مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد المدنية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الأول (عن المدة من 12 نوفمبر سنة 1931 لغاية 29 أكتوبر سنة 1936) - صـ 335

جلسة 22 مارس سنة 1934

برياسة سعادة عبد العزيز فهمى باشا رئيس المحكمة وبحضور حضرات: مراد وهبة بك ومحمد فهمى حسين بك وحامد فهمى بك ومحمد نور بك المستشارين.

(170)
القضية رقم 18 سنة 3 القضائية

حرية الأفراد. وجوب احترامها. حدّ ذلك. المسوّغ الشرعى لتقييدها. حق محكمة النقض فى مراقبة قيام هذا المسوّغ وعدم قيامه.
(المواد 15 تحقيق جنايات و242 عقوبات و4 و5 من الدستور)
إذا كان لرجال الضبطية الإدارية، فى سبيل منع ارتكاب الجرائم، أن يتخذوا ما يلزم من الإجراءات والوسائل، إلا أنه يجب عليهم أن يمتنعوا عن الوسائل المقيدة لحرّية الأفراد، ما لم يكن ثمت مسوّغ شرعى تقتضيه ظروف الأحوال. ويعتبر المسوّغ الشرعى متوافرا حينما يكون الموظف قائما بأداء وظيفته ويكون ما عمله أو أجراه لازما حتما للقيام بمهامها من منع ضرر جسيم يهدّد النظام والأمن، باعتبار هذا الإجراء الوسيلة الوحيدة لمنع هذا الضرر. ولمحكمة النقض والإبرام حق الرقابة على قيام هذا المسوّغ وعدم قيامه.


الوقائع

تتلخص وقائع هذه الدعوى، حسب الوارد فى الحكم المطعون فيه وفى الأوراق والمستندات المقدّمة لهذه المحكمة، فى أن محمود أفندى توفيق بصفته ضابط مباحث قسم الجمرك ألقى القبض على محمد أفندى فريد أبو سيف فى مساء 8 أكتوبر سنة 1930 بغير ذنب جناه وأرسله إلى سجن بلوك الخفر حيث أودع فيه إلى صباح يوم 10 أكتوبر سنة 1930 إذ أفرج عنه فى الساعة العاشرة من اليوم المتقدّم دون أن توجه إليه تهمة مّا وبدون مبرر مخالفا فى ذلك القوانين. وقد أصيب من جراء ذلك بأمراض جسيمة نتيجة مبينة على الأسفلت فضلا عن تعطيل أعماله الأمر الذى اضطرّه لرفع الدعوى رقم 499 سنة 1931 أمام محكمة مصر الابتدائية الأهلية ضدّ الطاعنين طلب فيها الحكم عليهم متضامنين بصفتهم مسئولين عن هذا العمل بمبلغ 200 جنيه مع المصاريف والأتعاب.
وبتاريخ 3 يناير سنة 1932 قضت محكمة مصر حضوريا بالزامهم جميعا بأن يدفعوا له بطريق التضامن مبلغ 5 جنيهات مع المصاريف المناسبة و200 قرش مقابل أتعاب المحاماة.
استأنف الطاعنون هذا الحكم أمام محكمة استئناف مصر الأهلية بالاستئناف رقم 1000 سنة 49 قضائية وطلبوا الحكم بقبول استئنافهم شكلا وموضوعا بالغاء الحكم المستأنف ورفض الدعوى مع إلزام رافعها بمصاريف الدرجتين. ثم طلبوا فى مذكرتهم المقدّمة لتلك المحكمة الحكم أصليا بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى واحتياطيا برفضها موضوعا. وبعد أن نظرت المحكمة المذكورة القضية حكمت حضوريا بتاريخ 10 ديسمبر سنة 1932 بقبول الاستئناف شكلا وفى الموضوع: (أوّلا) باختصاص المحكمة بنظر الدعوى. (ثانيا) بتعديل الحكم وبالزام الطاعنين متضامنين بأن يدفعوا للمطعون ضدّه 15 جنيها والمصاريف المناسبة لذلك و400 قرش مقابل أتعاب المحاماة عن الدرجتين ورفضت ما عدا ذلك من الطلبات.
أعلن هذا الحكم لوزارة الداخلية فى 14 يناير سنة 1933 فطعنت فيه بطريق النقض فى 12 فبراير سنة 1933 وأعلن تقرير الطعن للمدّعى عليه فى 16 منه وقدّمت المذكرات الكتابية ومذكرات الردّ فى الميعاد القانونى وقدّمت النيابة مذكرتها فى 30 أبريل سنة 1933.
وبجلسة 25 مايو سنة 1933 المحدّدة لنظر هذا الطعن قرّرت المحكمة تأجيل القضية لجلسة 26 أكتوبر سنة 1933 لمرض حضرة العضو الموزعة عليه القضية. وبالجلسة المذكورة سمعت المحكمة أقوال طرفى الخصومة ثم أجلت القضية لجلسة 21 ديسمبر سنة 1933 مع تكليف مندوب وزارة الداخلية بتقديم مذكرة تكميلية للتكلم عن مدى سلطة البوليس الإدارية والحدود التى يجب أن تقف عندها فى منع الجرائم، ومنها تأجلت لجلسة 8 فبراير سنة 1934 لعدم تقديم المذكرة التكميلية. وأخيرا تأجلت لجلسة أوّل مارس سنة 1934 وفيها صمم كل من طرفى الخصومة والنيابة على ما جاء بمذكراته وأجل النطق بالحكم لجلسة اليوم.


المحكمة

بعد سماع المرافعة الشفوية والاطلاع على الأوراق والمداولة قانونا.
من حيث إن الطعن رفع صحيحا فى الميعاد من حكم قابل له فهو مقبول شكلا.
وحيث إن مبنى الطعن أن الحكم المطعون فيه قد أخطأ فى اعتبار المدّعى عليهم مسئولين عما أجراه بوليس مدينة الإسكندرية مساء يوم 8 أكتوبر سنة 1930 من إلقاء القبض على محمد فريد أفندى أبو يوسف وحجزه بسجن بلوك الخفر ثلاثين ساعة بغير ذنب وبغير مسوّغ شرعى مع أن ما عمله البوليس من ذلك إنما كان ليحول به دون وقوع جريمة خطيرة فى ظروف تقتضى منتهى اليقظة والحرص محافظة على أمن الدولة. ولذلك يجب اعتباره إما من أعمال السلطة القضائية التى تتمتع بعدم المسئولية وإما من أعمال السيادة التى لا تختص المحاكم بنظر ما يرفع بشأنها من دعاوى التعويض، أو اعتباره على الأقل من أعمال السلطة الإدارية التى لها الحرّية الواسعة فى اتخاذ ما تقضى به الظروف والملابسات لمنع ارتكاب الجرائم، لا يقيدها فى ذلك أى قيد من القيود الواردة فى قانون تحقيق الجنايات.
وحيث إن الحكم المطعون فيه، بعد أن بيّن ما هو الواقع فى الدعوى وأن هذا الواقع باعتراف الحكومة نفسها ينحصر فى أنه وصل إلى علم البوليس أن بعض المشاغبين يريدون الإخلال بالأمن يوم 9 أكتوبر سنة 1930 الذى هو يوم عيد جلوس جلالة الملك، كما أنهم فكروا فى إحراق الكشك الذى أقامته بلدية الإسكندرية لتشريف جلالته وفى قطع الأسلاك الكهربائية لتعطيل أنوار الزينة، فاضطر البوليس إلى حجز أولئك المشاغبين ومن ضمنهم المستأنف عليه (المطعون ضدّه) اتقاء لهذه الحوادث، وبعد أن قال الحكم المذكور إنه تبين لمحكمة الاستئناف من صحيفة الاستئناف ومن المذكرة المقدّمة لها من الحكومة المستأنفة أن الحكومة لا تنازع فى وقوع تجاوز من رجال البوليس لحدود القانون وإنما تبرر عدم مسئووليتهم بأنهم كانوا يقومون بالعمل حفظا للنظام ومنعا من ارتكاب الجرائم - بعد أن قال الحكم المطعون فيه ذلك أخذ فى تعريف معنى السيادة العامة وماذا تكون أعمالها، ثم قال إن موضوع الدعوى الحالية خاص بحالة فردية اعتدى فيها البوليس على حرية المستأنف عليه فقبض عليه وحجزه مخالفا فى ذلك قوانين الدولة، وإنه لا يمكن اعتبار هذا عملا من أعمال السيادة. ثم بحث الحكم بعد ذلك فيما إذا كان يمكن إلحاق هذا العمل الصادر من أحد رجال الضبطية القضائية بأعمال القضاة وتبريره بنفس العلة التى اقتضت عدم مسئوولية رجال القضاء إذا وقع منهم خطأ ضارّ بالأفراد فقال إنه لا يمكن قياسه عليها، ثم انتهى الحكم إلى القول بوجوب اعتبار ما جرى من البوليس فى حق المستأنف عليه عملا من أعمال السلطة الإدارية تجاوزت فيه حدود القانون ووقع مخالفا لقانون تحقيق الجنايات إذ البوليس لم يجر تحقيقا عما بلغ إليه ولم يسمع للمستأنف عليه قولا ولم يحرّر بما بلغ به محضرا يثبت فيه ما بلغه وما الذى استند إليه من الدلائل تبريرا لإلقاء القبض عليه بل لم تقدّم الحكومة للمحكمة وقائع معينة متصلة بموضوع ما بلغ إلى البوليس حتى كانت المحكمة تأخذ فى تقديرها وتقدير ما اتخذ من الإجراءات من أجلها. ثم أثبت الحكم بعد ذلك أن المحكمة ترى من ظروف القضية التى شرحتها الحكومة لتبرير عمل البوليس فيها من جهة حسن نيته واجتهاده فى المحافظة على الأمن العام والاحتياط لمنع ما بلغ إليه سريا فى وقت ضيق وفى المركز الدقيق الذى وجد فيه - ترى من هذه الظروف أنها لا ترفع المسئوولية عن الحكومة وإنما يجب مراعاتها لتقدير التعويض.
وحيث إن هذه المحكمة ترى أن محكمة الاستئناف لم تخطئ فى عدم اعتبار ما أجراه البوليس من حجز المدّعى عليه فى الطعن ثلاثين ساعة فى الظروف المتقدّم ذكرها عملا من قبيل أعمال القضاة معفيا من المسئولية، ولا فى عدم اعتباره من أعمال السيادة، ولا فى اعتباره أنه من أعمال السلطة الإدارية تجاوزت فى حدود القانون بغير مبرر - ترى ذلك هذه المحكمة للاعتبارات القانونية التى فصلها الحكم المطعون فيه وتأخذ هى بها فى رفض هذا الطعن. على أنه إذا كان لرجال الضبطية الإدارية فى سبيل منع ارتكاب الجرائم أن يتخذوا ما تقضى به الضرورة من الإجراءات والوسائل فانه يجب عليهم أن يمتنعوا عن الوسائل المقيدة لحرّية الأفراد إلا أن يكون ثمة مسوّغ شرعى تقتضيه ظروف الأحوال. ويعتبر المسوّغ الشرعى متوافرا حينما يكون الموظف قائما بأداء وظيفته ويكون ما عمله أو أجراه لازما حتما للقيام بمهامها من منع ضرر جسيم يهدّد النظام والأمن باعتبار هذا الإجراء الوسيلة الوحيدة لمنع هذا الضرر. وإن لمحكمة النقض والإبرام حق الرقابة على قيام هذا المسوّغ وعدم قيامه.
وبما أن هذه المحكمة تقرّ محكمة الموضوع على ما رأته من أن الظروف والملابسات التى تبينتها والتى من أجلها قبض البوليس على محمد أفندى فريد أبو يوسف لا تبرر القبض على الاعتبار المتقدّم ذكره وإذاً لا تكون محكمة الاستئناف قد أخطأت فى تطبيق القانون ويتعين الحكم برفض الطعن.