مجلس الدولة - المكتب الفنى - مجموعة المبادئ القانونية التى قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثانية عشرة - العدد الثانى (من منتصف فبراير سنة 1967 إلى آخر سبتمبر سنة 1967) - صـ 1165

(128)
جلسة 17 من يونية سنة 1967

برئاسة السيد الأستاذ الدكتور محمود سعد الدين الشريف رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة الأساتذة عبد الستار عبد الباقى آدم ومحمد طاهر عبد الحميد ويوسف ابراهيم الشناوى وعباس فهمى محمد بدر المستشارين.

القضية رقم 637 لسنة 9 القضائية

( أ ) - فائدة التأخير. عقد ادارى. المادة 226 من القانون المدنى - تطبيقها على الروابط الادارية باعتبارها من الأصول العامة فى الالتزامات - مناط استحقاق فوائد التأخير بالتطبيق لأحكامها - افتراض الضرر فى حالة تأخير المدين فى الوفاء بحكم القانون. [(1)]
(ب) دين. "الوفاء به". عرض حقيقى. الوفاء بالدين - تكييفه - عدم رضاء الدائن بما يعرضه عليه المدين وفاء للدين - اجباره على ذلك عن طريق العرض الحقيقى - تكييفه قانونا وأثره.
(جـ) - دين. "الوفاء به". عرض حقيقى. الوفاء بالدين عن طريق عرضه على الدائن عرضا حقيقيا - تطبيقه على شرط أو قيد لا يستلزمه الدين المعروض له أو بالتعسف - أثره - اعتبار العرض غير قائم.
(د) - دين. "الوفاء به". عرض حقيقى. عقد ادارى. أحكام العرض الحقيقى من قواعد القانون المدنى - أهمية الأخذ بفكرتها فى علاقة الادارة بدائنيها - اتباع اجراءات العرض الحقيقى والايداع المنصوص عليها فى قانون المرافعات فى مجال الروابط الادارية - رهين بعدم تعارض هذا الأسلوب مع طبيعة هذه الروابط والقواعد والنظم المالية المتعلقة بالصرف - تعلية المبالغ المستحقة على الادارة بالأمانات على ذمة الدائن يحقق ما يستهدفه نظام العرض والايداع - لا يلزم استصدار حكم بصحة العرض والايداع - أساس ذلك.
(هـ) - دين. "الوفاء به" عرض حقيقى. عقد ادارى. تعليته بالأمانات. عرض جهة الادارة الوفاء بدين عليها بتعليته بالأمانات لحساب الدائن مع اشتراط قبوله والتنازل عن أى حق له قبلها - اعتبار هذا الشرط شرطا تعسفيا لا يستلزمه الدين المعروض - أثر ذلك - لا تبرأ ذمة الجهة الادارية من الدين بهذا الايداع.
1 - أن مناط استحقاق فوائد التأخير - وفقا لما يقضى به نص المادة 226 من القانون المدنى وهى من الأصول العامة للالتزامات التى تطبق على الروابط الادارية - أن يكون محل الالتزام مبلغا من النقود معلوم المقدار وقت الطلب وأن يتأخر المدين فى الوفاء به فى الميعاد المحدد، بقطع النظر عن وقوع ضرر للدائن من جراء هذا التأخير وفوائد التأخير على هذا الوجه ليست الا تطبيقا للقواعد العامة فى المسئولية، فيلزم لاستحقاقها أن يكون ثمة خطأ وقع من المدين وضرر أصاب الدائن وعلاقة سببية بين الخطأ والضرر، فأما الضرر وعلاقة السببية فمفترضان فرضا غير قابل لاثبات العكس، وأما الخطأ فواجب اثباته ويتمثل فى تأخر المدين فى الوفاء بالمبلغ المستحق فى الميعاد المحدد.
2 - أن الوفاء هو اتفاق بين المدين والدائن على قضاء الدين والاتفاق يتطلب بالضرورة رضاء الدائن بما يعرضه عليه المدين وفاء للدين، فاذا امتنع الدائن عن قبول الوفاء بغير موجب فانه يجبر على هذا القبول عن طريق العرض الحقيقى للدين، ويعتبر الوفاء عن هذا الطريق تصرفا قانونيا بارادة منفردة هى ارادة المدين الذى يعرض الوفاء حتى يتحلل من الدين وفوائد فى حين يرفض الدائن استيفاء الدين دون مبرر، فيكون من العدل أن يتم الوفاء جبرا على الدائن باجراءات تقوم مقام الوفاء الفعلى ويترتب عليها ما يترتب على الوفاء الفعلى.
3 - لما كان العرض الحقيقى انما شرع لمواجهة تعنت الدائن ورفضه قبول الوفاء المعروض عليه بغير سبب مشروع، وكان من العدل أن يحمل الدائن على قبول هذا الوفاء حتى تبرأ ذمة المدين من الدين ومن تبعاته بما فى ذلك سريان الفوائد، فان ذلك يقتضى بالضرورة أن يكون العرض خاليا من أى قيد أو شرط لا يستلزمه الدين المعروض، فاذا كان العرض معلقا على شرط لا يستلزمه الدين المعروض أو كان شرطا تعسفيا فان من حق الدائن أن يمتنع عن قبول الوفاء، ولا يعود للمدين أى حق فى حمله على قبوله باجراءات العرض الحقيقى والايداع - اذ يترتب على هذا الشرط اعتبار العرض غير قائم.
4 - أن أحكام العرض الحقيقى - وهى من قواعد القانون المدنى - انما تقوم على فكرة الوفاء جبرا على الدائن فى حالة امتناعه عن قبول الوفاء بغير موجب، عن طريق اثبات هذا الامتناع بطريق رسمى لا شبهة فيه، وذلك حتى يتحلل المدين من شغل ذمته بالدين وما يترتب على ذلك من سريان الفوائد القانونية من تاريخ المطالبة وتحمل تبعة هلاك الشئ محل الالتزام ومؤونة المحافظة عليه. ولا شك فى أهمية الأخذ بهذه الفكرة فى علاقة الادارة بدائنيها اذا ما أرادت تبرئة ذمتها مما هى مقرة به، بيد أن اتباع ذات اجراءات العرض الحقيقى والايداع المنصوص عليها فى قانون المرافعات فى مجال الروابط الادارية رهين بعدم تعارض هذا الأسلوب مع طبيعة هذه الروابط أو القواعد والنظم المالية المتعلقة بالصرف. ذلك أن اجراءات الصرف الحكومية تقضى بدعوة الدائن للتوقيع على مستندات الصرف بمقر الادارة ليقتضى ما هى مقرة به، فان رفض قبول هذه الدعوة أو امتنع عن التوقيع على المستندات فان المبالغ المستحقة تعلى بالا مانات على ذمته وتلك اجراءات قريبة الشبه باجراءات نظام العرض والايداع ويمكن أن تحقق ما يستهدفه نظام العرض والايداع من وفاء الدين جبرا على الدائن، ولا يبقى الا جواز استصدار حكم بصحة العرض والايداع وهو اجراء قد لا يكون ثمة وجه لتطلبه بالنسبة الى الجهة الادارية بحسبان أن اجراءاتها محمولة على الصحة بما تكفله من الضمانات الى أن يقوم الدليل على العكس.
5 - اذا كان الثابت أن الجهة الادارية فى الوقت الذى عرضت فيه الدين على الدائن قد تطلبت أن يوقع اقرارا بقبوله ما تعرضه عليه وبتنازله عن المطالبة بأى حق له قبلها، فان هذا الشرط يكون شرطا تعسفيا لا يستلزمه الدين المعروض وليس له من مسوغ معقول وينبنى على ذلك أن تعلية المبالغ بالامانات اللاحق لهذا العرض - بفرض التسليم بقيامه مقام الايداع بخزانة المحكمة - لا يبرئ ذمة الجهة الادارية من الدين.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الايضاحات وبعد المداولة.
ومن حيث أن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث ان عناصر هذه المنازعة تخلص - على ما يبين من أوراق الطعن - فى أن المدعى أقام الدعوى رقم 225 لسنة 12 القضائية أمام محكمة القضاء الادارى "هيئة العقود الادارية وطلبات التعويض" ضد وزارة الاصلاح الزراعى بصحيفة أودعت سكيرتيرية هذه المحكمة فى 28 من نوفمبر سنة 1957 طالبا الحكم بالزام المدعى عليها بأن تدفع له مبلغ 740.800 جنيها والفوائد القانونية ابتداء من 21 من أكتوبر سنة 1957 حتى السداد مع الزامها بمصروفات الدعوى ومقابل أتعاب المحاماة. وقال فى بيان دعواه أنه تعاقد مع وزارة الاصلاح الزراعى فى 29 من يوليه سنة 1956 على أن يقوم بعملية تقوية جسر حوشة ويصا بمركز ملوى مقابل مبلغ 418 جنيها على أساس أن المكعبات المبدئية للعملية ثمانية آلاف متر مكعب من الأتربة وأن ثمن المتر المكعب 55 مليما على أن تكون العبرة بالجشنى وعمل الختامى وأنه تبين من الكشف الختامى للعملية المذكورة أن كمية الأتربة التى قام بنقلها الى الجسر المراد تقويته بلغت 13.378.5 مترا مكعبا وطبقا لشروط العقد فان المبلغ المستحق له 735 جنيها و790 مليما وباستنزال 5% من هذا المبلغ طبقا للعقد يكون الباقى 699 جنيها، وباضافة قيمة التأمين المدفوع منه وقدره 41 جنيه و800 مليم تكون جملة المبلغ المستحق له فى ذمة الوزارة 740 جنيه و800 مليم وهو المبلغ المدعى به.
وقد عقبت الوزارة على الدعوى بأن المبلغ المستحق للمدعى فى ذمتها 478 جنيها و177 مليما من واقع الجشنى الذى حصر كمية الأمتار المكعبة التى أنجزها المدعى بمقدار 7974.4 مترا مكعبا، وأن المقاول أخطر فى 11 من نوفمبر سنة 1956 للحضور للتوقيع على المستخلص النهائى ولكنه امتنع عن التوقيع.
وبجلسة 10 من فبراير سنة 1963 قضت محكمة القضاء الادارى فى حكمها المشار اليه [(2)] وأقامت قضاءها - فيما يتعلق بالفوائد والمصاريف (محل الطعن الراهن) على أن الوزارة لم تنازع فى أحقية المدعى للمبلغ المحكوم به وانها قد اتخذت من جانبها ما تقضى به القواعد المالية بالنسبة لاجراءات الصرف فأرسلت ادارة الرى مستندات الصرف للادارة المالية لتعليتها بالأمانات لحين قيام المدعى بالتوقيع على مستندات الصرف غير أنه رفض التوقيع على تلك المستندات وكان يتعين على الوزارة فى هذه الحالة أن تتخذ اجراءات عرض المبلغ المذكور عرضا رسميا على يد محضر وذلك عن طريق ادارة قضايا الحكومة وبالتالى يتعين الحكم بالفوائد على المبلغ المحكوم به فى الدعوى بواقع 4% من تاريخ المطالبة القضائية حتى تمام الوفاء. وفيما يتعلق بالمصروفات أقامت المحكمة قضاءها فى الزام الوزارة بها على أساس ما تقضى به المادة 359 من قانون المرافعات المدنية والتجارية من الزام من خسر الدعوى فى شق منها المصروفات المناسبة.
ومن حيث ان الطعن انصب على ما قضى به الحكم من الزام الوزارة بالفوائد والمصروفات وقام على أن الثابت أن الحكومة عرضت على المطعون ضده المستخلص النهائى ولكنه رفض التوقيع على المستخلص ثم أعادت عرض المستخلص عليه فرفض للمرة الثانية وحرر مذكرة فى 13 من يونيه ضمنها اعتراضه على ذلك المقدار وقد أخذت المحكمة بالمبلغ الذى عرضته الحكومة وبذلك يكون المدعى قد امتنع بخطئه عن صرف مستحقاته التى أقرت بها الحكومة وكان يتعين على المحكمة أن لا تقضى له بأية فوائد أو مصروفات. وانه لا وجه لما ذهب اليه الحكم المطعون فيه من ان الحكومة لم تعرض على المطعون ضده المبلغ عرضا رسميا على يد محضر لأن ذلك تطبيق حرفى للقواعد المدنية التى لا تتفق فى هذا المجال مع القواعد الادارية فى الصرف ولا يمكن الأخذ بها فى مجال التعامل مع الحكومة ذلك أن الحكومة لها قواعدها المالية والادارية التى يجب استيفاؤها قبل قبض أى مبلغ ولا يمكن الزامها بأن تقوم بعرض كل مبلغ يستحق لاحد الافراد عليها عرضا رسميا والا كان ذلك اعناتا وتعطيلا لحسن سير الاداة الحكومية.
ومن حيث أن هيئة مفوضى الدولة قدمت تقريرا بالرأى القانونى ذهبت فيه الى أنه لما كانت اجراءات الصرف الحكومية تقضى من الدائن ان يوقع على المستندات المعدة لذلك بحيث يستحيل الصرف قانونا مالم يتم توقيعه على هذه المستندات والا تمت تعلية مستحقاته بحساب الامانات فان هذا الاعتبار يؤدى بالضرورة الى استحالة قانونية نحو اتباع اجراءات العرض الفعلى فى مجال الروابط الادارية وبالتالى فان دعوة الدائن للتوقيع على مستندات الصرف تتضمن فى ذات الوقت عرضا بتكليف وهو يغنى عن العرض الفعلى ويرتب ذات آثاره، ومن ثم فان اشتراط أن يكون العرض على يد محضر ليس ضروريا فى مجال الروابط الادارية التى يجب أن تتسم بالسرعة والمرونة اللازمين لتسيير المرافق العامة فضلا عن أنه اذا كان المقصود بضرورة اتمام العرض على يد محضر هو ان يكون العرض جديا وثابتا فى ورقة رسمية فان هذا الاعتبار يكون متحققا فى حالة تكليف الادارة دائنها بالتوقيع على مستندات الصرف أو بالحضور لاستلام مستحقاته لديها اذ أن اجراءاتها تتم فى أوراق رسمية وأنه لا يفترض فيها غير الجدية عندما تقدم على تصرف معين. ومن ثم فان دعوة المدعى للتوقيع على مستندات الصرف تعتبر عرضا مصحوبا بتكليف يترتب عليه وقف سريان الفوائد ضد الجهة الادارية ويكون القضاء ضدها بالفوائد على غير أساس سليم من القانون. وأما عن المصروفات فقد ذهب التقرير الى أنه لما كان الحق مسلما به ممن وجهت اليه الدعوى فغرم التداعى يقع على من وجهها.
ومن حيث أن مناط استحقاق فوائد التأخير - وفقا لما يقضى به نص المادة 226 من القانون المدنى وهى من الاصول العامة للالتزامات التى تطبق على الروابط الادارية أن يكون محل الالتزام مبلغا من النقود معلوم المقدار وقت الطلب وأن يتأخر المدين فى الوفاء به فى الميعاد المحدد، بقطع النظر عن وقوع ضرر للدائن من جراء هذا التأخير وفوائد التأخير على هذا الوجه ليست الا تطبيقا للقواعد العامة فى المسئولية، فيلزم لاستحقاقها أن يكون ثمة خطأ وقع من المدين وضرر أصاب الدائن وعلاقة سببية بين الخطأ والضرر، فأما الضرر وعلاقة السببية فمفترضان فرضا غير قابل لاثبات العكس، وأما الخطأ فواجب اثباته ويتمثل فى تأخر المدين فى الوفاء بالمبلغ المستحق فى الميعاد المحدد.
ومن حيث ان الوفاء هو اتفاق بين المدين والدائن على قضاء الدين، والاتفاق يتطلب بالضرورة رضاء الدائن بما يعرض عليه المدين وفاء للدين، فاذا امتنع الدائن عن قبول الوفاء بغير موجب فانه يجبر على هذا القبول عن طريق العرض الحقيقى للدين، ويعتبر الوفاء عن هذا الطريق تصرفا قانونيا بارادة منفردة هى ارادة المدين الذى يعرض الوفاء حتى يتحلل من الدين وفوائده فى حين يرفض الدائن استيفاء الدين دون مبرر، فيكون من العدل أن يتم الوفاء جبرا على الدائن باجراءات تقوم مقام الوفاء الفعلى ويترتب عليها ما يترتب على الوفاء الفعلى.
ومن حيث ان الأحكام المنظمة للعرض الحقيقى ورد بعضها فى القانون المدنى وبعضها فى قانون المرافعات، فتناول القانون المدنى أحكامه الموضوعية وبعض اجراءاته، وأحال فى باقى الاجراءات الى قانون المرافعات. وتجمل اجراءات العرض الحقيقى فى أن للمدين اذا أراد تبرئة ذمته مما هو مقربه نقدا أو غيره أن يعرضه عرضا فعليا على دائنه فى موطنه على يد محضر، أما ما يمكن تسلمه من الأعيان فى موطن الدائن فيحصل عرضه بمجرد تكليف الدائن على يد محضر يتسلمه، على أن يشتمل محضر العرض أو ورقة التكليف على بيان جنس النقود وعددها وبيان الشئ المعروض بيانا دقيقا وشروط العرض وذكر قبول المعروض أو رفضه. فاذا رفض العرض وكان المعروض من النقود قام بالمحضر بايداعه خزانة المحكمة فى اليوم التالى على الأكثر على أن يعلن الدائن بصورة من محضر الايداع فى ظرف ثلاثة أيام. واذا كان المعروض شيئا غير النقود جاز للمدين أن يطلب الى قاضى الأمور المستعجلة تعيين حارس لحفظه فى المكان الذى يعينه. واذا أراد المدين أن يقطع كل نزاع فى براءة ذمته فعليه أن يطلب الحكم بصحة العرض والايداع، كما يجوز للدائن أن يطلب الحكم ببطلان العرض ويكون ذلك فى الحالين بالطرق المعتادة لرفع الطلبات الأصلية أو العارضة. ويجوز العرض الفعلى حال المرافعة أمام المحكمة دون اجراءات أخرى اذا كان من يوجه اليه العرض حاضرا، ويقوم العرض الحقيقى بالنسبة للمدين مقام الوفاء اذا تلاه ايداع يتم وفقا لأحكام قانون المرافعات أو تلاه أى اجراء مماثل وذلك اذا قبله الدائن أو صدر حكم نهائى بصحته. هذا وقد تناول القانون المدنى مرحلة سابقة على مرحلتى العرض والايداع هى مرحلة اعذار الدائن وما يرتب عليها من اجراءات، وهى مرحلة استحدثها القانون الراهن لأول مرة، وذلك بأن يبدأ المدين بعرض الوفاء على الدائن عرضا عاديا دون حاجة الى حصوله على يد محضر وانما يكفى مجرد ابداء استعداده لوفاء الدين ويتم ذلك بأية طريقة تفى بهذا الغرض، فاذا رفض الدائن قبول الوفاء على هذا الوجه كان للمدين أن يسجل هذا الرفض باعلان رسمى على يد محضر وكان المشروع التمهيدى للقانون المدنى يكتفى فى هذا الاعذار بمجرد الكتابة لكن لجنة مجلس الشيوخ عدلته، وتطلبت أن يكون باعلان رسمى على يد محضر، ويترتب على اعذار الدائن على الوجه المتقدم نتائج خطيرة كانت تترتب فى ظل القانون المدنى السابق على العرض الحقيقى والايداع، فى حين رتبها القانون الراهن على مرحلة سابقة عليهما، وهى مرحلة اعذار الدائن فنصت المادة 335 على أنه "اذا تم اعذار الدائن تحمل تبعة هلاك الشئ أو تلفه ووقف سريان الفوائد وأصبح للمدين الحق فى ايداع الشئ على نفقة الدائن والمطالبة بتعويضه عما أصابه من ضرر".
ومن حيث أنه لما كان العرض الحقيقى انما شرع لمواجهة تعنت الدائن ورفضه قبول الوفاء المعروض بغير سبب مشروع، وأنه من العدل أن يحمل الدائن على قبول هذا الوفاء حتى تبرأ ذمة المدين من الدين ومن تبعاته بما فى ذلك سريان الفوائد، فان ذلك يقتضى بالضرورة أن يكون العرض خاليا من أى قيد أو شرط لا يستلزمه الدين المعروض. فاذا كان العرض معلقا على شرط لا يستلزمه الدين المعروض أو كان شرطا تعسفيا فان من حق الدائن أن يمتنع عن قبول الوفاء، ولا يعود للمدين أى حق فى حمله على قبوله باجراءات العرض الحقيقى والايداع اذ يترتب على هذا الشرط اعتبار العرض غير قائم.
ومن حيث أنه يبين مما تقدم أن نظام العرض الحقيقى هو وفاء يتم جبرا على الدائن ويقوم مقام الوفاء الفعلى ويرتب ذات آثاره، فانه يندرج بهذه المثابة فى أسباب انقضاء الالتزام.
ومن حيث أن قضاء هذه المحكمة الادارية العليا جرى على أن روابط القانون الخاص تختلف فى طبيعتها عن روابط القانون العام، وأن قواعد القانون المدنى قد وضعت لتحكم روابط القانون الخاص، وانها لا تطبق وجوبا على روابط القانون العام الا اذا وجد نص يقضى بذلك، فان لم يوجد فلا يلزم القضاء الادارى بتطبيق القواعد المدنية حنما وكما هى، وانما تكون له حريته واستقلاله فى ابتداع الحلول المناسبة للروابط القانونية التى تنشأ فى مجال القانون العام بين الادارة فى قيامها على المرافق العامة وبين الأفراد فله أن يطبق من القواعد المدنية ما يتلاءم معها وله أن يطرحها ان كانت غير ملائمة معها وله أن يطورها بما يحقق هذا التلاءم.
ومن حيث أن أحكام العرض الحقيقى - وهى من قواعد القانون المدنى انما تقوم على فكرة الوفاء جبرا على الدائن فى حالة امتناعه عن قبول الوفاء بغير موجب، عن طريق اثبات هذا الامتناع بطريق رسمى لا شبهة فيه، وذلك حتى يتحلل المدين من شغل ذمته بالدين وما يترتب على ذلك من سريان الفوائد القانونية من تاريخ المطالبة القضائية وتحمل تبعة هلاك الشئ محل الالتزام ومؤونة المحافظة عليه. ولا شك فى أهمية الأخذ بهذه الفكرة فى علاقة الادارة بدائنيها اذا ما أرادت تبرئة ذمتها مما هى مقرة به، بيد أن اتباع ذات اجراءات العرض الحقيقى والايداع المنصوص عليها فى قانون المرافعات فى مجال الروابط الادارية رهين بعدم تعارض هذا الأسلوب مع طبيعة هذه الروابط أو القواعد والنظم المالية المتعلقة بالصرف. ذلك أن اجراءات الصرف الحكومية تقضى بدعوة الدائن للتوقيع على مستندات الصرف بمقر الادارة ليقتضى ما هى مقره به، فان رفض قبول هذه الدعوة أو امتنع عن التوقيع على المستندات فان المبالغ المستحقة تعلى بالأمانات على ذمته وتلك اجراءات قريبة الشبه باجراءات نظام العرض والايداع ويمكن أن تحقق ما يستهدفه نظام العرض والايداع من وفاء الدين جبرا على الدائن، ولا يبقى الا جواز استصدار حكم بصحة العرض والايداع، وهو اجراء قد لا يكون ثمة وجه لتطلبه بالنسبة الى الجهة الادارية بحسبان أن اجراءاتها محمولة على الصحة بما تكفله من الضمانات الى أن يقوم الدليل على العكس.
ومن حيث أنه لما كان اعذار الدائن - أى اعلانه على يد محضر - بعد عرض الدين عليه عرضا فعليا كافيا بذاته لوقف سريان الفوائد طبقا لحكم المادة 335 من القانون المدنى، كما سبق البيان، فانه كان بوسع الجهة الادارية أن تتحلل من الفوائد لو أنها بادرت الى اعذار المدعى دون حاجة الى اتخاذ اجراءات العرض والايداع على النحو السابق به العرض وليس فى القيام بهذا الاجراء اعنات للجهة الادارية أو تعويق لنشاطها أو مجافاة لطبيعة الروابط الادارية اذ يتم هذا الاجراء عن طريق ادارة القضايا، بيد أن الواقع أن الجهة الادارية لم تقم بهذا الاجراء بدعوى أن فى اجراءات دعوة الدائن للتوقيع على المستندات وتعلية المبالغ المستحقة بالأمانات ما يغنى عن اجراءات العرض الحقيقى والايداع.
ومن حيث أنه اذا صح أن الجهة الادارية لا تتقيد بعرض ما هى مقرة به لدائنيها باجراءات نظام العرض الحقيقى والايداع المنصوص عليها فى قانون المرافعات، بحسبان أن نظام الصرف الحكومى يغنى عن نظام العرض الحقيقى ويقوم مقامه فى الوفاء الحكمى ويتفق مع طبيعة الروابط الادارية، الا أنه يلزم لصحة عرض الدين على الدائن - أيا كانت اجراءات هذا العرض - أن يكون امتناع الدائن عن قبول الوفاء لغير سبب مشروع. أما اذا كان لامتناع الدائن مبرر مشروع، فانه لا يكون ثمة محل لحمله قهرا على قبول الوفاء وذلك يقتضى بالضرورة أن يكون عرض الدين على الدائن خاليا من أى قيد أو شرط لا يحل للمدين فرضه فاذا كان الثابت أن الجهة الادارية فى الوقت الذى عرضت فيه الدين على الدائن قد تطلبت أن يوقع اقرارا بقبوله ما تعرضه عليه وبتنازله عن المطالبة بأى حق له قبلها، فان هذا الشرط يكون شرطا تعسفيا لا يستلزمه الدين المعروض، وليس له من مسوغ معقول وينبنى على ذلك أن تعلبة المبالغ بالأمانات اللاحق لهذا العرض - بفرض التسليم بقيامه مقام الايداع بخزانة المحكمة - لا يبرئ ذمة الجهة الادارية من الدين.
ومن حيث أنه يبين من الرجوع الى المستخلص المتضمن لما أقرت به الجهة الادارية للمدعى والذى رفض الأخير التوقيع عليه منازعا فى صحته أنه تضمن الاقرار التالى. "تسلمت التحويل رقم.... وأقر أنى أوافق على الحساب المتقدم بيانه وأنى تسلمت المستحق لى بالتمام وليس لى طلبات على الحكومة بخصوص هذا العمل".
ومن حيث أن اشتراط توقيع الدائن على هذا البيان يتضمن فى حقيقة الواقع وجوب اقراره بتنازله عن المطالبة بأى حق له قبل الجهة الادارية حتى يمكن استيفاء الدين المعروض عليه. ولا شبهة فى أن هذا الشرط هو مما لا يستلزمه الدين المعروض وليس له من مسوغ معقول. فحسب الجهة الادارية أن تبرئ ذمتها مما هى مسلمة به من الدين والدائن وشأنه فيما ينازع فيه زيادة عن القدر المسلم به، فعليه وحده تقع مغبة هذه المنازعة اذا ما تبين فيما بعد عدم جديتها. ولا يقدح فى ذلك أن يكون الحكم المطعون فيه قد انتهى الى الحكم للمدعى بما سبق أن سلمت به الجهة الادارية فحسب، وأن ذلك ينهض قرينة قاطعة على بطلان ادعائه، ذلك أن العبرة فى الحكم على سلامة العرض هو بتاريخ حصوله بقطع النظر عما أسفرت عنه المنازعة فيما بعد. والثابت أن العرض لم يستكمل مقوماته من حيث خلوه من أى قيد أو شرط لا يحل فرضه مما يجعله باطلا عديم الأثر كبديل للوفاء الفعلى بالدين وكسبب من أسباب انقضاء الالتزام.
ومن حيث أنه متى كان ذلك فان الجهة الادارية تتحمل الفوائد القانونية على المبلغ المحكوم به من تاريخ المطالبة القضائية وتلزم بالتبع بمصاريف الدعوى ويكون الحكم المطعون فيه قد أصاب الحق فيما انتهى اليه.

"فلهذه الأسباب"

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلا وبرفضه موضوعا وألزمت الحكومة بالمصروفات.


[(1)] راجع حكم المحكمة الادارية العليا الصادر فى القضية رقم 148 لسنة 4 ق بجلسة 17/ 5/ 1958 والمنشور بمجموعة السنة الثالثة مبدأ 134 - ص 1258.
[(2)] قضت محكمة القضاء الادارى فى حكمها المشار اليه "بالزام الوزارة المدعى عليها بأن تدفع الى المدعى مبلغ 478 جنيها و177 مليما والفوائد القانونية بواقع 4% سنويا من تاريخ المطالبة القضائية الحاصلة فى 28 من نوفمبر سنة 1957 والمصروفات المناسبة ورفض ما عدا ذلك من الطلبات".