مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد المدنية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الأول (عن المدة من 12 نوفمبر سنة 1931 لغاية 29 أكتوبر سنة 1936) - صـ 454

جلسة 21 يونيه سنة 1934

برياسة سعادة عبد العزيز فهمى باشا رئيس المحكمة وبحضور حضرات: زكى برزى بك وأحمد أمين بك وحامد فهمى بك وعبد الفتاح السيد بك المستشارين.

(200)
القضية رقم 40 سنة 3 القضائية

( أ، ب، حـ) الأحوال الشخصية. المقصود منها. الأمور المالية كالوقف والهبة والوصية والنفقات هى من الأحوال العينية.
(المواد 6 و7 و11 و13 و14 و15 و16 و17 من القانون المدنى و16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية)
(د) حق الانتفاع. لا يجوز إعطاؤه إلا لموجود على قيد الحياة. الإيصاء لشخص أو أكثر. ولورثته من بعده ثم إلى الفقراء. لا يكون إلا على صورة الوقف.
(هـ) وصية بحق انتفاع مؤبد. وقف. تكييف المجلس الملى لها بأنها وصية واعتماده لها. تجاوز لحدود اختصاصه. لا يحتج به لدى المحاكم الأهلية.
(و) وقف مضاف إلى ما بعد الموت. البحث فيه من جهة الشكل ومن جهة الصحة. اختصاص المحاكم الشرعية.
(ز) وصية. وصية غير المسلم هى كوصية المسلم خاضعة لحكم الشريعة الإسلامية.
(المواد 320 و321 و322 مختلط و254 و255 و256 مدنى أهلى).
1 - إن المشرع المصرى فى القوانين المختلطة جعل الحكم فى الأحوال الشخصية لقانون الجنسية. ونظرا لعدم وجود قانون واحد يحكم الأحوال الشخصية للمصريين جميعا، جعل فى القانون الأهلى قانون ملة كل منهم هو الذى يحكم أحواله الشخصية، وغالبا ما يكون قانون الملة هو نفس الشريعة المحلية أى الشريعة الإسلامية.
2 - الأحوال الشخصية هى مجموعة ما يتميز به الإنسان عن غيره من الصفات الطبيعية أو العائلية التى رتب القانون عليها أثرا قانونيا فى حياته الاجتماعية ككون إنسان ذكرا أو أنثى، وكونه زوجا أو أرملا أو مطلّقا أو أبا أو ابنا شرعيا، أو كونه تام الأهلية أو ناقصها لصغر سنّ أو عته أو جنون، أو كونه مطلق الأهلية أو مقيدها بسبب من أسبابها القانونية. أما الأمور المتعلقة بالمسائل المالية فكلها بحسب الأصل من الأحوال العينية، وإذن فالوقف والهبة والوصية والنفقات على اختلاف أنواعها ومناشئها هى من الأحوال العينية لتعلقها بالمال وباستحقاقه وعدم استحقاقه. غير أن المشرع المصرى وجد أن الوقف والهبة والوصية - وكلها من عقود التبرعات - تقوم غالبا على فكرة التصدّق المندوب إليه ديانة، فألجأه هذا إلى اعتبارها من قبيل مسائل الأحوال الشخصية كيما يخرجها عن اختصاص المحاكم المدنية التى ليس من نظامها النظر فى المسائل التى قد تحوى عنصرا دينيا ذا أثر فى تقرير حكمها. على أن أية جهة من جهات الأحوال الشخصية إذا نظرت فى شئ مما تختص به من تلك العقود، فان نظرها فيه بالبداهة مشروط باتباع الأنظمة المقرّرة قانونا لطبيعة الأموال الموقوفة والموهوبة والموصى بها.
3 - إذا لم يقم النزاع لا على علاقة الموصى بالموصى لهم ولا على علاقته بباقى ورثته، ولم يكن متعلقا بصيغة الوصية ولا بأهلية الموصى للتبرع، فلا يعتبر ذلك مما يتعلق بالأحوال الشخصية. ولكن إذا قام النزاع على وصف الحقوق العينية التى رتبها الموصى للفقراء والكنائس ولبناته على العقار الموصى بحق الانتفاع به، وعلى حكم القانون فى هذا الوصف، فليس فى ذلك شئ من الأحوال الشخصية التى يحكمها قانون الملة ويقضى فيها المجلس الملى، بل هو متعلق بأمور عينية يجب الرجوع فيها إلى القانون المدنى - الذى هو قانون موقع العقار - واتباع قواعده، لأنها من النظام العام.
4 - إن المفهوم من نصوص القانون المدنى الخاصة بتقسيم الأموال وبيان أحكام كل قسم منها وكيف تثبت له صفة نوعه وكيف تزول أنه لا يجوز إعطاء حق الانتفاع إلا لشخص أو أكثر موجودين على قيد الحياة، ولا يجوز الإيصاء لشخص أو أكثر ولورثته من بعده ما تناسلوا ثم إلى الفقراء إلا على صورة الوقف يرصد به المال على جهة بر مؤبدة لا تنقطع. فاذا تصرف مسيحى بالوصية والإيهاب والوقف على الكنائس والفقراء وعلى بناته على أن كل من ماتت من بناته يكون نصيبها لأولادها بالتساوى، فان لم يكن لها ولد فيكون نصيبها إلى أخواتها وهكذا إلى حين انقراض الذرّية، فيكون ما أوصى به وقفا مؤبدا وحبسا مخلدا يصرف ريعه على جهات البر المعينة، فان هذا التصرف - وقد جاء فيه أيضا أن الجزء الموصى به للكنائس والفقراء والأرامل يؤدّى الوصى ريعه لغبطة البطريرك ويستصدر منه سنويا التصديق على الحساب - هذا التصرف ليس وصية، بل هو فى الواقع وقف مضاف إلى ما بعد الموت، لأن القانون المصرى لا يعرف الوصية بحق الانتفاع المؤبد إلا إذا أخرجها الموصى مخرج الوقف بالأوضاع المعروفة. ولئن كان هذا الوقف حاصلا بطريق الوصية وكان حكمه حكم الوصية ما دام الموصى حيا، إلا أنه متى مات هذا الموصى مصرا عليها، فقد حق الوقف ووجب تطبيق أحكام وقف المريض مرض الموت على مثله.
5 - إذا كيفت محكمة الاستئناف مثل هذا التصرف بأنه وصية على ما كيفها به المجلس الملى بغير بحث، فانها تكون قد أخطأت فى تطبيق القانون، لأن المجلس الملى لا شأن له بالأوقاف، وحكمه الذى أصدره باعتماد الوصية ونفاذها قد تجاوز فيه حدود اختصاصه باعطائه إياه حكما غير ما يظهر أنه هو الحكم الشرعى لمثله. ومتى كان حكم المجلس الملى كذلك، فلا تكون له قوّة الشئ المحكوم فيه، ولا يصح الاحتجاج به لدى المحكمة الأهلية.
6 - متى تمحض التصرف فى نظر محكمة النقض إلى أنه وقف مضاف إلى ما بعد الموت، حق لها ترك البحث فيه، من جهة الشكل ومن جهة الصحة ومن جهة الحكم المقرّر لمثله شرعا، إلى المحكمة الشرعية المختصة وحدها بمسائل أصل الوقف جميعها مهما يكن دين الواقف.
7 - وصية غير المسلم - كوصية المسلم - لا تصح إلا لموجود حقيقة أو حكما، ولا تجوز بأكثر من الثلث ولا تجوز لوارث إلا باجازة باقى الورثة [(1)] [(2)].


الوقائع

من حيث إن وقائع هذه المادة تتلخص، على ما جاء بحكم محكمة أوّل درجة وحكم محكمة استئناف مصر المؤيد له المطعون فيه، فى أن المرحوم وهبه بك شلبى قرّر فى وثيقة مؤرّخة فى 3 مارس سنة 1902 بما نصه:
لما هو معلوم بأن كل إنسان لا بد له من الانتقال من هذه الدنيا الفانية إلى دار الراحة والبقاء، وكان وقت الانتقال مجهولا غير معلوم ومحتما على كل مخلوق بأن يستعد لهذا الانتقال: (أوّلا) استعدادا يرتجى به رضا الله البارئ ذو الفضل والجلال. (ثانيا) بأن يوصى للمحتاجين والكنائس ما يريده من ماله. (ثالثا) تعيين أسماء الموصى إليهم. (رابعا) تعيين الوصى أو الولى الذى يختاره لنفاذ وصيته بعد انقضاء أيام حياته. فاعتمادا على ما ذكر يريد الإيهاب والإيقاف والوصية: منزل يملكه ملكا شرعيا كائنا بشارع الأزبكية ومحدودا ذلك المنزل بحدود أربع، على شرط أن تنفيذ ذلك لا يكون إلا بعد انقضاء أيام حياته أما فى حالة وجوده على قيد الحياة فان له كل التصرفات الشرعية والقانونية فى الملك المذكور من نحو البيع والرهن والاستبدال والإدخال والإخراج والتعديل فى الوقفية وغير ذلك من وجوه التصرفات. ويريد التوصية به والوقف والإيهاب على أولاده البنات الأربعة. ما هو الست بديعة بحق السدس أربعة قراريط، والست جميلة بحق خمسة قراريط، والست أتينا بحق الربع ستة قراريط، والست ماتيلدة بحق السدس والثمن سبعة قراريط، والقيراطين الباقيين على الكنائس الآتى ذكرها والفقراء والمساكين....... ويكون ذلك على يد غبطة البطريرك. أوصى بأن كل من انتقل من أولادى البنات بعد العمر الطويل سيكون نصيبها من الإيرادات إلى أولادها بالمساواة، وإن لم يكن لها أولاد فتكون حصتها لباقى الموصى لهم بالمساواة، وهكذا يكون العمل مستمرّا إلى انقراض الذرّية يكون الملك المذكور، أى الاثنين والعشرين قيراطا وقفا مؤبدا وحبسا مخلدا يصرف ريعه على الجهات الآتى ذكرها..... أوصى بأن المنزل المذكور يلزم الالتفات لعمارته وإصلاحه لدوام بقائه على حالة وزيادة لنظامه. أوصى بأنه لا يجوز لأحد من الموصى لهم ولا لأولادهم أو أولاد أولادهم إلى آخر انقراض الذرّية التصرف فى الملك المذكور لا ببيع ولا برهن ولا باستبدال بل فقط لهم حق الانتفاع بصافى الريع، ومن تجرأ وعمل بخلاف ذلك فيكون كل ما يجريه لاغيا وغير مقبول. أوصى بأن الذى أنتخبه بأن يكون قيما ووصيا لنفاذ وصيتى هذه بعد حياتى ابنتى الست بديعة، ثم من بعدها تكون أختها الأرشد فالأرشد، ثم من بعد الموصى لهم يكون القيم والولى الأرشد فالأرشد من أولادهم وأولاد أولادهم من يشهد لهم بالأمانة..... بشرط أن كل وصى أو ولى من بعدى يعمل دفتر حساب مخصوص يحصر فيه الإيرادات والمصروفات وتوزيع الحصص على جهات استحقاقها وتقديم حساب سنوى للورثة لأجل مراجعته والتصديق عليه منهم أو من غبطة البطريرك..... وإذا ثبت على أى وصى أو ولى مخالفة فى العمل الموضح بوصيتى أو يكون عديم الأمانة مما يحل به بشهادة العائلة وتصديق الشريعة يجوز عزله وتعيين خلافه...... الخ.
قرّر المرحوم وهبة بك شلبى ما قرّره فى هذه الوثيقة، ثم قدّمها للجنة الملية وأشهد على نفسه أمامها بما جاء بها، وسجلها بسجل الدار البطريركية بالسجل الخاص بالحجج والوقفيات فى 12 مارس سنة 1902. ثم هدم بناء المنزل فى سنة 1909 وأضاف إلى أرضه جزءا صغيرا اشتراه باسمه، ثم بنى على الأرض جميعها المنزلين القائمين الآن. ثم توفى فى أبريل سنة 1930 فبادرت بنتاه السيدتان ماتيلدة وأتينا إلى رفع دعوى على باقى الورثة أمام مجلس ملى مصر للأقباط الأرثوذكس بتاريخ 30 مايو و29 سبتمبر سنة 1930 طلبتا فيها الحكم بصحة ونفاذ هذا التصرف فى المنزلين باعتباره وصية. وإذ كانت عبارات هذه الوثيقة تدور بين الوصية والوقف فقد دفع الحاضر عن بعض المدّعى عليهم يومئذ بعدم اختصاص المجلس الملى بنظر الدعوى. ودفع فى الموضوع بعدول الموصى عن وصيته بما كان منه من هدم المنزل وشراء أرض أضافها إلى أصل أرضه وبنائه منزلين على الأرضين جميعا. فحكم المجلس الملى بتاريخ 26 ديسمبر سنة 1930 باختصاصه وقضى فى موضوع الدعوى بصحة الوصية شكلا وموضوعا وبنفاذها، وأيد المجلس الملى العام هذا الحكم بحكمه المؤرّخ فى 25 يونيه سنة 1931.
وفى 11 أكتوبر سنة 1930 أى عقب رفع الدعوى لدى المجلس الملى رفع الطاعن وأخوه الدعوى الحالية أمام محكمة مصر الابتدائية الأهلية طلبا فيها الحكم بتثبيت ملكيتهما لنصيبهما الشرعى فى المنزلين المذكورين ومنع منازعة المدّعى عليهما لهما فيه مع إلزامهما بالمصاريف. وفى أثناء سيرها دفع المدّعى عليهما بعدم اختصاص المحاكم الأهلية بنظر الدعوى بناء على أن المنزلين المذكورين موصى بمنافعهما على التأبيد لبنات الموصى المرحوم وهبة بك شلبى ولبعض الكنائس والجهات الخيرية بموجب عقد الوصية المؤرّخ فى 3 مارس سنة 1902 المسجل بسجل البطريركية فى 12 مارس سنة 1902 وبأنه قد فصل نهائيا بتاريخ 25 يونيه سنة 1931 من المجلس الملى بعدم اختصاص المحاكم الأهلية وباختصاصه هو بنظر الدعوى وقضى منه فيها بصحة ونفاذ الوصية شكلا وموضوعا. ومحكمة أوّل درجة، بعد أن بحثت فى حقيقة التصرف المتنازع فيه أهو يعتبر هبة أم وصية أم وقفا قرّرت بحكمها الصادر فى 24 يناير سنة 1932 أنه يجب اعتباره وصية بحق انتفاع. ثم قالت إن المجلس الملى مختص بالنظر فى صحة الوصية ونفاذها، وإنه فصل فى صحة التصرف المتنازع فيه مراعيا فى ذلك النظام الذى قرّره الشارع له فيجب احترام قضائه وإعطاؤه جميع النتائج التى تترتب عليه ثم قالت: "وبما أن المدّعيين يطلبان الحكم بتثبيت ملكيتهما إلى حصتهما الموروثة عن المرحوم وهبة بك شلبى. وبما أن الثابت من نصوص الوصية أن الموصى أبقى الأرض المقام عليها البناء فى انتفاع الموصى لهم ولم يملكها لغيرهم وحرّم المدّعيين من حق الرقبة ومن كافة الحقوق العينية فى المنزلين، إذ أنه أوصى بالانتفاع لبناته وذرّيته ومن بعدهم لجهات خيرية عينها (كذا). ونص فى الوصية على أن لا يجوز مطلقا نقض وصيته أو إجراء ما يوجب إبطالها من محل الشريعة ولا من الورثة ولا من أحد الأقارب والأجانب. ولذلك لا يكون للمدّعيين حق فى طلب تثبيت الملكية للأعيان الموصى بها، ويتعين الحكم بطلب المدّعى عليهم الاحتياطى وهو رفض الدعوى مع رفض الدفع بعدم الاختصاص.
أما محكمة الاستئناف فبعد أن بينت وجهة نظرها فى تفسير المادة 16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية والمادة 55 من القانون المدنى وقالت إن ما يقال من أن المادة 55 قد حدّدت اختصاص محاكم الأحوال الشخصية فيما يتعلق بأهلية الموصى وصيغة الوصية هو فى غير محله، وإن هذه المحاكم يجب أن تكون مختصة فى جميع مسائل الوصية لخروجها عن النظام العينى - بعد أن أفاضت محكمة الاستئناف فى ذلك قالت إنه لا محل بعده للبحث فيما ذهبت إليه محكمة أوّل درجة من أن الوثيقة المتنازع فيها هى وصية لا وقف، ولا فيما إذا كانت جائزة أو غير جائزة، وهل حصل العدول عنها أم لا، لأن المجلس الملى فصل فى كل هذه المسائل وهى فى دائرة اختصاصه. ولذلك قضت محكمة الاستئناف بتاريخ 11 مارس سنة 1933 بتأييد الحكم المستأنف.
وقد أعلن هذا الحكم لفوزى شلبى أفندى فى 3 أبريل سنة 1933 فطعن فيه بطريق النقض فى أوّل و2 مايو سنة 1933، وقدّم طرفا الخصومة مذكراتهم الكتابية ومذكرات الردّ فى الميعاد القانونى، وقدّمت النيابة مذكرتها فى 26 ديسمبر سنة 1933.
وقد تداولت القضية بالمحكمة عدّة جلسات طلبت فى بعضها من طرفى الخصوم مذكرات تكميلية وقدّمت، ثم حدّد لنظرها أخيرا جلسة 7 يونيه سنة 1934 وفيها سمعت الدعوى كالمبين بمحضر الجلسة، ثم تأجل النطق بالحكم لجلسة 14 يونيه سنة 1934 ومنها لجلسة اليوم لعدم إتمام المداولة.


المحكمة

بعد سماع المرافعة الشفوية والاطلاع على الأوراق والمداولة قانونا.
من حيث إن الطعن رفع صحيحا فى الميعاد عن حكم قابل له فهو مقبول شكلا.
ومن حيث إن مبنى الوجه الأوّل أن محكمة الاستئناف - بعد أن ذكرت أن المتفق عليه أن الأحكام الصادرة من هيئة قضائية تحوز قوّة الشيء المحكوم به فيما قضت فيه أمام أية جهة قضائية أخرى إذا كان لتلك الهيئة سلطة الحكم فيما قضت، ولم تخالف الإجراءات الواجب اتباعها حسب النظام المعمول به أمامها وأنها فى قضائها لم تحكم بقانون آخر غير قانونها - ذهبت محكمة الاستئناف بعد تقرير هذا المبدأ إلى أن المجلس الملى للأقباط الأرثوذكس ليس مختصا فقط بالفصل فى المنازعات المتعلقة بأهلية الموصى وصيغة الوصية، على ما يدل عليه ظاهر المادة 55 من القانون المدنى، بل هو مختص بجميع المسائل المتفرّعة عن الوصية، وذلك بالتطبيق للمادة 16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية وكذلك للمادة 16 من لائحة ترتيبه هو المصدّق عليها بالأمر العالى الرقيم 14 مايو سنة 1883. وهو بوجه خاص مختص بالفصل فيما إذا كانت الوثيقة المتنازع على تكييفها تعتبر وصية أم وقفا، وهل هى وصية بحق انتفاع مؤبد صحيحة قانونا أم لا إلى غير ذلك من وجوه النزاع القائمة بين طرفى الخصومة. وبعد أن قرّرت محكمة الاستئناف هذا الاختصاص للمجلس الملى انتهت إلى القول بأن الحكم الذى أصدره هذا المجلس فى النزاع الحالى صادر من هيئة لها ولاية القضاء فى الوصية من حيث الشكل والموضوع ولم يحصل فيه أية مخالفة للإجراءات الواجب اتباعها ولا للقانون المعمول به أمامها، وبهذا يحوز قوّة الشئ المحكوم به فيما قضى به من اعتبار الوثيقة المؤرّخة 3 مارس سنة 1902 وصية وأنها صحيحة، ويتعين لذلك احترامه، وأن لا محل للبحث فيما ذهبت إليه محكمة أوّل درجة من أن هذه الوثيقة وصية ولا فيما إذا كانت جائزة أم لا، لأن المجلس الملى فصل فى كل هذه المسائل وهى فى دائرة اختصاصه. ويقول الطاعن إن محكمة الاستئناف إذ ذهبت إلى ذلك قد أخطأت فى تطبيق القانون. وملخص حجته أن المحكمة الأهلية - التى ترفع إليها الدعوى المختصة هى بنظرها - هى التى يجب أن تحدّد المسألة المتنازع فيها ثم تكيفها متبعة فى ذلك قانونها. فاذا تبين لها أنها مسألة تتعلق بالأحوال الشخصية أوقفت السير فى الدعوى حتى تفصل فيها محكمة الأحوال الشخصية المختصة. أما إذا رأت أنها تتعلق بالأحوال العينية فصلت فيها وفى الدعوى بمقتضى قانونها أو بمقتضى القانون الواجب تطبيقه. فلذلك ولأن المسألة التى انحصر فيها النزاع لدى محكمة الاستئناف هى ما إذا كان هذا التصرف - على الرغم مما جاء فيه من ألفاظ الهبة والوقف والتأبيد والاستبدال والإدخال والإخراج والتعديل فى الوقفية وكيف يختار القيم وكيف يعزل ومن أحكام لا تذكر ولا تتصل إلا بالأوقاف - يجب اعتباره وصية أم يجب اعتباره وقفا؟ ويقول الطاعن إن هذه المسألة هى مسألة تكييف صرف كان ينبغى لمحكمة الاستئناف معالجة حلها ابتداء لتحديد الاختصاص ولتعيين القانون الواجب اتباعه فى الدعوى، وإن محكمة الاستئناف إذ أهملتها وعملت على غير مقتضى تكييفها الصحيح قد أخطأت فى تطبيق القانون.
ومن حيث إنه لا نزاع فى أن موضوع الدعوى الحالية هو مطالبة بملك فهو من اختصاص المحاكم الأهلية، بل قد حكمت فيه محكمة مصر الابتدائية برفض الدفع بعدم اختصاصها وأصبح الحكم انتهائيا. إنما النزاع هو فيما إذا كان ينبغى اعتبار التصرف المتقدّم ذكره وصية بحق انتفاع مؤبد للكنائس والفقراء ولبنات المرحوم وهبة بك شلبى، ثم لذرّيتهنّ إلى حين انقراضهم، ثم للفقراء والمساكين والكنائس، وأن هذه الوصية على ما فيها من التأبيد صحيحة نافذة، كما قضى بذلك المجلس الملى، أم أنه وصية بوقف مضاف إلى ما بعد الموت؟ وما حكمها وهل تكون باطلة كما يزعم الطاعن؟ ثم فيما إذا كان على محكمة الموضوع الأخذ فى ذلك بما رآه المجلس الملى من غير بحث كما فعلت، أم كان يتعين عليها أن تكيف هذه المسألة المتنازع فيها، فان رأت أن فيها مسألة من مسائل الأحوال العينية طبقت قانونها الذى هو قانون موقع العقار ثم حكمت فيها وفى الدعوى بالتطبيق لهذا القانون؟
ومن حيث إن المشرع المصرى فى القوانين المختلطة جعل الحكم فى الأحوال الشخصية لقانون الجنسية. ونظرا لعدم وجود قانون واحد يحكم الأحوال الشخصية للمصريين جميعا جعل فى القانون الأهلى قانون ملة كل منهم هو الذى يحكم أحواله الشخصية، وغالبا ما يكون قانون الملة هو نفس الشريعة المحلية أى الشريعة الإسلامية.
ومن حيث إن المقصود بالأحوال الشخصية هو مجموعة ما يتميز به الإنسان عن غيره من الصفات الطبيعية أو العائلية التى رتب القانون عليها أثرا قانونيا فى حياته الاجتماعية ككون الإنسان ذكرا أو أنثى، وكونه زوجا أو أرملا أو مطلقا أو أبا أو ابنا شرعيا، أو كونه تامّ الأهلية أو ناقصها لصغر سنّ أو عته أو جنون، أو كونه مطلق الأهلية أو مقيدها بسبب من أسبابها القانونية. أما الأمور المتعلقة بالمسائل المالية فكلها بحسب الأصل من الأحوال العينية. وإذن فالوقف والهبة والوصية والنفقات على اختلاف أنواعها ومناشئها هى من الأحوال العينية لتعلقها بالمال وباستحقاقه وعدم استحقاقه. غير أن المشرع المصرى وجد أن الوقف والهبة والوصية - وكلها من عقود التبرعات - تقوم غالبا على فكرة التصدّق المندوب إليه ديانة فألجأه هذا إلى اعتبارها من قبيل مسائل الأحوال الشخصية كيما يخرجها من اختصاص المحاكم المدنية التى ليس من نظامها النظر فى المسائل التى قد تحوى عنصرا دينيا ذا أثر فى تقرير حكمها. على أن أية جهة من جهات الأحوال الشخصية إذا نظرت فى شئ مما تختص به من تلك العقود فان نظرها فيه بالبداهة مشروط باتباع الأنظمة المقرّرة قانونا لطبيعة الأموال الموقوفة والموهوبة والموصى بها.
ومن حيث إن القاعدة العامة فى فقه القانون الدولى الخاص أن العقارات خاضعة لقانون موقعها (Lex rei soli). وأهم الأحوال العينية التى يحكمها قانون موقع العقار هى: متى يعتبر المال عقارا ومتى يعتبر منقولا؟ وما هى الحقوق العينية التى يمكن ترتيبها على العقار، وما طبيعتها وما معنى الملكية وحق الانتفاع وحق الارتفاق، وما هى الشروط الواجب توافرها لوجود هذه الحقوق واستعمالها، وما هى حدود انتفاع المالك يملكه والقيود التى يقرّرها قانون موقع العقار على مالكه للمصلحة العامة أو لمصلحة الغير، وكيف يكتسب الملك وكيف تحفظ هذه الحقوق وكيف تنقل وكيف تزول الخ؟
ومن حيث إن النزاع فى القضية الحالية لا يقوم فى الواقع لا على علاقة الموصى بمن أوصى لهنّ من بناته ولا على علاقته بغيرهنّ من أولاده ولا تعلق له بصيغة الوصية (أى شكلها) ولا بأهلية الموصى للتبرع ولا بغير ذلك مما يتعلق بالأحوال الشخصية البحتة، فالكل مسلم بصدور ورقة 3 مارس سنة 1902 من وهبه بك شلبى وبأنه من أهل التبرع، وبأن التصرف قربة فى دين المتصرف، إنما يقوم النزاع على وصف الحقوق العينية التى رتبها الموصى للكنائس والفقراء ولبناته على المنزل الموصى بحق الانتفاع به وعلى حكم القانون فى هذا الوصف، وليس فى ذلك شئ من الأحوال الشخصية التى يحكمها قانون الملة ويقضى فيها المجلس الملى، بل إنه متعلق بأمور عينية يجب الرجوع فيها إلى القانون المدنى الذى هو قانون موقع العقار واتباع قواعده لأنها من النظام العام.
ومن حيث إن القانون المصرى قسم الأموال إلى ملك ووقف ومباح ومخصص للمنافع العمومية، وبيّن أحكام كل منها وكيف تثبت له صفة نوعه وكيف تزول. فعرّف الملك بأنه العقارات التى يكون للناس فيها حق الملك التام بما فى ذلك الأطيان الخراجية (المادة 6 من القانون المدنى)، والمال الموقوف بأنه المرصد على جهة بر لا تنقطع ويصح أن تكون منفعته لأشخاص بشروط معلومة حسب المقرّر باللوائح فى شأن ذلك (المادة 7). وعرّف حق الملكية بأنه حق المالك فى الانتفاع بما يملكه والتصرف فيه بطريقة مطلقة" (المادة 11). وعرف حق الانتفاع بأنه حق المنتفع فى استعمال ملك غيره واستغلاله أو فى مجرّد حق الاستعمال الشخصى وحق السكنى. ثم نص على أن حق الانتفاع يصح أن يكون مؤقتا أو مؤبدا إنما لا يكون بين آحاد الناس إلا مؤقتا ولا يعطى إلا لشخص أو أكثر موجود على قيد الحياة وقت الإعطاء وينتهى على كل حال بوفاته إن لم يكن له ميعاد قبل الوفاة" (المواد 13 و14 و15 و16). ثم نص على جواز الوصية لمحل خيرى بملك العين ولشخص أو أكثر ولورثته على التعاقب بحق الانتفاع، وقضى بأنه لا يكون للمحل الخيرى حق الملك التام إلا بعد انقراض الموصى لهم بحق الانتفاع (المادة 17)، وهذا من قبيل حق الانتفاع المؤبد الذى حرّمه القانون بين الأفراد، وهو بعينه نظام الوقف الذى أتى به الفقه الاسلامى وبحسبه وجدت الأموال الموقوفة. مع ملاحظة أن محرّرى القانون اضطروا إلى جعل ملك الرقبة للجهة الخيرية وجعل الملك التام يؤول لها فى النهاية؛ وسبب اضطرارهم لهذا أنهم لم يريدوا متابعة فقهاء المسلمين على ما قالوه من أن العين الموقوفة تكون على حكم ملك الواقف أو على حكم ملك الله، بل كان هذا عندهم من قبيل الأمور التى وراء الطبيعة (الميتافيزيقية) والتى لا يأخذون بها فى التشريع. وهم بالبداهة مخطئون لأنهم ما داموا قد أقرّوا نظام الوقف، فكان ينبغى لهم أن يأخذوا فيه بأقوال واضعيه، وإلا فان عبارتهم فى المادة 17 المذكورة تحلل للجهة الخيرية أن تبيع حق الرقبة وأن تبيع الملك التام عند أيلولته إليها بعد انقراض ذرّية الموصى لهم؛ وهذا مخالف لأصول الوقف كل المخالفة.
ومن حيث إن المفهوم من النصوص السابقة الإشارة إليها أنه لا يجوز إعطاء حق الانتفاع إلا لشخص أو أكثر موجودين على قيد الحياة، ولا يجوز الإيصاء لشخص أو أكثر ولورثته من بعده ما تناسلوا ثم إلى الفقراء إلا على صورة الوقف يرصد به المال على جهة بر مؤبدة لا تنقطع، وقد توجه المنفعة إلى من يشاء الواقف توجيهها إليه على أن تنتهى إلى جهة البر وتبقى لها على الدوام والتأبيد.
ومن حيث إن تصرف المرحوم وهبة بك شلبى بالوصية والإيهاب والوقف على الكنائس والفقراء وعلى بناته الأربع على أن كل من مات من بناته يكون نصيبها لأولادها بالتساوى، فان لم يكن لها ولد فيكون نصيبها إلى أخواتها وكذا إلى حين انقراض الذرّية فيكون ما أوصى به وقفا مؤبدا وحبسا مخلدا يصرف ريعه على جهات البر المعينة - إن هذا التصرف وقد جاء فيه أيضا أن القيراطين الموصى بهما للكنائس والفقراء والأرامل يؤدّى الولى ريعهما لغبطة البطريرك ويستصدر منه سنويا التصديق على الحساب - إن هذا التصرف الذى ذهب المجلس الملى إلى تسميته وصية بحق انتفاع مؤبد واستجاز اعتباره من اختصاصه، هو فى الواقع وقف مضاف إلى ما بعد الموت، لأن القانون المصرى لا يعرف الوصية بحق الانتفاع المؤبد إلا إذا أخرجها الموصى مخرج الوقف بالأوضاع المعروفة. ولئن كان هذا الوقف حاصلا بطريق الوصية وكان حكمه حكم الوصية ما دام الموصى حيا إلا أنه متى مات هذا الموصى مصرا عليا، فقد حق الوقف ووجب تطبيق أحكام وقف المريض مرض الموت على مثله.
وحيث إنه ما دام هذا التصرف وقفا فلا اختصاص للمجلس الملى به لأنه لا شأن له بالأوقاف، بل حكمه الذى أصدره باعتماد هذه الوصية ونفاذها، أى باعتماد هذا الوقف ونفاذه، قد تجاوز فيه حدود اختصاصه، وأعطى للتصرف حكما غير ما يظهر لهذه المحكمة أنه هو الحكم الشرعى لمثله.
ومن حيث إن محكمة الاستئناف بتكييفها هذا التصرف بأنه وصية، على ما كيفها به المجلس الملى بغير بحث، تكون قد أخطأت فى تطبيق القانون.
ومن حيث إن الطاعن فى كل أدوار النزاع، لدى المجلس الملى أو لدى المحكمة الابتدائية أو محكمة الاستئناف، كان ولا يزال يطعن بعدم صحة هذا التصرف.
ومن حيث إن هذه المحكمة لا ترى البحث فى قيمة هذا التصرف الذى تمحض فى نظرها إلى أنه وقف مضاف إلى ما بعد الموت، لا من جهة الشكل ولا من جهة الصحة ولا من جهة الحكم المقرّر لمثله شرعا عند صحته، بل ترى ترك كل ذلك للمحكمة الشرعية المختصة وحدها بمسائل أصل الوقف جميعها مهما يكن دين الواقف. وهذا يقتضى مع نقض الحكم إيقاف الدعوى لدى محكمة الاستئناف حتى يفصل شرعا فى كل هذا.
وحيث إن مما تنبغى ملاحظته - وإن كان فضله زائدا عما يحتاج إليه للفصل فى هذا الطعن - مما تنبغى ملاحظته أنه بفرض غير الواقع وأن التصرف الصادر من المرحوم وهبة بك شلبى هو مجرّد وصية فقد كان من واجب المجلس الملى أن يقضى ببطلانها فيما زاد على القيراطين اللذين للكنائس وللفقراء، لأن وصية غير المسلم - كوصية المسلم - لا تصح إلا لموجود حقيقة أو حكما، ولا تجوز بأكثر من الثلث، ولا تجوز لوارث إلا باجازة باقى الورثة. أما أنها لا تصح إلا لموجود حقيقة أو حكما فانها تمليك، والتمليك يستحيل أن يحصل لمعدوم غير موجود. وغير ممكن، بحسب قوانيننا، الأخذ بما أشار إليه حضرة محامى المطعون ضدّهما من أن القانون الكنسى القبطى يسير على مبادئ القانون الرومانى التى كانت تجيز الإيصاء بالاستعقاب (Fidéi commis) أى مع التكليف بنقل الموصى به إلى موجود أو إلى معدوم لما يوجد، فانه على افتراض أن هناك قانونا كنسيا قبطيا معترفا به، وعلى افتراض صحة ذلك فيه، فان أصول قانوننا مانعة منعا كليا من مثل هذا، إذ هى لا تجيز الإيصاء لمتعاقبين لما يوجدوا إلا على صورة الوقف المشار إلى أساسه بالمادة (17) والمشار إلى موضوعه كنوع من أنواع المال بالمادة (7) كما سلف الذكر. وأما أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث فهذا هو نص نظام تركات العيسويين الذى صدر به الأمر السلطانى فى المحرّر السامى الصادر بتاريخ 7 صفر سنة 1278 (الموافق 14 أغسطس سنة 1861) وتكرر فى الأمر الملوكى الصادر فى 5 رمضان سنة 1278 (الموافق 2 مارس سنة 1862) المشتمل على نظامنامة التركات، وأشير إليه أيضا فى المحرّر السامى المبلغ من المعية السنية بمصر لنظارة الخارجية المصرية والمبلغ منها لمحافظة مصر فى 27 ربيع الآخر سنة 1282. وحاصل ما نص عليه صراحة فى ذلك النظام أن من يوصى من المسيحيين بثلث ماله إلى بعض الوجوه المعتبرة كانت وصيته هذه معتبرة شرعا متى كانت محرّرة بحضور البطرك أو الأسقف أو القسيس ومصدّقا عليها من أيهم، وكذلك من يقسم أمواله فى حال حياته وصحته وكمال عقله بين ورثته وحدهم أو بينهم وبين غيرهم ويفرز حصة كل منهم ويسلمها له فعلا، فان تصرفه هذا يكون معتبرا أيضا عند حكام الشرع متى كان مصدّقا عليه من البطرك أو الأسقف أو القسيس المذكورين، وأن كل تركة يكون من مستحقيها قصر، فان هؤلاء هم تحت رعاية الدولة ويصير تحرير تركه مورّثهم المتوفى وضبطها بحسب أصول الشريعة مع تعيين وصى لهم من مؤتمنى ملتهم. فيؤخذ من هذا النظام: (أوّلا) أن الوصية لا تعتبر إلا إذا كانت لا تزيد على ثلث المال. (ثانيا) وأن كل تركة فيها قصر يكون حصر نصيب القصر فيها على مقتضى أصول الشريعة الإسلامية، أى على قاعدة أن للورثة ما فضل بعد البداءات من نفقة تجهيز ودفن ومن دين، وبعد الوصية التى لا يجوز أن تزيد على ثلث الباقى من المال.
وأما عدم جواز الوصية للوارث فان مما يجب التنبيه إليه أن أصل حكم الشريعة الإسلامية فى وصايا غير المسلمين أنها إنما تصح إذا كانت قربة عند المسلمين وعند الموصين بحيث إنها إذا كانت قربة عند الموصين فقط وليست قربة عند المسلمين، فالرأى الراجح أنها لا تجوز. فمن أوصى من المسيحيين مثلا لبناء الكنائس والبيع أو لإعانة الرهبان على الرهبنة فان وصيته تكون باطلة فى رأى صاحبى أبى حنيفة، لأنها إذا كانت قربة عند الموصى فليست قربة عند المسلمين. هذا هو الأصل الذى كان يمكن أن يقضى به القضاة الشرعيون إذا رفع إليهم الأمر. ولأن الوصية على الكنائس والبيع والقسس والرهبان هى من أهم ما يتوسل به المسيحى لنيل ثواب الآخرة، كما يتوسل المسلم بالوصية للمساجد وخدمة الشريعة الإسلامية، فاجراء ذلك الحكم الشرعى على وصايا غير المسلمين فيه إحراج عظيم لهم. وهذا هو وحده المعنى الذى يهتم له المسيحيون ويعملون على تنفيذ وصاياهم فيه. فمتى صرّح لهم بأن الثلث الذى لهم حق فى الوصية به يصح أن يكون على وجوه معتبرة فى دينهم فقد كمل لهم غرضهم. أما أن يدّعوا أن هذا الثلث أو أكثر منه يصح أن يوصى به لوارث، فان هذه مسألة مالية صرفة لا علاقة لها بالدين، بل هى من أمور الأحوال العينية التى يكون فيها التشريع عاما لكل الرعايا مهما اختلفت أديانهم - نبين هذا ليظهر فقدان كل حكمة فى المغايرة فى الوطن الواحد بين المسلمين وغير المسلمين من حيث جواز الوصية للوارث وعدم جوازها. وبعد فان من الأدلة على عدم جوازها للوارث ما يأتى:
(أوّلا) أن ما سلف نقله من نظامنامة التركات من أن التركة إذا كان فيها قاصر تضبط بحسب أصول الشريعة الإسلامية لمما يترتب عليه أنه لو كان فيها وصية لوارث لكانت باطلة حتما.
(ثانيا) أنه مع تسليم كل الطوائف المسيحية بأن المواريث إنما هى من اختصاص المحاكم الشرعية وحدها ما لم يتراض الخصوم - هذا التسليم يقتضى حتما بطلان الوصية للوارث، لأنه إذا وجدت تركة فيها وصية لوارث ورفع الأمر فيها للقاضى الشرعى بخصوص الإرث، كما هو الواجب، لحكم فى هذا الإرث طبعا بمقتضى الشريعة الإسلامية ولأبطل الوصية للوارث. وفى هذا المقام يجدر أن تدل على خطأ ورد فى هذا الموطن فى بعض قوانين الطوائف إذا ترجمت فيها عبارة (successions ab intestat) بعبارة "المواريث الخالية عن الوصية" وهو خطأ شنيع، لأن مقتضى هذه العبارة العربية أن التركة إذا كان فيها وصية لم تكن الوراثة من اختصاص المحكمة الشرعية مع أن عبارة (successions ab intestat) معناها "المواريث الغير الآتية من طريق الوصية" أو بالإيجاز "المواريث الشرعية" ومقابلها هى (successions testamentaires) أى "المواريث الآتية بطريق الوصية" أو بالإيجاز "الوصية".
(ثالثا) أن المحرّر السامى الصادر فى 7 صفر سنة 1278 وغيره من الأوامر السامية الخاصة بنظام تركات المسيحيين إذا كانت بعد أن أشارت إلى وجوب اعتبار الوصية شرعا متى كانت بثلث المال لبعض الوجوه المعتبرة - إذا كانت قرّرت ذلك ثم أردفتها بعبارة أن من يقسم أمواله فى حال حياته وصحته وكمال عقله بين ورثته وحدهم أو بينهم وبين غيرهم ويفرز حصة كل منهم ويسلمها له فعلا فان تصرفه هذا يكون معتبرا شرعا، فقد دلت بهذا على أن الممكن لصاحب المال، فيما يتعلق بورثته، هو أن يقسم ماله عليهم فى حال صحته كما يريد، ومتى اختص كل واحد منهم بجزء من ماله - قل هذا الجزء أو زاد عن نصيبه الشرعى فى الميراث - بل متى اختص جميع ورثته بجزء ضئيل من ماله، واختص الأجانب بأكبر جزء من هذا المال فان تصرفه هذا يكون معتبرا. ولا شك أن هذا من الأمور المسلم بها شرعا لأن تقسيم المال فى حال الصحة وتسليمه فعلا للوارث أو غير الوارث هو من قبيل الهبة التى تجوز فى حالة الصحة للوارث أو للأجنبى ولو بكل المال. ولو أن واضع النظام أراد أن يجعل لصاحب المال أن يوصى لأى من ورثته بأزيد من نصيبه الشرعى لما وسعه هذا، بل إن هذا يكون مخالفا كل المخالفة لصريح الأحكام الشرعية التى لا تجيز الوصية للوارث مع عدم وجود أى ضرورة اجتماعية أو دينية تقضى بهذه المخالفة.
(رابعا) أن هذا المعنى وهو كون الوصية لا تجوز لوارث، والمعنى السابق وهو كونها لا تجوز إلا من الثلث مهما يكن دين الموصى، قد لاحظه الشارع المصرى عند وضعه القانون المدنى للمحاكم المختلطة فى سنة 1875، كما لاحظه عند وضع القانون المدنى للمحاكم الأهلية فى سنة 1883 إذ قرّر فى باب البيع حكمين خاصين ببيع المريض مرض الموت نص فيهما (مادتى 320 و321 مختلط ومادتى 254 و255 أهلى) على أن بيعه إن كان لوارث فلا ينفذ إلا إذا أجازه باقى الورثة، وإن كان لغير وارث جاز الطعن فيه متى كانت قيمة المبيع زائدة على ثلث المال. ثم قرّر فى المادة 322 مختلط و256 أهلى حكما متفرّعا على حكم المادة 321 مختلط و255 أهلى. وهذه الأحكام السارية على كل المصريين من مسلمين وغير مسلمين لا تقوم إلا على أساس القاعدة الشرعية القاضية بأن التصرفات الإنشائية المنجزة للمريض مرض الموت تعتبر مبدئيا من قبيل الوصية، فان كانت لوارث فلا تجوز إلا إذا أجازها باقى الورثة، وإن كانت لأجنبى فلا تجوز المحاباة فيها إلا من الثلث. وهذا وحده يكفى فى التدليل على صحة ما تقدّم فى هذه المسألة وفى المسألة السابقة. والقانون المدنى الأهلى صادر فى 28 أكتوبر سنة 1883 بعد قانون المجلس الملى للأقباط الأرثوذكس الصادر فى 14 مايو سنة 1883. ومهما يكن من أمر وزير الداخلية الصادر فى 16 نوفمبر سنة 1920 بالتصديق على اللائحة الداخلية للمجالس الملية للأقباط الأرثوذكس وفيها المادة 23 تقضى بأن المجلس الملى يحكم فى مواد الأحوال الشخصية بمقتضى قانون الأحوال الشخصية القبطى الأرثوذكسى وإلا فبمقتضى قواعد العدل والإنصاف - مهما يكن من بطلان هذا الأمر لخروج الوزير فيه عن حدّه بتصديقه على المادة 23 المذكورة، وفيها قاعدة من قواعد الموضوع التى لا يملك وضعها إلا الشارع نفسه، فان المقرّر من قبل من جانب سلطان تركيا لوصايا غير المسلمين قد أصبح جزءا من نظام الطوائف لا يمكن العدول عنه، وقد أقرّه القانون المدنى وليس عنه من محيص. فمتى قيل فى أى قانون من قوانين الطوائف إن الحكم يكون على مقتضى القانون الكنسى، فمعنى ذلك القانون الكنسى ملحوظا فيه الأوامر التشريعية الصادرة من أولى الأمر والسلطان الأعلى. أما ما يدّعى من أن التحريرات السامية الصادرة فى سنة 1891 من جانب سلطان العثمانيين قد أجيز فيها لغير المسلمين إطلاقا الوصية بلا شرط ولا قيد فهذا غير صحيح قطعا. وبيانه:
أوّلا - أنه توجد باستمبول بطركية للأروام الأرثوذكس هى المعروفة باسم (Patriarcat oecuméniques des Grecs Orthodoxes) هذه البطركية لا شأن لها بغيرها من البطركيات الموجودة بالقطر المصرى كبطركية الأروام الأرثوذكس باسكندرية وبطركية الأقباط الأرثوذكس وغيرهما من بطركيات المذاهب الأخرى، كما لا شأن لها بباقى البطركيات التى كانت موجودة بغير مصر من بلاد تركيا. ثم إنها هى استمرار للبطركية التى وجدها الأتراك عند فتحهم القسطنطينية، وكتلة أروام تركيا فى أوروبا وآسيا كانوا تابعين لها وهم أكثر المسيحيين التابعين لتركيا عددا. وقد كان لها امتيازات قديمة اضطرّت السلطات التركية لتحيفها عند ما رأت الأخذ بأنظمة الحكم الجديدة التى تقضى بتولى الدولة نفسها شئون القضاء داخل بلادها. ثم لما أعلن الخط الهمايونى فى فبراير سنة 1856 وبه تقرّر اختصاص محاكم الدولة من مختلطة وعادية بكافة الدعاوى التجارية والمدنية والجزائية، وكذلك بكافة القضايا الخصوصية أى قضايا الأحوال الشخصية إلا فى صورة اتفاق خصوم هذه القضايا الخصوصية على رفعها لرؤسائهم الروحانيين ولمجالسهم - لما كان ذلك ثم كان الأمر السامى فى صفر سنة 1278 وما بعده من الأوامر السامية المنظمة لتركات المسيحيين، شكت تلك البطركية من تدخل المحاكم الشرعية والجهات الإدارية فى أمر وصايا أتباعها، كما شكت من أمور أخرى، فأصدرت الدولة العثمانية لها هذا المحرّر فى 23 جمادى الآخرة سنة 1308 الموافق 3 فبراير سنة 1891 ومن ضمن ما فيه حكم خاص بالوصية مقتضاه أن مسألة الوصية مع كونها من المسائل الحقوقية (أى من أمور الأحوال العينية) إلا أنه متى كان مصدّقا عليها من البطرك أو المتربوليت (الرئيس الدينى للجهات الفرعية) أو الأسقف تكون معتبرة بالمحكمة، وأن كل ما تشمله من الملك أو المال من غير الأراضى الميرية أو الأوقاف يكون للموصى له، وأن المنازعات بشأنها ينظرها مجلس البطركخانة.
ثانيا - كان يوجد باستمبول أيضا بطركخانة أخرى للأرمن الأرثوذكس وكان أتباعها هم أكثر الأرمن التابعين للدولة العلية فهذه البطركية شكت أيضا من بعض أمور تمس بها، فأصدرت الدولة لها، بعد الإذن السلطانى، ذلك المحرّر السامى الصادر فى 21 شعبان سنة 1308 الموافق أوّل أبريل سنة 1891 وهو لا يتضمن شيئا خاصا بالوصية ولا يعطى لبطركخانة الأرمن أى حق فى هذا الصدد، بل هو يتضمن، كما يتضمن المحرّر الصادر قبله للأروام الأرثوذكس، أحكاما خاصة بالنفقات المتولدة من عقد وفسخ الأنكحة وبكيفية استحضار الرهبان وتوقيفهم وتحليفهم اليمين.
فلما صدر هذان الأمران للبطركيتين المذكورتين أرسلا لجهات الدولة بمحرّر من الباب العالى ورد فيه أن ما كان من الأحكام التى جاءت فى هذين الأمرين متعلقا بجلب واستنطاق الرهبان وتوقيفهم (حبسهم) فى المواد الحقوقية والجزائية وتحليفهم اليمين وبدعاوى النفقات المتولدة من عقد وفسخ الأنكحة يكون بالطبع شاملا لسائر الملل الغير المسلمة. ولم يرد فى هذا المحرر الأخير شئ يجعل الحكم الخاص بالوصية والوارد بالمحرّر الأوّل الصادر لبطركخانة الروم الأرثوذكس عاما أيضا شاملا لسائر الملل الأخرى الغير المسلمة. لكن الباحثين الذين تناولوا هذا الموضوع من قبل، هم والمحاكم التى نظرت فيه، قد التبس عليهم الأمر بسبب سوء الترجمة من العربية أو من التركية للفرنسية، إذ بدل أن يذكر فى ترجمة محرّر الباب العالى الأخير أن العام الشامل هو ما كان من الأحكام متعلقا بكيت وكيت (rélativement à) ذكر فيها خطأ أن العام الشامل هو الأحكام الواردة بتلك المحرّرات مثل كيت وكيت (telles que...). بهذه الترجمة السيئة صار تعميم أحكام الوصية الواردة بالمحرّر الخاص ببطركخانة الروم الأرثوذكس التى بالآستانة بين كل الطوائف غير المسلمة فى كافة بلاد الدولة ومنها مصر. ولكن الحق أحق أن يتبع فان أصل المحرّر التركى الوارد من الباب العالى موجود بدفتر خانة الديوان الملكى بعابدين وهو دال على أن أحكام الوصية تلك لم تعمم وأن الترجمة للفرنسية خاطئة. وإذن فمن المتعين القول بأن ذلك الحكم الخاص بالوصية إنما كان تطبيقه مقصورا على التابعين لتلك البطركية وحدهم ولا حجة فيه لأحد من غير أبنائها. على أن تلك البطركية قد عفت آثارها الآن وأصبحت الأحكام فى تركيا مدنية بحتة لا سلطان لرجال الدين فيها.
من كل ما تقدّم يبين سداد ما سلف من أن التصرف الحاصل من المرحوم وهبة بك شلبى لو كان مجرّد وصية لما كان إلا باطلا فيما كان منه لورثته، وذلك لمنازعة باقى الورثة فيه وعدم إجازتهم إياه. ولكن الواقع، كما سلف، أن هذا التصرف هو وقف مضاف إلى ما بعد الموت، والواجب بشأنه السير كما سبق القول.
هذا وإن من يتتبع أدوار هذه الدعوى وير أنها طافت بمجلسى الطائفة القبطية الابتدائى والاستئنافى، ثم بالمحكمة الأهلية الابتدائية وبالاستئناف، ثم بمحكمة النقض، ثم ها أنها ستطوف بالمحكمة الشرعية لتعود من بعد للمحكمة الأهلية - من يتتبع هذا الأدوار ويكن مشفقا على مصالح الأهلين لا يلبث أن يتوجه لذوى الأمر فى البلاد يبثهم أن قد آن الأوان من زمن طويل لتوحيد جهات التقاضى بحيث ينظر القضاء بعينه فى الأحوال الشخصية لكافة المصريين من مسلمين وغير مسلمين، كما ينظر فى الأحوال العينية؛ وإن كل تراخ فى تحقيق هذه الأمنية ضارّ أعظم الضرر بالمتقاضين بل وبمصالح البلاد.


[(1)] ملحوظة - هذه القاعدة الأخيرة هى تلخيص ما ذكره الحكم مما كان لا يحتاج إليه للفصل فى الطعن ولم يكن من الأسباب التى من أجلها نقض الحكم.
[(2)] يراجع فى هذا الصدد مقال للأستاذ أحمد عبد الهادى المحامى بقسم قضايا الحكومة فى "المحاكم الشرعية وسلطتها على غير المسلمين" نشر بالعدد الأوّل من السنة الخامسة من مجلة القانون والاقتصاد بالصفحات من 5 - 60.