مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثالثة - العدد الثاني (من فبراير سنة 1958 إلى آخر مايو سنة 1958) - صـ 757

(87)
جلسة أول مارس سنة 1958

برياسة السيد/ السيد علي السيد رئيس المجلس وعضوية السادة السيد إبراهيم الديواني وعلي إبراهيم بغدادي والدكتور محمود سعد الدين الشريف ومصطفى كامل إسماعيل المستشارين.

القضية رقم 177 لسنة 3 القضائية

( أ ) قرار إداري - فصل أحد رجال البوليس - سبب القرار - حدود رقابة القضاء الإداري لهذا السبب.
(ب) جزاء تأديبي - ثبوت أن التهمة المسندة للموظف قد حفظتها النيابة لعدم كفاية الأدلة - إمكان توقيع الجزاء التأديبي عليه.
1 - إذا توافر لدى جهة الإدارة الاقتناع بأن رجل الأمن سلك سلوكاً معيباً ينطوي على تقصير أو إهمال في القيام بواجباته، أو خروج على مقتضيات وظيفته، أو إخلال بكرامتها، أو بالثقة الواجب توفرها فيها أو في القائمين بها، ويدعوها إلى عدم الثقة به أو الاطمئنان إلى صلاحيته بناء على ذلك للقيام بأعباء وظيفته، وكان اقتناعها هذا مجرداً عن الميل أو الهوى وموجهاً لخير الصالح العام فبنت عليه قرارها بإدانة سلوكه، ورأت لمصلحة الأمن والنظام إقصاءه عن هذه الوظيفة، واستنبطت هذا كله من وقائع صحيحة ثابتة في عيون الأوراق ومؤدية إلى النتيجة التي خلصت إليها، فإن قرارها في هذا الشأن يكون قائماً على سببه ومطابقاً للقانون وحصيناً من الإلغاء. أما تقدير تناسب الجزاء مع الذنب الإداري فمن الملاءمات التي تنفرد بتقديرها بما لا معقب عليها فيها، والتي تخرج عن رقابة القضاء الإداري.
2 - إن حفظ تهمة الرشوة قبل المدعي لعدم كفاية الأدلة لا يبرئ سلوكه من الوجهة الإدارية، ولا يمنع من مؤاخذته تأديبياً وإدانة هذا السلوك، ولا سيما بعد أن عززت تحريات المباحث في أزمنة مختلفة ما يحوم حوله من شبهات كانت كافية لدى الإدارة - وهي المسئولة عن الأمن ورجاله - لتكوين عقيدتها واقتناعها بعدم الاطمئنان إلى صلاحيته للاستمرار في عمله، وصدرت في تقديرها هذا عن رغبة مجردة عن الميل أو الهوى في رعاية المصلحة العامة، فانتهت إلى إقصائه عن وظيفته، مستندة في ذلك إلى وقائع صحيحة لها وجود مادي ثابت في الأوراق، استخلصت منها هذه النتيجة استخلاصاً سائغاً، يجعل قرارها الصادر بفصله من الخدمة قائماً على سببه ومطابقاً للقانون.


إجراءات الطعن

في 21 من يناير سنة 1957 أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة سكرتيرية المحكمة عريضة طعن أمام هذه المحكمة قيد بجدولها تحت رقم 177 لسنة 3 القضائية في الحكم الصادر من المحكمة الإدارية لرياسة الجمهورية ووزارات الداخلية والخارجية والعدل بجلسة 25 من نوفمبر سنة 1956 في الدعوى رقم 41 لسنة 3 القضائية المقامة من: محمد فتحي سيد أحمد مبارك ضد وزارة الداخلية، القاضي "بعدم قبول الدعوى، وألزمت المدعي بالمصروفات". وطلب السيد رئيس هيئة المفوضين للأسباب التي استند إليها في صحيفة طعنه "قبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع القضاء بإلغاء الحكم المطعون فيه وإعادة الدعوى إلى المحكمة الإدارية للفصل فيها من جديد" وقد أعلن هذا الطعن لوزارة الداخلية في 6 من فبراير سنة 1957، وللمطعون لصالحه في 7 منه. وبعد أن انقضت المواعيد القانونية دون أن يقدم أي من الطرفين مذكرة بملاحظاته عين لنظر الطعن أمام هذه المحكمة جلسة 18 من يناير سنة 1958. وفي 20 من نوفمبر سنة 1957 أبلغ الطرفان بميعاد هذه الجلسة. وفيها سمعت المحكمة ما رأت سماعه من إيضاحات ذوي الشأن على الوجه المبين بمحضر الجلسة، ثم قررت إرجاء النطق بالحكم في الطعن إلى جلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
"أ" عن عدم قبول الدعوى:
من حيث إنه يبين من أوراق الطعن أن المدعي كان يعمل بوظيفة وكيل أومباشي بقوة مرور مديرية الفيوم، وفي يوم 23 من سبتمبر سنة 1954 قبضت عليه النيابة العامة لا تهامة في جريمة رشوة، وعلى إثر ذلك قررت وزارة الداخلية وقفه عن العمل اعتباراً من 23 من سبتمبر سنة 1954 تاريخ القبض عليه، ثم صدر قرار برفته من الخدمة اعتباراً من هذا التاريخ بناء على موافقة مصلحة البوليس بكتابها رقم 1088 سري المؤرخ 22 من نوفمبر سنة 1954. وفي 29 من نوفمبر سنة 1954، أبلغ المذكور بالقرار الصادر بفصله من الخدمة فتظلم منه - على حد قوله الذي لم تنازع في صحته الوزارة - بعريضة أرسلها إلى السيد مدير عام مصلحة البوليس في 8 من ديسمبر سنة 1954 طالباً فيها إلغاء هذا القرار وإعادته إلى الخدمة. وفي 20 من مارس سنة 1955 تقدم إلى لجنة المساعدة القضائية بالمحكمة الإدارية لشئون القصر ورياسة مجلس الوزراء ووزارات الداخلية والخارجية والعدل بطلب الإعفاء رقم 837 لسنة 2 القضائية، لإعفائه من رسوم الدعوى التي يرغب في رفعها ضد وزارة الداخلية، بطلب إلغاء القرار المشار إليه الصادر بفصله من الخدمة وإعادته إلى العمل. وبجلسة 13 من أكتوبر سنة 1955 صدر قرار اللجنة بقبول هذا الطلب. وبناء على ذلك أقام الدعوى رقم 41 لسنة 3 القضائية ضد وزارة الداخلية أمام المحكمة الإدارية المذكورة بعريضة أودعها سكرتيرية المحكمة في 24 من أكتوبر سنة 1955 طلب فيها "الحكم بإلغاء القرار الإداري الصادر بتاريخ 22 من نوفمبر سنة 1954 القاضي بفصل الطالب من الخدمة وإعادته إلى العمل مع ما يترتب على ذلك من آثار، وإلزام السيد المدعى عليه بصفته بالمصاريف ومقابل أتعاب المحاماة". وقد دفعت وزارة الداخلية في مذكرتها المؤرخة 15 من فبراير سنة 1956 بعدم قبول الدعوى لرفعها بعد الميعاد، تأسيساً على أن قرار فصل المدعي صدر في 20 من نوفمبر سنة 1954 في حين أن الدعوى لم ترفع إلا في 24 من أكتوبر سنة 1955، وأن طلب المساعدة القضائية لا يعتبر من إجراءات الدعوى، وأن دعوى المدعي تخضع للإجراءات والمواعيد التي نصت عليها المادتان 12 و19 من القانون رقم 165 لسنة 1955 في شأن تنظيم مجلس الدولة دون أحكام قانون المجلس رقم 9 لسنة 1949، ومقتضى ذلك عدم قبول الدعوى قبل التظلم منها إدارياً باعتبار هذا التظلم الوسيلة الوحيدة لقطع سريان مدة الستين يوماً المقررة لرفع دعوى الإلغاء. ورد المدعي على هذا الدفع في مذكرته المؤرخة أول إبريل سنة 1956 بطلب رفضه، استناداً إلى أن القضاء الإداري قد استقر على أن الطلب الإعفاء من الرسوم القضائية هو إجراء قاطع للمواعيد، وأن هذه المواعيد قد روعيت بدقة، وأنه يفيد من أحكام قانون مجلس الدولة القديم دون الجديد، الذي لا تسري أحكامه في حقه بأثر رجعي. وقد قدم السيد مفوض الدولة إلى المحكمة تقريراً بالرأي القانوني مسبباً، ذهب فيه إلى التوصية بعدم قبول الدعوى لرفعها بعد الميعاد وإلزام رافعها بالمصروفات، بمقولة إن طلب الإعفاء من الرسوم القضائية لا يعدو أن يكون تظلماً إدارياً لا يعد به كإجراء قاطع لميعاد رفع دعوى الإلغاء في حالة تعدد التظلمات؛ إذ أن الأثر الذي رتبه القانون عندئذ هو أن تكون العبرة في قطع ميعاد رفع الدعوى بالتظلم الأول وحده دون التظلمات التالية. وبجلسة 25 من نوفمبر سنة 1956 قضت المحكمة الإدارية "بعدم قبول الدعوى، وألزمت المدعي المصروفات". وأقامت قضاءها على أن طلب المساعدة القضائية لا يعتبر من الإجراءات القاطعة لمدة سقوط دعوى الإلغاء، وبوجه خاص إذا كان قد سبقه تظلم أول، وكان الأثر القاطع لمدة السقوط منوطاً بهذا التظلم الأول وحده؛ إذ لا يكون لطلب الإعفاء في هذه الحالة - بوصفه تظلماً ثانياً - أي أثر في قطع هذه المدة. وقد طعن السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة في هذا الحكم بعريضة أودعها سكرتيرية هذه المحكمة في 21 من يناير سنة 1957، طلب فيها "قبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه، وإعادة الدعوى إلى المحكمة الإدارية للفصل فيها من جديد". واستند في أسباب طعنه إلى ما اتجه إليه القضاء الإداري من تقرير أثر لطلب الإعفاء من الرسوم القضائية في قطع المواعيد، هو بمثابة قاعدة قضائية من قواعد القانون الإداري تقوم جنباً إلى جنب مع القواعد التشريعية في مجالات روابط القانون العام. وإذ ذهب الحكم المطعون فيه غير هذا المذهب فإنه يكون قد خالف القانون، وتكون قد قامت به إحدى حالات الطعن في الأحكام أمام المحكمة الإدارية العليا. ومن حيث إن هذه المحكمة سبق أن قضت بأن مقتضيات النظام الإداري قد مالت بالقضاء الإداري إلى التقرير بأنه يقوم مقام المطالبة القضائية في قطع التقادم الطلب أو التظلم الذي يوجهه الموظف إلى السلطة الإدارية المختصة متمسكاً فيه بحقه طالباً أداءه، وأن هذا يصدق من باب أولى على طلب المساعدة القضائية للدعوى التي يزمع صاحب الشأن رفعها على الإدارة، إذ هو أبلغ في معنى الاستمساك بالحق والمطالبة بأدائه وأمعن في طلب الانتصاف من مجرد الطلب أو التظلم الذي يقدمه الموظف إلى الجهة الإدارية، بل هو في الحق يجمع بين طبيعة التظلم الإداري من حيث الإفصاح بالشكوى من التصرف الإداري، وبين طبيعة التظلم القضائي من حيث الاتجاه إلى القضاء طلباً للانتصاف فلا أقل، والحالة هذه، من أن يترتب عليه ذات الأثر المترتب على مجرد الطلب أو التظلم الإداري، من حيث قطع التقادم أو قطع ميعاد رفع دعوى الإلغاء، ويظل هذا الأثر قائماً ويقف سريان التقادم أو الميعاد لحين صدور القرار في الطلب سواء بالقبول أو الرفض، طالما كان الأمر بيد الجهة القضائية المختصة بنظره، ولكن إذا ما صدر القرار وجب رفع الدعوى خلال الميعاد القانوني محسوباً من تاريخ صدوره، فإن كانت دعوى إلغاء تعين أن يكون خلال الستين يوماً التالية. على أن الإجراء الذي يكون قد تم صحيحاً في ظل قانون مجلس الدولة السابق رقم 9 لسنة 1949، ويعتبر طبقاً له منتجاً لأثر التظلم الإداري، يظل منتجاً لأثره في هذا الخصوص في ظل القانون الجديد رقم 165 لسنة 1955، في شأن تنظيم مجلس الدولة، وذلك بالتطبيق للمادة الثانية من قانون المرافعات المدنية والتجارية.
ومن حيث إنه ثابت مما تقدم، أن المدعي أبلغ في 29 من نوفمبر سنة 1954، بقرار فصله من الخدمة، ولم تنف وزارة الداخلية قوله إنه تظلم منه إدارياً إلى السيد مدير عام البوليس في 8 من ديسمبر سنة 1954، طالباً إلغاءه، أي أنه تظلم منه في الميعاد كما أنه تقدم بطلب المساعدة القضائية في 20 من مارس سنة 1955 أي في الميعاد الذي فتحه له هذا التظلم. وقد صدر قرار لجنة المساعدة القضائية بقبول طلب إعفائه من رسوم الدعوى الحالية بجلسة 13 من أكتوبر سنة 1955. فأقام هذه الدعوى بإيداع صحيفتها سكرتيرية المحكمة الإدارية في 24 من أكتوبر سنة 1955، أي خلال الستين يوماً التالية؛ ومن ثم فإنها تكون مقبولة شكلاً لرفعها في الميعاد القانوني. ويكون طعن السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة في محله. وإذ قضى الحكم المطعون فيه بعدم قبول الدعوى فإنه يكون قد أخطا في تطبيق القانون ويتعين القضاء بإلغائه وبقبول الدعوى.
(ب) عن الموضوع:
من حيث إن الدعوى صالحة للفصل في موضوعها.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة، حسبما يتضح من الأوراق، تتحصل في أن المدعي يطلب "الحكم بإلغاء القرار الإداري الصادر في 22 نوفمبر سنة 1954، القاضي بفصل الطالب من الخدمة وإعادته إلى العمل مع ما يترتب على ذلك من آثار وإلزام السيد المدعى عليه (وزير الداخلية) بصفته بالمصاريف ومقابل أتعاب المحاماة". ويستند في ذلك عريضة دعواه وفي مذكرته المؤرخة أول إبريل سنة 1956، إلى أنه كان يشتغل بوظيفة وكيل أومباشي بقلم مرور مديرية الفيوم، وفي 22 من نوفمبر سنة 1954، صدر قرار إداري بفصله من الخدمة بدعوى أنه اتهم بقبول رشوة في القضية رقم 18 لسنة 1954 جنايات عسكرية الفيوم، ولما كانت هذه القضية قد تقرر حفظها ولم يثبت ضده ما يدينه أو يشين مركزه، فإن هذا القرار يكون قد جاء في غير محله وجانب الصواب. ولا سيما أن ملف خدمته يشهد له بالكفاية الممتازة وبرضاء رؤسائه عنه. ولم يؤخذ عليه طوال مدة خدمته أي مأخذ يمس عمله أو سلوكه، الأمر الذي حدا بالإدارة إلى تجديد مدة تطوعه للمرة الثانية بمجرد تقديمه طلباً بذلك، وقد تم هذا للتجديد في 21 من مايو سنة 1954، أي قبل وقوع الحادث المسند إليه بنحو ثلاثة أشهر؛ ومن ثم فإن القرار المطعون فيه الصادر بفصله من الخدمة يكون قد جانب الصواب، وأجحف به، مما يتعين معه القضاء بإلغائه وبإعادته إلى العمل ما يترتب على ذلك من آثار.
ومن حيث إن وزارة الداخلية ردت على هذه الدعوى، بأنه في يوم 23 من سبتمبر سنة 1954 الساعة 12.30 مساء، تقدم عزت محمد علي موسى - وهو مزارع بناحية السنباط مركز الفيوم - مبلغاً بأن عساكر نقطة مرور"أبو عش" يطالبونه برشوة على قيامه بنقل محصول القطن من زراعته بالسنباط إلى الفيوم وأنه مستعد لتقديم المبالغ المطلوبة للتأثير عليها، وأنه يعرف أن أحد هؤلاء العساكر يدعى فتحي والآخر اسمه محمد ولا يعرف لقبيهما ولا اسم الثالث. وقد حرر محضر إثبات حالة وتأشر على ورقتي نقد فئة عشرة قروش بإمضاء السيد وكيل نيابة المركز. وقد قامت سيارة النقل رقم 422 الفيوم بأكياس قطن للمبلغ بقيادة السائق أحمد الدسوقي محمد وبصحبته الشيال سيد محمود أبو غراب وعبد التواب فايد سعد (فلاح) والمبلغ والملازم أول صلاح عبد السلام ضابط مباحث مركز الفيوم من زراعة المبلغ بالسنباط متجهة إلى نقطة مرور "أبو عش". ثم سبقها المبلغ في سيارته الملاكي رقم 188 الفيوم، وكان بالسيارة النقل ثمانية أكياس قطن بدون تصريح كالتعليمات المبلغة بمنع مرور سيارات نقل لا تحمل تصريح صراف الجهة بسداد الأموال الأميرية وذلك من القسم المالي بالمديرية والمعلنة لجميع القوة بإشارة في يوم 25 من أكتوبر سنة 1954. ولما وصلت بالسيارة إلى النقطة نزل منها عبد التواب فايد سعد، وقدم لوكيل الأمباشي النوبتجي وهو المدعي عشرة قروش هي إحدى الورقتين المؤشر عليهما من السيد وكيل النيابة. وكان السيد الضابط مختفياً خلف سيارة النقل ومعه أحد السادة معاوني إدارة بندر الفيوم وبعض القوة فأسرعوا إليه، وطلب من وكيل الأمباشي إخراج ما معه من نقود. ولما ارتبك المذكور سقط من ملابسه خمسة وعشرون قرشاً عبارة عن الورقتين الماليتين المشار إليهما وورقة من فئة خمس قروش، وكان المبلغ قد سلم المدعي خمسة عشر قرشاً من بينها إحدى الورقتين مع خمسة قروش موصياً إياه بعدم التعرض للسيارة التي تتبعه حاملة أكياس القطن، أما الورقة الثانية فقد سلمها إليه عبد التواب فايد سعد الذي كان يرافق سيارة النقل التي وصلت إلى النقطة في الساعة 5.45 مساء. وقد سأل السيد ضابط المباحث وكان معه السيد معاون الإدارة وكيل الأومباشي عن مالك هذه النقود فأنكر معرفته بها. وقد قررت النيابة القبض على المذكور ثم أفرجت عنه بكفالة قدرها عشرة جنيهات، وقيدت القضية جناية ضده لقبوله على سبيل الرشوة مبلغ خمسة وعشرين قرشاً مقابل تركه سيارة النقل رقم 422 الفيوم المملوكة للمبلغ تمر دون اتخاذ الإجراء القانوني ضدها. وبناء على هذا تقرر وقف المدعي عن العمل اعتباراً من 23 من سبتمبر سنة 1954 تاريخ القبض عليه، ثم رفت من الخدمة اعتباراً من هذا التاريخ بناء على موافقة مصلحة البوليس بالكتاب رقم 1088 سري المؤرخ 22 من نوفمبر سنة 1954. هذا إلى أن المدعي كان قد التحق مستجداً بقلم مرور الفيوم في 21 من مايو سنة 1949، وقد ورد ضده تقرير من القلم المذكور برقم 11 سري في 25 من مايو سنة 1950 يتضمن أن له سمعة رديئة وأنه تحوم حوله الشبهات وغير مرغوب في بقائه بمرور المديرية لصالح العمل، وقد ترتب على هذا التقرير نقله مع آخرين إلى بوليس الفيوم اعتباراً من أول نوفمبر سنة 1950، ثم أعيد لخدمة المرور في 16 من مايو سنة 1951، جاء بتقرير السيد رئيس مباحث القسم المؤرخ 6 من نوفمبر سنة 1954، أن المذكور سيء السمعة وسيرته غير حميدة وعلى صلة بالسائقين ويحصل على رشاوى منهم نظير التغاضي عن تحرير مخالفات ضدهم مع حرصه الشديد حتى لا يسهل ضبطه، وأن الأخبار قاطعة في أنه يحصل على الرشاوى من أصحاب السيارات والسائقين شهرياً وبحالة سرية للنهاية وفي أماكن نائية عن محل عمله. مع حذر شديد من الأشخاص الذين لم تسبق له بهم صلة والذين لا يثق فيهم تماماً، وقد انتهت الوزارة من هذا إلى طلب الحكم برفض الدعوى مع إلزام المدعي بالمصروفات.
ومن حيث إن هذه المحكمة سبق أن قضت بأن القرار التأديبي - شأنه شأن أي قرار إداري آخر - يجب أن يقوم على سبب يسوغ تدخل الإدارة لإحداث أثر قانوني في حق الموظف، هو توقيع الجزاء عليه، للغاية التي استهدفها المشرع، وهي الحرص على حسن سير العمل تحقيقاً للمصلحة العامة، ولا يكون ثمة سبب للقرار إلا إذا قامت حالة واقعية أو قانونية تبرر التدخل. وللقضاء الإداري في حدود رقابته القانونية، أن يراقب صحة قيام هذه الوقائع وسلامة تكييفها القانون، دون أن يتطرق إلى بحث ملاءمة توقيع الجزاء أو مناقشة مقداره. ورقابته القانونية هذه لصحة الحالة الواقعية أو القانونية لا تغني أن يحل القضاء الإداري نفسه محل السلطات التأديبية المختصة فيما هو متروك لتقديرها ووزنها، فيستأنف النظر بالموازنة والترجيح فيما يقوم لدى السلطات التأديبية المختصة من دلائل ويبانان وقرائن أحوال إثباتاً أو نفياً، في خصوص قيام أو عدم قيام الحالة الواقعية أو القانونية التي تكون ركن السبب، أو يتدخل في تقدير خطورة هذا السبب وما يمكن ترتيبه عليه من آثار، بل إن هذه السلطات حرة في تقدير هذه الخطورة وتلك الدلائل والبيانات وقرائن الأحوال، تأخذها دليلاً إذا اقتنعت بها أو تطرحها إذا تطرق الشك إلى وجدانها، ولا هيمنة للقضاء الإداري على ما تكون منه الإدارة عقيدتها واقتناعها في شيء من هذا، وإنما الرقابة التي للقضاء المذكور في ذلك تجد حدها الطبيعي - كرقابة قانونية - في التحقق مما إذا كانت النتيجة التي انتهى إليها القرار التأديبي في هذا الخصوص - مستفادة من أصول موجودة أو أثبتتها السلطات المذكورة وليس لها وجود، وما إذا كانت تلك النتيجة مستخلصة استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها مادياً أو قانوناً، فإذا كانت هذه النتيجة منتزعة من غير أصول موجودة، أو كانت مستخلصة من أصول لا تنتجها، أو كان تكييف الوقائع على فرض قيامها مادياً لا ينتج النتيجة التي يتطلبها القانون، كان القرار فاقداً لركن من أركانه، وهو ركن السبب، ووقع مخالفاً للقانون. أما إذا كانت النتيجة مستخلصة استخلاصاً سائغاً من أصول ثابتة تنتجها مادياً أو قانوناً، فقد قام القرار على سببه وكان مطابقاً للقانون. وسبب القرار التأديبي بوجه عام هو إخلال الموظف بواجبات وظيفته أو إتيانه عملاً من الأعمال المحرمة عليه، فكل موظف يخالف الواجبات التي تنص عليها القوانين أو القواعد التنظيمية العامة أو أوامر الرؤساء الصادرة في حدود القانون، أو يخرج على مقتضى الواجب في أعمال وظيفته المنوط به تأديتها بنفسه بدقة وأمانة، أو يقصر في تأديتها، إنما يرتكب ذنباً إدارياً - هو سبب القرار - يسوغ تأديبه، فتتجه إرادة الإدارة إلى إنشاء أثر قانوني في حقه هو توقيع جزاء عليه بحسب الشكل والأوضاع المقررة قانوناً وفي حدود النصاب المقرر. فإذا توافر لدى جهة الإدارة الاقتناع بأن رجل الأمن سلك سلوكاً معيباً ينطوي على تقصير أو إهمال في قيام بواجباته، أو خروج على مقتضيات وظيفته، أو إخلال بكرامتها أو بالثقة الواجب توفرها فيها أو في القائمين بها، ويدعوها إلى عدم الثقة به، أو الاطمئنان إلى صلاحيته بناء على ذلك للقيام بأعباء وظيفته، وكان اقتناعها هذا مجرداً عن الميل أو الهوى وموجهاً لخير الصالح العام، فبنت عليه قرارها بإدانة سلوكه، ورأت لمصلحة الأمن والنظام إقصاءه عن هذه الوظيفة، واستنبطت هذا كله من وقائع صحيحة ثابتة في عيون الأوراق مؤدية إلى النتيجة التي خلصت إليها. فإن قرارها في هذا الشأن يكون قائماً على سببه ومطابقاً للقانون وحصيناً من الإلغاء. أما تقدير تناسب الجزاء مع الذنب الإداري فمن الملاءمات التي تنفرد الإدارة بتقديرها، بما لا معقب عليها فيها، والتي تخرج عن رقابة القضاء الإداري.
ومن حيث إنه ثابت من الأوراق أنه في 25 من مايو سنة 1950 أرسل السيد مفتش مرور الفيوم إلى السيد مدير عام البوليس الكتاب رقم 11 سري متضمناً كشفاً بأسماء بعض الصف والعساكر، ومن بينهم المدعي، وذكر فيه أن هؤلاء "تحوم حولهم الشبهات ولهم سمعة رديئة وغير مرغوب في بقائهم بالمديرية ونرى لصالح العمل نقلهم خارج المديرية". وعلى إثر القبض على المدعي في 23 من سبتمبر سنة 1954، لاتهامه في جريمة الرشوة، حرر السيد مدير قسم المرور مذكرة جاء فيها أن "المذكور تجازى بعدد 12 جزاء إداري أغلبها بالخصم. كما دلت تحريات مباحث القسم أن المذكور سيء السمعة وسيرته غير حميدة وعلى صلة بالسائقين ويحصل على رشاوى منهم نظير التغاضي عن المخالفات مع حرصه الشديد حتى لا يسهل ضبطه، والأخبار قاطعة على أنه يحصل على الرشاوى من أصحاب السيارات والسائقين شهرياً وبحالة سرية للغاية وفي أماكن نائية عن محل عمله وعلى حذر شديد من الأشخاص الذين لم يكن له بهم صلة سابقة ويثق فيهم تماماً.. ولسوء سمعته ولصالح العمل نرى فصله من الخدمة" وقد كان تحرير هذه المذكرة بناء على مذكرة للسيد مفتش مباحث قسم المرور تاريخها 6 من نوفمبر سنة 1954، تضمنت تحريات بهذا المعنى ذاته. وكان السيد مدير قسم المرور قد أرسل إلى السيد مدير عام مصلحة البوليس الكتاب رقم 26/ 43 في 27 من أكتوبر سنة 1954 الذي ذكر فيه "وحيث إن هذا النفر لا يصلح للخدمة بالبوليس فنرجو التكرم بالموافقة على فصله من الخدمة". وبناء على هذا كله وافقت مصلحة البوليس بكتابها رقم 1088 سري في 22 من نوفمبر سنة 1954 على فصل المدعي من الخدمة اعتباراً من 23 من سبتمبر سنة 1954 تاريخ القبض عليه ووقفه عن العمل.
ومن حيث إن النيابة العامة اتهمت المدعي في قضية الجناية رقم 18 سنة 1954 جنايات عسكرية مركز الفيوم بأنه "في يوم الخميس 23 سبتمبر سنة 1954 م الموافق 25 محرم سنة 1374 هـ. بنقطة مرور أبو عش التابعة لمركز الفيوم بمديرية الفيوم، بصفته موظفاً عمومياً "عسكري مرور" قبل المبلغ المبين بالمحضر من كل من عزت محمد علي وعبد التواب فايد سعد لامتناع عن عمل من أعمال وظيفته هو منع سيارة النقل المحملة بأقطان للأول من المرور دون تصريح بنقل القطن". وفي 16 من يناير سنة 1955 صدر قرار السيد رئيس نيابة أمن الدولة في هذه القضية التي قيدت برقم 2097 سنة 1954 حصر أمن الدولة بقيد الأوراق بدفتر الشكاوى الإدارية مادة ادعاء برشوة وحفظها إدارياً، وبناء على هذا قيدت شكوى رقم 1 إداري عسكرية 1955 مركز الفيوم وحفظت، وقد جاء في ختام قرار السيد رئيس نيابة أمن الدولة الذي انتهى إلى هذا الحفظ الإداري أن "في ظاهر الأحوال وظروف الحادث السابق إيضاحها ما يكفي للقول بأن الجريمة نفسها لا يطمأن إلى قيامها..." - ومفاد هذا أن أمر الحفظ إنما بني على عدم كفاية الأدلة.
ومن حيث إن حفظ تهمة الرشوة قبل المدعي لعدم كفاية الأدلة لا يبرئ سلوكه من الوجهة الإدارية، ولا يمنع من مؤاخذته تأديبياً وإدانة هذا السلوك، ولا سيما بعد أن عززت تحريات المباحث في أزمنة مختلفة ما يحوم حوله من شبهات كانت كافية لدى الإدارة، وهي المسئولة عن الأمن ورجاله، لتكوين عقيدتها واقتناعها بعدم الاطمئنان إلى صلاحيته للاستمرار في عمله، وصدرت في تقديرها هذا عن رغبة مجردة عن الميل أو الهوى في رعاية المصلحة العامة، فانتهت إلى إقصائه عن وظيفته، مستندة في ذلك إلى وقائع صحية لها وجود مادي ثابت في الأوراق استخلصت منها هذه النتيجة استخلاصاً سائغاً يجعل قرارها الصادر بفصله من الخدمة قائماً على سببه ومطابقاً للقانون.
وقد صدر هذا القرار ممن يملك سلطة إصداره في حدود اختصاصه المخول له قانوناً؛ ومن ثم فإن المدعي لا يكون على حق في طلب إلغاء هذا القرار وما يترتب على ذلك من آثار، ويتعين القضاء برفض دعواه مع إلزامه بمصروفاتها.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وبإلغاء الحكم المطعون فيه، وبقبول الدعوى، وبرفضها موضوعاً، وألزمت المدعي بالمصروفات.