مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد المدنية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الأول (عن المدة من 12 نوفمبر سنة 1931 لغاية 29 أكتوبر سنة 1936) - صـ 439

جلسة 14 يونيه سنة 1934

برياسة سعادة عبد العزيز فهمى باشا رئيس المحكمة وبحضور حضرات: مراد وهبة بك ومحمد فهمى حسين بك وحامد فهمى بك وعبد الفتاح السيد بك المستشارين.

(198)
القضية رقم 94 سنة 3 القضائية

حكر:
( أ، ب) ماهيته. تقدير قيمته لأجل الدفع السنوى. عناصره. إثبات ما كانت عليه حالة الأرض المحكورة عند التحكير. عبؤه على المحتكر. تقدير تلك الحالة من شأن قاضى الموضوع.
(المواد 336 و337 و339 من قانون العدل والإنصاف والمادتان 20 و23 من لائحة إجراءات وزارة الأوقاف المصدّق عليها بالأمر العالى الصادر فى 13 يوليه سنة 1895)
(حـ) أثر البناء الذى يقيمه المحتكر على تقدير قيمة الحكر.
(د) عدم بيان تقدير الحكر فى الحكم طبقا للمبادئ القانونية. قصور.
1 - الاحتكار من وضع فقهاء الشرع الإسلامى، وهو عندهم "عقد إيجار يعطى للمحتكر حق البقاء والقرار على الأرض المحكورة ما دام يدفع أجرة المثل". وتقدير أجرته يكون: (أوّلا) على اعتبار أن الأرض حرة خالية من البناء. (وثانيا) لا يلاحظ فيه سوى حالة الصقع (أى الجهة والناحية) الذى فيه الأرض المحكورة ورغبات الناس فيها، وأن يصرف النظر عن التحسين اللاحق بذات الأرض أو بصقع الجهة بسبب البناء الذى أقامه المحتكر.
2 - إن ما قرّره الشرع والقانون (لائحة الأوقاف) من أن تقدير أجرة الحكر يكون على مثل أرض الوقف يقتضى معرفة ماذا كانت عليه حالة أرض الوقف عند التحكير. والمحتكر هو المكلف باثبات حالتها تلك القديمة. وقاضى الموضوع متى تحرّى وتحقق وقرّر للأرض حالة أصلية خاصة، أو متى قدّر الخبير لها حالة خاصة واعتمدها القاضى، وبيّن فى حكمه علة اعتباره إياها على هذه الحالة الخاصة فى مبدأ التحكير، كان رأيه فى ذلك طبعا من مسائل الموضوع التى لا رقابة عليه فيها لمحكمة النقض.
3 - إن حق القرار الذى للمحتكر لا تأثير له فى تقدير قيمة الحكر، لكن البناء الذى يقيمه المحتكر فى أرض الوقف من شأنه أن يقلل من هذه القيمة وهى أجر المثل، إذا كان له دخل مّا فى تحسين صقع الجهة التى فيها أرض الوقف، بحيث إن قاضى الموضوع متى اقتطع من أجر المثل قدرا مّا، مقرّرا أنه ثبت له أن بناء المحتكر قد زاد فى الصقع بقدر هذه الحطيطة التى يقتطعها، فلا رقابة لأحد عليه.
4 - إذا لم تهتد محكمة النقض إلى الطريقة التى تكون قد راعتها محكمة الموضوع فى تقدير الحكر، وهل كانت متمشية مع المبادئ القانونية المتقدّمة الذكر أم لا، وهل للطاعن وجوه ظلامة أم لا، نقضت الحكم المطعون فيه لقصوره.


الوقائع

وقائع الدعوى بحسب البيان الوارد فى الحكم المطعون فيه وما يؤخذ من المستندات المقدّمة لهذه المحكمة والثابت تقديمها لمحكمة الموضوع تتلخص فيما يأتى:
رفعت وزارة الأوقاف هذه الدعوى أمام محكمة طنطا الابتدائية قيدت بجدولها برقم 412 سنة 1929 كلى قالت فى عريضتها الافتتاحية إن لوقف إسكندر باشا الخيرى المشمول بنظرها قطعة أرض مساحتها 824 مترا و20 سنتيمترا ببندر فوّة معروفة بوكالة المسلى ومقام عليها بناء تابع لوقف المرحوم حسين أفندى ماجور المشمول بنظر إبراهيم أفندى ماجور ومقرّر للبناء على الأرض حق الحكر وإن هذا الحكر كان يدفع فى الماضى على أساس 950 مليما سنويا، ولكن بالنظر لأن الحكر يتغير بتغير الزمان والمكان فان الوزارة عقدت لجنة لتصقيعه، وهذه قدّرت حكرا سنويا للأرض مقداره 27 جنيها و467 مليما، ثم أخطرت إبراهيم أفندى ماجور بصفته بهذا التقدير فرفض الدفع على قاعدته. ولذا فهى تطلب الحكم بالزامه بأن يدفع لها مبلغ 2 جنيه و850 مليما عن المدّة لغاية سنة 1928 بواقع الحكر القديم وباعتبار الحكر ابتداء من سنة 1929 - 27 جنيها و467 مليما سنويا حسب تقدير لجنة التصقيع مع إلزامه بالمصاريف والأتعاب والنفاذ. وفى أثناء نظر الدعوى عدّلت الوزارة طلباتها فيما يتعلق بالحكر الجديد إلى مبلغ 22 جنيها و408 مليمات سنويا لأن جزءا من الأرض نزعت ملكيته للمنفعة العامة وأصبح الباقى 672 مترا و30 سنتيمترا.
وبتاريخ 14 أبريل سنة 1930 قضت محكمة طنطا الابتدائية بالزام ناظر وقف ماجور بمبلغ 2 جنيه و850 مليما قيمة الحكر المطلوب عن المدّة لغاية سنة 1928 مع المصاريف المناسبة وشمول هذا الحكم بالنفاذ، وفيما يختص بالحكر المطلوب عن المدّة ابتداء من سنة 1929 بندب خبير - وهذا باشر مأموريته وقدّم تقريرا قدّر فيه الحكر بواقع 16 جنيها و807 مليمات سنويا. وعند ما أعيدت القضية للجلسة رأت المحكمة أن أعدل طريقة لتقدير زيادة الحكر يكون بالرجوع إلى النسبة بين الحكر القديم وثمن الأرض المحكرة وقت التحكير ومراعاة نفس هذه النسبة بين ثمن الأرض المحكرة الآن والحكر الواجب تقديره، فقضت بتاريخ 19 ديسمبر سنة 1931 باعادة القضية للخبير وكلفته بمباشرة مأموريته على الأساس الذى رسمته له. وبعد أن باشر الخبير مأموريته وقدّم تقريره حكمت بتاريخ 21 مايو سنة 1932 باعتماد هذا التقرير وباعتبار الحكر 3 جنيهات و361 مليما سنويا ابتداء من سنة 1929.
استأنفت الوزارة بصفتها هذا الحكم أمام محكمة استئناف مصر الأهلية بالاستئناف رقم 1220 سنة 49 قضائية وطلبت الحكم بالغائه وبالزام إبراهيم أفندى ماجور بصفته بأن يدفع لها مبلغ 22 جنيها و408 مليمات قيمة حكر سنة 1929 وما يستجد ابتداء من سنة 1930 لغاية النفاذ واحتياطيا باعتماد تقرير الخبير الأوّل بجعل الحكر 16 جنيها و807 مليمات ابتداء من سنة 1929 مع المصاريف والأتعاب. ومحكمة الاستئناف أصدرت بتاريخ 13 يونيه سنة 1933 حكما قضى بتعديل الحكم المستأنف وبالزام إبراهيم أفندى ماجور بصفته بأن يدفع للوزارة بصفتها مبلغ 16 جنيها و807 مليمات حكرا سنويا ابتداء من سنة 1929 وما يستجد لغاية التنفيذ وإلزامه بالمصاريف المناسبة عن الدرجتين ومبلغ 300 قرش مقابل أتعاب المحاماة.
أعلن هذا الحكم للطاعن بصفته فى 18 سبتمبر سنة 1933 فطعن فيه بطريق النقض فى 12 أكتوبر سنة 1933 وأعلن تقرير الطعن لوزارة الأوقاف فى 15 أكتوبر سنة 1933، وقدّم طرفا الخصومة مذكراتهم الكتابية فى الميعاد القانونى، وقدّمت النيابة مذكرتها فى 26 أبريل سنة 1934.
وبجلسة يوم الخميس 17 مايو سنة 1934 المحدّدة لنظر هذا الطعن كلفت المحكمة طرفى الخصومة والنيابة تقديم مذكرة تكميلية ببيان القاعدة التى سار عليها الخبير فى تقديره الحكر لأوّل مرة، وهل هو إذ قدّره قد أدخل فيه التحسين الذى أوجده بناء المحتكر فى الأرض أم أنه اعتبر أن هذا البناء المشغولة به الأرض ينقص من قيمة الحكر، وذلك لفهم العبارة الواردة فى الحكم المطعون فيه المختلف على معناها، وأجلت القضية لجلسة 31 مايو سنة 1934 وفيها سمعت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ثم أجل النطق بالحكم لجلسة اليوم.


المحكمة

بعد سماع المرافعة الشفوية والاطلاع على الأوراق والمداولة قانونا.
حيث إن الطعن رفع صحيحا فى الميعاد عن حكم قابل له فهو مقبول شكلا.
وحيث إن مبنى الطعن مخالفة الحكم المطعون فيه للقاعدة الشرعية الواجبة الاتباع فى تقدير الحكر الواردة فى المادتين 336 و337 من قانون العدل والإنصاف، تلك القاعدة التى قضت على أساسها محكمة أوّل درجة وهى تقدير قيمة الأرض المحكرة وقت إنشاء الحكر وتقدير نسبة الحكر إليها، ثم تقديرها فى الوقت الحاضر ورفع قيمة الحكر بنسبة ما ارتفعت إليه قيمة الأرض. (كذا)
وحيث إنه بالرجوع إلى الحكم المطعون فيه تبين أن محكمة الاستئناف قد صدّرت حكمها بالقاعدة التى رأت اعتبارها أساسا لتقدير الحكر الواجب دفعه سنويا فقالت: "حيث إن الاحتكار شرعا هو عقد إيجار يبيح للمحتكر حق البقاء والقرار على الأرض المحكورة ما دام يدفع أجرة المثل لمالك رقبتها، وهذه الأجرة يجب أن يراعى فى تقديرها حالة الأرض المحكورة باعتبارها مشغولة بحق المحتكر وحالة صقعها ورغبات الناس فيها". ثم استعرضت أقوال كل من طرفى الخصوم فذكرت القاعدة التى ترى وزارة الأوقاف وجوب السير على مقتضاها وهى "أن يقدّر الحكر (وهو حق مالك الرقبة) بالثلث وحق المحتكر (وهو صاحب المنفعة) بالثلثين وذلك من قيمة أجرة الأرض المحكورة حرّة خالية من البناء، وأن تحتسب هذه الأجرة باعتبار 5% من ثمن الأرض حرة، وأن لا يعدل عن هذه القاعدة إلا فى الأحوال التى يقضى فيها صقع الأرض والرغبة فيها بالزيادة أو النقص عن القدر المتقدّم ذكره"، كما ذكرت القاعدة التى يرى إبراهيم افندى ماجور بصفته اتباعها وهى ما قضت محكمة أوّل درجة على مقتضاها وأشير إليها فى مبنى هذا الطعن - ذكرت هاتين القاعدتين ثم قالت بفسادهما وعدم إمكان العمل بهما وخلصت إلى القول بأن "أقوم سبيل يصح اتباعه لتقدير الحكر هو الرجوع إلى ما تقضى به الشريعة الغرّاء التى نشأ بمقتضاها هذا النوع من أنواع التأجير، وأن القاعدة الشرعية هى ما سبق تقريرها بصدر هذا الحكم أى وجوب مراعاة حالة الأرض المحكرة باعتبارها مشغولة بحق المحتكر وحالة صقعها. رغبات الناس العامة فيها" - خلصت إلى ذلك ثم رأت أن الخبير الذى ندبته محكمة أوّل درجة بحكمها التمهيدى الصادر فى 14 أبريل سنة 1930 قد راعى هذه الاعتبارات جميعا فعدّلت الحكم المستأنف وفقا لنتيجة تقريره.
وحيث إن الخصوم قد اختلفوا فى معنى عبارة "باعتبارها مشغولة بحق المحتكر" الواردة فى الحكم، فقالت وزارة الأوقاف بأن المقصود منها اعتبار الأرض المحكورة مقرّرا عليها حق عينى (Charge) للغير، الأمر الذى ينقص من قيمة إيجارها عند تقديره، بينما أن إبراهيم أفندى ماجور يقول بأنها تفيد وجوب اعتبار التحسين الذى أكسبها إياه ما أوجده المحتكر فيها وأن تزاد الأجرة بسببه. وقد جارته النيابة العمومية فى هذا الفهم أوّلا ثم عدلت عنه فى مذكرتها الإضافية وقالت إن الحكم التمهيدى الصادر من محكمة أوّل درجة بتاريخ 14 أبريل سنة 1930 لم ترد به تلك العبارة المختلف على معناها وإن الخبير الذى ندب بمقتضاه قد سار فى تقدير الحكر على قواعد الشرع ووفقا للمأمورية المبينة به فلا أهمية لذكر هذه العبارة فى الحكم المطعون فيه.
وحيث إن الاحتكار من وضع فقهاء الشرع الإسلامى وهو عندهم - كما قالت محكمة الاستئناف - عقد إيجار يعطى للمحتكر حق البقاء والقرار على الأرض المحكورة ما دام يدفع أجرة المثل. ولما كانت هذه الأجرة تزيد وتنقص على حسب الزمان والمكان فقد اهتم الفقهاء ببيان طريقة تقديرها فأوجبوا: (أوّلا) أن يكون التقدير على اعتبار أن الأرض حرة خالية من البناء. (ثانيا) أن لا يلاحظ فيه سوى حالة الصقع (أى الجهة أو الناحية) الذى فيه الأرض المحكورة ورغبات الناس فيها وأن يصرف النظر عن التحسين اللاحق بذات الأرض أن بصقع الجهة بسبب البناء الذى أقامه المحتكر (مفهوم المواد 336 و337 و339 من قانون العدل والإنصاف).
وهذه المبادئ الشرعية فى تقدير الحكر قد أخذ بها الشارع المصرى وأيدها فى المادتين 20 و23 من لائحة إجراءات وزارة الأوقاف المصدق عليها بالأمر العالى الصادر فى 13 يوليه سنة 1895 ونصهما:
المادة 20 - الأعيان التى تعطى بالاحتكار يراعى فى تحكيرها رغبة الراغبين وأجرة مثل الأرض خالية عن البناء ويذكر فى حجج تحكيرها أن الأجرة تكون دائما أجرة مثل الأرض خالية عن البناء بحسب الزمان والمكان بحيث لا يؤثر على ذلك حق البقاء والقرار وأن المستحكر ملزم بحفظ العين لأجل وقفها.
المادة 23 - على ديوان الأوقاف أن ينظر فى كل حكر متعلق بوقف فى إدارته وتقديره على المحتكر بحسب أجر المثل فى الحال بقطع النظر عما أحدث (أى المحتكر) فى أرض الوقف أو بنائه وبقطع النظر عما هو مقدّر فى صك التحيكر، فان قبله المحتكر يصير تقريره عليه وإن لم يمتثل يحال الفصل فى ذلك على المحكمة المختصة".
وواضح أن نص المادتين المذكورتين يقرر عناصر تقدير الحكر الواجب على المحتكر دفعه على مثال ما تقرّره الشريعة الغرّاء الوارد حكمها فى هذا الصدد بالمواد 336 و337 و339 من قانون العدل والإنصاف السابق ذكرها. بل إن المادة 20 تنص صراحة على أن حق البقاء والقرار الذى للمحتكر لا تأثير له فى تقدير الحكر.
وحيث إنه متى كانت هذه هى المبادئ التى قرّرها الفقهاء وأكدها قانون سنة 1895 الجارى عليه العمل الآن وأن لا محيص من اتباعها فيكون الحكم المطعون فيه قد أصاب إذ قضى بعدم إمكان العمل بأية القاعدتين التى يرى كل من الخصوم السير على مقتضى واحدة منهما لتقدير الحكر - وستأتى بآخر حكم النقض الحالى زيادة إيضاح بهذا الصدد - ولكنه (الحكم المطعون فيه) إذ قضى بوجوب مراعاة حالة الأرض المحكرة باعتبارها مشغولة بحق المحتكر قد أخطأ لأنه أضاف لعناصر التقدير عنصرا غريبا. ذلك لأن مراد محكمة الاستئناف بهذه العبارة، كما هو الواقع وكما ذهبت إليه وزارة الأوقاف فى تفسيرها، وكما رجعت إليه النيابة العامة بعد التردّد - مرادها أن تقدير الحكر يجب أن يراعى فيه أن للمحتكر حق البقاء والقرار وأنه لكون الأرض مشغولة به فقيمة أجرتها يجب أن تنقص بسبب هذا الحق المقرّر عليها. أخطأت المحكمة فى إضافة هذا العنصر لما فى ذلك من مخالفة أصل القواعد الشرعية المتقدّم بيانها ولأنها فى ذلك تصطدم مع ما قرّره الشارع المصرى فى المادة 20 من قانون سنة 1895 من النهى عن جعل حق المحتكر ذا أثر فى تقدير الحكر.
وحيث إن ما قرّره الشرع والقانون من أن تقدير الأجرة يكون على مثل أرض الوقف يقتضى معرفة ماذا كانت عليه حالة أرض الوقف عند التحكير فربما كانت بركة أو قاعا منحطا أو تلاًّ أو أنقاضا متهدّمة فردمها المحتكر أو أزال التل والأنقاض بنفقة من طرفه حتى أصبحت صالحة للبناء أو الغراس. فمثل هذه الأرض عند تقدير أجرتها لا بد من أن يكون التقدير باعتبار أنها بركة أوقاع أو تل أو أنقاض متراكمة. وبما أن كثيرا من الأوقاف المحتكرة يصعب معرفة أصل حالتها عند التحكير لمضى الزمن، فالمحتكر هو المكلف باثبات حالتها تلك القديمة إذ هذه من قبله دعوى مخالفة للظاهر من الأمر، وقاضى الموضوع متى تحرّى وحقق وقدّر للأرض حالة أصلية خاصة، أو متى قدّر الخبير لها حالة خاصة واعتمدها القاضى، وبيّن فى حكمه علّة اعتباره إياها على هذه الحالة الخاصة فى مبدأ التحكير كان رأيه فى ذلك طبعا من مسائل الموضوع التى لا رقابة عليه فيها.
وحيث إن مما يجب ملاحظته فى التقدير أيضا أن حق القرار الذى للمحتكر وإن كان لا تأثير له فى تقدير قيمة الحكر إلا أن البناء الذى يقيمه المحتكر فى أرض الوقف من شأنه أن يقلل من قيمة الحكر وهى أجر المثل إذا كان له دخل مّا فى تحسين صقع الجهة التى فيها أرض الوقف، بحيث إن قاضى الموضوع متى اقتطع من أجر المثل قدرا مّا مقرّرا أنه ثبت له أن بناء المحتكر قد زاد فى الصقع بقدر هذه الحطيطة التى يقتطعها فلا رقابة لأحد عليه.
وحيث إن هذه المحكمة لم تهتد إلى الطريقة التى يكون التقدير فى هذه الدعوى حصل فعلا على مقتضاها لترى ما إذا كانت متمشية مع المبادئ التى تقرّرت فيما تقدّم أم لا. وما قالته محكمة الاستئناف من أن الحكر الذى حكمت به قد قدّر حسب القاعدة التى وضعتها - ما قالته من ذلك ربما كان يقتضى رفض الطعن لعدم وجود مصلحة فيه للطاعن ما دام أن قيمة الحكر تكون نقصت بقدر ما يقابل حق البقاء والقرار المشغولة به الأرض، ولكن تلك المحكمة لم تذكر فى حكمها شيئا عن العناصر الواقعية التى روعيت فعلا فى ذلك التقدير حتى كان يتيسر لمحكمة النقض معرفة ما إذا كانت تتفق مع القواعد السابق بيانها أم لا وهل للطاعن وجه فى ظلامته أم لا.
وحيث إنه لذلك يكون بالحكم المطعون فيه قصور يفسده ويستوجب نقضه.
هذ
ولقد استبان مما تقدّم أن الشريعة الإسلامية ليس فيها مثل القاعدة التى يشير إليها الطاعن فى طعنه، وأن مادتى 336 و337 من قانون العدل والإنصاف لا تساعدانه على هذا المزعم. أما ما ذهبت إليه وزارة الأوقاف من أن الحكر الواجب دفعه سنويا على المحتكر هو ثلث أجر المثل، وما أسست عليه مذهبها هذا من أن للملكية عناصر ثلاثة هى حق الاستعمال وحق الانتفاع وحق التصرف، وأن جهة الوقف غير باق لها فى الأرض المحتكرة سوى حق التصرف وأما الحقان الآخران "الاستعمال والانتفاع" فهما للمحتكر، وأن أجرة الأرض يجب قسمتها بين أرباب هذه الحقوق الثلاثة فيكون للوقف الثلث لأن له حقا واحدا منها وللمحتكر الثلثان لأن له حقين الخ ما تقول فى مذكرتها - ما ذهبت إليه الوزارة من ذلك غير سديد. وإذا كانت محكمة الاستئناف قد تابعت الوزارة على هذه النظرية فى بعض أحكامها، كحكمها المستشهد به الآن، فليس هذا حجة على الحقيقة القانونية بل هو فى غير محله: (أوّلا) لأن دفع أجرة المثل هو السبب فى استمرار حق البقاء والقرار، فاذا زال هذا السبب سقط المسبب وهو حق البقاء. ونظرية الوزارة تقلب الوضع فتجعل حق البقاء حقا أساسيا أصيلا يكون لصاحبه ثلثا الأجرة بدون أن تبين لهذا الاستحقاق سببا. وكأنها تقول إن المحتكر بمجرّد حصوله على عقد الاحتكار ودفعه الأجرة أوّل مرة ووضع أس بنائه فى الأرض يسقط عنه حتما ثلثا الأجرة فى المستقبل، وهذا قول بين الفساد. على أنه - كما أسلفنا- يصطدم مع النص الصريح فى المادة 20 من لائحة يوليه سنة 1895. (ثانيا) لأن التحليل والتوزيع الذى تعمله الوزارة لعناصر الملكية مبنى على تصوّر خاطئ، إذ جهة الوقف إذا كان لها حق الرقبة أو حق التصرف فى الرقبة (كما تشير إليه عبارة الوزارة هى والحكم الذى تستشهد به) - إذا كان لها هذا الحق فان لها أيضا الأجرة تأخذها من المحتكر، والأجرة من فوائد الأرض ومن ثمرتها المدنية (fruit civil). فجهة الوقف لها حق التصرف ثم حق الانتفاع بأرضها واستغلالها بطريق التأجير. ولا يفهم إذن كيف يكون للمحتكر حق الاستعمال وحق الانتفاع ولا يكون للوقف سوى حق التصرف فى الرقبة. (ثالثا) إن تلك الحقوق هى حقوق معنوية فالوزارة توزعها بين المحكر والمحتكر ذلك التوزيع المشوّش، ثم تجعلها أمورا متساوية فى القيمة، ثم تقسم الأجرة بين أربابها قسمة ميكانيكية، وكل هذا تحكم لا يحتمله العقل.
على أن نظرية الوزارة إذا كانت غير صحيحة فيما يتعلق بتقدير الأجرة السنوية التى يجب على المحتكر دفعها فلها أساس من الصحة فيما يتعلق بتقدير الحكر عند إرادة استبدال الأرض المحكورة، ذلك الحكر الذى تكون قيمته فى عشرين سنة على الأقل هى قيمة البدل الذى يدفعه المحتكر. حقا إن فى هذه الصورة يمكن تماما القول بأن للمحتكر حق البقاء والقرار فى الأرض، وأن هذه الأرض معيبة بقدر هذا الحق الذى عليها، وأن صاحبها، وهو الوقف، لا يستطيع عند البيع أخذ ثمنها، كما لو كانت حرة خالية من هذا الحق العينى المقرّر عليها للمحتكر، بل يجب أن يترك من ثمنها للمحتكر ما يقابل حقه العينى ذاك. وهذا النظر ليس جديدا، بل إن الشارع أشار إليه فى المادة 18 من لائحة سنة 1895 التى نصها: ديوان الأوقاف يقبل استبدال الأراضى المحكورة بقيمة تعادل أجر مثلها فى الحكر مدّة عشرين سنة على الأقل بمراعاة تصقيع.... الخ. فقوله "أجر مثلها فى الحكر" لا يفهمه أحد ممن يعرفون العربية إلا على اعتبار أن لفظى "فى الحكر" هما حال وقيد أو وصف للفظ "مثلها" وكأنه قال "أجر مثلها محكورا"، ومن المقرّر أن المثل إذا كان محكورا أى مقرّرا عليه حق البقاء والقرار الذى للمحتكر فان أجره ينقص بقدر ما هو معيب بهذا الحق العينى. وإذا كانت وزارة الأوقاف تقدّر ما يخص الوقف صاحب الرقبة بالثلث من الأجرة وما يخص المحتكر بالثلثين ثم تأخذ قيمة هذا الثلث عشرين مرة وتجعله هو قيمة البدل الذى فى مقابله تتنازل عن الأرض للمحتكر تنفيذا لقرار مجلسها الأعلى المقدّم ضمن مستنداتها فان القانون كما ترى يقرّ ما رآه مجلس الأوقاف الأعلى من جهة جعل قيمة الأجرة التى تقدّر بقصد الاستبدال منقوصة ملاحظا فى تنقيصها أن للمحتكر حقا على الأرض يعيبها ويقلل من قيمتها. أما كون هذه الأجرة التى للوقف تكون الثلث من كامل الأجرة فهذا لا أساس له سوى التحكم الذى لا بدّ منه، ولكن ربما كان تحكما قريبا من الصواب إذ قانون المرافعات فى تقدير قيمة الدعاوى يقدّر رقبة العين بنصف قيمة الكل، كما يقدّر حق الانتفاع بنصف قيمة الكل. وإذ كان انتفاع المحتكر ممكنا أن يدوم بدوام دفعه أجرة المثل أمكن أن يقال إن قيمته يصح أن تكون أكثر من قيمة حق الانتفاع العادى الذى أكثر ما يطول يكون على قدر مدّة حياة المنتفع. هذا وإن منازعات الخصوم فى هذه الدعوى هى التى جعلت المحكمة تستطرد لهذا البحث الخاص بتقدير الحكر لأجل الاستبدال حتى يتميز عن التقدير لأجل الدفع السنوى وهو موضوع الدعوى. ثم إنه لا يفوت المحكمة الإشارة إلى أنه لا يصح التعويل على الترجمة الفرنسية لقانون 13 يوليه سنة 1895 فان فيها أغلاطا جسيمة تشوّه مراد الشارع وإنما التعويل يكون على النسخة العربية وحدها فانها هى الأصل وعباراتها فى موطن البحث الحالى، على الأقل، أدل على مراد الشارع من الترجمة الفرنسية عليه.