقد مع ناقص الأهلية بقيام سبب الحجر به. وعلى هذا الأساس أبطلت المحكمة العقود كلها قائلة إنها لا ترى بعد ذلك حاجة إلى التعرض لعيوب الرضاء التى قالت المطعون عليها إنها تشوب التعاقد وتفسده.
وحيث إن النعى على الحكم بما ورد فى السبب الأول حصيلته أن الحكم المطعون فيه جاء مخالفاً للمادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية. وإذ قد جرى قضاء هذه المحكمة فى الطعن رقم 95 س ق 8 بأن تطبيق هذه المادة لا يكون واجباً على القاضى المدنى إلا فى خصوص مسائل الأحوال الشخصية التى يتعرض للفصل فيها بصفة فرعية مقيماً نفسه فى الحكم مقام القاضى الشرعى، وإذ كانت الأهلية فى التعاقد من مسائل الأحوال الشخصية التى يختص القاضى المدنى بالفصل فيها بصفة أصلية فلا يصح الطعن على الحكم بأنه خالف نصاً ليس عليه أن يطبقه. ومن ثم يكون هذا السبب مرفوضاً. ولا محل بعد للبحث فى هل يتعين على المحاكم المدنية عند تطبيق الشريعة الإسلامية على مسائل الأحوال الشخصية التى تختص هى بها أصلاً أن تتقيد بالقول الراجح فى مذهب أبى حنيفة ولو لم يرد فى قوانينها نص بذلك ولا فيما هو القول الراجح فى المذهب فى أهلية السفيه وذى الغفلة - لا محل للبحث فى ذلك لأنه خارج عن خصوص سبب الطعن.
وحيث إن السبب الثانى لا جدوى منه لأن الحكم المطعون فيه غير قائم على الغفلة فحسب بل على السفه أيضاً.
وحيث إن ما أثير فى السبب الثالث ليس إلا مجادلة فى تقدير قاضى الموضوع لأدلة سائغة لإثبات علم مورث الطاعنين عند تعاقده مع محجورة المطعون عليها بسفهها وغفلتها مما يخرج عن رقابة محكمة النقض.
وحيث إن القصور المنسوب إلى الحكم المطعون فيه فى السبب الرابع ليس بضائره لأن الحكم لم يستخلص السفه والغفلة من مجرد الغبن الفاحش فى ثمن المبيع فقط بل أيضاً من شروط أخرى فى البيع ومن شروط الرهن والوكالة ومن الظروف والملابسات التى تمت فيها تلك العقود وهى من شأنها تبرير ما استخلصه الحكم.


[(1)] قالت محكمة النقض: "وحيث إن النعى على الحكم بما ورد فى السبب الأول حصيلته أن الحكم المطعون فيه جاء مخالفاً للمادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية. وإذ قد جرى قضاء هذه المحكمة فى الطعن رقم 95 س ق 8 بأن تطبيق هذه المادة لا يكون واجباً على القاضى المدنى إلا فى خصوص مسائل الأحوال الشخصية التى يتعرض للفصل فيها بصفة فرعية مقيما نفسه فى الحكم مقام القاضى الشرعى، وإذ كانت الأهلية فى التعاقد من مسائل الأحوال الشخصية التى يختص القاضى المدنى بالفصل فيها بصفة أصلية فلا يصح الطعن على الحكم بأنه خالف نصاً ليس عليه أن يطبقه، ومن ثم يكون هذا السبب مرفوضاً. ولا محل بعد للبحث فى هل يتعين على المحاكم المدنية عند تطبيق الشريعة الإسلامية على مسائل الأحوال الشخصية التى تختص هى بها أصلاً أن تتقيد بالقول الراجح فى مذهب أبى حنيفة ولو لم يرد بقوانينها نص بذلك، ولا فيما هو القول الراجح فى المذهب فى أهلية السفيه وذى الغفلة - لا محل للبحث فى ذلك لأنه خارج عن خصوص سبب الطعن".
بهذا القول أعفت محكمة النقض نفسها من البحث فى هل يتعين على المحكمة المدنية أن تتقيد بالقول المرجح فى مذهب أبى حنيفة حين تطبق الشريعة الإسلامية فى مسائل الأحوال الشخصية التى تختص هى بها أصلاً ومن البحث فيما هو القول الراجح فى المذهب فى أهلية السفيه وذى الغفلة، وأعفت نفسها أيضاً من البحث فيما هو الرأى الصحيح فى تصرفات السفيه وذى الغفلة السابقة على صدور القرار بالحجر عليه، بغض النظر عما هو القول الراجح فى مذهب أبى حنيفة.
ويبدو أن الطاعن لم يبن طعنه على مجرد أن الحكم المطعون فيه قد خالف المادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، ولكنه بناه على أن الحكم قد أسس على رأى يخالف القول الراجح فى مذهب أبى حنيفة. ومن مؤدى هذا المطعن أن الرأى الذى اعتمده الحكم المطعون فيه إن لم يخالف القول الراجح فى المذهب (على معنى الترجيح المعروف عند الفقهاء) فقد خالف الرأى الصحيح الذى يجب على المحكمة المدنية أن تتبعه. ولذلك كان من المتعين أن تقول محكمة النقض كلمتها فى تصرفات السفيه أو ذى الغفلة السابقة على قرار الحجر، ولو لم تتقيد فى ذلك برأى فقيه دون آخر.
وقد لخصت محكمة النقض سبب الطعن فقالت إنه يتحصل "فى أن الحكم المطعون فيه مقام على أن محجورة المطعون عليها كانت ناقصة الأهلية لسفهها وغفلتها قبل الحجر عليها لهذين السببين بزمن بعيد، وأن مورث الطاعنين كان عالماً بهذا النقص فى أهليتها عند تعاقده معها قبل الحجر، وأنه لما كان السفيه وذو الغفلة كلاهما ناقص الأهلية بحكم الحالة التى هو فيها ولو لم يطلب الحجر عليه أو يصدر قرار به، وكان قرار الحجر ليس إلا إشهاراً لحالة سابقة على صدوره، كان هذا القرار - فضلا عن كونه حجة على الكافة من وقت صدوره - سارياً على المتعاقد من قبل مع ناقص الأهلية متى كان عالماً بقيام سبب الحجر به. وتأسيساً على ذلك أبطلت محكمة الاستئناف عقود البيع... الصادرة من محجورة المطعون عليها إلى مورث الطاعنين....".
وهذا الأساس الذى أقامت عليه المحكمة قضاءها مخالف للشريعة الإسلامية الواجبة التطبيق فى مسائل الأهلية، وللقول المستقر فى فقه القانون الوضعى فى هذه المسائل، ولأحكام القانون المدنى الخاصة بانعقاد العقد وصحته ونفاذه. ذلك أن القانون الواجب التطبيق فى مسائل الأهلية هو قانون الأحوال الشخصية، وهذا القانون هو الشريعة الإسلامية أى أحكامها المعمول بها فى المحاكم التى تطبقها وهى أرجح الأقوال فى مذهب أبى حنيفة وفقاً للمادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية وأرجح الأقوال فى مذهب أبى حنيفة هو قول أبى يوسف، وعنده أن السفيه وذا الغفلة كليهما كامل الأهلية حتى يحجر عليه القاضى، فتصرفاته قبل الحجر صحيحة نافذة والحجر عليه لا يرجع أثره إلى ما سبقه من تصرفات بل هو مقصور على ما كان منها تالياً له، ومن ثم لا يكون القرار مشهراً لحالة سابقة بل هو منشئ لحالة جديدة. ويترتب على ذلك أن محجورة المطعون عليها كانت كاملة الأهلية عندما تعاقدت مع مورث الطاعنين فما كان للحكم المطعون فيه أن يبطل عقودها...".
وقد رجعنا إلى تقرير الطعن فوجدنا أن الطاعن قد جعل لهذا السبب من أسباب طعنه العنوان الآتى: "مخالفة قواعد الأهلية والخطأ فى تطبيقها وتأويلها" وأنه بعد أن لخص الأسس التى بنى عليها الحكم المطعون فيه ونعى عليه مخالفته لأحكام الشريعة وأحكام القانون الوضعى قد استند إلى المادة 489 من قانون الأحوال الشخصية وإلى فتوى مفتى مصر وإلى كتاب السنهورى باشا فى نظرية العقد ثم نوه بالفرق بين السفيه والغفلة من جهة وبين الجنون والعته من جهة أخرى، فى حكم العقل والمنطق وطبيعة الأشياء، وأشار إلى أن القانون المدنى الفرنسى قد وضح الفروق بين هذه الأمور فيما وضعه من أحكام خاصة لكل منها، ونبه إلى اتفاق الرأى على اعتبار القرار الصادر بالحجر منشئاً لحالة جديدة غير كاشف لحالة سابقة، وأشار إلى أن محكمة النقض المصرية قد جرت على ما جرى به الفقه والقضاء فى فرنسا من اعتبار تصرفات السفيه وذى الغفلة السابقة على قرار الحجر صحيحة ما لم تكن قد انعقدت بقصد الاحتيال على القانون، أى توقعاً لقرار الحجر وتواطؤاً مع الغير للفرار من أثر هذا القرار.
ومن هذا يتضح أن للحكم المطعون فيه رأياً فى تطبيق القانون حاصله أن السفيه عديم الأهلية من وقت سفهه، وأن تصرفاته من وقت قيام سبب الحجر باطلة ولو كانت سابقة على قرار الحجر، وأن الطاعن يخالفه فى هذا الرأى ويبنى طعنه على كل الحجج المثبتة فساد رأى الحكم، وأن استناده إلى المادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية لم يكن إلا حجة واحدة من حجج كثيرة.
لذلك كان على محكمة النقض أن تقطع برأى فى هذه المسألة ولا تعرض عنها بمقولة إن الكلام فيها "خارج عن خصوص سبب الطعن". وخصوصاً أن هذه المحكمة كلما قضت بأن المحاكم المدنية غير مقيدة بحكم المادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية أو بالقول الراجح فى مذهب أبى حنيفة كانت تقرر القاعدة القانونية التى تتبعها فى خصوص النزاع المعروض عليها. فمن ذلك أنها حين قررت فى حكمها فى الطعن رقم 95 سنة 8 القضائية (الجزء الثانى من هذه المجموعة رقم 189 ص 575 وما يليها وهو الحكم الذى أشارت إليه محكمة النقض فى حكمها هذا موضوع التعليق) أن العمل بالمادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية لا يكون واجباً على المحاكم المدنية فى غير مسائل الأحوال الشخصية التى تختص المحاكم الشرعية بنظرها بصفة أصلية ولا تختص بها المحاكم المدنية إلا بصفة فرعية، قضت بأن خيار الشفعة ينتقل إلى وارث الشفيع، على خلاف رأى أبى حنيفة، كما تورث سائر الأموال والحقوق المتعلقة بها والحقوق المجردة والمنافع والخيارات والمؤملات والدعاوى وآجال الديون.
وبعد فإن المشرع المصرى قد أحسن إذ ضبط فى القانون المدنى الجديد قواعد الأهلية وآثار الحجر، فأكد أن الحجر إنما ينشئ حالة جديدة ولا يقرر حالة سابقة عليه، وجعل قرار الحجر - بل تسجيله - هو الحد الفاصل بين ما يصح وما لا يصح من تصرفات المحجور عليه، ثم ميز بين الحجر للجنون أو العته والحجر للسفه أو الغفلة، فبينما نص فى المادة 114 على أن تصرفات المجنون أو المعتوه السابقة على تسجيل قرار الحجر لا تكون باطلة إلا إذا كانت حالة الجنون أو العته شائعة وقت التعاقد أو كان الطرف الآخر على بينة منها، نص فى المادة 115 على أن تصرفات السفيه أو ذى الغفلة الصادرة قبل تسجيل قرار الحجر لا تكون باطلة إلا إذا كانت نتيجة استغلال أو تواطؤ، فشتان ما بين الشيوع أو العلم من جهة والاستغلال أو التواطؤ من جهة أخرى.